مقالات

أمجد ناصر/ جبار ياسين

■ أذكره في المعاد. أقصد بعد عام 1982 وسقوط بيروت. العام الأخير قبل الهبوط إلى الجحيم. أذكره أسمر، سمرة بدوية كأن شمس الأرض لم تشرق إلا على وجهه طوال سنين طفولته. «ولدت في مفترق الطرقات شرق نهر يحيى الرسول فسميت يحيى»، قال لي يوما وكنا نجوب باريس في الليل. صرت أمجد حين تركت المفرق وعمان والزرقاء نحو أرض الأرز. كنا منتكسين وحالمين. أن نقاوم كان أضعف الإيمان. بيروت كانت حلمنا في الرفض، كانت حلم الشعر وأحلام الحياة والمجهول.

قيل لي إنه كان فلسطينيا من ضياع الضفة، لكنه من النعيمات، حيث البداوة والبادية بين الشام وأرض السواد. هناك حيث عمود خيمة البدوي بوصلة وحين يغرسه في الرمل يصل الأسلاف بالآلهة والمقابر ليست سوى حجر تخفيه الرمال.

في صوته عطش قديم، وفي عينيه حزن من فارق أهله بالأمس. كان يجيد الغضب مثلما يجيد رصف المعاني في وصف امرأة بيضاء، عارية في سرير شراشفه بيضاء، عطرها يذكر بالأقحوان. لم يكن ثقيل الدم ولم يكن خفيف الظل. كان في المابين، ربما بسبب خجل شرقي رافقه منذ الطفولة. أذكره جذلا حينما يلقي شعره، لكن شعره بدون ربابة أو ناي. كلمات، كلمات، كلمات تسقي بعضها فتصير مثل لبلاب على حائط بيت من حجر. أعشاش طيور تتخفى وسحالي وفراشات أيار وظلال نساء خرجن من لوحة حمام «أنجر» وحزمة ضوء صباحي، ذرات غبار وخيوط من الذكريات في نسغ الغصون.

عرفته في مدن كثيرة. في بواتييه التقينا أول مرة على رصيف المحطة، وفي عينيه كان تيه الغريب. في باريس مشينا على ضفة السين للحاق بموعد مع محمود درويش. في لاروشيل أصابنا دوار البحر في سفينة، كان البحر بلون الرماد والريح تسبق الموج، وكنا نميل ذات اليمين وذات الشمال ونقرأ شعرا جاهليا ونضحك، والمدينة نراها تتمايل مثل سكران. في لندن كنت التقيه مرارا في يومية «القدس العربي» قبل الذهاب الى بيته حيث ينتظرنا العشاء، وهند تقص لنا أجمل القصص. النبيذ الفرنسي، دائما، كان سيد سورة المائدة. الحديث طويل عن الشعر والأصدقاء وبيروت تأتي مرارا مثل لازمة في قصيدة . حين أتركه تكون «ساوث هول» نائمة، وفي سماء الليل تتغامز أضواء طائرات، كأنها واقفة في السماء في خط طويل، قبل أن تحط في هيثرو، على مرمى حجر من البيت.

ذات مساء أضعنا الطريق في ضاحية في باريس. كنا في طريق كان قلب غابة «فنسان» قبل قرنين. تقول الروايات إن الذئاب كانت هناك في قبائل لا تحصى. نسينا موعدنا في قصص عن قطعان الذئاب وآخر ذئب أردته بندقية صياد عجوز كي يصير ياقة معطف لسيدة بورجوازية. كان يحدثني عن شعاب ودغل خلف إربد، حيث كان يعج بقطعان الضباع. كان جد أمجد يصيد الضباع بعصا قبل أن يشتري بندقية. ذات مساء حاصرته الضباع فقضى ليلة، مثل مقامر يتحايل بالموت كي يبق حيا حتى مشرق الشمس، ذلك الليل نسينا الصديق ونسينا العشاء وتوغلنا في متاهات ضواحي باريس، حزامها الأحمر في الماضي القريب، حين انتبهنا كان هزيع من الليل انقضى، وصلنا بيت صديقنا كان نصف الليل قد مرّ. تعشينا ونمنا هناك لنكمل سهرتنا في الصباح على قدح من الشاي وخبز وجبن فرنسي ومربى منزلي.

في صباح آخر ا في القاهرة. رأيته من بعيد في مطعم فندق شبرد. كان الزكام قد أغمض عينيه ورخم صوته. لكننا تعانقنا. قال لي: سأتحمل وزر زكامك هذا المساء، لكنني ضحكت. أكلنا خيارا وليمونا أخضر وشربنا كثيرا من القهوة، بدون سكر. بعد يومين غادر نحو لندن لم يفارقه الزكام، لم أره بعد ذلك. بقينا نتهاتف بضع سنين على أمل اللقاء. الحرب جاءت، معها طرطشة غزو العراق، فتفرق عقد من لم يحارب. دارت الدنيا وصرنا ندور خلف خطاها. دخلنا في تعزيمة الفقر بعد أن مرت الثورات هباء، وشققنا صفوفنا بأسيافنا في جدل أسفه من جدل بيزنطة. في البعيد، خلف البحار كانت الفوضى ترتب حالها كي تصير نظاما للحياة الجديدة. الغثيان صار سيدا لكل موقف بعد أن كثر الكلام. الهاتف وحده ظل بيننا وحديثنا صار دموعا على أملاك مضاعة، لم نصنها كما يصن الرجال ملكا.

٭ كاتب من العراق يقيم في فرنسا

القدس العربي»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى