مقالات

المثقف السوري والعمل الجماعي رابطة الكتاب نموذجاً/ عبد الرحمن حلاق

 

 

قد تكون المبادرة الفردية على درجة من الأهمية في الظروف الاجتماعية المستقرة لكن الأهم في ظل الاضطراب المجتمعي والظروف الثورية أن ينحصر الخلاص بالعمل الجماعي وحده وبدونه لا يمكن لثورة أن تستقيم وربما بسبب غياب مفاهيم العمل الجماعي عن مجتمعنا لم يستقم أمرٌ من أمور الثورة السورية وستنتظر هذه الثورة _ربما_ جيلاً آخر ممن عركتهم التجربة كي تبدأ مرحلتها الثانية ضمن سيرورتها التاريخية.

سبع سنوات والمجتمع السوري في مرجل تحفه النيران من كل جانب وتعبث فيه حثالات الأرض بكل ما تملك من قوة عسكرية ومالية واستخباراتية. لم يحدث على مرّ الأزمان أن توحدت قوى الشر في العالم ضد شعب من الشعوب كما توحدت ضد الشعب السوري الذي طعنه الأخ قبل الصديق والصديق قبل العدو. رغم ذلك لايمكن وضع اللوم كاملاً على الغير، فالنخبة المثقفة من الشعب السوري تتحمل جزءا من هذا الخراب رغم كل آلات التمزيق الإقليمية والدولية، إذ لم تستطع أن تفرز جسماً واحداً متماسكاً يرتقي إلى مستوى الحدث ليعبر عن تطلعات هذا الشعب الثائر. لا على المستوى السياسي ولا حتى على المستوى الثقافي.

ضمن هذا السياق جاء تأسيس رابطة الكتاب وكانت بداية موفقة لانطلاقة مأمولة، ورغم أن عدد الأعضاء خلال السنوات اللاحقة قد تضاعف، إلا أن الآمال التي عقدت على انطلاقتها بقيت آمالاً. وبقيت مفاهيم العمل الجماعي خارج التصور.

أين الخلل؟

قبل الإجابة على هذا السؤال علينا طرح السؤال الأهم وهو: لماذا اختفى الجزء الأكبر من الأعضاء عن المشهد؟ ولا أقصد فقط الأعضاء خارج الأمانة العامة فهؤلاء قد يكون لهم بعض العذر ولو بشكل جزئي، أما من فاز بعضوية الأمانة العامة وحضر مؤتمر القاهرة فعليه واجب أخلاقي يجب أن يلتزم به تجاه ذاته أولاً وتجاه ثورته ثانياً وتجاه الرابطة ثالثاً.

لا شك أن الأحداث الثورية التي عصفت بالبلاد قد شغلت بعضاً منهم، والبعض الآخر كان مهتماً بالتقاط صورة في المؤتمر، والبعض استشعر الخوف على أهله فانزوى جانباً، وأياً تكن الأسباب ينبغي ألا ننسى أننا نتحدث عن مجموعة مثقفين وكتاب وأدباء وهذا يقتضي بالضرورة أنهم أصحاب مواقف ثورية ويعني بالضرورة وعياً عالياً باللحظة التاريخية،

ومن هنا جاء خيارهم بالانتساب لرابطة انبثقت من رحم الثورة. ويقتضي كذلك أن يكون الاهتمام الثوري عند جميع الأعضاء على السوية ذاتها، فهل الخلل في بضعة أشخاص يديرون المكتب التنفيذي؟ أم أن الخلل ببقية أعضاء الرابطة الذين تناسوا وجودها أصلاً؟

ماذا يفعل بضعة أشخاص كي تستمر الرابطة على قيد الحياة؟

أثناء انعقاد المؤتمر في القاهرة كان المتحمسون للدعم كثر وكانت الوعود تزخ كالمطر فجأة وعقب المؤتمر تصحرت الأرض وتبخرت الوعود. ذهب المؤسس إلى مجلته الخاصة وذهب الممول إلى مؤسساته وشركاته، وبقي المكتب التنفيذي بإمكاناته المتواضعة جداً يبحث هنا وهناك عمن يسنده قليلاً.

لقد استمرت الرابطة بالحد الأدنى للدعم المادي وبالحد الأعلى للعمل التطوعي، طيلة السنوات الست السابقة ولن أدخل هنا في الخلافات الأخيرة فهذه فيها من الكلام الكثير لكني سأحاول توصيف واقع المثقف السوري وعلاقته بما يدعيه من إيمان وعمل على محاربة الاستبداد وتبني المواقف الثورية. خاصة وأن الخلافات وصلت حد الانقسام أو التدمير.

قلت في مقالة سابقة إن الرابطة بوضعها الحالي قد لاتساوي شيئاً لكن لموتها قيمة غالية الثمن وفي حوار قصير على صفحات الفيس مع الكاتب حسام الدين درويش ذكر نقطة مهمة عندما قال: “هذا الانقسام مدمر فعلي للقيمة الرمزية للرابطة وهي قيمتها الأساسية أو الأهم وربما الوحيدة.”

وهنا نعود للإجابة عن السؤال الأساس. أين الخلل؟

أعتقد أنه يكمن في عقلية المثقف السوري ذاته، العقلية المحبة للتكاسل والساعية إلى بعض المنافع الشخصية والمتعالية لدرجة مَرْكَزَة الكون حولها، والخانعة لدرجة الضياع في البحث عن رئيس، قلة قليلة فقط أولئك الذين نجوا بأنفسهم من شرور هذه العقلية.

ربما حاول الجيل الشاب الأول الذي انطلق بالثورة أن يكون مغايراً لكن تصفيته الميدانية عبر مضخة العنف قتلاً واعتقالاً أفسحت المجال لتقدم الجيل الثاني الذي وجد نفسه مضطراً لحمل السلاح ومع السلاح صار أمر إغراق الثورة بالمال وتمزيق المجتمع وربطه بسلة الإغاثة متاحاً، وانقسم الكتاب والأدباء السوريون قسمين الأول راح يسعى بكل ما أوتي من علم ومعرفة على تبرير أفعال الطاغية والبرهنة على صدق مواقفه، والثاني وجد نفسه خلف الثورة بأزمان إذ لاصوت لهم إلا على صفحات التواصل الاجتماعي. وهو صوت ضائع في الفضاء لا أرض له.

الآن وبعد أن استمرت الرابطة على قيد الحياة لغاية هذه اللحظة. ما الذي حدث؟ هل هو حقاً خوف على مصلحة الشعب السوري الثائر؟ أم أن المثقف في واد والثورة في واد آخر؟ وهل يكفي أن تكتب قصيدة ثورية ليقال عنك إنك مع الثورة؟ لعل أخطر عبارة قيلت أثناء الثورة أن سلاح المبدع كلمته لكن ما قيمة الكلمة إن لم يعش المبدع التجربة على الأرض، لقد كتب تشي غيفارا قصائده وكُتبه وهو بين الناس يشاركهم الفقر والجوع والحصار ويقتسم معهم دموع الحزن وابتسامات الفرح في حين اختار المثقف السوري أمان المنافي عن مخاطر المقاومة الحقيقية، حتى وهو في المنفى الآمن لم يكلف نفسه عناء الاعتصام أو الاحتجاج أمام سفارة بلد مجرم، ومثلما استطاعت منظمات الإغاثة ربط المواطن السوري بسلة غذائية شهرية استطاعت وسائل الإعلام ربط الكثير من المبدعين بأجر الاستكتاب، ولم تعد المجازر والأهوال التي يتعرض لها الشعب السوري محط اهتمام إلا بالقدر الذي يمكن أن يدرّ بعض الحليب من ضروع البنوك.

لم تكن النخبة المثقفة يوما ما كتلة واحدة، ولم تكن صاحبة موقف موحد إلا إذا استثنينا الذين اختاروا الوقوف بجانب القتلة، أما على الضفة الثانية فقد اختلفت مواقف المثقفين بقدر اختلاف قادة الفصائل، ولذلك كان من اليسير جداً على عصابات الأسد أن تعمل بهدوء على تشويه صورة الثائر الحقيقي (سياسياً وثقافيا) مطمئنة إلى حالة الجهل والعماء التي تطال الكثيرين من ثوار مواقع التواصل الاجتماعي الذين يفتقرون إلى الدقة في تحري الحقائق.

لقد استطاعت الرابطة أن تبقى على قيد الحياة، بفضل بضعة أشخاص لكن أحدا منهم لم يكن يعلم أنها ولدت مشلولة وبقي الشلل يلازمها رغم المحاولات الكثيرة في تفعيلها، ولم ينلها من الشريحة المثقفة سوى التنظير عن بعد عبر صفحات الفيس واللوم والتقريع لأنها لم تتواصل مع أعضائها، هل كان المطلوب من سبعة أشخاص أن يرسلوا إلى بعض المتحصنين في أبراجهم برجاء المشاركة في عمل يخدم الثورة؟ أما لماذا لم يكلف غالبية أعضاء الرابطة أنفسهم عناء المبادرة للعمل ولو بإرسال بعض المقترحات البناءة فهذا في علم التربية.

وإذا افترضنا أن أعضاء المكتب التنفيذي متشبثون بمناصبهم فلماذا صبر بقية الأعضاء ست سنوات على هذا الاستحواذ؟ ما معنى أن تستفيق جثث المثقفين فقط حين تهدد موقع الرئاسة، وما معنى أن يتبنوا كلام الرئيس بكل صدقه وأكاذيبه دون أن يسألوا الطرف الآخر مجرد سؤال عما يحدث؟ أم أن الاصطفافات المنفعية لها حكم آخر؟ وهل المضي خلف قيادته سيحقن دماء شعبنا ويمنح الحرية لوطننا المحتل؟ هل كان أعضاء المكتب التنفيذي حجر عثرة في طريق تحرر العقل السوري وعقبة كأداء في طريق ترسيخ قيم المدنية والحضارة للشعب السوري؟ إن النوم ست سنوات والبحث حتى في الأحلام عن مظلة إعلامية تضمن استكتاباً هنا وهناك يعكس أنانية هذا المثقف المتعالي والمنعزل عن واقعه. ليس هذا فحسب بل ويشكل فضيحة أخلاقية أن ينخرط كتاب وأدباء ومثقفون في الدفاع عن موقع الرئيس. مع ضرورة تسجيل فائق الاحترام لشخصيات ثقافية من داخل الرابطة ومن خارجها وجدوا بعض الحلول للعمل بما يمكن أن يسهم بشكل أو بآخر في أعظم ثورة في العصر الحديث. وما يؤسف له أن هؤلاء هم الاستثناء الذي يثبت القاعدة التي تؤكد أن المثقف أو المبدع يتثاقل عندما يطلب لعمل جماعي يخدم مجتمعه في حين يخف كريشة عندما يدعى لعمل (ثقافي) مأجور.

ملاحظة: كان من المفترض أن مصطلحات الثقافة والإبداع بين قوسين، لأننا نستخدمها بمجانية زائدة ونطلقهاعلى كل فرد أمسك بقلم أو ريشة. فنحن أمة لا تجيد غير صناعة الأصنام والرؤساء.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى