مقالات

مسارات الحداثة العربية المتعاكسة وأسئلتها المتجددة/ مفيد نجم

عندما ظهرت الحداثة الشعرية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين كان قد مرّ على ظهور ما عرف بعصر النهضة العربية قرابة القرن من الزمن، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول تأخر ظهور الحداثة الشعرية بالتزامن مع ظهور أفكار النهضة والتنوير في الحياة العربية والأسباب التي جعلت هذه الحداثة تحسم الجدل حول مشروعيتها وتواصل تطوير قيمها الجمالية والفكرية والتعبيرية على الرغم من تأخر ظهورها، وفي وقت كانت تهيمن فيه الثقافة التقليدية، وتبدي الكثير من المقاومة لهذا المشروع بوصفه تغريبا وخروجا على جماليات الشعرية العربية القارة وأصولها، بينما لم يستطع مشروع النهضة والتنوير أن يتحوّل إلى مشروع حداثي فكري وسياسي واجتماعي وتربوي ناجز، يضع العرب على أعتاب مرحلة جديدة من النهوض والتقدم الحضاري.

حاول بعض الدارسين تفسير هذه المفارقة بالقول إن نخبوية رموز النهضة وأعلامها هو ما يفسر هذا الفشل، متناسين أن مشروع الحداثة الشعرية قادته نخب ثقافية أيضا، كذلك لم يكن تأثير أفكار الحداثة الغربية على هذه النخب هو المسؤول عن ضعف تأثيرها، لأن رموز الحداثة الشعرية تأثروا أيضا بالحداثة الشعرية الغربية.

لقد استطاعت الحداثة الشعرية أن تخوض مغامرتها في ثقافة ما زالت تعاني من التقليد وتعدد المرجعيات، بينما لم تزل الحداثة العربية تضيع في متاهات المفاهيم والخيارات والرؤى، كما هو الحال بالنسبة إلى الهوة التي لا تزال قائمة بين مجموعة من الثنائيات، لم يستطع الفكر السياسي والفلسفي العربي أن يلغي المسافة بينها، كما هو الحال بالنسبة إلى قضايا الحداثة والتحديث والتراث والمعاصرة، والقديم والجديد والهوية والآخر والدولة والمجتمع.

عصر النهضة

لقد انطوت هذه الأفكار والمشاريع النهضوية على ضبابية في الرؤية والمواقف، حاول النهضويون القفز فوقها عبر محاولات التلفيق تحت ذريعة الحفاظ على الهوية الحضارية للأمة، وتجديد العلاقة مع التراث برؤية معاصرة، ما جعل النخب الفكرية والسياسية العربية تظل تراوح في محاولاتها لحل إشكالية العلاقة بين هذه الثنائيات، حتى بدا وكأن ثمة استعصاء في تجاوزها، وخلق ديناميات جديدة تقود المجتمع العربي نحو عبور هذه المضائق المستحكمة.

لذلك يحتاج مصطلح عصر النهضة، الذي يطلق على المرحلة الممتدة من نهايات القرن التاسع عشر وحتى الآن إلى مراجعة فكرية وسياسية علمية، نظرا لغياب المقومات المادية والفكرية والفلسفية التي تجعل من هذه الأفكار والأطروحات والمواقف مشروعا متكاملا وقابلا للتحقق والإنجاز، على غرار ما حدث في عصر النهضة الأوروبي، وإلا كيف نفسر نجاح الحداثة الغربية في مشروعها، بينما عجزت محاولات التحديث العربية عن امتلاك أدوات تحققها والحفاظ على مكتسباتها؟

 لقد اجتهدت تلك النخب في طرح أفكارها النهضوية والتنويرية بعد أن رأت حجم الفجوة الكبيرة بين التقدم الحضاري والعلمي، الذي بلغته المجتمعات الغربية، وواقع التخلف والجهل الذي كانت تعيش فيه المجتمعات العربية، لكن هذه النخب لم تكن تملك رؤية متكاملة وواضحة لمشروع النهضة العربية المرجوّ، ولأدوات تحقيقها، نظرا إلى تعدد مرجعياتها وتباين مواقفها من الحداثة الغربية، ومحاولات الإجابة عن أسئلة الواقع العربي، ما ساهم في تشتيت هذه المجهودات والمواقف، وزاد في تعقيد إشكاليات القضايا المطروحة على الفكر العربي ونخبه السياسية.

ومما ساهم في تعميق هذه المعوقات الدور الذي لعبته النخب العسكرية والليبرالية التي تصدت لقيادة هذا المشروع منذ بداية منتصف القرن العشرين، خاصة مع تغييب دور الطبقة المتوسطة حتى وصل هذا المشروع إلى أفق مسدود يعكسه واقع الأزمات المستفحل الذي وضع مجتمعاتنا أمام مزيد من التحديات الداخلية والخارجية التي تعجز عن حلها.

 لقد وعى روّاد الحداثة الشعرية العربية العلاقة بين الحداثة الشعرية والزمن، وكان تطوير أشكال الكتابة الشعرية تجسيدا لهذا الوعي ولذلك كان جمهور الشعر الحديث جمهورا نخبويا ينتمي إلى العصر الذي يعيش فيه، بينما ظل تأثير النهضة محدودا في الواقع المعاند، نظرا إلى تداخل مفهوم العلاقة مع الزمن عند فئات واسعة من المجتمع، إذ ظل الماضي مرجعية أساسية تنطوي على التداخل بينه وبين الحاضر. لذلك بدت الحداثة الشعرية العربية وكأنها تتحرك وتتنامى في واقع آخر، لم تستطع معه أن تعمق تأثيرها كثيرا في وعي العلاقة مع الزمن عند فئات أخرى، وهو ما يفسر أسباب الجمهور النخبوي.

وإذا كان المؤثر الثقافي الغربي هو العامل الحاسم في التجربتين، كما يذهب البعض في تفسيره، فإن النخب الفكرية والسياسية العربية انفتحت هي الأخرى على الحداثة الغربية، وتأثرت كثيرا بالتطور الذي بلغته، لكنها لم تستطع بلورة رؤيتها إلى العلاقة مع الزمن بصورة تتناسب مع تطلعاتها وشعاراتها التي رفعتها للتطوير والنهضة والتقدم. وما زاد من أثر هذه الإشكالية أن من تصدى لقيادة المرحلة كانت نخبا عسكرية وليبرالية لا تمتلك هذا الوعي الحقيقي، واشتراطاته كما حدث في المجتمعات الغربية.

ثورية الشعر

لا شك أن شعر الحداثة العربية ظل تأثيره واضحا على مستوى النخب الثقافية، وهو ما يجعله خارج مناهج التدريس حتى الجامعية، فإن هذه مفارقة أخرى تدل على سيادة البنية الثقافية والتربوية التقليدية في المجتمع. أما ما يتعلق بالحداثة المجتمعية فقد ظل مشروعها مرتبطا بقوى سياسية وأيديولوجية، لم تكن تمتلك الرؤية الحقيقية لهذا المشروع الحداثي المتكامل، لأن الحداثة بهذا المعنى تتعارض مع مصالحها.

واصل شعراء الحداثة مغامرتهم الجديدة وعملوا على تطويرها على الرغم من إدراكهم بنخبوية جمهور هذه التجربة، في حين بقيت البنى الاجتماعية والذهنية تحافظ على وجودها وتعبيراتها في السياسة كما في الاجتماع، الأمر الذي جعل حداثة الشعر تواصل مغامرتها الجمالية، بينما ظلت الحداثة العربية في الغالب حداثة استهلاك وتلفيق وفق حسابات دقيقة، كانت تخدم وما زالت مصالح الطبقة السياسية الحاكمة، في حين أن للحداثة بمعناها العصري والحديث اشتراطاتها الفلسفية والمادية، وفي مقدمتها حل مشكلة العلاقة مع الزمن والتاريخ.

إن وعي الزمن في بعده المتحرك والمتغير، هو الذي جعل الحداثة الشعرية تواصل تطوير مشروعها بسرعة، كما ظهر في الانتقال من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر بأشكالها ومرجعياتها المختلفة، في زمن قياسي، بينما لم تزل الثقافة العربية تعاني من مشاكل بنيوية تتجلى في التناقض الذي تعيشه على مستوى الزمن ومرجعياتها، خاصة بعد فشل ما سمي بمشاريع التحديث والتطوير. كل هذا جعل الشعر المعبر الحقيقي عن الحداثة، التي ما زالت تتعثر في ميادين أخرى يحاول رموز الماضي وسدنته جاهدين معاندة رياح التغيير ومحاولات التحرر من سلطة الماضي كمرجعية للمستقبل الذي ننشده.

كاتب سوري

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى