في أزمة الإسلام والعدمية الإسلامية/ ياسين الحاج صالح
في تعليق نقدي له على مقالة كتبناها، فاروق مردم بك وزياد ماجد وأنا، إثرَ جريمة قتل مدرس التاريخ الفرنسي صمويل باتي من قبل لاجئ شيشاني مسلم، يقول الصديق عبد الوهاب كيالي إن عموم المسلمين ليسوا عدميين، لكن لا يكاد يكون لهم اعتراض على العدمية، بل لعلهم أميل إلى تبريرها. في المقالة المنقودة، كنا تكلمنا على عدمية إسلامية رأيناها إحدى وجهي مسألة عالمية هي المسألة الإسلامية التي يتمثل وجهها الآخر في العنصرية المعادية للمسلمين أو الإسلاموفوبيا. المقصود بالعدمية الإسلامية النزعة الإسلامية النافية للعالم أو الكارهة له، والعاملة ما استطاعت على تدميره، المتمثلة بصورة خاصة بالتشكيلات السلفية الجهادية. ولا تعترض العدمية الإسلامية على ما في العالم من تمييز ولا مساواة ولا عدالة من أجل مساواة أكبر وعدالة متساوية للمسلمين، بل من أجل ما يتراوح بين حكم ذاتي متمحور حول «الشريعة» وبين تحكيم نفسها في العالم باسم الحاكمية الإلهية التي لا تفيض على حاكمية الإسلاميين في شيء. وهو ما يعني أن نشاط الإسلامية يتراوح بين أن يكون عملاً طائفياً، يسعى وراء أوضاع خاصة وامتيازات فئوية، وبين أن يكون جهاداً إمبريالياً، يريد السيطرة ويشكو من عالم لا تسمح إمبريالياته المسيطرة بصعود إمبريالية مارقة فوضوية. يتعلق الأمر في الحالين بإسلامية ديّانة، جعلت من نفسها معياراً للحق فيكون غيرها باطلاً واجبَ الكُره، إن لم يكن واجبَ المحاربة والاستئصال. الإسلامية ذاتها هي مجمل طيف الإسلام الحركي المعاصر، وهي أوسع من التيار العدمي، لكن يبدو هذا قوتها المحركة وقاطرة قيادتها في ربع القرن الأخير، فلا يحتج الطيف الواسع عليها في كرهها للعالم، ولا في التكوين الديّان، ولا في نزعة تحكيم الذات.
أَميلُ إلى أن ما يقوله عبد الوهاب صحيح كتقرير لواقع مُعاش اليوم، مع تحفظين أساسيين. أولهما أن قوله يحجب نفوراً فعلياً يزداد نشاطاً ويتسع نطاقاً من الإسلامية في قطاعات من الأوساط ذاتها؛ وثانيهما أن الأمر يتعلق بواقع عَكوس وغير عميق، متصل بموجة تاريخية حديثة العمر مثل الإسلامية المعولمة نفسها، ووراءها عملية تَكَوُّن حديثة بدورها.
ومن أوجه هذه العملية الأساسية وقوع قطاعات متسعة من السكان خارج عناية الدولة في مجتمعاتنا وخارج الهيمنة وخارج الحركية الاجتماعية، أي إشغال وضعية التابعين (subaltern)، على النطاقين المحلي والدولي. عولمة الإسلام (ظهور الإسلام الأقلي في الغرب، «السياحة الجهادية» وظهور المجاهد الجوّال، العنف الديني السياسي الإسلامي…) عمرها بالكاد أربعون عاماً، وهي بدورها عولمة تابعين. سأعود إلى هذه النقطة، بعد تناول عنصرين مهمين في «أزمة الإسلام» المعاصرة، والغرض المجمل لهذا التناول النظر في تكوين النفس الجمعية المسلمة في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة.
أزمة قيادة
العنصر الأول هو أزمة قيادة عميقة ومُستحكمة في عالم الإسلام السني. يجمع مُدرَكُ القيادة بين الاستقلال (من ليس مستقلاً، المُنقَادُ لغيره، ليس قائداً بالتعريف)، وبين الريادة وتحديد الوجهة التي يجري السير نحوها، ثم معهما قدرٌ من الحصافة والسداد والرويّة. شاغلو مواقع القيادة في عالم الإسلام السني تابعون ومُنقادون، محافظون وليسوا رواداً، ولم يشتهر أي منهم بسداد رؤية أو نظر واسع (هذا المستوى الثالث متدهور عالمياً اليوم). في عالم العرب المسلمين، وهم الكتلة المركزية لغوياً وجغرافياً وبشرياً من السنيين، هناك انفصام عميق بين مواقع القيادة السياسية الفعلية الفاقدة للشرعية، وبين الشرعية الثقافية أو الحضارية الفاقدة للقيادة. كانت القومية العربية بالضبط توحيداً لهذين المطلبين، وتمخَّضَ تداعيها عن تباعدهما. هذا الانفصام يفسح المجال للعدميين الإسلاميين زعم القيادة الشرعية، وأكثر من ذلك، يترك قطاعات من جمهور فاقد للجهة بفعل أزمة القيادة ضعيفةً حيال هذه المزاعم. هذا بخاصة لأن هذا الجمهور الذي كان قَبِلَ بالقصة العربية في وقت سبق، ولم يُناقش أو يُشرَح له شيء عن تداعيها، لم يعد يجد تحت تصرفه غير القصة الإسلامية. المقصود بالقصة مجموعة من المعاني المقنعة حول الوجود السياسي، تتضمن تصوراً للذات والانتماء والأعداء والعالم، يقبلها المعنيون فتقلل من ميلهم إلى السخط والمنازعة. مجتمعاتنا كلها لم تعرف نقاشاً عاماً خلال نصف قرن مفعم بالتحولات، فلم تتولد قصة عامة جديدة، يتشاطر أساسياتها الحاكمون والمحكومون، ويتفاعل معها جمهور واسع. في ورقة نُشرت في الذكرى الثلاثين للوحدة الألمانية، ربط يورغن هابرماس، الفيلسوف الألماني الشهير، صعود حزب البديل من أجل ألمانيا، اليميني الشعبوي، بغياب النقاش العام في ألمانيا الشرقية بعد التوحيد بفعل الاستيلاء الفوري من قبل منابر الإعلام والنشر الألمانية الغربية على ما كان متاحاً في الشرق، وفرض أولويات غير حساسة لمشكلات وأوضاع الألمان الشرقيين. البديل من أجل ألمانيا أوسع انتشاراً في ألمانيا الشرقية، الشيوعية سابقاً، منه في الغربية التي جرى هضم تحولاتها التاريخية بصورة أفضل بفعل نقاش عام حر مستمر. وبقدر ما إن الوعي البشري لا يطيق الفراغ، يبدو أنه يجري الهروب من اضطراب المَدَارِك نحو ما هو في متناول اليد من تفسيرات مُبسّطة، بما في ذلك أسوأ عتاد نظرية المؤامرة. وعي الجمهور المسلم السني الراهن متشكل بقدر كبير من عتاد إسلامي مُعظِّم للذات ومن نظريات مؤامرة، تعطي الانطباع بأن العالم متفرغ للكيد للإسلام. وهذا كله في كنف الدولة- الدول التي تقلل بذلك من منابع المنازعة الاجتماعية، وهي الواهنة الشرعية أساساً بفعل افتقارها إلى قصة تبرر بها نفسها. ونحن نفكر في الإسلامية المعاصرة والإسلام المعاصر، لا ينبغي أن ننسى أن الدولة لا تكف عن إنتاج الإسلام، وإن لم تكن منتجته الوحيدة. الإسلام هو أحد خطابي الدولة فضلاً عن خطابها عن نفسها، وكلاهما خطاب تبجيل وإشادة مستمرة، لا يكف عن قول ما سبق قوله (ما يكشف الخوف من النزاع). إسلام الدولة سياسي مثل الإسلام السياسي، وإن كان موجهاً نحو صرف جمهور معتنقيه عن السياسة والشأن العام. خطبة الجمعة التي يحضرها مسلمون أكثر عدداً هي البيان الأسبوعي لإسلام الدولة السياسي، وهو تقول دونما كلل التالي: الإسلام عظيم، الرئيس أو الملك حامٍ للإسلام وعظيم مثله، العالم مُعادٍ، أنتم أيها المسلمون مقصرون في حق دينكم! الإسلاميون، وهم منتجون للإسلام مُنازعون عليه منذ ثمانينات القرن الماضي وأبكر، يقولون الشيء نفسه، يحذفون منه عظمة الرئيس أو الملك، ويعظمون أنفسهم. لدينا في الحالين مزيجٌ من البارانويا (بدورها مزيج من الشعور بالاضطهاد والعظمة) ومن إثارة شعور بالذنب، يُضعِف عموم المسلمين أمام السلطات السياسية والدينية معاً.
يجمع الإسلامَين السياسيين، الدولتي والمنشق، أنهما يَعرِفان القليل خارج الميراث الإسلامي، وقلّما يبذلان جهداً ليعرفا. أكبر «علماء» الإسلام السني المعاصرين، الشيخ القرضاوي مثلاً، يعرف ما بين القليل ولا شيء عن الإنسانيات والفلسفة والمذاهب الأخلاقية الحديثة، وحين يتكلم عليها يقول كلاماً سطحياً مفتقراً إلى الحد الأدنى من الحس الإشكالي، وخالياً بثبات من الاحترام. «علماؤنا» قد يكونون «راسخين» في علم قديم لم يعد ميثاقاً للعالم ولا سنداً للرسوخ فيه، بالعكس، هو باب للغربة والانخلاع، على ما يبدو أنه حال عموم المسلمين اليوم، وما تجسد الإسلامية صورة ناطقة عنه. فإذا كانت الإسلامية في مختلف أوجهها تَعرِضُ منزعاً عدمياً حيال العالم، فهذا غير منفصل عن ضعف أثرها في «العلم»، أعني في تنظيم العالم وإرساء الثقة به، وفي تمثيله وتغطيته فكرياً. تظهر الإسلامية كعنف محض لأن عِلمها ذاتيٌ واعتقادي، لا يقول شيئاً لأحد من غير شركاء العقيدة.
ولعلَّ تطورات العقدين الأخيرين تظهر بصورة وافية وشافية أنه ليس هناك حل إسلامي سني لأزمة القيادة. في كل مرة دق إسلاميون على صدرهم، وأعلنوا أنهم الحل، قادوا أنفسهم ومن معهم في مسالك الخسارة والفشل. هذا ببساطة لأن أمر هذه الأمة في آخرِها الراهن لا يصلح بما صَلُح به أولها، على ما يقرر منهج الإسلاميين. محصلة تطبيق هذا المنهج خلال عقود أثمرت العكس: صار مشكوكاً بالصلاح الأول المفترض بأثر النظر إليه بعين فساد فكر وسياسة إسلاميي اليوم، العدميين منهم (أو الجهاديين) والتبعيين (أو «السياسيين»). بالفعل، لم يمر وقتُ ينتشر التشكك في أن الإسلام ذاته عقيدة فاسدة ومبدأ شرير، يحبذ العنف والكره والإيذاء، أكثر مما في بضع السنوات الأخيرة، وهذا في مجتمعات المسلمين ذاتها وفي العالم. منهج الإسلاميين الماضوي أفسدَ صورة الماضي دون أن يصلح في الحاضر شيئاً.
وفي حين أنه ليس هناك خطأ في الاعتراض على نظام العالم اليوم، أو في الكفر السياسي بالعالم اليوم بالنظر إلى ما يعرضه (العالم) من لا مساواة بنيوية مترسخة ومن تمييز نشط ومن إنتاج للذل والكراهية، إلا أن الإسلامية، بما في ذلك تشكيلاتها الأقل عدمية، تفشل نسقياً في إضفاء معنى عام على كُفرها السياسي، لفرط تمركزها حول ذاتها واكتفائها بما لديها. لا تبدو الإسلامية معنية بتطوير لاهوت أو «علم كلام» متسق، يؤسس لميثاق أمان عام في عالم إنساني واحد، هو مصلحة بشرية عامة. تبحث عن حلول فقهية لمشكلات فلسفية وسياسية وأخلاقية كبيرة، فلا تنحل المشكلات، ويقودها الفشل المتكرر إلى العدمية وكره العالم، مثلما تفعل تيارات اليمين في الغرب.
أزمة وعي وتَوجُّه
ويتمثل العنصر الثاني في حيرة واضطراب مَدَارِكَ شاملين في مجتمعاتنا المعاصرة، أعقب تفكك القصة القومية العربية، ونَشَأَ عن الغربة السياسية والفكرية لقطاعات متسعة الجمهور في عالم معقد، وغياب النقاش والتداول العام، وتدهور نظم التعليم والإعلام، ومع شعور منتشر بالانحدار والعجز. ولا يقتصر الحال على حيرة معرفية، أننا لا نعرف كيف نحيط بأوضاع نعيشها ويفتقر عمومنا إلى تغطية تحولات تاريخية كبيرة تظهر بفعل عدم استيعابها كأقدار خارجية؛ بل يتعداه إلى حيرة كيانية أو وجودية، «أزمة هوية»، فلا نكاد نُميز بين نحن وغيرنا، بفعل ما تَقَدَّمَ ذكره من تعارض بين قيادة الأمر الواقع السياسية وشرعية ثقافية موروثة؛ وبين مستويي الحيرة هاتين تحيرٌ وجداني، نشأ عن تواتر الكوارث وفقدان الوجهة فلا يكاد يتميز صديق من عدو، ونحن مع من وضد من؛ فإن بَنينا على كارل شميت، كان في ذلك ما يخرج العموم كلياً من السياسة. الخروج من السياسة قد يأخذ شكل العدمية والإرهاب، وليس حصراً السلبية أو الهجرة.
وفي مناخ من استحكام الحيرة والبلبلة، وفي غياب للنقاش وتعدد الأفكار، يبدو أنه يستفيد عارضون ليقين ديني لا يتزحزح، يوفرون فوق ذلك للحيارى شعوراً بأن الحيرة نسيان، وأن ما يحتاجونه للخروج من الحيرة هو التذكر، تذكر كينونتهم المنسية. لقد أخذ «الإسلام» يبدو منذ السبعينات دليل الحيارى، حلاً لمشكلات الهوية والسياسة والمعرفة.
وتتلقى أزمة المدارك الرفدَ من أزمة معرفة ودراية بعالم اليوم، يتلاقى فيها تدهور التعليم ونقص المعرفة، باكتمال العلم الذي يزعمه الإسلامان السياسيان المذكوران فوق، ويُشاركهما الإسلام السياسي الثالث، الجهادي، أو حتى يتفوق عليهما في ذلك. نظرية المؤامرة المزدهرة في بيئاتنا هي مشروع مشترك بين الإسلامات الثلاث، وبين البنية السرية للدولة والسياسة في الشرق الأوسط، وبين نقص المعرفة الناتج عن كمال كاذب لعلمنا القديم، كما عن جهل حقيقي تتسع قاعدته البشرية.
ولمّا تَميَّزَ الإسلام السني طوال تاريخه بضعف مؤسسي (ربما كان ثمناً لوراثته الانتصارات الدنيوية السريعة للإسلام بُعيْد ظهوره في التاريخ، ولكونه كذلك ميراث المنتصرين في الحرب الأهلية الإسلامية الباكرة)، فقد أضعفه ذلك أمام انبعاثات التطرف في ثناياه في أوقات الأزمات. السلطة الدينية في الإسلام تأخذ أشكالاً نزّاعة إلى القصووية بفعل تناثرها وما يخلق ذلك من نزعة إلى المزايدة والتشدد. حضور المهووسين الدينيين وضعف جمهور المسلمين أمامهم هما من أوجه أزمة اجتماعية وسياسية وروحية راهنة، هي من أشد ما نواجه في تاريخنا الحديث.
إن صح ما تَقَدَّم فهو يُظهِرُ بعض ملابسات إشغال العدمية الإسلامية موقع قطاع قيادي في تشكيل الإسلام المعاصر، وأنها بهذه الصفة مؤثرة بقوة في تشكيل تصورات الإسلام عند عموم العرب المسلمين. هناك أزمة وفراغ من جهة، وهناك قوة جديدة تتصرف كفاعل سيادي من جهة ثانية، وتطرق أخبارها الدرامية أسماع من سماهم ناجي العلي في ثمانينات القرن الماضي «شعب الله المحتار» (عربُ أيامه، مُعرَّفون تعريفاً قومياً)، وجميع الناس. فضلاً عن القصة الإسلامية التليدة، يحرص العدميون على أثر درامي مشوق لجهادهم، بطولة وجرأة ودماء وجوب آفاق، وعناية بالزي والديكور واللغة. الجماعة ممثلون في مسرحيات دموية، «مشرحيات» تقطع الأنفاس.
حال التبعية
وإلى أزمة القيادة، والحيرة أو أزمة الوعي، يمكن الإشارة إلى عنصر تَقَدَّمَ ذكره، ويبدو مهملاً في تناول عالم الإسلام الاجتماعي ككل: الوضع التابع. هذا عنصر اجتماعي- عالمي متزايد الأهمية، والمقصود به، على هدي غرامشي، الانعزال عن الهيمنة (المحلية والدولية) والغربة عنها، وهو ما بنت عليه غياتري سبيفاك حرمان التابعين من كلام يمكن قوله للسلطة أو ترجمته إلى لغتها. نتكلم على عنصر اجتماعي عالمي لأننا حيال مجتمع عالمي آخذ بالتشكل، وإن على غير نظام معلوم، ودون وجهة يمكن تبينها، وقد يمكن التفكير في الإسلامية كأحد تمخضاته (إلى جانب حركات جينوقراطية أخرى: التفوقية البيضاء، الهندوتفا، اليمين الشعبوي في أوربا، الصهيونية قبل وبعد «القانون الأساسي» في 2018 …). بفعل الانقطاع عن الهيمنة، ليس هناك تمثيل لمئات ملايين الناس في بلدانهم، وبالمحصلة في العالم.
ويتصل هذا العنصر بالتبعية بالمعنى الاقتصادي والوجودي: اعتمادٌ واسعٌ وغير متكافئ في إنتاج وإعادة إنتاج الحياة (والموت) على الغير المُنتِج، الغرب الرأسمالي بصورة خاصة. التبعية بهذا المعنى الواسع متصلة بتحول تاريخي كبير مثلته التجربة الاستعمارية، ووراءها أو تحتها الرأسمالية وثورات علمية وجغرافية وسكانية وصناعية ودينية وثقافية، أخذت تجري منذ ما يزيد على 500 سنة. التجربة الاستعمارية عززت في الإسلام مَنزعه السياسي، مثلما حصل مع جميع المواريث التاريخية للشعوب المُستعمَرَة. وأكثر، بالنظر إلى أن الإسلام متشكل بامبراطوريات متعاقبة ظلت آخرها حية، وإن في مرض موت طويل، حتى الواقعة الاستعمارية. الإسلام السياسي ظاهرة ما بعد كولونيالية، فَعَّلتها التجربة كقوة صراع في عالم أخذ يشغل المسلمون فيه موقعاً تابعاً. يتعين البحث عن جذور عُسر العلمنة في عالمنا في التجربة الكولونيالية أكثر من تكوين ذاتي غير تاريخي وغير متغير لـ «الإسلام». وبالمناسبة، ضمر العنصر الروحي في الإسلام في العملية ذاتها التي تعزز فيها السياسي. كان المضمون الأول للإصلاحية الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر محاربة الطرق والزوايا الصوفية، وهي التي اعتنت بالبعد الروحي للإسلام أكثر من غيرها، وإثبات توافق الإسلام مع العقل.
أما الإسلام الحربي أو الجهادي، الحاكمي والسيادي كذلك، فهو بقدر كبيرة ظاهرة من زمن العولمة، بل لعل تَخلُّقَه في المختبر الأفغاني في ثمانينات القرن الماضي من أبكر التعبيرات عن منازعها السيادية ما بعد الدولتية. توفر العولمة بيئة انتشار للعدمية الإسلامية. العالم في صورة معولمة يتحكم فيها الغرب هو شرط الإسلامية، التي لا تكف عن تأكيد العالم باتخاذه بيئة انتشار وعن نفيه بعملها على تدميره.
أورثت التجربة الاستعمارية المسلمين مظلومية قوية، يستثمر فيها الإسلاميون، وتحتد بفعل شدة الانحدار من موقع فاتح سابق إلى موقع مفتوح وخاضع. يستنفر موقع التابع مخيلة امبراطورية تساعد في تحويل الانقطاع عن الهيمنة إلى قطيعة مُختارة وتكفير. وهذا ما يميز التابعية الإسلامية ويجردها من كوامن تحررية تتصل بوضع التابع: لدينا هنا
تابعية سيدة أو امبريالية مقهورة1
إن جاز التعبير، ومن هذا التناقض العميق تتشكل روح الإسلامية المعاصرة. ما أقنعت نفسها به من اكتفاء فكري وأخلاقي وسياسي ذاتي هو خداع للذات، يحجب عن الذات ضعفها وحاجتها للاعتناء بنفسها. هذا الاكتفاء الذاتي هو بالضبط الظلامية. وهي تعزز أثر المظلومية في الانعزال عن العالم وجهله. ثم إنه ينضاف إلى المظلومية والظلامية، ما يمكن تسميته بـالظالمية الحلال أو العادلة، أي ما يتولد عن تلاقي عقيدة التوحيد بالمخيلة الامبراطورية من شعور بالاختيار والأفضلية. في المحصلة، تتلاقى في تشكيل الضمير الإسلامي المعاصر المظلومية والأفضلية والعدالة الذاتية.
على أنه لا ينبغي لتكوين الضمير الإسلامي هذا أن يحجب الوضع الفعلي، وضع التابع بمعنيي الكلمة: Subaltern وdependent. أي كذلك الضعيف. فالكلام على تابعين مقطوعين عن الهيمنة (لا يتحكمون بحياتهم وموتهم، ومكانتهم متواضعة في عالم متراتب) هو قبل كل شيء كلام على ضعفاء. عنف الإسلاميين يحجب ضعفهم الشديد وفق أي تعريف للقوة. لا يملك الإسلامي شيئاً من أدوات حربه، وهو يبدو متشككاً حتى في ملكيته لجسده، فلا يكف عن البرهنة على امتلاكه له عبر زجه في معركة قاتل أو مقتول مع العالم. ينزع الإسلامي إلى أن يكون «إرهابياً» بالضبط لأنه ضعيف، غير قادر على الحرب. فلا هو القوي القادر الذي يحظى بالإعجاب المضمر أو الصريح بقوته، ولا هو الضعيف الذي يحظى بالتعاطف بسبب عنفه.
مسكونة بمزيج من الشعور بالظلم والاستحقاق، يأخذ صراع الإسلامية المعولمة ضد العالم شكلاً إبادياً. النزعات الإبادية للتابعين ليست أمراً عجيباً، بل هي تبدو أشيعَ مما نتصور2. عدميتنا الإسلامية تنتمي سلفاً إلى تقليد عالمي، وإن فكرت في نفسها كفريدة الأزمنة.
ويبدو أنه بقدر ما يترسخ الوضع التبعي فإن ارتكاز الضمير الإسلامي بمحتواه المذكور يتحول إلى السلفية، وفي الصيغة الوهابية التي لا تتكلم مع غير نفسها، وليس إلى الإخوانية المتلونة وغير المنقطعة كلياً عن الهيمنة، بفعل نشوئها في دول وطنية حديثة. المفارقة أن الوهابية التي لم تعش في غير عالمها الخاص هي التي أتيحت لها أكثر من غيرها فرص للتعولم، للاستقلال عن أي إطار اجتماعي تاريخي حي، محمولة على الريع النفطي وعلى الأمر والنهي الأميركي.3
أزمة قربانية
محصول الكلام أن الإسلام في أزمة فعلاً. لم نكن في حاجة إلى الرئيس الفرنسي ماكرون لقول ذلك. سبق أن قاله كثيرون منا. ما قد يضاف في هذا السياق أن هذه الأزمة الشاملة في القيادة والوجهة والموقع هي أزمة تضحوية أو قربانية بعبارة رينيه جيرار الذي رأى النظام الثقافي متشكلاً حول القربان (في كتابه: العنف والمقدس). الإسلام دين قرباني، تشهد على ذلك قرابين عيد الأضحى التي حلت محل القربان البشري منذ أن افتدى الله اسماعيل، ابن ابراهيم، «بذبح عظيم». القربان هو تقديم شيء من النفس، الابن أو بديله، كشكر لله على الحياة وكوعد بالأفضل منها. تكمله إسلامياً الزكاة التي تجود على المحتاج بما يزكي النفس والمال. لكن النظام الثقافي الإسلامي في اضطراب عنيف منذ نحو قرنين، ويبدو أنه يستصرخ بحثاً عن حل. النكوص العدمي نحو الأضاحي البشرية تَقرّبٌ من الله بقتل أعدائه بحثاً عن رضا وتزكية، لكنه لا يحل الأزمة التضحوية التي تبدو محتدة أكثر بالأحرى، ولا هو يزكي الحياة، بالعكس تصير أعسر وأشد وعورة ما يدل على عدم رضا الله بالأحرى. تعرض الإسلامية المعاصرة كُفراً بالحياة هو، وليس عدم تقديم القرابين، أساسُ الأزمة التضحوية. يتعين قبول الحياة والشكر عليها كي نكون في وضع تضحوي ملائم، أي كي تكون التضحية أو تقديم القربان تزكية وتطهيراً، للنفس وللمال، وحلاً للأزمة التضحوية. ليس هناك حل تضحوي للحياة المحتقرة لأن الأصل في الضحية هو الشكر على الحياة الطيبة. الكُفر بالحياة أسوأ من أسوأ كُفر بالدين، أيّ دين. وقتل كفار الحياة من العدميين الإسلاميين لكفار الدين المزعومين لا يحل أزمة القاتلين، بل يبدو أنه يزيد شهيتهم للقتل، ويوسع دوائر الكفر وحدها. ثقافة الموت المزدهرة إسلامياً هي تعزيز وتعقيد لأزمتنا، وليست بحال مخرجاً منها.
وبقدر ما يقتضي التقدم خطوة نحو معالجة الأزمة القربانية للإسلام الإيمانَ بالحياة أو نعم للحياة التي كان نسبها نيتشه يوماً للإسلام، فإنه ربما يتعين طي صفحة الضحية الحيوانية ذاتها، التي لم يعد يقتضيها تكريمُ الحياة والشكر عليها اليوم. أي بالضبط السير في اتجاه معاكس للنكوص الإسلامي المعاصر نحو القربان البشري. ويبدو أن ذلك يقتضي إدخال عنصر تاريخي يرى البشر في أزمنة حياة متغيرة، توجب تغير الإكراه وممارستهم وطقوسهم ومعتقداتهم. ولعل فعل الخير للغريب، وليس قتل مئات ألوف أو ملايين الخراف كل عام، هو ما يمكن أن يكون اتجاهاً لحل الأزمة التضحوية لأنه تضحية تُزكي، وتتجه نحو الغيب ما دام الغريبُ هو من يَغيبُ بعد قليل. وهذا بالضبط عكس عقائد فاسدة وشريرة بالفعل، كالولاء والبراء، هي الدين الحقيقي للعدميين الإسلاميين، ولا تعني في المآل الأقصى غير قتل الغريب وإيثار النفس. أي بالضبط الكفر.
يقول كثيرون إن الأزمة أزمة مسلمين وليس أزمة إسلام. فكأنهم يقولون الإسلام بخير في كل حال حتى لو كان المسلمون في بؤس عميم كحالهم اليوم، وكأن الإسلام يبقى كاملاً حتى لو عم النقص المسلمين أو فنيوا جميعاً. في ذلك عبادة للإسلام لعلها هي ما تكمن وراء التضحية الانتحارية في الإسلامية المعاصرة. لسان الحال: نحن لا شيء، الإسلام كل شيء! لكن إن كان ذلك صحيحاً فإن التضحية بلا شيء ليست تكريماً لما هو كل شيء. إذ الأصل في التضحية التضحية بعزيز لا برخيص.
الإسلام في أزمة لأن المسلمين في أزمة، ودين المأزومين مأزوم مثلهم، وليس له من حياة غير حياتهم. أساس الحل لأزمة الإسلام- المسلمين القربانية هو الحياة الكريمة، حياة تستحق الشكر. ومن أجل حياة كهذه هناك الكثير ما يقوم به المحرومون منها، غير قتل أنفسهم وغيرهم. أوله التصالح مع ضعفهم بدل محاولة تقليد الأقوياء وقيادة النفس إلى العدم، وثانيه العناية بأنفسهم ورعايتها كي يقفوا على أقدامهم ولا يكونوا عالة على غيرهم، والثالث العمل مع أشباههم من أجل عالم أكثر مساواة وعدالة، والرابع تَعلُّمٌ ومعرفةٌ أفضل للنفس والعالم، لأن عِلمَ الإسلامين المستقر هو جَهلٌ مستقر جداً (بالاستعارة من النفري). وكل هذا يسير على غير درب العدمية الإسلامية التي لا تقود المسلمين إلى غير العدم.
1. تناولتُ هذا التكوين المنقسم للإسلامية المعاصرة في كتابي: الامبرياليون المقهورون، في المسألة الإسلامية وظهور طوائف الإسلاميين، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2019.
2. ينظر في هذا الشأن كتاب من تحرير Nicholas A. Robins and Adam Jones: Genocides by the Oppressed, Subaltern Genocides in Theory and Practice. فصول الكتاب تتناول تمردات إبادية قام بها تابعون مثل شعب البويبلو في المكسيك عام 1680، والجينوسايد الكمبودي في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وما تعرض له الألمان من تطهير عرقي وإبادة بعيد الحرب العالمية الثانية في العديد من بلدان أوروبا الشرقية وأمثلة أخرى. ويتناول كتاب حرره درك موسز: Empire, Colony, Genocide، جينوسايد التابعين في فصوله الثلاثة الأخيرة، فيتكلم على التمرد الكبير في جبال الأنديز المكسيكية بين 1780 و1782، وعلى ما تعرض له الأوروآسيويون من إبادة في إندونيسيا في 1945 و1946، وينتهي بتأملات عامة عن الهمج والرعايا والسادة، والحداثة والإبادة والاستعمار. المثال الأبرز هو في تصوري العدمية الإسلامية المعاصرة التي إما أن تكوينها الاستبعادي يحجب وضعها التابع، أو أن العلوم الاجتماعية تعاني من ضغوط مركزية أوروبية في هذا الشأن تَحولُ دون أن ترى الوضع التابع وما بعد الاستعماري. بيان أكاديميين فرنسيين يندد باليسار الإسلامي في الأكاديميا الفرنسية إثر جريمة قتل مدرس التاريخ الفرنسي صمويل باتي مثال مهم على هذه الضغوط. تنظر مقالة زياد ماجد: الإسلاموفوبيا والإسلاموغوشيست | القدس العربي (alquds.co.uk)
3. في آذار 2018، قال ولي العهد السعودي لصحيفة واشنطن بوست الأميركية إن نشر السعودية للفكر الوهابي يعود إلى «الحرب الباردة عندما طلبت الدول الحليفة من السعودية استخدام مالها لمنع تقدم الإتحاد السوفييتي في دول العالم الإسلامي».
موقع الجمهورية
—————————
عن أزمة الإسلام: دفاعاً عن الحق في النقاش/ زياد ماجد، فاروق مردم بك و ياسين الحاج صالح
جاءت جريمة قتل مُدرِّس التاريخ الفرنسي صامويل باتي، بفظاعتها ورمزيّتها، بعد سلسلة من العمليّات الإرهابيّة التي اقترفها شبّان مسلمون، فرنسيّون أو مُقيمون في فرنسا في السنوات الأخيرة، لتدفع الانفعالات إلى مستويات بالغة الحدة، وتلغي لأيامٍ أو لأسابيع إمكانية الكلام المعقول، جاعلةً النقاش في كل ما يتصل بالشأن الإسلامي مستحيلاً أو يكاد. َ
يدفعنا الأمر، بوصفنا ديمقراطيين علمانيين متحدّرين من المشرق العربي ومن ميراث شَكَّلَ فيه الإسلام رافداً أساسياً، إلى التأكيد بدايةً بأن التواصل بين مختلفين والبحث الشائك في المسائل المعقّدة هو ما يكسر عسكرة التفكير والثقافة التي يدفعنا إليها عدميون إسلاميون مثل القاتل عبد الله أنزوروف ومحرّضيه وأشباه لهم كثيرين، يكونون بخير كلما نجحوا في حفر خنادق أعمق تفصل مجتمعات المسلمين عن العالم حولهم. ويدفعنا إلى القول ثانياً إن العسكرة المذكورة لا تقتصر على العدميين الإسلاميين هؤلاء، إذ ثمّة متطرّفون كثيرون في الغرب يريدون بدورهم تعميق الخنادق، والعيش في قلاع محصّنة لا تبالي بما يجرى حولها وفي مناطق على هامش مركزها.
إننا نتبيّن كرهاً للعالم، عالمِنا المشترك، ولكثيرٍ من قيَم العدالة والتسامح والحرّيّة والمساواة، يتنامى في أكثر من مكان اليوم، في عوالم المسلمين، كما في المجتمعات الأوروبية والأميركية، وفي روسيا والهند والصين والبرازيل وغيرها. هذا في وقت صار فيه قيام «مجتمع عالمي متضامن» هو الحل الأجدى للتعامل مع مشكلات لا حلول محلية لها، مثل مشكلات البيئة والتبدّل المناخي والأوبئة والمجاعة والهجرة.
العالم اليوم برحابته وتعدّديّته ووحدته مصلحة عامة للبشر، وهو في أزمة عميقة، أزمة فقدان وجهة وانعدام وعد يشدُّ الناس إلى بعضهم. المسلمون ودينهم جزءٌ من هذا العالم، فَهم موجودون فيه وهو موجود فيهم. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليس مخطئاً في قوله إنّ الإسلام في أزمة، وقد سبق أن قال هذا الكلام كثيرٌ من المثقفين المنتمين الى الميراث الإسلامي نفسه. لكن ما لم يقله ماكرون هو أن أزمة الإسلام، المتمثّلة بالدرجة الأولى في صعود العدمية العنيفة، تتفاقم بقدر ما تنمو في العالم التيارات الشعبويّة والعنصرية والقوميّة الكارهة للمسلمين.
مهنة الضحية باتي، كمُدرِّس للتاريخ، تدفعنا إلى التذكير بتاريخ العدمية الإسلامية المسؤولة عن جريمة قتله. فالأخيرة، بظواهرها العنيفة، وُلِدَت فعلياً في أفغانستان أوائل ثمانينات القرن الماضي، حيث أراد الأميركيون تحويل البلد الفقير إلى فيتنام للاتحاد السوفييتي الذي كان قد اجتاحه واحتلّه لتوّه، بعد سنوات قليلة من فيتنامهم الخاصة. تلاقت وقتها المخابرات الأميركية والباكستانية مع المال السعودي والوهابية لتجذب شبّاناً وتُدرِّبَهم وتُعِدَّهم على العنف والقتال. حصل ذلك في وقت كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي أنتجتها ثورة العام 1979 تُصدِّرُ إيديولوجيّتها لمجتمعات مغبونة في المنطقة وتشتبك في أكثر من مكان مع أعدائها الإقليميين والدوليين، مشجّعة بذلك نموّ أصولية شيعية موازية للسلفية السنية الجديدة ومنافسة لها. وفي طور لاحق وفَّرَ اجتياح العراق في العام 2003 واحتلاله بذرائع كاذبة تربةً خصبة لانتعاش العدمية وجهادها. فالعراق المحتل ومُدمَّرُ البنية التحتية بعد أن كانت حروب الاستبداد الصدّامي قد مزّقت نسيجه الاجتماعي، شَكَّلَ بيئة لجذب الجهاديين. وتَفاقَمَ الأمر بعد عقد من الزمن مع تدمير المجتمع السوري على يد الحكم الأسدي، بمساعدة حليفيه الإيراني والروسي، فتأسست «الدولة الإسلامية» (داعش) على أنقاض البلدين المحطّمين.
تَظهر العدمية الإسلامية، في شكليها السياسي والحربي، كلما انغلقت النظم السياسية وجُرِّدَت المجتمعات من السياسة وانفلتت شروط وجودها من تحكّمها. فإذا كان الدين روحَ مجتمعات بلا روح في نظر ماركس، فهو في السياقات الإسلامية المعاصرة سياسة مجتمعات بلا سياسة. وهو ما يعني أن المزيد من الإفقار السياسي للسكان والعنف ضدّهم يسيران يداً بيد مع المزيد من التطرّف الديني، وصولاً إلى العدمية. وبالمقابل، فإن امتلاك السياسة من قبل السكان، التنظيم والكلام وحق الاحتجاج، هو الشرط الأكثر مُلاءَمة لمواجهتها.
والنقيض من ذلك هو بالتحديد ما جرى ويجري في الشرق الأوسط. فمنذ التسعينات، وبصورة أخص بعد 11 أيلول 2001، شَخَّصَت القوى الأكثر تأثيراً في الوضع العالمي «الإرهاب الإسلامي» بوصفه الشر السياسي المطلق، مما قاد إلى أمننة السياسة عالمياً، وإلى التعويل على أنظمة هي بالأساس وكالات قتل وسجن وقمع حرّيات. وها نحن نحصد ثمار كل ذلك اليوم. فبعد عقدين من الحرب ضد الإرهاب بات العالم أقلَّ أمناً، وترسخت الكراهيات الجمعية، ولم تنفتح الحرب على أي دعوة إلى العدالة، ولم تُستَحدَث محاكم محلية أو عالمية لإنصاف ضحايا الإرهاب والحرب عليه في بلدان مثل أفغانستان وسورية والعراق وسواها. اقتصرت العدالة على بعض الضحايا الغربيين، وأخذت غالباً شكل عمليات انتقام وقتل نفّذتها مجموعات كوماندوس أو طائرات حربية أو مسيّرة يكون فيها الخصم هو نفسه الحكم.
والواقع أن الحرب ضد الإرهاب ليست حرباً بحال. إنها تعذيب. ولذلك لا غرابة أن تَعُدَّ دولة التعذيب الأسدي نفسها شريكة فيها، وأن يلتحق بها نظام عبد الفتاح السيسي، وأن تركب الموجة حكومة ميانمار المنخرطة في حرب إبادة ضد مسلمي الروهينغا، ومعها حكومة مودي القومية الطائفية في الهند، وأن يحشر النظام الصيني مليون مسلم في معسكرات لإعادة التأهيل تذكّر بالتقاليد الستالينية والبول بوتية، وأن يُبيِّضَ «إرهابيون» سابقون سمعتهم بالانخراط في هذه الحرب، وقبل ذلك أن يستظلّ احتلال كولونيالي ونظام تمييز عنصري في الأراضي الفلسطينية بشعار مكافحة الإرهاب إياه ليبرّر ممارساته. لم يعد هناك قتلة وفاسدون ومعتدون ما داموا شركاء للغرب في حربه المزعومة على الإرهاب، وما دام الإرهاب محصوراً بالإرهاب الإسلامي.
في عالم اليوم إذاً مسألة إسلامية كبرى، لها وجهان: العدمية الإسلامية التي رفعت منسوب القسوة في مجتمعات المسلمين المُعنّفة وفي العالم؛ والعنصريّة المُعادية للمسلمين بدرجاتها المُختلفة. ولا يستطيع المؤثّرون في العالم الفاقد للوجهة وللوعد أن يروا أحد الوجهين دون أن يتعاموا عن الوجه الآخر، تماماً مثلما يفعل الإسلاميون العدميّون أنفسهم. إذ ليست الإسلاموفوبيا، أو العنصرية ضد المسلمين والمستندة الى تاريخ طويل من الغزو والاستعمار، سنداً في مواجهة العدمية الإسلامية. وليست الأخيرة، وهي نخبوية جوهرياً وليست منهج الجمهور الأوسع من المؤمنين، سنداً في مواجهة الإسلاموفوبيا. الواقع أن العدميين الإسلاميين يشعرون بالراحة في أجواء التمييز ضد المسلمين. يحتاجون إلى المظلومية إذ لا شيء إيجابياً لديهم يقترحونه.
لم يَفُت الوقت على تفكير أكثر جذرية ووضوحاً يطرح المسألة الإسلامية وأزمة الإسلام كأحد وجوه أزمة عالمية، تستعصي أكثر كلما تأخّرت معالجتها.
إننا ندعو زُملاءنا ونُظراءنا في فرنسا، وفي أوروبا والغرب، وفي العالم، إلى العمل على بلورة مبدأ للمسؤولية العالمية يقاوم الحصر العنصري وادّعاءات التفوّق العرقي أو الديني.
لا نريد أن نكون نذيرَ شؤمٍ ولا مبشّرين بالخراب، ولكنّ ما يُحيق بالعالم أجمع من مخاطر يجعلنا لا نستبعد أسوأ الاحتمالات، ونأمل من أجل اجتنابها ألا يستبعدها أحد. الأسوأ لا يخبر أحداً بموعد قدومه.
نشرت النسخة الفرنسية من هذا المقال في صحيفة اللوموند