سياسة

رسالة إلى بشار الأسد!/ عمر قدور

لا نعلم ما الذي حدا بأول رئيس لائتلاف المعارضة الشيخ معاذ الخطيب إلى إطلاق مبادرة سياسية جديدة، قام بتوجيهها كرسالة إلى بشار الأسد عبر يوتيوب، وحظيت خلال ثلاثة أيام بالمشاهدة من قبل عشرات الآلاف. الشيخ معاذ كان قبل سنوات قد وجه أيضاً رسالة مماثلة إلى بشار الأسد، قوبلت كما هو متوقع بالإهمال التام من قبل الأخير، رغم أنه لم يكن قد حقق الانتصار الذي يعتقد أنه قد حققه مؤخراً.

في رسالته الجديدة يكرر الشيخ مقولات له قديمة، من نوع عدم اكتراث الخارج بمعاناة السوريين بل التآمر عليهم وعلى المنطقة، مؤكداً بلغة الواثق من معلوماته أن ما يُدبَّر خطير جداً، منذراً بشار الأسد نفسه بسيناريوهات دولية تتعلق بمستقبله، وداعياً إياه إلى أن يفيق من أجل مصلحة سوريا. ما تخلص إليه الرسالة هي مبادرة يقول الشيخ أنها سُلّمت لموسكو وواشنطن من أجل عقد لقاء سوري-سوري من دون شروط مسبقة، أي لا يكون رحيل بشار شرطاً لعقده، وأن يلتزم بالرحيل إذا اتفق المجتمعون على ذلك. يُفهم من الكلام وجود تجمع ما غير معلن ينطق الشيخ باسمه، تجمع يحظى برعاية إقليمية غير معلنة أيضاً، ما يوحي بثقل يتعدى شخصه من دون معرفة مدى مصداقيته طالما بقي مخفياً.

خلال ما يزيد عن النصف ساعة، يتراوح حديث الشيخ بين ما هو عاطفي والمحاججة المنطقية البسيطة، ولا يخلو من السذاجة كقوله أن “العلاقات الدولية تغيرت، لم يعد هناك عدو دائم أو حليف دائم”، حيث يبدو كأنه لم يسمع جملة تطابق الشطر الثاني منسوبة لتشرشل رئيس وزراء بريطانيا قبل عقود. لكن ما يهم حقاً وسط الكثير من التبسيط والسذاجة هو ذلك البحث في ما يمكن له جمع السوريين، ومحاولة النطق باسم المعاناة السورية خارج التقسيمات الحادة بين موالين ومعارضين، انطلاقاً من الضرر الذي أصاب الجميع مع اختلاف درجاته. ولو كان الشيخ قد اختار توجيه رسالته إلى الموالين الذين دفعوا ثمن بقاء الأسد، ويتضح لهم يوماً بعد يوم أنهم ليسوا شركاء في نصره، لأمكن فهم الرسالة على محمل مغاير لما يُفهم منها لدى توجيهها إلى بشار بصفته صاحب قرار مستقل.

الرسالة نُشرت على يوتيوب بعنوان “حوار هادئ مع فرعون سوريا”، وهو عنوان يبتعد جداً عن الواقع بموجب الصورة المتخيلة عن فرعون الكلي السطوة، فكما نعلم صار وجود بشار رمزاً لقوتي احتلال تتدخلان وتتنافسان في أصغر الشؤون العسكرية والمخابراتية، وأظهرتا في أكثر من مناسبة أن القرارات الخارجية تعود إليهما وعلى بشار تنفيذها راضياً أو على مضض. هنا، لو توجه الشيخ إلى قوتي الاحتلال لكان الخطاب أكثر منطقية من تلك الصورة الوردية التي يطرحها، وبموجبها سينتهي تأثير الخارج تلقائياً لمجرد أن يلتقي السوريون ويتفقوا على حل.

انطلاقاً من وجهتها الخاطئة تدلنا الرسالة على الوجهة الصائبة، فالإقرار بأن سوريا أصبحت ملعباً للقوى الخارجية، وبأن الأسد لم يعد الحاكم الفعلي، يقتضيان التوجه إلى مركز القرار الفعلي. لا تفيد في هذا السياق اللغة العاطفية التي تعزف على وتر حل سوري خالص، أو تحاول استنهاض غيرة على مستقبل البلاد من زمرة لم تظهرها في أية لحظة، وبعبارات من قبيل “أريد يا بشار أن تفيق لمصلحة سوريا” أو “إنقاذ سوريا أمانة في رقابنا جميعاً”. وبالطبع لا يفيد ذلك الاسترسال بالحديث عن شقاء السوريين، فمن اعتمد الإبادة الجماعية ليس بحاجة لمن يدله على نتائج وحشيته، ومن أفلت عشرات الميليشيات وأفرع المخابرات المحلية، واستجلب نظيراتها الخارجية، لترويع الناس أدرى بكل صغيرة وكبيرة.

ما نراه الآن في سوريا هو صراع المنتصرين، ووفق مصالحها ترى عصابة الأسد أنها في صفهم. في الجهة المقابلة، تُرى بوضوح أشد صراعات المهزومين، وهي حقاً الأجدر بالرؤية لأنها تحوّلهم إلى أدوات للصف الأول. من أوجه فشل المعارضة التي مثّلها يوماً الشيخ معاذ الخطيب أنها لم تتوجه بخطاب مناسب للسوريين، بمن فيهم أهل الثورة، ولم تتوجه بخطاب مناسب يحث الخارج على التغيير. ما غلب على بيانات المعارضة وتصريحات قادتها هو الارتجال والعاطفية والشعارات، وهذه السمات جميعاً لا تؤسس لاحترام من قبل أنصارها قبل خصومها.

بعبارة أخرى، يستأنف الشيخ معاذ بمبادرته أخطاء المعارضة، متوجهاً إلى بشار الأسد في رهان خاسر سلفاً، بدل توجهه إلى حيث يمكن الرهان مهما بدا ضعيفاً الآن. الرهان على الخارج لا يكون بمنطق الاستجداء الذي ساد من قبل، وإنما من خلال تقديم مشروع بديل مقنع، ومن خلال فهم تقاطع المصالح الذي أبقى على بشار في السلطة حتى الآن. أما الرهان على الداخل فينبغي ألا يتوقف في أية لحظة، إذ لا معنى لأي مشروع وطني من دونه، ولا بأس في القول أننا نفتقد خطاباً جامعاً يستخلص معناه ومغزاه من هزيمة الغالبية الساحقة للسوريين، ويؤسس لمرحلة جديدة من الصراع الذي سيستمر طالما بقيت الزمرة الأسدية مسبّبة له.

الساحة السياسية السورية خالية الآن تماماً من أي فعل سوري، خالية من أية مبادرة، ولا تضيف رسالة الشيخ جديداً عليها. ربما مردّ ذلك إلى إقرار الجميع بأن خيوط اللعبة كلها ممسوكة من الخارج، وعدم معرفة ما ستؤول إليه الصراعات أو التوافقات الخارجية، وعلى هذا الصعيد قد يستوي الجميع معارضةً وموالاة. ثمة فوق ذلك يأس متبادل بين السوريين أنفسهم، يجعل أية مبادرة للتقريب بينهم بمثابة مغامرة محكومة بالفشل مسبقاً، لكن بالنظر إلى تفوق حتمية التعايش بينهم ما لم يكن هناك مشروع للتقسيم فإن ما يبدو مغامرة اليوم قد يصبح ضرورياً غداً. المسألة لا تتعلق بشعارات وطنية من أي نوع، لأن ما يحكم جميع المجتمعات هو مصالح فئاتها، وأي خطاب فكري أو عاطفي خارج تلك المصالح إذا أُتيح له النجاح فسيكون على حساب المؤمنين به. من المعتاد في الثورات عموماً التخلي عن الحد الأقصى مما تطرحه عندما تحكمها مسؤوليات انتصارها، في حالتنا العبء مضاعف عندما نتحدث عن انتكاسة ثورة يصعب استئناف مشروعها ما لم تكن قادرة على استيعاب هزيمتها وهزائم خصومها أيضاً!

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى