مقالات

سباقات النقاد في “غود ريدز”… خرافة الديموقراطية ونجوم القراء/ أحمد ناجي

 

 

 

مثلما غيّر الانترنت في عادات الكتابة والنشر، تغيرت كذلك عادات القراءة إلى ما هو أبعد من الجدل، وهو مستقبل الكتاب الورقي في مقابل الكتاب الإلكتروني.

تعيش وسائط النشر بشكل متجاور غالباً، التلفزيون لم يقض على الراديو أو السينما، والانترنت كذلك لم يلغ التلفزيون. بل يمكن أن يتقاسم الجميع “الكعكة” بأنصاب غير متساوية. بدلاً من التورط في لعبة التنبؤ ومن سيعيش ومن سينقرض، وهل سينتهي الكتاب الورقي، أم سيظل الحنين البشري لرائحة الورق وملمسه… فالأجدر تأمل تغيّر عادات القراءة وكيفية تشكل النخب المثقفة الجديدة في الانترنت، وكيف تصنع سلطتها الثقافية.

حتى عشر سنوات مضت، كانت السلطة الثقافية العربية موزعة بين عدد من المؤسسات الراسخة منذ عشرات السنين. أولاً، وزارات الثقافة العربية بمختلف هيئاتها. فمن العراق إلى مصر وحتى المغرب، لعبت وزارات الثقافة العربية أدواراً عديدة. فهي الرقيب على الكتب والمنتجات الثقافية، والناشر الأكبر والأقوى في السوق. كذلك هي أكبر جهة توزع الجوائز والمنح، وبالتالي تساهم في ترسيخ بعض الأسماء وتهميش أسماء أخرى، وتصنع من بعض الكتّاب أيقونات ثقافية، بينما تلتهم بمعدة النسيان أسماء أخرى.

ثانياً، سلطة المجلات الأدبية والثقافية، وبالطبع المؤسسات الصحافية، التي تفتح أبواب النشر للكتّاب وتقييم المنتجات الثقافية وتمنح الألقاب. ثم أخيراً، تأتي سلطة الفعاليات الثقافية، الجوائز الأدبية الندوات والمؤتمرات والمناظرات ومعارض الكتاب والمهرجانات، الرسمية والبديلة.

الكتاب الذي لم يكن يحصل على رضا أي من السلطات الثلاث، كان مصيره النسيان والتهميش، أما إذا حالفه الحظ  فيتم تقديمه بلقب “حاز تقدير النقاد”.

ثم ظهر موقع “غود ريدز/Goodreads”. وترافق هذا الظهور مع انتكاسة للصحافة العربية الورقية ومعها المجلات والدوريات الثقافية، وحينما انتقلت الصحافة العربية إلي الانترنت، كان المدهش تقلص مساحات نشر الإبداع الأدبي، وكذلك مراجعات الكتب. وفي الوقت ذاته، تعاظم شبح “غود ريدز” حتى أصبح السلطة الأكبر المؤثرة في سوق الكتاب، مع الجوائز الأدبية الخليجية بالطبع.

تسود خرافة أن موقع “غود ريدز” ليس سلطة، بل هو “دمقرطة النقد”. فالقارئ العربي الذي جرى إخراسه في الماضي، أخيراً يمتلك صوتاً. يمكنه كتابة التعليقات والمراجعات، ووضع من نجمة إلى خمس نجوم لأي كتاب. لم تعد الكتب تُقيّم بالمقالات النقدية، بل بعدد النجوم التي تنالها، وبالرقم المتوسط الذي يمنحه قرّاء “غود ريدز” لكل كتاب.

أصبح الموقع ساحة للتنافس كذلك، والتلاعب في عمليات التقييم، كأن ينشىء أحدهم أكثر من حساب يدخل بها كلها ليعطي نجمة واحدة للكتاب، وبالتالي ينخفض التقييم الإجمالي لكتاب معين.

مراجعات الكتب في “غود ريدز”، حولت بعض المراجعين إلى صورة ما بعد حداثية للناقد في زمننا المعاصر. يحرض بعض مستخدمي “غود ريدز” على وضع تقييمهم وكتابة تعليق على كل كتاب، سواء قرأوه أو لم يقرأوه، وبالتالي يتحولون مرجعية لبقية المستخدمين.

من “غود ريدز” يخرج البعض إلى شبكات اجتماعية آخرى. من “فايسبوك” إلى “تويتر”، انتشرت أندية القراء المحترفين، وصفحات عروض الكتب، حتى وصلنا إلى نجوم “يوتيوب” أو المعروفين بـ”بوك تيوبر booktubers” مثل قنوات “دودة الكتب”، “بتاع الكتب”، “الروائي”.

يتنافس هؤلاء جميعاً على اللايكات، والشير، وعدد المتابعين. لذا، فعادة ما يتحركون في المساحة الآمنة في اختياراتهم في الكتب. معظم الوقت، يختار نقاد “بوك تيوبر” الكتب الأكثر مبيعاً والرائجة، ناهيك عن بعضهم الذي يعتمد على الكتب التي تصله من دور النشر، والتي بدأت في الالتفاف على هؤلاء واستغلالهم كمنصات دعائية لترويج اصداراتها.

هذه التغييرات الجذرية في صناعة النشر، تمتد كذلك لتؤثر في عادات القراءة. فبعدما كانت برامج تشجيع القراءة قديماً تعتمد على تنظيم الفعاليات في المكتبات العامة، أو توفير الكتاب بأسعار مخفضة على طريقة “مهرجان القراءة للجميع” في مصر، أصبحت مبادرات تشجيع القراءة تعتمد على “تحدي القراءة”، وهو الظاهرة التي عجزتُ -شخصياً- عن فهم الغرض منها، واستمرار انتشارها، ما يجعلني أشعر بأني من الديناصورات بعادات اجتماعية وثقافية من الماضي.

فمع نهاية كل عام، يتنافس مستخدمو “غود ريدز” وغيرها من الشبكات الاجتماعية، في الحديث عن تحدي القراءة، وكم كتاباً قرأوا في العام؟ ما هو الغرض من هذا الأمر؟ لم أفهم أبداً. هل لو قرأت مئة كتاب في العام، يكون عامي مثمراً أكثر ممن قرأ 20؟ ألا يمكن إن يكون تأثير كتاب واحد في المرء بتأثير مئة كتاب؟ هل التحدي يكون في نوعية الكتب وطبيعتها، أم عددها؟ والسؤال الأهم كيف يحققون تلك التحديات، ولماذا؟

بالنسبة إليَ، يبذل الواحد مجهوداً ويحتاج إلى الكثير من الحظ حتى يجد كتاباً جيداً، والقراءة ليست في الكم، لكن في الكيف. هي استحلاب للمتعة. حينما يعثر المرء على كتاب جيد، لا يسعى إلى انهائه، بل يحزن كلما اقترب الكتاب من نهايته. أظل اقرأ وأعيد قراءة الكتاب لأيام وأسابيع طويلة، وأحياناً لسنوات وشهور، بحسب الكتاب.

أطول كتاب اقرأ فيه منذ حوالى 14 عاماً هو “المواعظ والاعتبار” للمقريزي، تليه رواية عوليس لـجيمس جويس منذ خمس سنوات. استحلاب الكتب مع الزمن لا يتطلب ان يكون حجمه كبيراً، فربما يكون الكتاب قصيراً، لكن مذاقه سيصبح أفضل عند القراءة ببطء. مثلاً كتاب النوم لـهيثم الورداني أقرأ فيه منذ أكثر من عام. الشعر كذلك، كيف يمكن انهاء كتب الشعر أو احتسابها في تحدي القراءة؟ هل مثلاً الأعمال الكاملة لـرياض الصالح حسين تعتبر كتاباً واحداً أم كتباً متعددة؟ ماذا عن المذاهب المختلفة في قراءة دواوين الشعر؟ أنا لا أذكر في حياتي كلها ان جلست لأقرأ ديواناً أو كتاب شعر مرة واحدة، بل يصاحب الواحد ديوان الشعر، يقلب فيه قبل النوم، يقرأ قصيدتين أثناء التمدد على الكنبة، يفتح على قصيدة عشوائية قبل أن يبدأ العمل، يضعه في حقيبة السفر، يقرأ مقطعاً بصوت عالٍ حتى يحفظه. لكن أن تضع الشعر ضمن كتب التحديات، فهذا سيبدو غريباً لأن بعض زملائك في التحدي قد يتهمونك بالغش!

القراء الجدد لا وقت لديهم للاستحلاب، يجب أن يقرأوا سريعاً لكي يضعوا النجمة في “غود ريدز” وصورة الكتاب في انستغرام ويعلنوا انهاء التحدي. القراء الجدد لا يحبون كتب الشعر كذلك، فيندر جداً أن تجد في قوائم تحدي القراءة، كتب الشعر، يليها غياب الكتب الفلسفية. هم يفضلون الشعر في شكل قصائد متفرقة في “فايسبوك”، أو مقاطع مختصرة من القصيدة في “تويتر”، أو أفضل من ذلك أن تكون للشاعر صفحة في “فايسبوك” وينشر شعره في شكل فيديوهات في “يوتيوب”!

يمكن ان نلاحظ آثار تلك العادات الجديدة في صناعة النشر بوضوح. فالشعر تتراجع طباعته وتوزيعه في سوق الكتاب الورقي، بينما الشعراء يحتلون المراكز الأولى في عدد اللايكات، ومشاهدات الفيديوهات. لن نجد مثلاً دواوين شعرية مطبوعة لتميم البرغوثي، لكننا سنجد المنافسة الشديدة في “يوتيوب”، بين فيديوهات تميم البرغوثي، ومصطفي ابراهيم، وهويس الشعر هشام الجخ.

لا أشعر بالحزن أو الحنين إلى ما مضى، لكن بينما يتعاظم دور الانترنت والشبكات الاجتماعية في تشكيل سوق الكتاب، من الضروري الحذر من خرافة “دمقرطة النقد” أو اعتبار ما يحدث انعكاساً لذوق القراء. فالبرمجيات التي تتحكم في نوع الإعلانات والصفحات التى تظهر لنا يمكنها بسهولة التحكم في نوع الكتب التي نختار قراءتها. ونقاد الانترنت الذين يتظاهرون بالحياد والموضوعية، لأنهم من خارج “الشلّة الثقافية” التقليدية، هم في النهاية تجار “لايكات” و”شير”. وقبل أن ننجرف في سباقات تحدي القراءة، من المهم إن نتوقف ونسأل: تحدي من؟ ولماذا أتحدى؟ وكيف تحولت متعة القراءة إلى تحديات وسباقات؟

 

المدن

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى