ثقافة وفكر

حنّه آرنت في سورية/ ياسين الحاج صالح

هذه الخواطر حول الشر هي تفاعل أول مع أفكار المنظّرة السياسية الكبيرة.

لم تُصدِّق حنه آرنت بوجود غرف الغاز في معسكرات الاعتقال النازية التي كانت وردت تقارير بشأنها من هاربين من ألمانيا النازية منذ مطلع 1942. كمفكرة عقلانية قدّرت أن النازيين ليسوا مضطرين إلى تقنية القتل هذه. كان زوجها مؤرخاً عسكرياً، وهي شاركته الاعتقاد بأنه لم تكن ثمة «ضرورة عسكرية» لقتل الناس جماعياً بالغاز السام، هذا بينما هم لا يقاومون وبينما النازية تنتصر في الشرق بعد بدء اجتياح الاتحاد السوفييتي في صيف 1941. انقضت ستة أشهر طويلة قبل أن يبلغ تواتر التقارير عن غرف الغاز قدراً يتحدى التفكير العقلاني المجرد، فتُجبَرَ المثقفة اليهودية الألمانية، اللاجئة حديثاً في أميركا وقتها، على مراجعة مسلماتها حول المعقول، وتضطر إلى تصديق ما بدا في حينه لا يُصدَّق.

يبدو أن هناك دافعاً نفسياً وفكرياً متأصلاً في نفوسنا يحثُّنا على عدم تصديق ما يتعذر تصديقه وما يبدو غير معقول: لا نريد أن نُستغْفل أو نبدو سذجاً، أشخاصاً يسارعون إلى تصديق كل ما يسمعون. نخشى المبالغات والإغراب، وبخاصة عن أعدائنا، مقاومين ميلنا الطبيعي إلى تصديق أسوأ ما يقال عمّن نعادي. كأناس عقلانيين أسوياء، نريد، بالمقابل، أن نفكر ونتصرف بوصفنا أشخاصاً متزنين، لا تجرفهم الشائعات ولا يقبلون ما يطرق أسماعهم من مرويات، قبل أن ينقطع الشك بيقين المعاينة المباشرة أو الشهادات المتواترة.

ظهرت آرنت ساذجة بالضبط لأنها أرادت ألا تكون ساذجة، وهي تشككت في شيء حقيقي لبعض الوقت لأنها عقلانية، تنزع إلى رؤية العالم وفقاً لمبدأ «العلة الكافية»، حيث لا تحدث الأشياء بدون أسباب نوعية، وحيث الواقعي أو الحقيقي معقول مبدئياً. كان الحقيقي غير عقلاني هذه المرة، والعقلاني غير حقيقي، خلافاً لما كان قرر هيغل.

والحال أن هذا الاستعداد العقلاني المتشكك هو ما يضعنا في موقع ضعيف حيال ما لا يُصدَّق من لا معقول سياسي واجتماعي تمثَّلَ في النازية وفي الستالينية في أيام آرنت، وقد يتمثل في دول الأبد في مجالنا وفي الجهادية الإسلامية، وكلاهما فاعلان لما لا يُصدّق، ومنبعان للخرافة وغير المعقول. استعدادنا العقلاني مدعو إلى تجاوز نفسه أو الثورة على نفسه كي يتفاعل بكفاءة مع ظواهر اللامعقول هذه. هذا ما عملت من أجله حنه آرنت التي ترابطَ تفكيرها بصورة وثيقة مع تجارب شخصية غنية. فهي معتقلة مرتين، وإن لوقتٍ وجيز، في كل من موطنها الأصلي ألمانيا ثم ملجئها الفرنسي، ولاجئة مرتين، إلى فرنسا عام 1933 ثم إلى أميركا في عام 1941.   

1

لدينا بخصوص سورية مثال مشابه لمثال آرنت مع غرف الغاز. كثيرون تشككوا في أن يكون النظام هو من ارتكب المذبحة الكيماوية في آب 2013. زميلٌ من فنزويلا قال لي مثل ذلك في مطلع 2019، والرجل ليس غير شافيزي فقط، بل هو معارض لشافيز ومادورو من بعده. لكنه مهتم بالشؤون العامة وعقلاني التفكير، ولا يريد بطبيعة الحال أن يُستغفَل. حجة زميلي وحجة غير المصدقين تشبه حجة حنه آرنت: ما هي مصلحة النظام في ذلك؟ والمضمر أنه غير مضطر لارتكاب جريمة كهذه. لكن مثل ذلك يمكن أن يقال بخصوص التقارير عن التعذيب، والقتل في السجون، وعن الاغتصاب، وعن فظائع غيرها، في نظر (أو أذن) من يسمعها أول مرة. لماذا تُغتصب نساء معتقلات؟ لماذا يُقتل أناس بعد بذل جهد ووقت في تعذيبهم؟ فضلاً عن أنه يثير سؤالاً أعسر على الإجابة: لماذا يمكن أن يرتكب مقاتلون ضد النظام ذلك؟ أي «ضرورة عسكرية» أو غيرها تسوقهم إلى قتل المئات من أهلهم؟

تُرى، لماذا يرتكب غير المضطر جرائم مهولة؟ نفترض أن الجريمة ذاتها نتيجة حساب عقلاني، يُبتَغى من ورائه تحقيق مصلحة معقولة لا تتحقق بغير ارتكابها، أو يُعمل على تجنب خطر داهم، أو يكون مرتكبها مكرهاً عليها. لكن يبدو أن للشر ديناميكياته الخاصة التي قد تفلت من أيدي من يطلقون مسلسل الشر بالذات، يبدأ صغيراً متردداً، قبل أن يكبر ويقوى فلا يتوقف، ولو تسبب ذلك في إيذاء الذات. قد يبدأ المرء بسرقة صغيرة متردداً، تشجعه على سرقة أكبر، قبل أن يصير سارقاً متمرساً، قد لا ينهاه الوقوع في السجن عن ممارسة السرقة بعده. وهناك مرويات متواترة عن أشخاص في أفرع الأمن الأسدية كانوا يأنفون من تعذيب المعتقلين، لكن يصير بعضهم مُعذِّبين متحمسين مع الزمن بفعل خضوعهم للأوامر أو بدافع الخجل أمام مجموعة الزملاء المتمرسين وخشيةً من سخريتهم. يجري تطبيعهم على التعذيب شيئاً فشيئاً. تستقل ديناميكية الشر على هذا النحو عن محركاتها الاضطرارية الأولى، وتعيش كأنما هي نمط حياة مختار، يُحتمل كثيراً أن يودي بأصحابه على ما حدث للنازيين. والقصد أن أفعال الشر ليست بنت ساعتها، وأن للشرّ دورة حياة، تبدأ بالقليل ثم بالأكثر، ويُرجَّح لها أن تمر بـ «موت قلب» مرتكب الشر، الذي ينقلب هنا فقط إلى شرير، يصير الشر عادة أو «طبيعة ثانية» له. القصد كذلك أن للشرّ تاريخاً، وأننا لا نفهمه إن لم نفكر فيه كأفعال مندرجة في بنى وأوضاع وعمليات لها سوابق وذاكرة، وتهيؤ وتقاليد.

ولعل الدافع الأقوى وراء أفعال الشر في كل حال هو إرادة الحصول على امتياز على حساب الغير، أو إشغال موقع أفضل للتحكم بالغير، أي تعظيم شأن الذات أو مُلكها أو سلطتها، وخفض الغير وما بيد الغير. منبع الشر باختصار هو الأنانية. 

ولعل من الأقرب إلى أصل الشر في الدولة الأسدية هو رؤية حافظ الأسد بأنه لن يكون ثمة انقلابات بعده (دون أن يعني ذلك تدشين زمن الانتخابات الحرة بطبيعة الحال). هذا استوجب بناء دولة المخابرات، وتطييف الوظيفة الأمنية، وجعل سورية دولة تعذيب، وقاد إلى تدشين الأبد وبناء سلالة، أي الانقلاب المستمر على تاريخ سورية كجمهورية ودولة مواطنين. الأبد هو الانقلاب، بالنظر إلى أن ما هو أبدي هو الله حصراً، وأن التناقض المقيم بين ما هو أبدي وما هو إنساني لا يُحل بغير عنف بلا حدود في الزمان والمكان، وبغير تألّه بلا قيود وضوابط. تعذيب الأفراد والمجتمع هو مقتضى جوهري لسلطة الأبد.

لم تكن لحافظ مصلحة معقولة لا تتحقق بغير هذه الطريقة. كان يمكن أن يكون دكتاتوراً يحكم لسنوات طوال، الثلاثين التي حكمها، لكنه أراد شيئاً آخر: أن يبني سلالة فيورث لابنه، ليعيش هو بعد موته، ولكن لينقلب ميتاً و«ملعون الروح» طوال حياته نفسها. لو مات حافظ دكتاتوراً وليس مؤسساً لسلالة، تُراهن على الأبد وإن بثمن الإبادة، لما نالته لعنات الروح. عبارة «يلعن روحك يا حافظ» تضمر خروجاً من نطاق السياسة والصراع السياسي إلى عالم من الشر والصراع المطلق، عالم تتقابل فيه السيادة مع الإبادة. قبل أقل من تسعة عقود، أراد النازيون أن تكون «ألمانيا فوق الجميع» و«إلى الأبد»، وأن يكون لها مجال حيوي يسوده الألمان على حساب شعوب غيرهم، تُقهَر وتُباد، وكانت الإجابة الصحيحة على سؤال: ماذا بعد الرايخ الثالث؟ هي أنه ليس له بعد، فالرايخ الثالث أبدي! بلغة أسدية: الرايخ الثالث أو لا شيء! مرت ألمانيا فعلاً بمرحلة اللاشيء بعد سقوط الرايخ النازي: الدمار والاحتلال الأجنبي (ولعله من غير المحتمل أن تُرى يوماً سورية ما بعد أسدية دون مرحلة من اللاأحد).   

2

نفتقر بخصوص الشر إلى تحاليل مفصلة لديناميكيات ممارسته من جهة، وكدارسين عقلانيين، نعتصم من جهة ثانية بعقلانية سابقة للحدث أو غير مواكبة له بالقدر الكافي. فأنبه تحليلاتنا توسع تصورنا للمعقول توسيعاً لا يحيط بأحدث ما يجري. هذا يأخذ وقتاً قبل أن نأخذ علماً بحدوثه، مهما أمكن لنا أن نكون في قلب الحدث، ومهما أمكن أن نكون واعين كل الوعي لوجوب التغطية المعرفية للحدث. المعرفة ليست فعل العين، وليس هناك معرفة فورية. إنها تحتاج إلى وقت. والمعقول يُبنى على معرفة أخذَ تحصيلها وقتاً، فتأخرت سلفاً عن أحدث ما يجري. لا يطرح هذا مشكلة في أوقات الاستقرار، لكن في مثل أوقاتنا الدموية لا يبدو أن تصورنا المستقر للمعقول يستطيع أن يستوعب اللامعقول الممارس الذي قد يكون ولوداً، يطلق مسلسل أهوال لم يكن في الحسبان.

ثم أنه يحتمل لمن تمرسوا بتطبيع الشر أن يعرضوا سمة أخرى مُكمِّلة، تضاف إلى انتفاعهم من عدم تصديقنا لما يبدو ممتنعاً على التصديق: الجسارة في تكذيب ما لا يُكذّب ونفي المؤكد. بشار الأسد متمرس في ذلك، ينفي البراميل، وينفي التعذيب والمجازر والكيماوي، ولعله ينفرد في نفي أن أحوال اليوم أسوأ مما قبل الثورة. يراها أفضل!

وقد تستند تلك الجسارة في التكذيب إلى تصور لـ«النفس الحقيقية»، يصمد أمام تفحّص متجرد للوقائع، يُظهِر ارتكاب جرائم لا تحصى. هذا على كل حال مؤدى تحليل تيموثي سنايدر عن روسيا البوتينية. روسيا بريئة وخيّرة مهما فعلت، أفعالها الشريرة هي «مجرد وقائع» لا قيمة لها، لا تطال حقيقة أن الأمة «طاهرة وموضوعية»، بحسب إيفان إيليين (1883-1954)، وهو فيلسوف فاشي روسي، وملهم لبوتين. والنفس الحقيقية للشيوعي الستاليني هي التي تبني الاشتراكية مهما فعلت، حتى لو كانت نفسه العارضة تعذّب المعتقلين في سيبيريا. ثم إن هذا تصور الإسلاميين عن أنفسهم كذلك: نحن أخيار، بل الأخيار، مهما يكن ما يحدث أن نرتكب من شر! شرّنا عارضٌ لا يمس خيريتنا الجوهرية التي يكفلها الله نفسه. ولدى السلفيين تكنولوجيا متطورة للكذب الشرعي، عبر التلاعب بالكلمات أو إضمار شيء في نفس المُقسِم، بما يسهّل لهم حلف الأيمان المغلظة على أنهم لم يفعلوا شراً، دون أن يكون كذبهم هذا ذنباً بحسب «الشرعي» الذي يُفتي لهم بذلك. النفس الحقيقية للسلفي ليست تلك التي تكذب وتقتل وتغتصب، حقيقته تبقى بعيدة عن جرائمه، في دينه على نحو ما يُعرّفه له المفتي أو «الشرعي».

في كل حال يبدو الشر الذي يُمارَس باسم فكرة كبيرة مثل روسيا المقدسة، أو وطن الاشتراكية الأول أو الإسلام أو ألمانيا التي فوق الجميع أو عظمة أميركا…، وثيقَ الصلة بغياب التفكير الشخصي الذي جعلت منه آرنت أساس ابتذال الشر وافتقاره إلى الجذرية والعمق. الفكرة الكبيرة تفكر، لماذا نفكر نحن الصغار؟ الإسلام وشرعيّوه يعرفون، فلماذا نجهد أنفسنا بالتفكير، نحن عموم المجاهدين؟ في جذر الفاشية السلفية أن كل ما يمارس هو صحيح مسبقاً بدلالة ما يمارس باسمه، فلا موجب للتفكير فيما إذا كان ما يمارس في الواقع سرقة أو تعذيباً أو قتلاً. ابتذال الشر لا يرتد إلى الصفة البيروقراطية أو الإدارية للأفعال الشريرة، من صنف ما قام به آيخمان من نقل ملايين اليهود إلى معسكرات الاعتقال، بل هو قبل ذلك وفي أساسه ثقة بسلطة معصومة فكرت مسبقاً في كل شيء. الفاشية هي هذه الثقة بسلطة معصومة. كان آيخمان يؤمن بالفوهرر.       

لا يرتد أمر تكذيب المؤكد، بالتالي، إلى كذب بسيط قد ترمش له عيون غُرّة، أو لا ترمش بفعل التمرس والتطبّع، بل يمكن له أن يتصل بترتيب للنفس يُبْقي الحقيقية منها على براءتها وخيريتها، ويُحمِّل العالم الفاسد مسؤولية اضطرار العارضة منها للخوض في وحوله.

3              

تُرى، ألا يمكن لأنظمة ومنظمات متنوعة أن تتقن الكذب الجريء، وأن تستغل نفورنا من السذاجة، ورفضنا كعقلانيين لنظريات المؤامرة، كي تمرر مؤامرات وممارسات إجرامية لا تُصدق؟ ألا يُحتمل أن مجرمين يُعوّلون على عدم تصديقنا ما لا يُصدَّق، فيمارسون بالضبط هذا الذي لا نصدق أنه يمكن أن يُمارس؟ بل يبدو أن هذا يدخل في عاديات سلوك أجهزة ودول في عصر «ما بعد الحقيقية» و«الوقائع البديلة» هذا. لا تختبئ دول جعلت الجريمة أداة سياسية عادية مثل «سورية الأسد» وراء «عمليات قذرة» تُلصق بظهر غيرها بحيث تصرف الأنظار عنها هي، بل وربما تجعل منها حلاً وترفع الطلب عليها (العملية التي كان ميشال سماحة عميلاً فيها، مثلاً)، بل هي تتستر كذلك وراء نازع عدم تصديق ما لا يصدق عند خصومها وأعدائها، أي عندنا نحن. لو لم ينكشف ميشال سماحة قبل عمليته، لكان مرجحاً أن يواجه أي صوت ينسب العملية إلى فاعلها الحقيقي، النظام الأسدي، بأنه دعائي ومنكر للواقع، ولوجد الأكثر عقلانية بيننا أنفسهم مضطرين إلى تصديق ما ليس حقيقياً، وباسم الحقيقة بالذات.  

ثم إن وكالات الجريمة المسماة دولاً قد تتستر وراء الظهور المطلق لجرائمها وتطبيعها عبر السنين، إلى حد أن يقول بعضنا: تعرفونهم مجرمين، لماذا تعارضونهم؟ هذا أثر تطبيع ناجح جداً، يتواتر أن نجده في سورية منذ سنوات في صيغة أخرى: هذا مجرم نعرفه، فلا داعي لأن نتكلم عليه، لنتكلم على غيره! يجري تطبيع المجرم المتمرس بزعم أنه ظاهر ومعروف، ونزع طبيعية جرائم الأضعف. هذا منهج إسرائيلي بالمناسبة. إسرائيل تريد أن يُعرَف عنها أنها مجنونة أمن، فإذا «مسّها أحد بوردة مسّته بسيف» على ما يقول مثل شعبي سوري، وتريد أن يُعتبَر هذا الجنون طبيعتها الثابتة المستقرة، التي يلام على الاعتراض عليها الفلسطينيون. تناسب هذه النظرية دولة أسدية تأسرَلَت، وهي بطبيعة الحال لا تناسب سوريين تَفلسطنوا، وفلسطينيين سوريون تَفلسطنوا بصورة مضاعفة. غير المُطبّع من بيننا يتوقع جملة مغايرة في الحالين: تعرفونهم مجرمين، فكيف تسكتون عليهم؟ ويتوقع أن يتناسب كلامنا قلة وكثرة مع كثرة الجرائم وقلتها.   

هنا، أعني وفق منطق تطبيع الجريمة، يبدو أن العنيف، ولأنه عنيف وراسخ في العنف، لا يستطيع إلا أن يكون كذلك. إنه مثل ذئب لا يستطيع إلا أن يفترس الخراف. عنف العنيف قدري، نابع من تكوينه. أما من يعترض عليه، فلأنه لم يكن عنيفاً من قبل، فهو يستطيع ألا يكون عنيفاً طوال الوقت في مواجهة العنيف الراسخ. وهو لذلك مستحق للومٍ ينفي عنه العقل إن ردّ على العنف بالعنف.

4

تُظهر الفقرات السابقة أنه ليس جميع المشككين في وقائع الإجرام التي تتحدى المعقول عقلانيون نزهاء حسنو النية، مثل حنه آرنت. المُغرِضون وسيئو النية والمتسترون بوعي ليسوا قلّة. لكن قد يضع عقلاني نزيه حسن النية نفسه في موقع قليل الحساسية حيال ما يصيب الضحايا، وقد يحدث أن يواجَه بغضبهم فينأى بنفسه عنهم، وربما ينقلب خبيثاً وسيء النية. لم تقع حنه آرنت في هذا المنزلق بأثر ما تعرضت له من هجمات وتسفيه إثر آيخمان في القدس من قبل يهود وصهيونيين اتهموها بأنها لا تحب شعبها اليهودي! كانت تفكر، ويعود عليها التفكير بضمير متجدد الحيوية، حتى أنها حولت غضبها من ردود الفعل العنيفة على الكتاب إلى تفكير متجدد في الحياة النشطة وحياة الفكر. 

ترى، ما العمل في أوضاع مثل هذه؟ إذا أصررنا كما يليق بنا على المسلك العقلاني الذي يفترض التطابق الهيغلي بين الواقعي والمعقول، كان محتملاً أن نخفق في فهم لامعقول سياسي تبدو مساحاته متسعة حولنا، أو أن نطور فهماً قارساً للمعقول يتسع لجرائم وإبادات، فيفقد المعقول أي اعتبار (هذا من بعض ما أودى بعقيدة التقدم، وبالمادية التاريخية). وإذا بالعكس صدقنا ما يقال عن أعداءنا، جازفنا بأن نكون سُذّجاً أو دعائيين نصدق كل مبالغة، فنخسر صدقيتنا والثقة بما نقول.

لا أعرف مخرجاً من هذه المفارقة يتيح لنا أن نتجنب السذاجة، وأن نرى في الوقت نفسه نذر الأسوأ أو الأسوأ نفسه في وقت مبكر. لعل الأنسب هو أن نستبقي المفارقة في البال، لأننا قد لا نجد منها مخرجاً في أي يوم. حنه آرنت استجابت بأن عملت على تثوير تفكيرنا في السياسة وفي الأخلاق. فكرت في الشر الجذري كعملية نزع إنسانية البشر أو جعلهم نافلين، ودرست سير هذه العملية، قبل أن تطور تصوراً عن الشر المبتذل وافتقاره إلى الجذرية، وإن أمكن له أن يكون متطرفاً أو مفرطاً. آرنت وجدت أنه لا ينبغي لمن يمارسون الشر أن يكونوا أشراراً على نحو خاص، بل هم مندرجون في أوضاع تغنيهم عن التفكير، تجعلهم لا يفكرون. يمكن للشر أن يكون هائلاً دون أشرار ممتلئين حقداً، بل أن يغمر العالم لأنه سطحي وينتشر بسرعة مثل الفطر على سطح ماء راكد حسب تعبيرها. لكن شرّي آرنت، «الجذري» في أسس التوتاليتارية و«المبتذل» في آيخمان في القدس، يحيلان إلى النازية والحرب العالمية الثانية، التي كانت تجربة مكونة للاجئة اليهودية الألمانية، ثم إلى الشيوعية الستالينية التي درستها مع النازية في الكتاب الأول. هذا لا يستنفد أنماط ممارسة الشر المتنوعة، ويثير تساؤلاً عما إذا كان مفهوم الشر المبتذل يحيط بما عانينا من شرور في سنوات تجاربنا المكونة في الحقبة الأسدية. فإذا صح تأويلي لما تقول صاحبة «الشرط الإنساني»، فإننا نتكلم على شر مبتذل أو اعتيادي لأن فاعلي الشر لا يفكرون في أفعالهم ولا تحركهم دوافع خاصة، وأن اعتبارات مثل بهجة الوظيفة وفرص الترقي الوظيفي قد تكون وراء شر هائل، كما في حالة آيخمان شخصياً، دون أن يكون هو شريراُ أو سادياً، أو كارهاً بصورة خاصة لليهود. لكن في الخلفية هناك فكرة كبيرة، «بوصلة» مرشدة، نثق بها في كل حال ونسلم لها قياد عقلنا، فنكف عن مشاورة أنفسنا وغيرنا، ويضمر الضمير في داخلنا.   

ثم أن التكنولوجيا تتيح اليوم ظهور أشكال من الشر أشد ابتذالاً أو اعتيادية، مثلما أظهر زغمونت باومان في الحداثة والهولوكوست. الطائرة المُسيّرة التي تقتل أفراداً أو تهاجم قاعدة هي ذروة انعدام التفكير الذي تكلمت عليه آرنت. أو هي إعلاء للدّقة والإحكام التكنولوجي فوق ما يسم التفكير البشري من لا يقين وحيرة ونقص. النجاح التكنولوجي يغطي هنا على حيرة التفكير البشري، المفتوح من جهة أخرى على المراجعة والتصحيح. وما تدره التكنولوجيا من قوة يخرس وسوسات الضمير. الرئيس الأميركي هاري ترومان الذي أمر بقصف هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية ضاق ذرعاً بالعالم روبرت أوبنهايمر، أبو القنبلة الذرية الأميركية، الذي ارتاع من هول مخاطر السلاح الذي اخترعه. قال له إن عليه أن لا يشغل باله بالأمر، «فالدم علي يدي أنا» (دم الضحايا اليابانيين). رجل الدولة (وضرورة الدولة هو أن تكون قوية) هو صاحب القرار في شأن القوة التي اخترعها العالِم.

الشرّ التكنولوجي خاصية مُطبّعة لمركب سياسي عسكري تكنولوجي، وليس إثم أفراد أو منظمات خاصة. شرٌ عام وليس خاصاً، وبصورة ما يبدو تعميم الشر أشبه بنزع له، بخاصة أن ارتكب على يد “«سلطات شرعية». هنا لا أحد يُلام او يحاسب أو يُحمّل المسؤولية. فالتقدم التكنولوجي مرغوب (وله الفضل في كمبيوتراتنا وفي الانترنت وأشياء كثيرة…)، وهذا القتل النظيف يترقى شيئاً فشيئاً ليكون من طبائع الأمور.

في زمن ترومان وأوبنهايمر كانت السلطات الشرعية هي الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، والديمقراطيات الغربية بخاصة، فيما الشر هو «المحور»: ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان. اليوم، في زمن «الحرب ضد الإرهاب» السلطات الشرعية هي الدول، والشرّ هو الإرهاب. الإبادة تصير غير مرئية، إنها اختصاص سيادي للدولة (سأخصّ هذه القضية بتناول مستقل).      

5

لكن ما هو الشر؟ في تعليقها على غرف الغاز النازية قالت آرنت إنها ما كان يجب أن تحدث. جملة بسيطة جداً، جرت على لسانها بتأسف وحرج في المقابلة ذاتها التي ذكرت فيها إنها لم تصدق بوجود غرف الغاز أول ما سمعت بها لأنها لم تكن ضرورية عسكرياً. فإذا ربطنا بين الجملتين أمكن أن نخرج بتعريف صوري للشر بأنه ما كان يجب ألا يحدث وما كان حدوثه غير ضروري. أي الأذى الذي لم يكن فاعلوه مضطرين لفعله أو تقتضيه مصلحة لهم لا تتحقق بدونه. قد نفهم شراً اضطرارياً، لنقل مثلاً أن تقتل من يهاجمك بغرض القتل. لكن قلّما تكون الأمور بسيطة بهذا القدر. فمثلاً قد يقرر النظام الأسدي اعتقال متظاهرين وثائرين عليه لأن له مصلحة في ذلك، أو لأن «ضرورة عسكرية» تملي عليه ذلك. في هذه الحالة قد نكتفي باستنكار التفنن في تعذيبهم أو إجبارهم على اغتصاب بعضهم، أو قتل الكثيرين منهم بعد آلام لا توصف! أفترض أن موالين من غير المتماهين كلياً بالدولة الأسدية الباطنة يتحفظون عن أسوأ ممارساته في التعذيب والاغتصاب (هذا إن لم يقاوموا معرفة شيء عنها)، فهل يبقى تحفظهم أخلاقياً، إن تفهموا الاعتقال ذاته ومواجهة ثورة المحكومين بالعنف؟ وهل ضرورة سلطة غير شرعية (غير منتخبة من قبل المحكومين) تبقى ضرورة معقولة يمكن تفهمها؟ أعني بالضرورة المعقولة ما يمكن أن يكون قاعدة عامة تسري على جميع الناس في شروط مقاربة. ليس شرعياً أن يقرر أي صاحب سلطة عمومية أنه يحتفظ بهذه السلطة إلى الأبد، لأن هذا لا يمكن أن يكون حقاً قابلاً للتعميم. ويحق لك بالمقابل ما إذا مارس مثله الآخرون لم يلحق ضرراً بأحد (أو تجبر الأضرار وفق قواعد عامة مطردة؛ تصور الشرعية هذا مستمد من الأمر المطلق الكانطي: افعل وفقاً للقاعدة التي تود لو يفعل بمقتضاها جميع الناس، كما لو أن هذه القاعدة قانون يعمّ الجميع). 

فهل ثم هناك شرٌ ضروري؟ تبدو الضرورة منزلقاً نحو تقبل ضرورات إضافية، قد تأخذ شكل «شر أصغر» يُتفادى به شر أكبر (وهو ما رفضته حنة آرنت لكون الشر الأصغر شراً بدوره، ولأن «الشر الأكبر»، وهو نزع إنسانية الناس وجعلهم نافلين على يد قوى شمولية، تمهد له في تحليلها شرور صغيرة من صنف العزلة والاقتلاع وتذرر المجتمعات). لكن من جهة أخرى يقود إنكار الضرورة جملة إلى مسالك تمامية، تساوي بين المعتدي والمدافع عن نفسه في المثال الذي تقدم، وينكر إقدامك على فعل شيء كنت تفضل تفاديه لولا الاضطرار. لدينا مسألة حقيقية هنا، وهي تحيل في تصوري إلى من يقرر بشأن الضرورة: يشيع أن يقرر ما هو ضروري صاحب السلطة، الأقل اضطراراً بحكم سلطته، والقادر فوق ذلك على إلحاق الضرر بالغير. فكأننا هنا نحكّم الدولة الأسدية في شرعية تسلح الثائرين السوريين عليها، وهي التي واجهتهم بالحرب منذ البداية. ضد ذلك، أتصور أن الضرورة التي يمكن قبولها هي التي يقرر بشأنها المُعرّضون للضرر أو الشر، مثلما أن من يقرر بشأن عدالة قرار سلطة عامة هم المتأثرون به، ومن يقرر في شأن شرعية سلطة هم المحكومون بها (ولذلك يجب أن تنتخب السلطة كي تكون شرعية)، ومن يقرر ما إذا كان تعدد الزوجات عادلاً هو النساء لأنهن هن المتضررات منه. ليست أجهزة المخابرات هي ما تقرر في شأن ضرورة التعذيب، بل من يُحتمل أن ينالهم التعذيب، أي عموم السكان (وعموم البشر).

على هذا النحو يمكن قلب الضرورة من أن تكون سنداً للقوي إلى حليف للأضعف.

6

قد نفكر في العلاقة بين الضرورة والشر من وجه آخر. الشر مسألة أفعال وليس مسألة أشخاص أو فاعلين. أعني أن هنا أفعالاً شريرة، أفعالَ إيذاء وإلحاق ضرر بالغير، ومن يمارسها يصير شريراً. لا يلزم أشرار من أجل فعل الشر، ولا ينبغي بحسب آرنت، ثم بحسب باومان (في الحداثة والهولوكوست) وكرستوفر براوننغ (في Ordinary Men) من دارسي الهولوكوست، وآخرين، أن يكون مرتكبو الشر ساديين أو منحرفين أو معادين للمجتمع. يصير الواحد منا شريراً بممارسة الشر على نحو ما يصير مُدخّناً بممارسة التدخين، وكاتباً بممارسة الكتابة، وطائفياً بممارسة الطائفية. وما تقدمت الإشارة إليه من تعويد على الشر وتمرس به يندرج في هذا المعنى. الجلادون الأسديون لم يكونوا جلادين دوماً، ولم يولدوا جلادين، بل صاروا جلادين. والفعل يجري في شروط لها خاصيتان أساسيتان. الأولى أنها معطاة لنا سلفاً، تؤطر أفعالنا، فلا سبيل لنا لتجاهلها؛ والثانية أنها مع ذلك لا تحتم تحتيماً كلياً مساراً للفعل ثابتاً. نعرف من تجاربنا وتجارب من حولنا أننا لا نتصرف حتماً بصور متماثلة في أوضاع متماثلة، هذا رغم أن تصرفاتنا تجنح نحو تماثل أكبر كلما كانت الشروط أشد قسوة، حتى يغلب التماثل في شروط انكشافنا التام أمام قوى وحشية. أي حين تأخذ الضرورة شكل الضرر المُحطِّم للجسد. تحت التعذيب الأقسى، صنفه الإبادي بخاصة ((وبدرجة أقل التعذيب الإذلالي، وأقل بعد في التعذيب الاستجوابي؛ مقالتي: الحب، التعذيب، الاغتصاب و…الإبادة))، يجنح الناس إلى التصرف بصور أقل تغايراً مما في شروط آمنة أكثر.

لكن حتى في أقسى شروطنا نقاوم، ولا «نفصل» أو ننقلب إلى «مسلمين» ((حول «المسلمين» في معسكرات الاعتقال النازية، تنظر مقالتي: في المسألة الإسلامية)) إلا حين تنهار كل مقاومتنا، ولا يبقى منا غير جثة لم تمت، أو «جثة تسعى» بعبارة بريمو ليفي (في If this is the man). في غير هذه المرتبة الوجودية الثالثة التي تضاف إلى الحياة والموت بحسب جيورجيو أغامين (في Remnants of Auschwitz)، لا تتحكم بنا الضرورة، وإن تكن شروط فعلنا معطاة سلفاً، على نحو يحد من تحكمنا بها.

هذه الشروط المعطاة سلفاً هي ضرورات لا بد من أخذها بالاعتبار. الفعل الأخلاقي يجري في هذه الشروط، وهو بهذا المعنى لا يستطيع تجاهل الضرورة. بل قد يمكن القول أننا لا نكون فاعلين أخلاقيين إلا حين نفعل خيراً في شروط غير مؤاتية، وحين نتجنب الإضرار بغيرنا رغم الضرورات. نكون أخياراً حين نرفض إلحاق الضرر بغيرنا، رغم أنه يمكن لمن نلحق بهم الضرر بالذات تفهم الاضطرارات التي قادتنا إلى ذلك. من لا يعترف على رفاقه تحت التعذيب يحظى بالتقدير، لكننا نتفهم من يعترف ولا نعتبر أنه قام بفعل غير أخلاقي. ولأننا نتفهم المضطر ولا نلومه، فإننا نحتقر من يبادر إلى الشر متطوعاً غير مضطر. ثم أننا لا نثني كثيراً على من يفعل الخير في أنسب الظروف، مثل الغني الذي يتصدق، أو من يكتم سراً اؤتمن عليه دون أن يكون معرضاً لضغط أو تهديد، مثلما أننا لا نثني على من يضطر لفعل الشر (وإن لم نلمه). لو كانت الظروف مناسبة دوماً لما كان في فعل الخير فضل، ولما كان فاعل الخير فاضلاً. والشرير بيننا ليس من أُجبر بالقوة على الإيذاء، بل من كان يستطيع ألا يؤذي، لكنه آذى.

الضرورات موجودة، لذلك يجب أن نقاوم تحكمّها، وأن نكون أخلاقيين، والضرورات ليست كلية القوة، لذلك يمكن أن نقاوم تحكمها، ونستطيع أن نكون أخلاقيين. ليس في الشؤون البشرية ما كان يمكن ألا يجري بصورة أخرى، تقول آرنت (في Between the Past and Present). الحتمية قاسرة، لكن في الإنسان منزع أصيل، هو الكرامة، لمقاومة القسر حتى في أوضاع قصوى مثل سجون التعذيب ومعسكرات الاعتقال. لا تكاد تكون هناك أفعال أرفع أخلاقية من الإيثار في سجن تدمر مثلاً، حين يفتدي سجين زميلاً له فينال تعذيباً يصعب تقديره، قد يعطبه أو يقتله. هذا فعل حرية وشجاعة، كانت الضرورة تدفع نحو نقيضه.   

7

في سياقنا السوري طوال أكثر من ثماني سنوات وقعت أشياء كثيرة، صغيرة وكبيرة، كان ينبغي ألا تقع، وما كان موقّعوها مضطرين لها بأي دلالة لمفهوم الضرورة. في أمثلة كثيرة كانت هناك صفة طوعية وحرة وإبداعية في الشر هي ما تقلق، بل ما تزلزل النفس. هذا لأنها تقول إن الإنسان ليس أميل للخير إن لم يكن مضطراً، إنه يجتهد لممارسة الشر وقد يبدع في ممارسته. إن كان داعش مثالاً للشر المزلزل للنفس فبالضبط لأن شره متفنن، مركب ومتروى فيه، ليس «ضرورياً» بحال. وهو بعد ذلك شر عاشق لنفسه، يستعرض نفسه علانية ويفخر بنفسه. ليس هذا شراً مبتذلاً، ليس شراً بيروقراطياً أو إدارياً من الصنف الذي مارسه النازيون. حولت النازية الشر إلى صناعة وإنتاج للموت بالجملة، فجعلته مبتذلاً. وانتهت النازية إلى التسبب بدمار ألمانيا وتقسيمها، بقدر ما إن النظام كله اتجه إلى أن ينبني على صناعة الشر هذه. ليس كل شر كهذا. الشر الأسدي أقل صناعية وبيروقراطية، أقرب إلى فن للشر. أعتقد أن تجربة الشر النموذجية في «سورية الأسد» هي التعذيب، حيث يرسم الأبد على أجساد المعذبات والمعذبين أعماله الفنية ويصنع لنفسه ذاكرة موضوعية. لا يمنعه ذلك من القتل لأنه يبدو أن أجساد المقتولين تلزم فقط لتخريج فناني التعذيب. أما من لا يُقتلون من المعذبين، فيراد لهن ولهم أن يكونوا معرضاً دائما لإبداع فنان التعذيب الجمعي الأسدي (آمل أن أخص علاقة التعذيب كذلك بتناول مستقل).

هنا يمكن أن نتكلم على شر حميم، حين الحميمية تتناقض مع التجريد والبيروقراطية، وحين يقتل الناس بين يدي قتلتهم، بينما لا تزال أيدي هؤلاء على أجسادهم. هذا ظاهر أكثر بخصوص الاغتصاب الذي هو مزيج متفجر من الحميمية والانتهاك العنيف. وفي هذا يختلف التعذيب والاغتصاب عن كل من التجويع والقصف من بعد، بما في ذلك البراميل والكيماوي. ثم قد نتكلم هنا كذلك على شر كمالي، بمعنى غير ضروري، وبمعنى أنه خيار حر، مدروس ومتفنن فيه، وغير دفاعي أو اضطراري. ومن النمط الحميم شر الإسلاميين كذلك. وهو يقتضي تماساً جسدياً، بل يُفضَّل هذا التماس الجسدي، مع عنصر مشهدي مثلته استعراضات القتل الداعشية التي اقترب من محاكاتها جيش الإسلام في دوما. العنف هنا يستعرض ذاته في الحياة اليومية، يجري تطبيعه كمشهد يومي يجب أن يراه الناس. عنف الأسديين في هذا الشأن مختلف. فقد أريد له ألا يُرى. وكان من أشد عدوانية الدولة الأسدية ما استهدف مصورين و«مواطنين صحفيين»، العلنية والعمومية أساسيتان في تعريف عملهم.

نحن في الحالين أمام ورشات قتل، قد يكون إنتاجها للموت واسعاً في حالة الأسديين، لكن نمط إنتاجها ليس صناعياً مع ذلك، أقرب إلى إنتاج حرفي، أو «بضاعي صغير» إن استعدنا لغة ماركسية بخصوص الإنتاج المادي. في عمل حرفيي القتل هنا جانب فني تراجع أثره في القتل النازي المبقرط. في سورية تراجعت بقرطة الدولة والعقاب في الحقبة الأسدية مع تراجع الصفة العامة للدولة ذاتها وتقدم خصخصتها. ومعهما تراجع ابتذال الشر نحو صيغ أكثر إبداعية وأصالة. لكن هناك جانباً غير فني في نمط إنتاج الموت الأسدي، جانب بدائي ومطلق العشوائية تمثله البراميل. الشر هنا أقرب إلى جوهر منه إلى علاقة (وإن يكن جوهراً منتجاً)، يندرج ضمن عالم من جواهر أخرى: الأبد بخاصة، والطوائف كأطر اجتماعية للأبد، والسلطان كسيد مشخص وجوهر للدولة. عند الإسلاميين، إنتاج الموت أكثر حرفية بعد وأشد حميمية. وهم يبدون ملتصقين بأنماط القتل التأديبية المصممة كمشهد، التي تدرجه في حياة الجماعة كممارسة شرعية واجبة، دين. 

8

في الحالات كلها، هذا مما «لا يجب أن يحدث». بخاصة منه ما يتضمن «شغلاً» على الأجساد قد يستغرق أياماً وأسابيع وشهوراً، من تعذيب واغتصاب وتجويع، لأنه إذ يُكتب على الجسد لا يُنسى ولا يمضي، يبقى حاضراً معنا كأنه جرح غائر يصيبنا الآن. لأنه ضرر مستمر. أضيف إليه التغييب القسري لأن له منطقاً خاصاً، يكبر مع مضي الزمن ولا يصغر، وهو ليس فقط لا ينسى، بل يصير حدثاً تأسيسياً لذاكرة المعنيين به، ولتعريفهم بالذات. في كتاب في السياسة وعداً تقتبس حنه آرنت عن كانت قوله إنه لا ينبغي أن يحدث في الحرب ما يجعل السلم اللاحق أمراً مستحيلاً. ترى ما الذي إذا حدث في الحرب يحكم بالاستحالة على السلم بعدها؟ لعله ليس الفعل الحربي ذاته، ليس مقتل المحاربين، ليس دماراً يقع في الحرب، بل ولعله ليس حتى مقتلاً عارضاً لمدنيين لا يُقطع بأنه جرى عمداً. ما لا ينبغي أن يحدث هو ما لا يقترن بالحرب نفسها، الشر المجتهد، المركب والمتفنن، الذي تبذل جهود لإتقانه، سواء كان بيروقراطياً ومبتذلاً مثل الشر النازي، أو كان شراً يمارس بحب وتفان، وصبر، مثل شر الأسديين، أو كدين وطلباً للمكافأة الأخروية مثل شر داعش والإسلاميين. لا شيء من هذا الشر كان اضطرارياً.

بالطبع هنا ينفتح الباب لتساؤل: هل يمكن لأي حرب أن تكون ضرورية؟ وهنا نقاش ممض: إن رفضنا الحرب في كل حال، فلن نشغل بالنا بتقنينها على نحو يحد من أسوأ شرورها، كأن لا نمارس أثناءها ما يحكم باستحالة السلام بعدها، وإن قبلناها كان محتملاً أن نقبل أشياء أخرى باعتبارها متضمنة في مفهوم الحرب ذاته، وقد يكون منها «الأضرار الجانبية» التي اشتهر بها نظام القتل الأميركي الفائق التطور تكنولوجياً في زمن «الحرب على الإرهاب». من هذه الأضرار الجانبية مثلاً 1600 مدني من الرقة سقطوا أثناء حصارها عام 2017، بحسب تقرير صدر في نيسان الماضي عن منظمة العفو الدولية. مفهوم «الأضرار الجانبية» الذي يذكر بالآثار الجانبية للأدوية يجمع بين ابتذال الشر التكنولوجي وعاديته، وبين ابتذال الكلام عليه أو تغطيته في الإعلام بصورة تحتّمه وتحثّ على قبوله من طرف «المراقبين المحايدين». هذا الابتذال المضاعف يُطبِّع الشر، بل يكاد يطلب الإعجاب بأناقته وتحرره من الحميمية.

لدينا سلفاً ثلاثة أنماط للشر، بيروقراطي ومبتذل هو الذي شخصته آرندت في آيخمان في القدس، وحميمي وإبداعي مثل الشر الأسدي، ومبتذل على نحو مضاعف أو مطبع، مثل شر «الحرب على الإرهاب» الأميركي والإسرائيلي. يمكن لذلك أن يكون منطلقاً لتصنيفات أقل خشونة وأكثر رهافة، تنظر في أشكال التنظيم السياسي والاجتماعي وراء أنماط الشر المختلفة، وسويّاته التكنولوجية، وسوابقه وديناميكياته، ونظم تبريره الإيديولوجية، مما هو مهم ومستحق للجهد.

ومما يعطي تفكيرنا السياسي بعداً غائباً، يهدد استمرار غيابه في هذا الزمن «اللاإيديولوجي» بتجريد الصراعات السياسية الأشد كلفة من القيمة، وبإلغاء معنى السياسة ذاتها.  

هذه المادة جزء من «جريدة سميرة»، القسم الذي تحضر سميرة الخليل في نصوصه حافزاً أو موضوعاً ورمزاً.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى