ثقافة وفكر

«الإعلام الكاذب» والصراع على الحقيقة/ محمد سامي الكيال

 

 

 

تقوم المجتمعات أساسا على حقيقة لا يمكن تجاوزها، وهي أن البشر، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ومصالحهم، مضطرون للعيش معا. ولذلك فلا بد لهم من أن يتفقوا على مجموعة من المفاهيم والتصورات التي تجعل التواصل بينهم ممكنا، والتي من الممكن أن تقوم على أساطير أو سرديات تأسيسية، أو ما يُعتقد أنها حقائق علمية.

نشأة هذه المفاهيم المشتركة عملية تاريخية معقدة، غالبا ما تكون محفوفة بالصراعات الدموية والأحداث الكارثية، إلا أنها في النهاية تنتج صيغ التعايش التي تُعرّف المجتمعات القائمة، وبغيابها يصبح التوازن الاجتماعي معرضا للخطر.

من هذا المنظور يمكننا أن نفهم الأبعاد المركبة لتهمة «الإعلام الكاذب»، التي تتردد كثيرا في أيامنا على المستوى العالمي. فمن ثورات الربيع العربي، مرورا بمظاهرات اليمين في شرق ألمانيا، وصولا إلى الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعلى اختلاف السياقات، كان هنالك دوما «إعلام كاذب» يثير سخط واحتجاج فئات واسعة من السكان. إنه مؤشر مهم على تآكل المشترك الاجتماعي، وعلى الصراع حول الحقيقة.

عندما تزقزق العصافير

يرتبط شعار «الإعلام الكاذب» بالسخط على النخب الحاكمة، التي تحاول إخفاء الحقائق أو تشويهها بما يتفق مع أيديولوجيا السلطة، وهو ليس بالتهمة الجديدة، فلطالما اتهم أطراف الصراع السياسي بعضهم بعضا بالكذب. ولكن الجديد أننا بتنا اليوم نرى تعارضا شاملا في التصورات عن العالم ووقائعه، إلى درجة يبدو فيها أن الواقع قد انقسم إلى عالمين مستقلين تماما لا رابط بينهما. لم تعد توجد أي مفاهيم أو حقائق مشتركة يمكن الإحالة إليها لتحقيق الحد الأدنى من إمكانية التواصل بين الأطراف المتصارعة.

في سوريا مثلا، ومع انطلاق المظاهرات المعادية للنظام، كان المعارضون يتحدثون عن مدن وقرى تنتفض «عن بكرة أبيها»، في حين كان إعلام النظام يؤكد أن الأمن مستتب و«العصافير تزقزق» في ربوع الوطن.

في العالم الذي يعيش فيه المعارضون هنالك ثورة وكتائب موت تقتل المدنيين وتعتقلهم. في عالم النظام هنالك دولة تحاول صيانة سيادتها في وجه مؤامرة كونية. ولكل عالم سكانه الذين يؤمنون تماما بروايتهم عن الأحداث، لدرجة انعدمت فيها أي لغة مشتركة تسمح بالتواصل بين هذين العالَمَين. كان هذا مؤشرا واضحا على اقتراب الحرب الأهلية، التي للمفارقة، أعادت إنتاج أطر جديدة للتواصل. فمن خلال الاشتباكات، والتواصل اليومي على الحواجز وخطوط التماس، والتفاوض لأجل إدخال ضروريات الحياة وتبادل الأسرى، تم إنتاج حقائق مشتركة يتم تداولها والاتفاق حولها. انتجت الحرب إذن حيزا عاما، ولكنه مكرّس لإدارة الموت أكثر من إدارة شؤون الحياة. إلا أن هذه الانقسام بين العوالم ليس مقتصرا على دولة عالمثالثية ذات نظام ديكتاتوري مثل سوريا، بل بات ظاهرة أساسية في أكثر الدول تقدما: هنالك حكاية عن عالم ليبرالي يعطي المزيد من الحقوق لإقلياته المضطهدة تاريخيا، وينفتح على المهاجرين والثقافات الأخرى، ولا ينغص صفوه إلا بعض العنصريين البيض المقودين بالدعاية الشعبوية. تقابلها قصة أخرى عن نخب مستفيدة من العولمة تدمّر فرص العمل وتستقدم العمالة الرخيصة وتتواطأ لتحطيم الثقافة المحلية والأسس الوطنية. وبين هاتين الروايتين هنالك حرب شرسة حول الوقائع وسرد الأحداث واستخلاص معانيها، والكثير من «الأخبار الكاذبة» و«الحقائق البديلة». من جديد، هنالك عالمان لا يوجد أي مشترك بينهما، ولا فائدة من أي جدل بين من يعيشون فيهما. الأوضاع هنا لا تُهدد بالضرورة بحروب أهلية، فهذا الانقسام يقع في دول قوية ذات اقتصاد متماسك وجيوش محيّدة عن التدخل في الحياة السياسية، ولكن الخطير هو اضمحلال مفهوم «الحيز العام» لحساب سرديات ذاتية، وقيم وحقائق متعارضة عن الواقع والحياة.

في معنى الحيز العام

الحيز العام، كمعظم ما هو اجتماعي، ليس أمرا «طبيعيا» أو عفويا، بل هو نظام، أو مجموعة أنظمة، لها إجراءاتها وبرامجها الخاصة، لإنشاء قنوات يصبح فيها التواصل ممكنا بين مختلف الأفراد والجماعات، ويتم فيها إنتاج المعنى الاجتماعي الذي يمكن الإحالة إليه، الحقيقة الاجتماعية إذن تُنتج داخل النظام، وفي حال تعطله لا توجد حقيقة يمكن تداولها. يوضّح عالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان الطريقة التي تعمل بها الأنظمة في المجتمعات الحديثة: نظام العدالة مثلا يعمل بإجراءات معينة للإجابة عن سؤاله الأساسي (حق/انعدام الحق). إجراءات نظام السياسة مكرسة لتحديد الإشكال المركزي (سلطة/ انعدام سلطة)، نظام الاقتصاد سؤاله الأول هو الربح، إلخ. وتتمكن هذه الأنظمة من العمل على نطاق واسع، وبما يتجاوز نطاقاتها المحدودة من خلال ما يسميه «وسائل تواصل معممة رمزيا»، مثل الحقيقة والمال والسلطة. حتى العلاقات الشخصية والحميمية ممكنة بفضل وسيلة تواصل أخرى نشأت تاريخيا هي الحب.

عندما لا يمكن تعميم وسائل التواصل هذه، أي عندما نفقد اتفاقنا على حيثية الحقيقة وقيمة المال وشرعية السلطة ومعنى الحب، لا تعود الأنظمة قادرة على العمل، ويتفتت الحيز العام، الذي يُفضّل لومان تسميته بمنطقة «الاقتران البنيوي»، أي المجال الذي تستطيع فيه مختلف الأنظمة أن تؤثر في بعضها بعضا بدون أن تفقد استقلاليتها التشغيلية.

كانت الضربة الأساسية التي تلقتها وسائل التواصل المعممة رمزيا هي صعود سياسات الهوية، فعندما نؤمن بأن لكل مجموعة هوية حقائقها الخاصة، وسردها الذاتي لتعريف العالم وموقعها فيه. وعندما تعلمنا «صناعة الضحية» أنه لا يحق لنا البحث والتحقيق في ادعاءات كل من يقدم نفسه بوصفه ضحية، وأن التجربة الإنسانية لا يمكن ترجمتها ونقلها بين البشر على اختلاف مواقعهم وهوياتهم، فعندها لا معنى لأي مشترك اجتماعي، لأنه لا يمكن تعميم أي وسيلة تواصل، وبذلك يصبح المجتمع عبارة عن دوائر منفصلة ومغلقة، لكل منها حقيقتها الخاصة. تلك هي خصخصة الحيز العام التي يمكن ربطها بالخصصة العامة المرافقة للسياسات النيوليبرالية.

يتهم البعض نظرية لومان بتبني مواقف محافظة تركز على عوامل الثبات والاستقرار، وتسقط التغيير الاجتماعي من حساباتها. هذه التهمة غير صحيحة على الصعيد النظري، ولكن الأهم أن أنصار سياسات الهوية في عصرنا ليسوا حتى ثوريين على طريقة الشيوعيين القدامى مثلا، فهم لا يسعون إلى تدمير المشتركات القديمة وصياغة مشتركات جديدة أكثر عدالة، بل هم يطيحون بكل مشترك وكل إمكانية تواصل. ما يفرغ مؤسسات الحداثة، مثل القضاء والصحافة والتعليم العالي، من مضمونها. الأصح القول إنهم رجعيون.

العصور الوسطى الجديدة

عندما تصبح لكل هوية حقائقها الخاصة، ويصبح على نظام العدالة أن يتخلى عن إجراءاته وقيمه الأساسية، مثل عبء الإثبات وقرينة البراءة وفردية المسؤولية القانونية، ويستبدلها بـ«حساسيات» الضحايا وهوياتهم، فهذا يذكّر بالمرحلة السابقة على الحداثة التي يسميها لومان مرحلة «التمايز الفئوي»، حين كانت الوظائف الاجتماعية تتم بمعظمها وبشكل متداخل ضمن فئات اجتماعية مغلقة ومرتّبة هرميا. فعدالة الإقطاعيين غير عدالة الفلاحين، ومراتب المسيحيين الاجتماعية والسياسية لا يطالها اليهود، وكل شخص يُحاكم أمام محكمة طبقته وطائفته، أو يحمل وزر هويته معه إلى المحكمة لكي يتم «التفتيش» عن محتوى ضميره.

رأينا شيئا كهذا لدى السجال حول ترشيح قاضي المحكمة العليا الأمريكية بريت كافانو. فهو يبدو «قادرا» على ارتكاب الاعتداء الجنسي، وبما أن هنالك إحصائيات ما عن عدد جرائم الاغتصاب في الفترة التي اتُهم فيها بالاعتداء، فهو يتحمل وزر الهوية الذكورية المعتدية بأكملها، ويجب عليه أن يدفع الحساب عنها. كافانو ليس مجرد شخص عليه مسؤولية جنائية فردية تتعلق بما قام به فعلا، بل هو رمز لهوية بأكملها يجب الاقتصاص منها، والحقيقة هنا ليست ذات صلة. هذا هو المنطق العنصري ذاته الذي يسمح بتسهيل إدانة السود الأمريكيين لأنهم يعيشون في أحياء يكثر فيها المجرمون وتجار المخدرات، وبالتالي فهم يحملون وزر ما يفعله جيرانهم واقرباؤهم.

قد يظن البعض أن الهوية بحد ذاتها صالحة لتصبح وسيلة تواصل معممة رمزيا، ولكن المشكلة أن سياسات الهوية تقوم على استعداء الآخر، وبناء منظومات متكاملة من المظلومية التاريخية، ما يجعلها وسيلة تناحر لا تواصل، أو في أفضل الأحوال سلاحا في الصراع الطاحن لاقتناص الامتيازات. سواء دعونا ما يحدث في أيامنا بـ«عصور وسطى جديدة» أو «حداثة زائفة» أو أي اسم آخر، فلا يمكن أن يستمر انقسام العوالم هذا طويلا، فالبشر بالنهاية مضطرون، كما قلنا، للعيش سوية في عالم واحد، قد يكون الصراع الحالي مقدمات لنشأة عالم جديد بمشتركات أخرى، أو إعادة ترميم لمشتركات عالمنا المعاصر. وقد تخسر سياسات الهوية، من اليمين واليسار، المعركة الثقافية والاجتماعية. عندها فقط يمكننا أن نأمل بالتخلص من «الإعلام الكاذب»، وبإمكانية التواصل والحوار وتبادل الحجج من جديد.

٭ كاتب سوري

القدس العربي،

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى