سياسة

مقالات مختارة تناولت تطورات الموقف التركي من الأزمة السورية-

الوضع التركي الداخلي/ بكر صدقي

نظرة سريعة على المشهد السياسي في تركيا

عنصران یقتحمان العین مباشرةً إذا أراد المرء أن یتحدث عن تركیا ھذه الأیام: الأول ھو انخراط تركیا في عدد من الصراعات الإقلیمیة في محیطھا، والثاني وضعھا الاقتصادي الذي یؤشر ذوبان قیمة اللیرة التركیة إلى وخامته. وفي خلفیة المشھد نرى الملاحقات القضائیة التي لا تنتھي بحق حزب الشعوب الدیموقراطي والتضییق المتصاعد على أنشطته وناشطیه.

تكثر تحلیلات عن التمدد الإقلیمي لتركیا في جوارھا باعتبار ذلك من مظاھر النزعة العثمانیة الجدیدة أو انبعاثاً للنزوع الامبراطوري. لا یمكن إنكار ھذا المیل، ولكن بشرط عدم نسبه إلى “فاعل” یكثر اعتباره حزب العدالة والتنمیة أو الرئیس أردوغان. فالأصح أن ھذا المیل موضوعي ویظھر كنتیجة لخیارات سیاسیة لا علاقة لھا بالتمدد أو التوسع، بقدر ما یتعلق بحسابات داخلیة جداً تتعلق بالرغبة في التمسك بالسلطة أكثر من كونھا تعبیراً عن رغبة في استعادة أمجاد غابرة.

معروف عن أردوغان أنه بارع في الحسابات الانتخابیة وفي استثمار أي فرصة لزیادة شعبیته والنیل من خصومه السیاسیین، ویواظب على قراءة تقاریر أسبوعیة قائمة على استطلاعات رأي یوصي علیھا شركات الاستطلاع العاملة، لیبني على تلك التقاریر برنامج عمله الیومي.

وھناك تقدیرات تتحدث عن أن شعبیة الحزب الحاكم مع حلیفه القومي، وضمناً شعبیة أردوغان، تتراجع باطراد بسبب الأزمة الاقتصادیة قبل كل شيء، وبدرجة أقل بسبب نزوعه السلطوي المتفاقم باطراد. وإضافة إلى شھوة الاحتفاظ بالسلطة التي نراھا عند كثیر من القادة السیاسیین في كل مكان وزمان، لدى أردوغان مخاوف جدیة من الخضوع للمحاسبة القضائیة إذا فقد السلطة، بسبب الخصومات الكثیرة التي راكمھا طوال نحو عقدین من الزمان، وبین ھؤلاء المؤسسة العسكریة والمؤسسة القضائیة وجماعة فتح الله غولن الإسلامیة، إضافة إلى أحزاب المعارضة بطبیعة الحال، أما الكرد فلا أحد یحسب حسابھم لأنھم الطرف الوحید خارج السلطة والطموح في استلام السلطة معاً.

غیر أن الكرد – للمفارقة – ھم الطرف السیاسي الأكثر خطورة من وجھة نظر السلطة، لأنھم، على ضآلة الحجم السیاسي النسبي لحزبھم (الشعوب الدیموقراطي) لعبوا ویلعبون وقادرون دائماً على لعب الدور المرجح. بكلمات أخرى: لا یستطیع الحزب الكردي أن یستلم السلطة في أي زمان، لكنه یستطیع إسقاط سلطة ومساعدة أحزاب أخرى على استلامھا. وفي الواقع كان الحزب الكردي ھو المنافس الوحید للعدالة والتنمیة في المناطق ذات الكثافة السكانیة الكردیة طوال السنوات العشر الأولى من حكمه. وبما أن العدالة والتنمیة لا یمكنه أن یتطلع إلى اكتساب أصوات العلمانیین، فقد كان قسم من الكرد یشكلون خزاناً بشریاً مضموناً له في الانتخابات. أما بعد حرب السلطة على المناطق الكردیة في صیف العام 2015، فقد تضاءلت شعبیة الحزب (وأردوغان) إلى حد كبیر بین الكرد. أما الوجه الآخر، الترجیحي، للكرد فقد ظھر جلیاً في الانتخابات البلدیة 2019، وبخاصة في انتخابات الإعادة في حزیران. فما كان لحزب الشعب الجمھوري أن یحلم باقتناص بلدیات إسطنبول وأنقرة وأضنة لولا دعوة الحزب الكردي ناخبیه للتصویت لمرشحي الحزب الجمھوري.

لم یھضم أردوغان، إلى الیوم، تلك الخسارة الكبیرة في الانتخابات البلدیة، ویعمل ھو وحزبه كل ما في وسعھم لعرقلة عمل أكرم إمام أوغلو ورؤساء البلدیات الآخرین من الحزب الجمھوري. أحدث مثال على ھذا السلوك ھو الاجتماع الطارئ الذي دعا إلى انعقاده وزیر الصحة فخر الدین كوجة للتباحث حول عودة استفحال وباء كورونا في المدینة. فقد حضر الاجتماع كثیر من ممثلي المؤسسات المعنیة، لكن رئیس البلدیة إمام أوغلو لم یدع إلیه، تصرفت السلطة وكأنه غیر موجود. ھذا من غیر أن نذكر حملات وسائل الإعلام الموالي المتواصلة لتشویه سمعة الرجل في نظر الرأي العام. یتصرف ھذا الإعلام وكأن إمام أوغلو ھو المرشح المنافس لأردوغان على رئاسة الجمھوریة. وھذا ما یرفع من أسھم الرجل، بصورة مفارقة، لدى قسم من الرأي العام بوصلته الوحیدة ھي كره أردوغان والإسلامیین.

بصرف النظر عن ذلك، شكل الصعود المفاجئ لإمام أوغلو، منذ ترشحه لرئاسة بلدیة إسطنبول، ظاھرة لافتة في المشھد السیاسي التركي، وبات یُنظر إلیه، فعلاً، كأحد المنافسین المحتملین لأردوغان على منصب الرئاسة، ومثله الوزیر السابق علي باباجان والرئیس المشارك السابق لحزب الشعوب الدیموقراطي صلاح الدین دمرتاش المسجون منذ 4 سنوات باتھامات ملفقة. أعني أن الثلاثة وجوه شابة واعدة بالتغییر، بخلاف القادة السیاسیین للأحزاب الأخرى الذین أكل الدھر علیھم وشرب.

لنلق نظرة سریعة على سیناریوھات الانتخابات الرئاسیة القادمة من زاویة نظر أردوغان:

ینص الدستور المعدل الذي أقر في استفتاء شعبي عام 2017 على أنه یحق للشخص الواحد أن یترشح لمنصب الرئاسة مرتین فقط. والحال أن أردوغان حصل على فترتین رئاسیتین ولا یحق له الترشح لمرة ثالثة إلا في حالة تقدیم موعد الانتخابات على موعدھا العادي. یرجح كثیرون أن یلجأ أردوغان لھذا الخیار فیدعو لانتخابات مبكرة. لكن إرادته وحدھا لا تكفي لإقرار ذلك، بل سیحتاج إلى ثلثي عدد أصوات مجلس النواب، وھو ما لا یملكه، حزبه وحزب الحركة القومیة معاً في الوقت الحالي. لذلك من المحتمل أن ینتظر الوقت المناسب لاستمالة نواب من خارج الحزبین. السیناریو الثاني الذي قد یلجأ إلیه أردوغان من أجل ضمان الترشح لفترة رئاسیة ثالثة ھي طرح اجتھادات قانونیة بشأن تفسیر مواد الدستور ذات الصلة. فیمكن لحقوقیین موالین أن یقولوا إن ولایة أردوغان الأولى لا تحتسب لأنھا تمت في ظل الدستور قبل تعدیله، ویجب تصفیر العداد بعد التحول إلى النظام الرئاسي في الدستور المعدل. لذلك نلاحظ منذ الآن أن جبھة السلطة بدأت الھجوم مبكراً على المحكمة الدستوریة العلیا التي لم تتمكن السلطة من استتباع جمیع أعضائھا بعد، بسبب قرارات صدرت عنھا رغم إرادة السلطة التنفیذیة، منھا مثلاً قرار اعترف، ضمناً، للمرة الأولى في تاریخ تركیا، بقصف طائرات الجیش التركي لقرى كردیة في التسعینات، ومنھا قرارات تتعلق بتبرئة معارضین نالوا أحكاماً قضائیة قاسیة لأسباب سیاسیة. تعتبر المحكمة الدستوریة، من ھذا المنظور، القلعة الأخیرة التي استعصت على السلطة التنفیذیة (إلى الآن) وما زالت تتخذ قراراتھا بصورة مستقلة. فإذا حدث خلاف حول تفسیر المادة المتعلقة بعدد ولایات الرئاسة للشخص الواحد سیكون الفصل في ید المحكمة الدستوریة.

المعارضة:

أحد أھم أسباب طول أمد بقاء حزب العدالة والتنمیة وأردوغان في السلطة (فقد حطم الرقم القیاسي الذي كان حكراً على مصطفى كمال) ھو حالة المعارضة. ما زال حزب الشعب الجمھوري، وھو أكبر أحزاب المعارضة، ینظر إلى العالم بعقلیة الثلاثینات، على ما یقول أستاذ القانون الدولي باسكن أوران، فلم یطور خطابه ولا أداءه ولا استطاع توسیع قاعدته الاجتماعیة، فاكتفى بنسبة ثابتة من أعداد الناخبین لا تتجاوز %25 في أحسن الأحوال، وعلى رغم ادعاءاته الیساریة والدیموقراطیة – الاجتماعیة، فھو أقرب ما یكون إلى حزب نخبوي للطبقة المتوسطة المتعلمة العلمانیة التي لدیھا حساسیة مرضیة تجاه القطاعات الاجتماعیة المحافظة (المتدینة) أضف إلى ذلك وجود تیار قومي متشدد داخل الحزب غالبا ما یكون الخط السیاسي للحزب وممارسته منطلقین منه. ھذا التیار ھو الذي یتصدر التحریض ضد اللاجئین السوریین، وھو الذي یمنع أي تقارب محتمل مع الحزب الكردي.

في رأي باسكن أوران نفسه، وھو مفكر علماني دیموقراطي متخصص في شؤون الأقلیات وحقوقھا، إضافة إلى اختصاصه في القانون الدولي، لیس في تركیا حزب معارض، بالمعنى الحقیقي للكلمة، إلا حزب الشعوب الدیموقراطي (الكردي). في حین أن الأحزاب الأخرى المعارضة لحكم العدالة والتنمیة ھي “أحزاب النظام” تختلف مع الحكم فقط من موقع التنافس على السلطة ولا تقدم بدائل حقیقیة للنظام([1]) القائم.

وفي نظرة سریعة على أحزاب المعارضة الأخرى (أحزاب النظام) سنجد أن أبرزھا ھو الحزب الخیّر برئاسة مرال آكشنر المنشق عن حزب الحركة القومیة ویحمل نفس أیدیولوجیته الشوفینیة ویخاطب القاعدة الاجتماعیة نفسھا. وكانت مرال آكشنر وزیرة الداخلیة في حكومة تانسو تشیلر التي شھد عھدھا أكثر الحملات دمویة ضد الكرد في جنوب شرقي الأناضول، وشھدت تلك المناطق حملات نزوح لسكان قرى بكاملھا أحرقتھا قوات الجیش، فنزح من نجا من سكانھا باتجاه إسطنبول وإزمیر وغیرھا من المناطق الغربیة، في تغییر دیموغرافي ھو الأكبر منذ أیام أتاتورك.

ھناك تسریبات عن أن أردوغان قدم روضا مغریة لآكشنر لتنتقل من موقع المعارضة إلى التحالف مع الحكم، كما دعاھا رئیس حزب الحركة القومیة دولت بھجلي إلى “العودة إلى البیت” (أي الحزب الأم) ویا دار ما دخلك شر. بعد “صمود” آكشنر أمام ھذین الإغرائین بدأت السلطة بالتلاعب داخل الحزب الخیّر، فاتھم أومید أوزداغ (أحد الوجوه القیادیة البارزة في الحزب وأبرز المحرضین ضد اللاجئین السوریین) اتھم رئیسة منظمة الحزب في إسطنبول بأنھا من جماعة فتح الله غولن. وھناك عضو قیادي آخر في الحزب یستعد لتأسیس حزبه الخاص. القصد أن الحزب الخیر الذي یمكن أن یشكل وزناً في أي انتخابات قادمة لصالح تحالف معارض، تعمل السلطة على استمالته أو تفكیكه من الداخل.

ویتعرض الرئیس السابق عبد الله غل الذي یخشى من أن یكون مرشحا منافسا لأردوغان لحملات تشویه منظمة لتقویض مكانته وشعبیته في البیئات المحافظة الإسلامیة. أما أحمد داوود أوغلو الذي أسس حزبه الخاص فلا أحد یعوّل علیه بالنظر إلى احتلاله موقع المسؤولیة الأولى (رئاسة الوزراء) في زمن سابق وعدم إجرائه لأي نقد ذاتي لمسؤولیته عن خطایا تلك الفترة. یبقى وزیر الاقتصاد السابق علي باباجان الذي أسس بدوره حزبه الخاص، یبدو أنه من المحتمل أن یصنع فارقاً في المعادلات السیاسیة الداخلیة، وحزبه لیس إسلامیاً كحزب داوود أوغلو، بل ھو حزب براغماتي یستمد قوته من الفشل الاقتصادي للحكم.

ولكن.. ولكن كل ھذه اللوحة “المعارضة” – حتى لو تجاوزت تنافراتھا الداخلیة وتوحدت حول ھدف التغییر، لا یمكنه أن یفوز على تحالف السلطة – مھما تعرض نفوذه للحت – بدون مساعدة من حزب الشعوب الدیموقراطي. ولا حزب من أحزاب المعارضة لدیه ما یجتذب به الناخب الكردي، وفي أحسن الأحوال یمكن أن یقرر الحزب دعم مرشحي تحالف المعارضة كما حدث سابقاً في الانتخابات البلدیة، فیدعو ناخبیه إلى التصویت لأولئك المرشحین. ولكي یفعل الحزب ذلك یجب أن یتلقى وعوداً إیجابیة على الأقل من أحزاب المعارضة، وھو ما لا تجرؤ ھذه على بذلھا حتى لو أرادت ذلك، بسبب ترھیب السلطة لكل من یتعاون مع الحزب الكردي “الإرھابي” في قاموس السلطة.

لیس ھناك في الأفق ما یشیر إلى احتمال تجاوز المعارضة لعطالتھا الذاتیة وتشرذمھا وتقبلھا لتحالف علني وله نتائج عملیة مع الحزب الكردي.

المجتمع المدني:

لاحظ أحد الكتاب الأتراك أن شعبیة الحزب الحاكم وأردوغان تتضائل باطراد، من غیر أن ینعكس ذلك بصورة إیجابیة على شعبیة المعارضة. “أین تذھب إذن تلك الأصوات التي تتوقف عن التصویت للحزب الحاكم أو حلیفه القومي؟ ولصالح من ستصوت الأجیال الجدیدة التي ستقترع للمرة الأولى في حیاتھا؟”

أحد الأجوبة على ھذا السؤال ھي أنه مقابل تراجع النفوذ الشعبي لجمیع الأحزاب السیاسیة، سلطة* ومعارضة، تتنامى قوة منظمات المجتمع المدني التي تمارس السیاسة من منظور مختلف عن المنظور الحزبي. ھناك بصورة خاصة تنامي قوة المنظمات النسائیة والمنظمات المدافعة عن البیئة. تشھد شوارع إسطنبول مظاھرات حاشدة في یوم المرأة العالمي وكذلك احتجاجاً على إجراءات أو جرائم تقع على نساء. وحین أبدت السلطة رغبتھا في الانسحاب من معاھدة إسطنبول([2]) تصاعد النضال السلمي للنساء بصورة لافتة ضد ھذا الانسحاب وأرغمت السلطة على التراجع عنھا. وكان للمنظمة النسائیة لحزب العدالة والتنمیة دور كبیر (وخطیر) في نجاح الحملة، فھي المرة الأولى التي یحدث فیھا تمرد داخلي بھذا الحجم داخل الحزب ضد قیادته. وھو ثاني إنذار كبیر للسلطة بعد تصویت قسم كبیر من ناخبي حزبي التحالف السلطوي لصالح مرشح المعارضة لانتخابات رئاسة بلدیة إسطنبول في حزیران 2019.

***

[1] . 181 ملیار دولار حجم الدیون الخارجیة لتركیا إضافة إلى اختلال المیزان التجاري بمقدار 35 ملیار دولار. صندوق النقد الدولي یتوقع انكماشاً بنسبة 5% للاقتصاد التركي، وھو ما یعادل تراجع متوسط دخل الفرد من 8000 دولار حالیاً إلى 7500 السنة القادمة.

[2] . معاھدة إسطنبول ھي معاھدة دولیة أقرھا مجلس الاتحاد الأوروبي لمكافحة التمییز ضد النساء ومكافحة الجرائم الموجھة ضد النساء والجرائم داخل الأسرة. وحملت اسم إسطنبول لأنه تم إقرارھا في اجتماع عقد في إسطنبول في عام 2013 وكانت تركیا من أولى الدول الموقعة علیھا. وفي السنوات الأخیرة ھناك تصاعد ملحوظ في جرائم القتل ضد النساء، وأحد أسبابھا تساھل القضاء مع تلك الجرائم في تعارض مع التزام تركیا بالمعاھدة المشار إلیھا.

تيار مواطنة

————————

تركيا: خبز وشاي وألاعيب سياسية/ بكر صدقي

إذا أجرينا مسحاً سريعاً للصراعات الإقليمية التي نجد تركيا طرفاً فيها سنصاب بالدهشة من كثرتها إلى درجة يمكن القول معها إن «سياسة صفر مشكلات مع دول الجوار» التي كانت شعاراً للسياسة الخارجية التركية في زمن سابق، انقلبت إلى مشكلات مع كل دول الجوار إضافة إلى دول أبعد. إنه لأمر مستغرب أن تنقلب السياسة الخارجية لدولة من الدول هذا الانقلاب الدراماتيكي في زمن قياسي.

سوريا… العراق… ليبيا… أذربيجان… اليونان وقبرص، ومن ورائهما فرنسا في المشكلة المتعلقة بالصراع على مخزونات الغاز الطبيعي في شرقي البحر الأبيض المتوسط. في هذه المشكلة الأخيرة المرشحة لمزيد من التوتر تقف جميع الدول الغربية، شركاء تركيا في حلف شمال الأطلسي، إلى جانب اليونان ضد تركيا. فإذا أضفنا إلى ذلك مصر والسعودية والإمارات التي تخاصم تركيا ووصل بها الأمر حد مقاطعة البضائع التركية، اكتمل طوق العزلة الدولية حول أنقرة، في حين يمضي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحاته شبه اليومية، بعيداً في مزيد من استعداء تلك الدول.

وبصرف النظر عن مسألة الأحقية، من الطرف الظالم ومن المظلوم ـ فلا قيمة لذلك في العلاقات الدولية ـ سنرى أن القيادة التركية تتصرف وكأن تركيا دولة عظمى تفعل وتقول ما تشاء، غير آبهة بردود أفعال الخصوم، في حين أنه حتى دولة كالولايات المتحدة المصنفة قوة عظمى وحيدة تسعى، في الملمات، إلى كسب الحلفاء والأصدقاء في كل حدث مهم. كان بوسع واشنطن مثلاً أن تحارب تنظيم الدولة (داعش) لوحدها، لكنها كرست جهودها الدبلوماسية لجمع أكبر تحالف دولي في حربها على التنظيم المذكور. ونعرف أن العبء الأكبر، بشرياً ومالياً ولوجستياً واستخباراتياً، وقع عليها في الحرب المذكورة، مع مشاركة رمزية للدول الأخرى. غير أن تلك المشاركة الرمزية وفرت غطاءً سياسياً للحرب هو الأهم من وجهة نظر واشنطن.

تتيح لنا هذه المقارنة معرفة القيمة السالبة للعزلة السياسية الدولية التي وضعت تركيا نفسها فيها في تدخلاتها في الصراعات الإقليمية، تلك العزلة التي استطاع الإعلام الموالي أن يحوّلها، كلامياً، إلى قيمة إيجابية حين ابتكر لها وصفاً عجيباً هو «العزلة الثمينة» في تحوير لمصطلح «العزلة المجيدة» الذي وصفت به السياسة الخارجية البريطانية في عهد حزب المحافظين في أواخر القرن التاسع عشر. مع العلم أن الاقتصاد التركي، في العقود الأخيرة، مبني على تشابك عميق مع الاقتصاد العالمي، ويعتمد كثيراً على التجارة الخارجية والسياحة واستقطاب الاستثمارات الأجنبية، فلا يمكنه تحمل أي عزلة، وبخاصة في ظل الظروف الحالية التي بدأت قبل انتشار وباء كورونا وتفاقمت بعده. جرت حادثة، قبل أيام، في إحدى مدن الأناضول من شأنها أن تلخص حال الاقتصاد التركي ومنعكساته الاجتماعية، أثارت اهتمام الرأي العام بشكل واسع. كان الرئيس أردوغان في جولة على الأقدام في أسواق المدينة، بدافع حرصه الدائم على التواصل المباشر مع مختلف شرائح الشعب. وحدث أن أحد الباعة اشتكى إليه الوضع المعيشي الصعب قائلاً: «نحن لا نملك القدرة على شراء الخبز للبيت» فرد عليه أردوغان وهو يقدم له علبة من الشاي: «أنت تبالغ. خذ واستمتع بشرب الشاي».

هناك إذن وضع اقتصادي صعب، من مفرداته تفاقم الديون الخارجية مستحقة الدفع، انخفاض مستوى احتياطي العملات الصعبة في البنك المركزي، التراجع المطرد في القيمة الشرائية لليرة التركية وأمام العملات الأخرى، وما يعنيه ذلك من ارتفاع مستوى التضخم، ارتفاع أرقام البطالة، اختلال في الميزان التجاري، وكل ذلك يتوج بفقدان البيئة المشجعة على الاستثمار بسبب التراجع الكبير في استقلالية البنك المركزي والمؤسسة القضائية معاً إزاء السلطة التنفيذية.

وعموماً أدى التحول إلى نظام رئاسي إلى تركيز كبير للسلطات في يد الرئيس، مقابل تراجع أهمية كل من الحكومة والبرلمان في توازن السلطات، إضافة إلى تحويل 90٪ من وسائل الإعلام إلى أداة دعائية للسلطة، لا تعكس حقيقة الوضع الاقتصادي ومشكلاته، بل تسعى إلى تجميله بتلفيقات عجيبة كما فعل وزير المال برات آلبيرق قبل فترة حين قال إنه لا أهمية لانخفاض قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، أو حين تحدث رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي، حليف أردوغان، عن الاقتصاد التركي الذي هو في أفضل أحواله وعلى عتبة صعود مطرد. المفارقة أن حزب بهجلي القومي أطلق حملة توزيع الرغيف المجاني على من يحتاجه من المواطنين، في دليل عملي على خلو تصريحه بخصوص الاقتصاد من أي مضمون.

تشير استطلاعات الرأي التي تقوم بها مؤسسات متخصصة إلى تراجع مطرد في شعبية الحزب الحاكم وحليفه في «تحالف الجمهور» ويمكن تخمين أن أحد أسباب ذلك، إن لم نقل السبب الأهم، هو الوضع الاقتصادي، وبخاصة انعكاساته السلبية على الوضع المعاشي للطبقات المتوسطة والدنيا.

لماذا إذن تزيد القيادة التركية عدد الخصوم في علاقاتها الدولية، مع المجازفة بالتعرض لعقوبات اقتصادية من الاتحاد الأوروبي (بسبب النزاع على شرقي المتوسط) والولايات المتحدة (بسبب سوريا وصواريخ إس 400 الروسية) والدول العربية (بسبب الصراع في ليبيا، والموقف التركي من نظام السيسي في مصر)؟

الجواب الذي يقدمه كثير من المحللين السياسيين الأتراك هو أن حسابات السلطة في السياسة الداخلية هي الدافع وراء سياسة التصعيد تجاه الدول الأخرى، فهذا التصعيد يداعب مشاعر الجمهور المتعطش إلى انتصارات قومية على «الخارج المعادي» والمستعد لتحمل عواقب ذلك على مستواه المعيشي مقابل استعادة أمجاد الأجداد. ومن ناحية أخرى يتيح افتعال أزمات مع الدول الأخرى للسلطة أن تقول لجمهورها إن أعداء الخارج، وامتداداتهم في الداخل (أي المعارضة) هم المسؤولون عن بؤسه.

لقد ارتد النظام الرئاسي الذي سعى إليه التحالف الحاكم على طموحات أردوغان في إدامة حكمه سنوات إضافية. فهو يحتاج إلى نسبة 50+1٪ من أصوات المقترعين ليحظى بولاية جديدة، الأمر الذي أصبح صعب التحقيق. كما يحتاج إلى تقديم موعد الانتخابات ليحق له الترشح لولاية ثالثة، الأمر الذي يحتاج إلى موافقة أكثرية الثلثين في البرلمان وهو ما لا يملكه التحالف الحاكم.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————

تركيا بين إصلاحات أردوغان الموعودة ومقاومة بهجلي العدوانية/ بكر صدقي

من يراقب اليوميات السياسية التركية يحتاج إلى نوع من فك تشفير ما يحدث وما يطلقه السياسيون من تصريحات، إذا أراد أن يتوقع الوجهة القادمة، لكنه سيفشل في مسعاه وهو يرى حتى المحللين الأتراك الأكثر خبرة واطلاعاً ينقسمون في توقعاتهم إلى آراء مختلفة. وسبب ذلك هو غياب الشفافية لدى صناع القرار، إلى درجة دفعت بالكاتب يلدراي أوغور إلى تذكير قرائه بـ«علم» سياسي قائم بذاته كان مزدهراً إبان الحرب الباردة، هو «الكرملينولوجي» أي «علم الكريملين» الذي كان خبراؤه الأمريكيون والأوروبيون يعصرون أدمغتهم لسبر ما يحدث داخل جدران مركز السلطة في موسكو، فيلتقطون أوهن الإشارات ويحللون الكلمات ويقرأون وسائل الإعلام السوفييتية قراءات تأويلية معقدة ليصلوا في النهاية إلى خلاصات هشة لا تطعم خبزاً. في رأي أوغور أن الوضع في تركيا، اليوم، هو من هذا القبيل، فلا عمل للصحافيين والمحللين السياسيين إلا الإمساك بمجهر وقراءة ما بين السطور والكلمات وفك تشفير لغة الجسد، وتأويل معاني الصور.

مجموع ما حدث وقيل وكتب بين استقالة وزير المالية والخزينة العامة برات آلبيرق، قبل أسبوعين ونصف، واستقالة بولند آرنج من عضويته في الهيئة الاستشارية في القصر الرئاسي، قبل يومين، كان نموذجاً بارزاً للحالة المذكورة. صحيح أن تلك الأحداث والأقوال مفهومة بذاتها كلاً على حدة، لكن استخلاص التوقعات من مجموعها سيبقى ضرباً من التكهنات إلى أن يقول صاحب القرار قوله الفصل.

شكلت إقالة مدير المصرف المركزي التركي أول اعتراف حكومي بفشل السياسة النقدية السابقة، وبداية تغييرات لن تقتصر على المستوى المالي أو الاقتصادي، بل لا بد أن تتبعها المستويات السياسية والقضائية، وهو ما تحدث عنه الرئيس أردوغان بوضوح حين أعلن عن إطلاق «حملة إصلاحات اقتصادية وديمقراطية وحقوقية» الأمر الذي قوبل بردود فعل متفاوتة بين تفاؤل حذر وتشكيك في الضفة المعارضة، وتوجس وارتباك في الضفة الموالية، ومقاومة شديدة من الحليف القومي.

وإذا كان المتفائلون قد أسندوا تفاؤلهم إلى موجبات موضوعية قاهرة كحالة الاقتصاد الهشة، ونضوب رصيد المصرف المركزي من العملات الصعبة، وتدهور قيمة الليرة التركية، وانعكاسات ذلك على الطبقات الاجتماعية في أسفل السلم، وما قد يترتب على الاستياء العام الذي ظهرت بوادره من تآكل في شعبية الحزب والتحالف الحاكمين… من جهة أولى، وفوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما قد يترتب على ذلك من زوال مظلة الحماية التي كانت تركيا تتمتع بها في عهد دونالد ترامب، وتصاعد المطالبات الأوروبية بمعاقبة تركيا بسبب صراع النفوذ في شرقي البحر الأبيض المتوسط والصراع في ليبيا، من جهة ثانية، وعودة التوتر إلى العلاقات التركية – الروسية، وانعكاس ذلك على الوضع الميداني في محافظة إدلب السورية، من جهة ثالثة؛ فلدى المتشائمين من جانبهم ما يدعمون به تشاؤمهم، ذلك أنه بمجرد إطلاق أردوغان وعوده المذكورة بشأن الإصلاحات، وعودته إلى التأكيد على هدف تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حتى صعد رجل المافيا الشهير علاء الدين جاقجي المقرب من رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي خشبة المسرح السياسي ليرسل رسالة تهديد علنية مملوءة بالإهانات لرئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو.

جاقجي هذا الذي قضى عشرين عاماً في السجون التركية بعد إدانته بتهم تتعلق بالتحريض على القتل، تم إطلاق سراحه قبل أشهر في إطار تعديل جزئي على بعض القوانين، وبنتيجة إلحاح دولت بهجلي على استصدار عفو عام أو خاص بشأنه.

على رغم فضائحية رسالة جاقجي التي من المفترض أن يلاحقه القضاء بسببها، فالأغرب منها دفاع بهجلي عنه حين وصف زعيم المافيا المذكور بأنه «رفيق درب قضيتي»! في مسعى منه لقطع الطريق على أي محاسبة قضائية له بجريمة التهديد بالقتل. في حين التزمت السلطة وإعلامها الصمت المطبق.

وتلت كلام أردوغان بشأن الإصلاحات تصريحات لوزير العدل في حكومته، عبد الحميد غل، وضع فيها النقاط على الحروف بشأن وجهة الإصلاحات المذكورة في مجال القانون والقضاء، ومنها ضرورة العودة إلى مبدأ براءة المتهم حتى إدانته، وما يعني ذلك من وجوب عدم توقيف المتهم قبل صدور حكم قضائي بحقه، وهو ما يشمل كثيرين أبرزهم الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دمرتاش والروائي محمد آلتان ورجل الأعمال عثمان كافالا.

وظهر المستشار الرئاسي بولند آرنج على شاشة إحدى محطات التلفزيون، فتحدث بصراحة عن رأيه بوجوب إطلاق سراح كافالا ودمرتاش الموقوفين منذ أربع سنوات باتهامات «لا تقنع طفلاً» على حد تعبيره. آرنج ليس رجلاً عادياً، فهو أحد ثلاثة قادة أسسوا حزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى جانب أردوغان وعبد الله غل، وشغل مناصب رفيعة في السلطة، رئيساً للبرلمان ونائباً لرئيس الوزراء، كما أعلن ولاءه للحزب ورئيسه أردوغان حين كان عبد الله غل بصدد ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة في مواجهة أردوغان في العام 2018، وكذا حين انشق عن الحزب الحاكم كل من أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان وأسسا حزبيهما المعارضين.

تلقى آرنج توبيخاً عنيفاً من أردوغان بسبب تلك التصريحات، فاتهمه الأخير بإشعال نار فتنة بذريعة حديثه عن الإصلاحات. وإذ سئل آرنج عما إذا كان سيستقيل من منصبه، ترك الباب مفتوحاً للتفاهم بقوله إن الرئيس جرحه، لكنه سينتظر حتى يلتقي به، وبعد ذلك سيقوم بما يلزم. لا نعرف ما إذا حدث اللقاء المأمول أم لا، لكن النتيجة جاءت بسرعة واستقال آرنج.

انشغل المحللون، إذن، بتصور الصراع الدائر وراء الجدران المغلقة بين شريكي «تحالف الجمهور» أي أردوغان وبهجلي. فالأول الذي أقلقه اتجاه الأمور، في الاقتصاد وفي العلاقات الدولية، فأطاح بصهره من وزارة المال، وأتى بمدير جديد للبنك المركزي، فراح يتحدث عن إصلاحات شاملة على أمل عكس المسار الانحداري، اصطدم، بصورة لا مفر منها، بشريكه في التحالف الحاكم بهجلي الذي شعر بالخوف من تخلي أردوغان عنه فأطلق تحذيره الأول من خلال تهديد زعيم المافيا لرئيس حزب المعارضة الرئيسي، ثم لم يتمالك نفسه، فشنّع على بولند آرنج واتهمه بـ«الحنين إلى أصله» قاصداً بذلك أصله الكردي.

الآن يقف أردوغان أمام مفترق طرق: إما فك تحالفه مع بهجلي والمضي قدماً في تغييرات سياسية كبيرة في محاولة للعودة إلى السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، أو الاستمرار في الوضع الحالي. ولكل خيار من الخيارين مستتبعات وعواقب لا يمكن التكهن بها، لكنها سلبية بالقدر نفسه من زاوية نظر الاستمرار في السلطة.

كاتب سوري

القدس العربي

————————

قراءة في خطاب أردوغان الأخير/ بكر صدقي

متسلحاً برقم نمو مرتفع، بلغ 6.7٪ للربع الثالث من العام الجاري، خاطب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مواطنيه، مساء الاثنين، من موقع الزعيم القوي صاحب الإنجازات الكبيرة، ولم ينس عادته في شن الهجوم على معارضيه بأقسى العبارات.

كان الخطاب مقرراً مسبقاً في أعقاب اجتماع للحكومة خصص للبحث في اتخاذ تدابير إضافية مشددة لمواجهة الموجة الجديدة المقلقة من تفشي وباء كوفيد 19. فبعد أسبوعين من التدابير الوقائية الجزئية التي فشلت في خفض أرقام الوفيات وأرقام الإصابات الجديدة، ومع تصاعد التحذيرات من الجسم الطبي، عاد مجلس الوزراء إلى الاجتماع وسط توقعات بالإغلاق الكامل. وكان على الرأي العام انتظار ظهور الرئيس أردوغان ليعلن بنفسه التدابير الجديدة.

ما أعلنه الرئيس التركي كان أقل من التوقعات ومن مطالبات الهيئة العلمية في وزارة الصحة، فاقتصر حظر التجول التام على عطلة نهاية الأسبوع فقط، يومي السبت والأحد، على أن يشمل اليومين بكاملهما، وليس بصورة جزئية كما كانت الحال في الأسبوعين الماضيين، مع إضافة ساعات الليل إلى نطاق حظر التجول في بقية أيام الأسبوع، وهو ما يوحي بأن قرار الحظر، بهذا الشكل المرقّع، هو نتاج تسوية أو حل وسط بين المستوى الصحي الذي يطالب بإغلاق كامل لمدة 3 أسابيع، والمستوى السياسي الذي تقلقه النتائج الكارثية المحتملة للإغلاق الكامل على الاقتصاد.

إضافة إلى ذلك شملت التدابير المعلن عنها إغلاقاً جزئياً للأسواق، من خلال حظر بعض الفعاليات الاقتصادية، والتضييق النسبي على بعضها الآخر، ومنع الفئات العمرية الأكثر عرضة للخطر من استخدام وسائل النقل العامة، وتحديد سقف لأعداد الزبائن في صالات البيع الكبيرة، وتشديد الرقابة على التنفيذ. كما شملت التدابير البيوت المسكونة التي حظرت فيها الاجتماعات والزيارات بغرض التعزية أو الزفاف بعدما منع إجرائها في الأماكن العامة. مختصر القول هو أن الحكومة استشعرت الخطر وأعلنت عنه، ولو بعد تأخير، من خلال هذه الحزمة المتشددة من التدابير.

كان خطاب أردوغان مصاغاً بدقة سياسية عالية، فقدم الرئيس حزمة التدابير بيد، والبشرى بقرب بداية استخدام اللقاحات، في العاشر من الشهر الجاري، بيد أخرى. وكأنما في رد استباقي على منتقدي تراخي الحكومة، أثناء فصل الصيف، مع تفشي الوباء، ذكر رقم نمو الاقتصاد في الربع الثالث من العام، الذي كان قد نشر في صباح اليوم نفسه، باعتباره نتيجة لحكمة الحكومة في الموازنة بين مواجهة خطر الوباء وحاجات الاقتصاد.

لكن الرئيس التركي المعروف بولعه بالسجال ضد خصومه، لم يوفر فرصة الخطاب الذي يتابعه جميع الأتراك لكونه مخصصاً لإعلان التدابير الوقائية، فانقض على خصومه بطريقته المعهودة من العنف اللفظي، ولكن مع جرعة إضافية من الاتهامات، ربما كان أبرزها اتهام المعارضة بأنها «لا تعبأ بالشعب، بل تنتظر الإشارة من الخارج». اتهام يفهمه خصوم أردوغان كما أنصاره على أن المقصود به هو مراهنة مفترضة من قبل أحزاب المعارضة على التغيير الذي حدث في الولايات المتحدة بانتخاب الديموقراطي جو بايدن رئيساً، له مواقف معلنة ضد تركيا الأردوغانية، بل وصل به الأمر حد الحديث بصراحة عن «وجوب دعم المعارضة التركية من أجل التغيير في تركيا» في مقابلة إعلامية أواخر العام الماضي.

غير أن الأبرز في الخطاب هو وضعه حداً للتكهنات الإيجابية في الرأي العام بشأن ما كان قد أعلنه، قبل أسبوعين فقط، من نوايا إصلاحية تشمل ميادين الاقتصاد والسياسة والتشريع. الواقع أنه في الوقت الذي كان أردوغان فيه يلقي خطابه هذا، كان وفد حكومي قد عقد للتو اجتماعين هامين مع كل من جمعية رجال الأعمال وممثلي الأقليات والجمعيات الدينية، بغاية مناقشة وجهة الإصلاحات الموعودة وتقديم توصيات تتضمن مطالب المجموعتين. فهل يعني هذان الاجتماعان أن الحكومة جادة في وعودها الإصلاحية؟ أم أنها لمجرد كسب الوقت بانتظار استحقاقات كبيرة تنتظر الحكم في تركيا، كاجتماع حلف شمال الأطلسي في الأول والثاني من الشهر الجاري، واجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في العاشر والحادي عشر منه، ويتوقع أن تكون تركيا على الطاولة في كلا الاجتماعين، بسبب الخلافات المعلنة بينها وبين شركائها في الناتو من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية. وفي مواجهة الاستحقاقين حاولت الحكومة التخفيف من حدة التوتر من خلال إعادة سفينة السبر «أوروج رئيس» إلى ميناء أنطاليا، بعدما كانت تقوم بأنشطة للبحث عن النفط والغاز في مناطق متنازع عليها من شرقي البحر الأبيض المتوسط. كذلك قال الرئيس أردوغان، في أحد خطاباته قبل أسبوعين، إن «المكان الطبيعي لتركيا هو أوروبا».

في غضون ذلك أدت تصريحات المستشار الرئاسي بولند آرنج بشأن وجوب إطلاق سراح السياسي الكردي المعتقل بلا حكم قضائي صلاح الدين دمرتاش، ومثله رجل الأعمال عثمان كافالا، إلى دفعه إلى الاستقالة من منصبه، كما أحيل النائب السابق إحسان أرسلان إلى لجنة المحاسبة في حزب العدالة والتنمية الذي هو من مؤسسيه، بسبب تصريحات له ينتقد فيها انزلاق الحزب نحو مواقف قومية متشددة بسبب تحالفه مع حزب الحركة القومية دولت بهجلي.

لقد وضع بهجلي خطوطاً حمراء أمام أردوغان بشأن ما أعلنه الأخير من نوايا إصلاحية، وبالأخص ما يتصل بشأن السياسة الكردية المحتملة للحكومة بما يتعارض مع «ثوابت» الحزب القومي. ولم يتوان، في سبيل ذلك، من إطلاق رجل المافيا المقرب منه علاء الدين جاقجي تهديدات بالقتل بحق زعيم المعارضة الرئيسية كمال كلجدار أوغلو. القصد أن توتراً حدث بين الحليفين أردوغان وبهجلي، ربما انتهى بفرض الأخير شروطه على الأول، من غير أن يعني ذلك استسلاماً نهائياً من أردوغان المعروف ببراغماتيته. فما قد يقبله اليوم تحت ضغط شروط قاهرة قد يتنصل منه عند ظهور بوادر شروط مختلفة.

في هذا الإطار يمكن فهم التناقض الظاهري بين تشدد أردوغان في خطابه الأخير، ومواصلة وفوده الحكومية الحوار مع الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية حول الإصلاحات المنشودة.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————–

تركيا نجم صاعد في نظام عالمي جديد يخطط له أردوغان

ترجمة – هآرتس

قد يؤدي الترقب الذي يشوبه التوتر لمآلات الانتخابات الأميركية إلى تضليل الاتحاد الأوروبي للاعتقاد أنه في حالة انتخاب جو بايدن فإن السياسة الأميركية تجاه تركيا ستتغير تغيراً جذرياً.

يبدو واضحاً أن إصرار تركيا على التنقيب العدواني عن الغاز الطبيعي في مناطق من شرق البحر المتوسط تُطالب بها اليونان وقبرص هو نوع من التكشير عن الأنياب للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. فقد قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، مورغان أورتاغوس في بيان مقتضب، “نحث تركيا على إنهاء هذا الاستفزاز المدروس والبدء فوراً في محادثات استكشافية مع اليونان”.

وجاء في البيان أيضاً أن “ممارسات الضغط والتهديد والترهيب والأنشطة العسكرية لن تحل التوترات في شرق البحر المتوسط”.

في حين قال وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية لمجلس الأمن، “يجب على أنقرة أن تضع حداً لدوامة التهدئة والاستفزاز إذا كانت الحكومة مهتمة بإجراء محادثات”. وأضاف ماس الذي ألغى بصورة دراماتيكية زيارته المزمعة إلى أنقرة، أنه “تفاجأ للغاية” من الخطوات التي اتخذتها تركيا مؤخراً.

تتعلق ردود الجانبين الأوروبي والأميركي  بإعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه سيمدد فترة المسح الجيولوجي عن الغاز الطبيعي في إحدى المناطق البحرية المتنازع عليها قرب تركيا حتى 27 أكتوبر/تشرين الأول. علماً أن المنطقة المشار إليها تقع في المياه الإقليمية اليونانية. وكان من المقرر أصلاً أن تنتهي أعمال المسح يوم الخميس (22 أكتوبر/تشرين الأول)، حسبما جاء في تصريح سابق. وقد بدا بالفعل أن تركيا بدأت تنصاع للضغوطات الدولية وأنها مستعدة للعودة إلى طاولة الحوار. لكن  أردوغان  كان لديه مخططات أخرى.

فقد كثر الحديث خلال الأسابيع الماضية عن فرض عقوبات اقتصادية أو حظر عسكري على تركيا ما لم توقف عمليات التنقيب عن الغاز الطبيعي في مناطق بحرية متنازع عليها. لكن قادة الاتحاد الأوروبي لم يتطرقوا تقريباً إلى المسألة عندما اجتمعوا في قمة عُقدت، واضطرت اليونان إلى ممارسة ضغوطات هائلة لوضعها ضمن جدول أعمال القمة.

تمخضت قمة قادة الاتحاد الأوروبي عن إصدار بيانات حازمة وحاسمة فحسب، وأوضح القادة لليونان أن المناقشات حول فرض عقوبات على تركيا يفضل أن تتأجل حتى القمة المقررة في ديسمبر/كانون الأول. بيد أن الانقسام بين ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا ومالطا والمجر من جهة، الذين يُعارضون العقوبات، وفرنسا من جهة أخرى، يخدم المصالح التركية. إذ تخشى الدول الخمسة من أن ترسل تركيا إليهم موجة جديدة من اللاجئين في حال فرضوا عقوبات عليها.

هذه ليست المرة الأولى التي تستغل فيها تركيا ملايين اللاجئين السوريين وتستخدمهم كورقة مساومة رابحة للضغط على الاتحاد الأوروبي كما لو كانوا رهائن لديها. ورغم أن اتفاقية اللاجئين التي وقعتها تركيا مع الاتحاد الأوروبي لم تحقق لها كل ما أردته، فقد هددت تركيا أكثر من مرة بفتح الحدود على مصراعيها، وذلك لمنع المبادرات الأوروبية الرامية إلى وضع حدٍ لاعتداءات أردوغان، مثل أعمال التنقيب في البحر المتوسط أو مشاركة تركيا في حرب سوريا.

كثر الحديث خلال الأسابيع الماضية عن فرض عقوبات اقتصادية أو حظر عسكري على تركيا ما لم توقف عمليات التنقيب عن الغاز الطبيعي في مناطق بحرية متنازع عليها.

ثمة علاقة بين تأجيل المناقشات حول فرض عقوبات على تركيا حتى ديسمبر/كانون الأول والانتخابات الرئاسية الأميركية المرتقبة. فمثل نظرائهم في جميع أنحاء العالم، لا يستطيع قادة أوروبا وتركيا البدء حتى في تخمين الرئيس القادم للولايات المتحدة. وعلى الرغم من الانتقادات الصادرة عن وزارة الخارجية الأميركية، فإن أردوغان ودونالد ترامب تربطهما علاقة شخصية ممتازة. فقد منع ترامب الكونغرس وحلف الناتو من فرض عقوبات على تركيا عندما اشترت تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400. لكن ومع أن أردوغان وعد ترامب إنه لن يستخدم الصواريخ قبل الانتخابات، فقد أجرت تركيا مناورات عسكرية الأسبوع الماضي أطلقت خلالها منظومة الصواريخ. وبالمثل، استُبعدت تركيا من برنامج تطوير مقاتلات إف-35، لكنها ستواصل تصنيع قطع منها في فترة ما من عام 2021.

امتنع ترامب أيضاً عن الصدام مع إردوغان حول مسألة الحرب في إقليم ناغورنو كاراباخ، حيث تُقاتل قوات تركية في صف أذربيجان. واكتفى الرئيس الأميركي بالانضمام إلى دعوات فرنسا وروسيا بوقف إطلاق النار، ومنذ ذلك الحين لم يصدر عنه أيّ شيء حول هذه القضية، وعرض فقط استضافة مفاوضات بين الجانبين في الولايات المتحدة. في حين لا يستطيع ترامب إلقاء اللوم على أرمينيا لأنه يحتاج إلى أصوات المواطنين الأميركيين الأرمن الذين يبلغ تعدادهم  1.5 مليون أرمني، والذين يتركز معظمهم في ولايات نيويورك وبوسطن ولوس أنجلوس، وهي ولايات ديمقراطية. لكنه أيضاً لا يرغب في لوم أنقره لأنه يريد أن يحمي صديقه. في المقابل، قال سيرغي لافروف، وزير الشؤون الخارجية الروسي، في الأسبوع الماضي إن “روسيا لم تنظر قط إلى تركيا باعتبارها حليفاً استراتيجياً فحسب، بل شريكاً وثيقاً”. وخلافاً لترامب، لا يكترث بوتين بعلاقاته الشخصية الطيبة مع أردوغان عندما تهدد تركيا مصالح روسيا.

قد يؤدي الترقب الذي يشوبه التوتر لمآلات الانتخابات الأميركية إلى تضليل الاتحاد الأوروبي للاعتقاد أنه في حالة انتخاب جو بايدن فإن السياسة الأميركية تجاه تركيا ستتغير تغيراً جذرياً، وسوف تدعم الاتحاد في ممارسة الضغوط الدبلوماسية على أردوغان. بيد أن تهديد اللاجئين سيظل مُحدقاً بأوروبا بصرف النظر عن الرجل الذي يجلس في البيت الأبيض، وسوف يضطر الاتحاد الأوروبي إلى حل الصراع اليوناني التركي بمفرده وألا يسمح لواشنطن بوضع قواعد اللعبة في شرق البحر الأبيض المتوسط.

لقد تلقى كل من كان يأمل في حصول تحول جوهري في السياسة الدولية من شأنه أن يُثني إرادة أردوغان، رسالة واضحة ومدوية.

فقد صرح أردوغان في خطاب ألقاه في مؤتمر صحفي عقب جلسة مجلس الوزراء، قائلاً “جميع الأساليب، بما في ذلك الأعمال الإرهابية، والمحاولات الانقلابية، والمكائد الاقتصادية، والجهود الرامية إلى عزلنا، كان الغرض منها إقصاء تركيا عن أهدافها. لكننا نجحنا في إحباط جميع هذه الهجمات والمؤامرات… لقد كشفت غالبية المنظمات الدولية والدول التي تزعم أنها تحمل راية الديمقراطية عن نواياها الحقيقية حين طبقت معايير مزدوجة في التعامل مع تركيا”.

مضيفاً، “لقد أصبحت تركيا أكبر وأقوى، وباتت مجالات مصالحها تزداد بصورة طبيعية معها”. وسواء كان الأمر يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو الحرب في ليبيا، أو النزاع المستعر في إقليم ناغورني كاراباخ، أو التنقيب عن النفط في البحر الأبيض المتوسط، أو الأكراد في سوريا، أو اتفاقية الدفاع المشترك مع قطر، فإن أردوغان يعد بأن تركيا ستكون حاضرةً في كل مكان ولن يستطيع أحد إيقافها.

في أولى خطواته رئيساً لوزراء تركيا، تمكن أردوغان من الوصول إلى قوته السياسية بفضل النجاح الاقتصادي السريع الذي قاد البلاد إلى تحقيقه. وفي الأعوام الأخيرة، وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية المتنامية، نجح أردوغان في بناء تركيا باعتبارها قوة إقليمية ودبلوماسية لا يمكن تجاهلها أو عزلها، قوة مستعدة لمواجهة أوروبا وروسيا والولايات المتحدة.

فبعد أن كانت مجرد دولة تسعى إلى إيجاد ركن دافئ في الشرق الأوسط العربي، أصبحت تركيا دولة تصادمية تنظر إليها العديد من الدول العربية على أنها عدو. ففي هذا الشهر فرضت المملكة العربية السعودية عقوبات اقتصادية على تركيا في أعقاب تصريحات أردوغان بشأن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.

 “لقد أصبحت تركيا أكبر وأقوى،

وباتت مجالات مصالحها تزداد بصورة طبيعية معها”.

بدأت المملكة العربية السعودية في مقاطعة تركيا رسمياً منذ نحو عام، بيد أن المقاطعة الآن يقودها مكتب التجارة والمستوردين والتجار والمواطنين. فقد استنسخ رئيس مجلس الغرف السعودية، عجلان العجلان، شعار حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد إسرائيل، وطبقه على تركيا، وذلك بالإعلان أنه “لن تكون هناك استثمارات، ولا تجارة، ولا سياحة” مع تركيا. ولا تقتصر هذه المقاطعة على السلع التركية فحسب، بل تشمل أيضاً العلامات التجارية والمنتجات التي يتم تصنيعها جزئياً في تركيا وتُسوَّق في المملكة العربية السعودية. تُقدر الخسائر التي لحقت بالاقتصاد التركي جراء حملة المقاطعة هذه بنحو 3 مليارات دولار، وهو مبلغ كبير بالنسبة لدولة تعاني من تراجع قيمة عملتها وتواجه ارتفاع في معدلات البطالة وتضخم بنسبة 12%، فضلاً عن عجز ضخم في الموازنة بنسبة 4.9% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنةً بتوقعات بلغت 2.9%.

بيد أن أردوغان كان له موقفاً لاذعاً على نحو خاص تجاه هذه المقاطعة، قائلاً “لا بد ألا ننسى أن بعض هذه الدول في منطقتنا (دول الخليج) لم تكن موجودة بالأمس، وربما لن تكون موجودة غداً، لكننا سنواصل رفع رايتنا في هذه المنطقة إلى الأبد، إن شاء الله”.

الواقع أن أردوغان يروج لوجهة نظره العالمية التي تؤكد أن أوروبا والولايات المتحدة تحتاج إلى تركيا أكثر من احتياجها إليهم. ويشير إلى أن النظام العالمي القديم، والتحالفات والتكتلات التقليدية، والاتفاقات التي جرى العمل بها حتى الآن، بدأت في الانهيار مع إفساح المجال لتشكيل موازين جديدة للقوى. مضيفاً أن “تركيا هي النجم الصاعد في هذه الاتجاهات العالمية والإقليمية الجديدة”.

يبدو أن هذه الرؤية صحيحة في ضوء الاضطرابات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط على مدى العقد الماضي، فضلاً عن تراجع قوة الولايات المتحدة ومكانتها في عصر ترامب وتقوقع أوروبا على نفسها.

إلا أن نهج أردوغان الذي يتسم بجنون العظمى، ويحظى بحماية حلفائه ومنافسيه الذين يخشون من ردة فعله، تدفعنا إلى أن نفحص فحصاً دقيقاً العواقب الوخيمة المترتبة على بروز زعيم إقليمي يمتلك قوة عسكرية مؤثرة ويعلن أن الاتفاقات القائمة حالياً لم تعد تلزمه. قد يتضح فيما بعد أن المواجهة مع اليونان وأوروبا بشكل عام حول التنقيب عن النفط في المناطق المتنازع عليها بمثابة تجربة عملية لإستراتيجية أردوغان الجديدة وليس فقط مجرد صراع اقتصادي بين دولتين.

هذا المقال مترجم عن Haaretz.com ولقراءة الموضوع  الأصلي زوروا الرابط التالي

https://www.haaretz.com/world-news/.premium.HIGHLIGHT-erdogan-is-planning-a-new-world-order-in-which-turkey-is-the-star-1.9257381

درج

——————————–

روسيا والنظام.. تركيا والائتلاف ولعبة التسوية

لكي نجد تفسيراً مقنعاً- لقرار الائتلاف الأخير حول إنشاء هيئة عليا للانتخابات- وبدون أن نقبل بالتعاطي بأي شكل من الأشكال مع الموضوع بطريقة الانتقام أو الضغينة أو سوء الظن فإننا سنبحث عن القاسم المشترك الذي يجمع تلك الأطراف المذكورة؛ تركيا والائتلاف من جهة، وروسيا وإيران والنظام من جهة ثانية. وبعد البحث عن تفسير لذلك التوافق لم نجد سوى “الوجود العسكري الأمريكي” في الجزيرة السورية الذي يضغط على تلك الأطراف إلى درجة إصابتها بالشلل، وعدم القدرة على الفعل أو إيجاد المنافذ خارج هذا المأزق؛ ولنتابع:

فالأتراك يرون أن الأمريكيين يشلون قدرتهم على إنهاء الملف الكردي في سوريا كما يرغبون، ويدفعون مقابل ذلك الفصائل الإسلامية لمواجهة مع قسد في كل مناطق الاحتكاك من جهة أولى. ثم يسعون من خلال ورقة الفصائل والائتلاف ضمان وجود تركيا في سوريا المستقبل من جهة ثانية. ويفهم الأتراك جيداً أن هذا الحل الذي يضمن دوراً مركزياً للإسلام السياسي في سوريا المستقبل من وجهة نظر تركيا الأردوغانية من المستحيلات بوجود أمريكا في سوريا.

أما الائتلاف- كممثل لهذه الفصائل ولتيار الإسلام السياسي- فيجد نفسه مغلول اليدين من جهة النفوذ السياسي في مستقبل سوريا كما أنه عاجز عن التوسع على حساب الكرد في الجزيرة السورية بسبب الوجود الأمريكي.

على المقلب الآخر، يحاول الروس جاهدين تعويم النظام عبر حلول من خارج جنيف، ولا يخفون رغبتهم في المباشرة بإعادة الإعمار كحل لمشكلة النظام الاقتصادية ثم يجدون أمامهم الرفض الأمريكي على طول الخط لأي مسار خارج جنيف.

أما الإيرانيون فيواجهون يومياً خطر تصفية وجودهم في سوريا والعراق ولبنان من خلال السياسات الصارمة والواضحة المعادية جبهياً للوجود والتوسع الإيرانيين في المنطقة بالإضافة إلى برنامجهم النووي.

وتظل معاناة النظام الحادة من الوجود الأمريكي، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وبالمحصلة التهديد الحقيقي لاستمراه، هي المعاناة الأشد من بين الأطراف السابقة، ويبدو ألا سبيل أمامه إلا بمواجهته والاستعانة بأي طرف للصمود في وجه هذا الدور الأمريكي، شريطة ألا يقوده إلى جنيف.

هل تعني تلك المقدمة أن الائتلاف- على الأقل في جزئه الإسلامي المهيمن داخل الائتلاف والذي يمكن اعتبار قيادته في الرئاسة وأمانة السر الممثلَين الأبرز لهذا التيار- عبر وكيله التركي قد وصل إلى أي تسوية مع النظام عبر وكيله الروسي؟

لا يمكن الجزم بذلك، كما لا يمكن الجزم بعكسه، والأرجح أن النظام والائتلاف يتقاسمان كما أسلفنا العداء للوجود الأمريكي والمخاوف نفسها من الدور الكردي في سوريا المستقبل والحالية، لذلك قد يكون من حسن الظن إبراز هاتين النقطتين المشتركتين بين النظام وعدوه المفترض والحقيقي-حتى الآن- الائتلاف، وخاصة أن وكيلي الطرفين- روسيا وتركيا- يتشاركان أيضاً نفس العداوات والمخاوف إلى حدّ ما.

قد يشكل التغير الأخير في الإدارة الأمريكية نقطة أمل لجميع هؤلاء في تغير هذا الوجود- الدور في سوريا وجوارها، وبالتالي يصبح من حسن الظن أيضاً القول أن تركيا بتوافق مع روسيا قد طلبتا من الائتلاف والنظام التفكير جدياً بمصالحة أو بتسوية تحفظ دوراً سياسياً مركزياً حاسماً للطرفين- قد تكون على طريقة مناطق النفوذ- في مستقبل سوريا، بينما نرجح أن يكون من سابع المستحيلات الحصول على هذا الدور في ظل سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على هذا الحل- التسوية وطريقة تعاطيها مع جميع الملفات في سوريا وإيران والعراق ولبنان. ويبقى أن نشير إلى نقطتين لا يمكن إغفالهما في موضوع إنشاء هيئة عليا للانتخابات على الطريقة الائتلافية؛ الأولى آلية اتخاذ القرار من قبل قيادة الائتلاف وعدم عرضه على الهيئة السياسية ناهيك على الهيئة العامة، وبالتالي هل كان المطلوب تمرير هذا القرار بدون العودة إلى القوى والشخصيات التي لا تعتبر موثوقة من قبل الجانب التركي وأنها يمكن أن تشكل معارضة لهذا القرار وما قالته بعض شخصيات الائتلاف عن القرار وإدانتهم لآلية اتخاذه يدلل على ذلك. والثانية هي ردّات الفعل العنيفة على قرار الائتلاف بطريقة التخوين والعنف اللفظي وكأن هؤلاء المهاجمين، ومعظمهم ينتمي إلى منظمات شكلية وشخصيات من محبي ركوب أمواج الشعبوية، قد تفاجؤوا بآليات عمل الائتلاف وبتبعية قرار قيادته لتركيا وقطر.. الخ فهل أصبح العمل على البدائل الوطنية مقتصراً على شاشات التواصل الاجتماعي وبطريقة الشتم والتخوين أم أن العمل الجاد يجب أن ينطلق من الوقائع القائمة والسعي لعزل قرار الائتلاف عن القرار التركي، والضغط على المجتمع الدولي عبر جبهة وطنية عريضة لتنفيذ القرار 2254 ومتعلقاته؟!

إننا في تيار مواطنة نظن أن هذا القرار لم يكن أكثر من محاولة بائسة من قبل الأتراك والروس لتحريك ملف التفاوض تحت الطاولة لطالما كان طريق جنيف سيؤدي إلى تغيير النظام في مآله الأخير وإلى دستور مغاير لما ترجوه تركيا وإلى خسارة حلفاء النظام والائتلاف لامتيازاتهم في سوريا وسقوط مشاريعهم الإمبراطورية.

ويمكننا أن نضيف بضع كلمات حول آليات عمل الائتلاف واتخاذ القرار، فقد ثبت حتى الآن أن جميع هذه القرارات تتخذها قيادته منفردة، ومعظمها يكون بطلب تركيا أو بموافقتها على الأقل، وبالتالي فقد صار بمقدورنا القول: ما لم يقطع الائتلاف هذه العلاقة أو أن يحد من تدخل الأتراك فإن مشروعيته ستنحصر في تمثيله للإسلام السياسي المتحالف سياسياً وعقيدياً مع تركيا وأنه لا مكان أو دور للقوى الديمقراطية السورية في هذه التركيبة سوى لعب دور المتفرج السلبي.

تيار مواطنة

المكتب الإعلامي 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020

——————————

تركيا الإصلاحات العثمانية لا الأوربية/ رستم محمود

فقط 1500 يوم، هي المُدة التي احتاجها كبير مستشاري الرئيس التركي بولنت أرينج، لـ”يفجر قنبلة” ويقول إن التُهم الموجهة لزعيم حزب الشعوب الديمقراطية المعارض، والمؤيد لحقوق الأكراد، صلاح الدين ديمرتاش “لا تستطيع أن تُقنع حتى طفلاً”، المُعتقل منذ وقتئذ، ودون محاكمة، ومثله عشرات الآلاف من معتقلي الرأي والسياسة في تركيا.

ليس في الأمر أية هِداية ربانية أو إشراقة فلسفية إصلاحية، غيرت فجأة من مواقف الرجل ورؤاه، بل حسابات شديدة الدقة أجراها أرينج، تجاه طيف من التحولات السياسية المستجدة، الداخلية والإقليمية والدولية، المحيطة والمؤثرة على أحوال تركيا ونظامها السلطوي. اكتشف أرينج في محصلتها بأن القفز من مركبة الرئيس نحو خطاب “السياسي الاصلاحي” هو فعل أكثر أماناً لمستقبله السياسي، وهذا ما فعله.

أي أن الأمر بمجمله مجرد “انعكاس عصبي سياسي”، استجابة بيولوجية مباشرة لما قد يداهم هذه الشخصية السياسية في المستقبل القريب، ولا علاقة له بأية نزعة حقوقية أو تحديثية ديمقراطية صار يتبناها، فجأة!.

 أرينج كان شريكاً وعضواً فاعلاُ في مشروع يمين الوسط “الإصلاحي”، الذي تبناه حزب العدالة والتنمية منذ عقدين، حيث كان أرينج من مؤسسي هذا الحزب، وبقي يطرح نفسه من ضمن نخبة الإسلام السياسي/القومي التركية، التي تناوبت على حُكم البلاد منذ عقود، كأكثر المتحمسين لتحديث البلاد اقتصادياً وإدارياً ودمقرطة الحياة العامة سياسياً.

لكنه، ومع كل تلك المحفزات، بقي صامتاً طوال تلك الفترة، غاضاً النظر عن “جرائم” سياسية ملفقة، يدبرها رئيسه وأقرب أصدقائه، تجاه قادة وسياسي ومثقفي وأثرياء البلاد، محافظاً على وده وولائه وموقعه ومصالحه بالقرب من الفاعل/الرئيس، ككبير المستشارين، ثم ردد عبارته الاستنكارية تلك فجأة، واستقال من منصبه!، وصار يعرض نفسه كـ”صقر” اصلاحي، متمرد على رئيس شمولي!.

بخطوته هذه، ينضم أرينج إلى طيف من القادة السياسيين الأتراك، الذين مروا بهذه التجربة تماماً، وتسابقوا في مسارها الوحيد.

فجمعيهم كانوا رفقة وشركاء إردوغان طوال السنوات الماضية، مخططين لسياساته ومنفذين لها، من رئيس الوزراء السابق ومنظر حزب العدالة والتنمية أحمد داوود أوغلو، مروراً بوزير الاقتصاد السابق علي باباجان، وصولاً لأرينج وغيره المئات من الشخصيات السياسية الأخرى، الحاكمة والمعارضة على حدٍ سواء، التي صارت تطالب بإصلاح وتحديث أحوال البلاد فجأة، حينما صار المستقبل السلطوي للحزب الحاكم وقادته في خطر.

إردوغان نفسه، ظل طوال الأسبوعين الأخيرين يطرح أشياء من مثل تلك، واعداً بأن حكومة حزب العدالة والتنمية ستطبق إصلاحات للنظامين القضائي والاقتصادي، بالتعاون مع حلفائها القوميين!. قائلاً في آخر كلمة أمام الكتلة البرلمانية لحزبه: “نسرع في تنفيذ الإصلاحات القضائية، وسنعرض مجموعات من الإصلاحات الأخرى على البرلمان، ونضع اللمسات النهائية على خطة عمل حقوق الإنسان!”.

بينما كان أردوغان يقول كلماته تلك، فأن ذهنه كان مشغولاً بما يهدد استقرار حُكمه، وليس تحديث بلاده واصلاح نظامها الحاكم.

فالإدارة الأميركي المنتخبة حديثاً، تعد بممارسة أقصى الضغوط على نظام الحُكم في تركيا، بالذات فيما يتعلق بإثارة ملف الحريات وحقوق الإنسان، التي صارت أحوالها في تركيا كثيرة التدهور، حسب المعايير والمؤشرات العالمية الرصينة.

كذلك صار واضحاً للساسة الأتراك بأن الأحوال الاقتصادية ذات جذر سياسي، وأن القوى والمؤسسات الدولية، الأوربية على رأسها، مع كبار المستثمرين وشركاتهم، لن يعودوا لتبي ومساعدة تركيا بأي شكل، دون حزمة واضحة من الاصلاحات في قلب الحياة السياسية، أو الوعد بها على الأقل.

فوق الأمرين، فأن قوى المعارضة تُظهر تناغماً معقولاً فيما بينها، بالذات بين حزب الشعب الجمهوري “الأتاتوركي” وحزب الشعوب الديمقراطية “المؤيد لحقوق الأكراد”. الأمر الذي قد يوفر تحالفاً سياسياً توافقياً فيما بينها، يهدد مستقبل التحالف الحاكم.

كل ذلك يدور في ذهن إردوغان والحلقة الأضيق المقربة منه، ومثلهم المتمردون السياسيون على تنظيمه الحزبي، وإلى جانبهم قادة المعارضة والنُخب السياسية في البلاد، والكُل يرى في “الخطابية الإصلاحية” أداة مناسبة للتعامل مع ذلك، ديناميكية حيوية للصعود وتأمين المراكز السلطوية، وفقط كذلك. فما يجري هو “استخدام للإصلاح” لا إصلاح بذاته، مزيج من الخطابات والحسابات، دون أفعال والتزامات أخلاقية.

طوال القرن التاسع عشر، الذي عُرف في التاريخ العثماني بـ”قرن الاصلاحات”، اتخذت الإمبراطورية العثمانية حزمة من الاصلاحات التحديثية، من التنظيمات التي اُتخذت عامي 1839-1856، مروراً بوضع الدستور عام 1876 وتشكيل البرلمان العثماني وإصدار لوائح القوانين والمدراس الحديثة والمؤسسات القضائية وتغير آلية الانتساب إلى الجيش… الخ.

لكن، وفي السياق التاريخي، لم تكن تلك الاصلاحات العثمانية نتيجة تحولات اقتصادية واجتماعية وصناعية وفلسفية داخل المجتمع ونُخبة الحُكم العثمانية، كما كانت في تجربة الإصلاح والتحديث الأوربية، بل كانت مجرد استجابة انعكاسية لهزيمة الجيوش العثمانية وتعضد بينان سلطة الدولة ونظامها الحاكم وضغوط الدول الخارجية وانهيار الاقتصاد المحلي، وحيث أن نُخب الحُكم كانت تترجى من تلك “الإصلاحات” إنقاذ شيء ما من تلك السلطة، أو إطالة عمرها لأبعد مدة ممكنة، وفقط كذلك.

أي أن مسار الإصلاح العثماني كان مبايناً لسياق التحديث الأوربي، حيث أن التحولات والتطورات لم تكن نتيجة هزائم عسكرية أو ضغوط خارجية أو انهيارات اقتصادية، بل كانت انتصاراً حتمياً لنضالات المجتمعات الداخلية وتطور أحوالها ووعيها، فاقتلعت حقوقها عبر الإصلاح، ورغماً عن السُلطة الحاكمة.

ما يحدث راهناً في تركيا هو مسار عثماني تماماً. نُخب الحُكم تستشعر خطراً داهماً، تستخدم “خطاب الإصلاح” لمواجهته، مثلما قد تستخدم الجيش وشبكات الفساد، وربما الحروب والجرائم المنظمة، لنفس الغرض بالضبط، إدامة الحُكم.

قناة الحرة

————————-

واشنطن بوست: الطائرات المسيرة سلاح تركيا في السياسة الخارجية/ إبراهيم درويش

لندن – “القدس العربي”: نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرا لمراسلها في إسطنبول كريم فهيم قال فيه إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي وسع من مشاركاته العسكرية للتأثير في شمال إفريقيا والقوقاز اعتمد على سلاح قوي لحرف ميزان الحرب وفي الوقت نفسه تعبئة الدعم الشعبي له وهو: الطائرات المسيرة المصنعة محليا.

وكان أثر هذه الطائرات جوهريا ولعبت دورا مهما في الأشهر الأخيرة بحرف ميزان الحرب لصالح الحكومة الليبية التي تدعمها تركيا في طرابلس. وساعدت أذربيجان، حليفة تركيا، في الانتصار على القوات الأرمينية في إقليم ناغورو قرة باغ. وفي شمال سوريا لعبت الطائرات المسيرة دورا مهما في سلسلة من الهجمات المدمرة على قوات النظام السوري المدرعة والتي أدهشت المراقبين العسكريين وساعدت على وقف الحملة العسكرية لقوات النظام السوري ضد آخر معقل للمقاتلين في محافظة إدلب.

وفي تركيا أصبحت الطائرات المسيرة رمزا للإبداع التكنولوجي التركي والاعتماد على الذات وزادت من الثقة بالنفس وسط تراجع اقتصادي وتوتر في علاقات أنقرة مع حلفائها في الناتو. لكن النجاحات التركية في السياسة الخارجية تمثل تحديا لإدارة جوزيف بايدن المقبلة: ما الذي يجب عمله مع سياسة تركيا التوسعية والتي وضعتها في مواجهة مع عدد من حلفاء الولايات المتحدة بمن فيها اليونان والإمارات العربية المتحدة؟

ويقول جيمس جيفري، السفير الأمريكي السابق في أنقرة وعمل حتى وقت قريب مبعوثا لإدارة دونالد ترامب في سوريا، إن التوسع في السياسة الخارجية التركية أعاق الطموحات الروسية في مناطق مثل سوريا وليبيا و”هذا أمر ليس سيئا”. وفي نفس الوقت “يخيف أردوغان معظم من في الشرق الأوسط.. فهو متقلب وطموح ويتحرك في الفراغ”. وأدى التطور السريع في مجال الطائرات المسيرة لجعل تركيا منافسا لمنتجي الطائرات المسيرة غير المسلحة مثل إسرائيل والصين. وأثارت قلق منظمات حقوق الإنسان من وقوع ضحايا مدنيين أثناء استهداف المتشددين عبر الحدود والقتل المستهدف. وأعلنت شركتان أجنبيتان زودتا تركيا بمكونات للطائرات المسيرة في الأسابيع الماضية عن تعليق مبيعاتها لتركيا، قائلة إن منتجاتها هي للأغراض السلمية.

لكن الطائرات المسيرة لم تثر أي جدل داخل تركيا فهي مصدر للفخر الوطني ومثال عن قدرة تركيا الاعتماد على نفسها، كما يقول البروفيسور أحمد قاسم هان، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ألطينباس في إسطنبول. وكانت أول إشارة عن قدرة الطائرات المسيرة قد حدثت في الشتاء الماضي بعد مقتل 36 جنديا تركيا فيما قالت أنقرة إنها غارات سورية على محافظة إدلب، وهي أعلى نسبة قتل تتكبدها تركيا منذ عقود. وردت تركيا بعملية انتقامية استخدمت فيها المدرعات والمصفحات وتم “تحييد” مئات من الجنود السوريين. وكشفت الصور التي التقطت من الجو سلسلة من الأهداف التي دمرت. وأخبر المسؤولون الأتراك الصحف أن العمليات العسكرية نفذتها “أسراب” من الطائرات المسيرة.

وفي الوقت الذي يقول فيه المحللون إن التقارير التركية مبالغة إلا أن العملية أظهرت قدرة تنسيق الطائرات المسيرة مع الأسلحة التقليدية الأخرى. وقال شان كسابوغلو، مدير معهد إيدام لدراسات الأمن والدفاع: “كان هذا اختراقا مفهوميا” و”دمجت تركيا أنظمة الصواريخ والبطاريات المدفعية مع الطائرات المسيرة”. واتفقت بعد أيام روسيا التي تدعم النظام السوري وتركيا على وقف إطلاق النار في إدلب وأوقفت تقدم قوات النظام الذي هدد حياة ملايين المدنيين في الإقليم. وقال هان إن أنقرة تعلمت من دروس العملية في إدلب: “كسرت تركيا ظهر النظام السوري وهو ما أعطاهم الثقة” أي الجيش التركي و”مع زيادة الثقة تتغير نظرتك للمشكلة التالية ويصبح اللجوء للأساليب الإكراهية سهلا”.

ويرتبط تطور الصناعة الدفاعية التركية بحظر تصدير السلاح بعد تدخل تركيا في الحرب بجزيرة قبرص عام 1975، واعتبر حظر السلاح صدمة استراتيجية في نظر النخبة التركية، كما يقول كسابوغولو. وبدأت صناعة الطائرات المسيرة بعد توقف أنقرة عن شراء الطائرات الإسرائيلية لأسباب سياسية ومنعت من شراء الطائرات الأمريكية بريدتور. وفي تعليقات لرئيس الصناعة الدفاعية التركية إسماعيل ديمر بمعهد في واشنطن، عام 2016، شكر الولايات المتحدة على حثها برنامج الطائرات المسيرة وقال إن صعوبة الحصول على الطائرات الأمريكية المسيرة “أجبرتنا على تطوير طائراتنا”.

وساعد سلجوق بيرقدار، المهندس الذي درس في معهد أم أي تي الأمريكي، على تحويل شركة عائلته لمزود إلى الجيش التركي وطائرته المسيرة تي بي 2. ودفعت هذه الطائرة التي تستطيع الطيران لـ 27 ساعة مجهزة بذخيرة موجهة بالليزر إلى جعل بيرقدار، وهو صهر أردوغان، بطلا وطنيا ووجه تركيا في مغامراتها العسكرية. وعلق أردوغان العام الماضي أن بلاده بدأت بإنتاج نسبة 20% من الطائرات بدون طيار وأصبحت تنتج الآن نسبة 70% من مكونات الطائرات هذه. وتهدف تركيا كما يقول للوصول إلى مرحلة “لن نحتاج فيها لأحد”. وكانت تعليقاته أو بعضها موجهة للولايات المتحدة التي هددت بمنع تركيا امتلاك مقاتلات أف-35 التي تشترك بتطويرها بعد شرائها نظام أس-400 من روسيا.

وفي الوقت الذي أصبحت فيه السياسة التركية أكثر استكشافا باتت الطائرات المسيرة تلعب دورا مهما فيها. فهي لا تحتاج لمصادر بشرية كثيرة ولا تؤدي إلى خسائر تركية بشكل يعبئ المعارضة السياسية الداخلية. وبعد أشهر من عملية إدلب نشرت تركيا طائراتها المسيرة في منطقة بعيدة في المنطقة الغربية من ليبيا. وتدخلت تركيا في الحرب الليبية إلى جانب الحكومة بطرابلس لمواجهة التأثير الإماراتي الداعم للجنرال المتمرد خليفة حفتر.

ويرى ولفرام لاتشر، الخبير بالشؤون الليبية بالمعهد الألماني للشؤون الأمنية والدولية، أن جزءا من تدخل تركيا كان منع دولة معادية لها من الحصول على قوة في الشرق الأوسط. وكان استخدام الطائرات المسيرة في ليبيا. ولم تقدم تركيا الدعم العسكري لحلفائها في طرابلس إلا بعد موافقتهم على معاهدة ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الطاقة في البحر المتوسط. ولم توفر تركيا أي جهد عسكري لدعم طرابلس، فنشرت الطائرات المسيرة لإرباك الجيش الوطني الليبي واستعانت بالمقاتلين السوريين. وجاءت اللحظة عندما شنت تركيا هجوما في أيار/مايو أسهم في سيطرة قوات الحكومة على قاعدة الوطية وأنهى حصارا استمر لعام أو يزيد للعاصمة طرابلس. ثم جاء التطور الجديد في ناغورو قرة باغ الذي أعطى دورا للطائرات التركية المسيرة.

واستخدمت الحكومة الأذرية طائرات بيرقردار تي بي2 وكاميكاز الإسرائيلية لضرب الدفاعات الأرمنية. وبحسب تقدير خسرت أرمينيا 200 دراعة و90 عربة مصفحة و182 قطعة مدفعية. وأعطت سيطرة أذربيجان على نسبة 40% من ناغورو قرة باغ انتصارا استراتيجيا لتركيا. إلا أن روسيا استفادت من النزاع بلعب دور صانع السلام، وبعد توقيع الاتفاق أحبطت موسكو محاولات تركيا إرسال قوات حفظ سلام. وفي مناطق أخرى كافحت تركيا لتحويل انتصارات المعركة إلى نجاح كما في إدلب حيث لم يتغير فيها الوضع، ذلك أن النظام السوري الذي تدعمه روسيا مصمم على استعادة المحافظة.

القدس العربي

————————-

=========================

تحديث 06 تشرين الثاني 2020

————————-

هل بدأ أردوغان ببيع الإخوان المسلمين ؟/ خورسيد دلى

بعد أن جعل من تركيا مقراً لهم، وفتح لهم المنابر الإعلامية، ومنح بعضهم الجنسية التركية، واستخدمهم أذرعاً ضد شعوبهم وبلدانهم، ودفعهم إلى ارتكاب الجرائم هنا وهناك باسم الدين، ثمة مؤشرات توحي بأن أردوغان بات يتخلى عن الإخوان المسلمين لإنقاذ نظامه، ولاسيما بعد الأنباء التي تحدثت عن اعتقال السلطات التركية مؤخراً لثلاثة وعشرين من قادة وأعضاء الإخوان المقيمين في تركيا، بحجة تواصلهم مع دول أخرى لتأمين ملاذات أمنة لعدد من قادة الإخوان دون علم السلطات التركية.

فهل بدأ أردوغان فعلاً يتخلى عن الإخوان المسلمين؟.

في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التوقف عند المعطيات التالية:

1- الحديث التركي المكثف قبل فترة عن لقاءات تركية – مصرية، والاستعداد لإقامة أفضل العلاقات مع مصر، بعد سنوات من معاداة أردوغان لحكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتأكيده بأنه لن يعترف بحكمه، ووصفه بالانقلابي والدموي عقب إسقاط حكم الرئيس الراحل محمد مرسي الذي كان واجهةً للإخوان المسلمين، وهو ما دفع بالقاهرة إلى تسريب العرض التركي للمصالحة، وقد تضمن العرض التخلي التركي عن دعم الإخوان المسلمين في مصر، وإغلاق قنواتهم التلفزيونية التي تبث من تركيا، وتسليم عدد من القادة المطلوبين للسلطات المصرية، مقابل المصالحة. وبغض النظر عن إخفاق المحادثات الأمنية التي جرت بين الجانبين، فإن العرض التركي يكشف عن مدى استعداد أردوغان لبيع الإخوان مقابل مصالحه.

2- رسائل الغزل التركية في الأيام الأخيرة للسعودية، والحديث عن استعداد تركيا لتجاوز قضية الصحفي جمال خاشقجي الذي قتل في قنصلية بلاده في إسطنبول، وإذا ما علمنا أن السعودية تصنف جماعة الإخوان المسلمين في لائحة المنظمات الإرهابية، فإن مثل هذا الأمر يكشف مدى استعداد أردوغان للمتاجرة بالإخوان على مذبح مصالح بلاده ونظامه، بعد التطورات والاصطفافات الإقليمية والدولية، ووسط ترقب لتسلّم جو بايدن لمهامه في سدة البيت الأبيض.

3- تسريب مصادر تركية عن أن السلطات التركية أوعزت لقيادات الإخوان المسلمين المقيمة في تركيا بالحد من ظهورها الإعلامي من تركيا، وعدم الهجوم على دول المنطقة وأنظمتها، وسط أنباء عن خلافات بين نظام أردوغان والتنظيم الدولي للإخوان للمسلمين بسبب الإجراءات التي بدأت السلطات التركية تفرضها عليها، وعدم منح بعضها الجنسية التركية بعد أن وعدتهم بذلك.

4- بروز دعوات قوية في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة وتحديداً في الكونغرس، لتنصيف جماعات الإخوان المسلمين في قائمة المنظمات الإرهابية، فضلا عن أن دولاً عربية مؤثرة مثل مصر والسعودية والإمارات والأردن صنفت هذه الجماعات في قوائم الإرهاب الخاصة بها، ومع قدوم إدارة أميركية جديدة برئاسة الديمقراطي جو بايدن، تبدو تركيا قلقة جداً من الاستمرار في تبني نهج الإسلام السياسي، ولاسيما أن هذا النهج اقترن بتفريخ العديد من المنظمات الإرهابية التي ارتكبت جرائم وانتهاكات، بدءاً من المناطق الكردية في سوريا، مروراً بليبيا، ووصولاً إلى عدد من الدول الأوروبية، ولاسيما فرنسا التي حمّلت نظام أردوغان مراراً مسؤولية ذلك.

في الواقع، لعل ما يدفع أردوغان إلى بيع الإخوان المسلمين، هو قناعته بفشل رهانه عليهم في تحقيق مشروعه الإقليمي، ولاسيما بعد أن نجح الشعب المصري في التخلص من حكم مرسي، وكذلك لقناعته بأن هذه الجماعات التي خسرت أوطانها استنفذت دورها الوظيفي، وباتت تشكل عبئاً على نظامه ومصالحه وعلاقاته مع الدول، وعليه لن يجد أردوغان حرجاً في بيعهم عندما يجد نفسه أمام صفقةٍ يعتقد أنها ستحقق مصالحه، فالرجل الذي تخلى عن رفاقه القدامى من المؤسسين لحزبه، لن يجد صعوبة أو حراجة في ذلك رغم كل الشعارات التي رفعها حول الأخوة الإسلامية، والدفاع عن المظلومين، وغيرها من الشعارات التي أراد أردوغان من خلالها اللعب على العواطف والمشاعر لتحقيق أوهام الزعامة الإسلامية.

أمام هذا الواقع، هل تدرك جماعات الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات التي ربطت مصيرها بنظام أردوغان، أن الأخير استخدمهم من أجل مشروعه الخاص وليس من أجل الشعارات الأخلاقية التي رفعها؟ وهل سيدرك هؤلاء أن حديث أردوغان عن الإسلام هو من أجل مشروع قومي تركي يقوم على الهيمنة وليس أكثر من ذلك؟ وهل سيدرك هؤلاء أن رهانهم على أردوغان يفتقر إلى أي منطق عقلي، أو فهم سياسي حقيقي، أو استراتيجية بعيدة المدى؟ هل سيدرك هؤلاء أن أردوغان الذي يرفع الشعارات الأخلاقية والدينية هو أكثر زعيم براغماتي إلى حد الانتهازية في سبيل مصالحه؟ في الواقع استغل أردوغان فضاء تيار الإسلام السياسي خير الاستغلال، إذ استخدام جماعات الإخوان المسلمين ضد بلدانهم وشعوبهم لصالح المشروع التركي، إلى درجة أن هؤلاء وبالاتفاق مع الأجهزة الأمنية التركية، هرّبوا مليارات الدولارت وأطنان الذهب من بنوك بلدنهم إلى تركيا كما هو الحال بالنسبة لليبيا، كما أنه استخدمهم لنشر الفوضى والإرهاب في مصر، كما جعل منهم أدوات للقتل وارتكاب أفظع الانتهاكات في المناطق الكردية في سوريا ولاسيما عفرين.

اليوم مع فشل المشروع الإقليمي التركي الذي كان يعتمد على إيصال جماعات الإخوان المسلمين إلى السلطة في بلدانهم، واستنفاذ الدور الوظيفي لهؤلاء، وتحولهم إلى عبئ على نظام أردوغان، توحي كل هذه المعطيات والمؤشرات، بأن مسألة بيعهم من أجل مصالحات مع دول استخدم أردوغان هذه الجماعات ضدها باتت مسألة وقت، وإنضاج ظروف إقليمية، وسياسات دولية.. رغم كل ذلك، فإن هذه الجماعات مازالت تراهن على أردوغان، وتقاتل في حروبه هنا وهناك كمرتزقة، دون أن تدرك أن أردوغان لم يكن يوماً حليفاً لأحد، وأنه استخدمهم بجدارة من أجل مشروعه القومي التركي

نورث برس

————————

معركة الفصل بين “قسد” و”العمال الكردستاني”… من يسرب وثائق العلاقة بالنظام السوري؟

قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية بأيام، توقفت مفاوضات الوحدة بين حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، الذراع السياسية لـ”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) وحليف واشنطن في محاربة تنظيم “داعش”، وبين المجلس الوطني الكردي المنضوي في الائتلاف السوري المعارض والمدعوم من أنقرة وإقليم كردستان – العراق.

وشكّل الخلاف حول العلاقة بين “قسد” و”حزب العمال الكردستاني” العقبة الرئيسية التي عرقلت طريق المفاوضات الثنائية بين القطبين الكرديين وجعلتها تتعثر في محطتها الأخيرة التي كانت مخصصة لمناقشة قضايا حساسة، من قبيل تقسيم كعكة الإدارة الذاتية ومناصبها، ودمج قوات البشمركة التابعة لـ”المجلس الوطني الكردي” ضمن صفوف “قوات سوريا الديموقراطية”، إضافة إلى مناقشة قضية مناهج التعليم وملف المعتقلين والمفقودين.

وتركزت مطالب “المجلس الوطني الكردي” على ضرورة الفصل بين “حزب الاتحاد الديموقراطي” وقوات “قسد” من جهة و”حزب العمال الكردستاني” من جهة ثانية، وأن تنسحب القيادات المحسوبة على جبال قنديل من مناطق الجزيرة السورية (شرق الفرات) وألا تتدخل في شؤون المنطقة إدارياً أو عسكرياً. لكن ممثلي “حزب الاتحاد الديموقراطي” في المفاوضات أبدوا رفضهم لهذه المطالب، واقترحوا أن يتم تضمين الاتفاق بنداً يشير إلى عدم تدخل أي طرف خارجي أو كردستاني في شؤون المنطقة من دون تسمية “حزب العمال الكردستاني”.

ولا يعبّر موقف ممثلي الحزب عن رغبة قيادته الحقيقية بقدر ما يعبر عن توازن القوى داخل “قسد” ومؤسساتها السياسية والأمنية لا سيما في ضوء الانقسام الحاصل فيه بين تيارين: الأول محسوب على الجنرال مظلوم عبدي ويُتهم بأنه يميل إلى وضع بيضه في السلة الأميركية، والثاني محسوب على قيادات قنديل وأبرزها جميل باييك، القائد الفعلي لـ”حزب العمال الكردستاني”، ويتهم بالتنسيق مع النظامين السوري والإيراني.

وقد خرجت الخلافات بين التيارين، مؤخراً، إلى العلن عندما أعلن جميل باييك في تصريحات تلفزيونية رفضه لتوقيع الاتفاق النفطي بين “قسد” وشركة أميركية لإدارة حقول النفط في منطقة شرق الفرات وتحسينها. وجاء ذلك بعد تسريب معلومات، الشهر الماضي، حول قدوم باييك إلى القامشلي من أجل إدارة الصراع مع تيار مظلوم عبدي، وفي حينه اعتبر الكاتب الكردي السوري هوشنك أوسي في حديث الى “النهار العربي” أن خطوة باييك تعني أن قيادة قنديل تخطط لحسم الخلاف نهائياً، ملمحاً إلى إمكانية استخدام الوسائل الأمنية في هذا الحسم.

لعلّ هذه الأجواء هي ما تفسر ما يحصل حالياً من تسريب وثائق تثبت وجود علاقة تنسيق وتعاون بين أجهزة أمنية سورية وجناح “حزب العمال الكردستاني” ضمن “قوات سوريا الديموقراطية”.

وفي هذا السياق، جرى صباح اليوم، تسريب ثلاث وثائق تتضمن معلومات وتفاصيل عن طبيعة التعاون الذي كان قائماً بين بعض الأجهزة الأمنية السورية، مثل إدارة المخابرات العامة وإدارة المخابرات الجوية، و”حزب العمال الكردستاني”.

وفي الوثيقة الأولى المؤرخة بتاريخ 8/3/2012 وموجهة من رئيس فرع المخابرات العسكرية في الحسكة المعروف بالفرع الرقم 222 إلى مفرزة الرميلان والمالكية وسيمالكا واليعربية تتضمن تعليمات بالعمل على إدخال مجموعة من 150 مسلحاً من “العمال الكردستاني” قادمين من معسكر قنديل وإدخالهم إلى فرع الأمن العسكري لإخضاعهم إلى دورات تدريبية، وذلك بالاتفاق مع قيادة “العمال الكردستاني”.

وتحدثت الوثيقة الثانية التي يعود تاريخها إلى الشهر الثامن من 2012 عن طلب رئيس إدارة المخابرات العامة في دمشق من فرعه في القامشلي المعروف بالفرع 330 بالعمل والتنسيق مع قيادة الجناح المسلح في “حزب الاتحاد الديموقراطي” في منطقة عملكم وذلك من خلال تشكيل مجموعة مسلحة من أربعة اشخاص من ذوي الخبرة القتالية واللياقة البدنية الجيدة وتكون مهمتها تصفية أشخاص بارزين من الأحزاب الكردية الذين لهم تأثير قوي في الشارع الكردي.

أما الوثيقة الثالثة المسرَّبة، وقد تكون أخطر هذه الوثائق وأكثرها دلالة على الهدف الذي تسعى إليه الجهة المسرِّبة، فإنها موجهة من قائد الفرع 222 فرع الأمن العسكري في الحسكة بالاستناد إلى كتاب الفرع 293 الرقم 6449 تاريخ 9/4/2016 إلى جهات حزبية وشرطية، تطلب فيه بناء على الاتفاق مع قيادة “حزب العمال الكردستاني” إثارة مشكلات وخلافات مع قيادات وعناصر “قوات سوريا الديموقراطية” الموالية للجهات الغربية ومنها أميركا وألمانيا وفرنسا وذلك بغية الوصول إلى إعادة انتشار لقوات “حزب العمال الكردستاني” الموالي للجمهورية العربية السورية وطرد “قسد” من مناطق عمليات الجيش العربي السوري، بحسب ما جاء في الوثيقة.

وأكد نشطاء يعملون في منطقة شرق الفرات أن قيادات في “قسد” هي من قامت بتسريب هذه الوثائق، في حين أشار بعضهم الآخر إلى أن أجهزة الأمن السورية قد تكون صاحبة مصلحة في تسريبها.

وقد تكون خطوة التسريب بمثابة انذار موجه من تيار مظلوم عبدي إلى تيار جميل باييك بضرورة التوقف عن عرقلة مفاوضات الوحدة بين القطبين الكرديين، ووجوب الرضوخ لبعض مطالب الطرف الآخر، خصوصاً تلك التي تلقى قبولاً من واشنطن، وبالتالي تقديم تنازلات تكون مقبولة ومن شأنها فتح الطريق أمام وصول المفاوضات إلى محطتها النهائية.

وقد يكون التلويح بفضح تفاصيل العلاقة بين الأجهزة الأمنية السورية وجناح “حزب العمال الكردستاني” هو مجرد مؤشر على ما يمكن أن يكون بحوزة قيادات “قسد” الموالية لعبدي من معلومات وخفايا حول علاقات الجناح الكردستاني مع دمشق وطهران.

في حين يذهب رأي آخر، إلى أن تسريب الوثائق جاء بأمر مباشر من أجهزة الأمن السورية التي باتت تخشى من رضوخ قيادات “حزب العمال الكردستاني” للضغوط التي يتعرض لها من أجل فك ارتباطه مع قوات “قسد” والانسحاب من المنطقة، ما سيشكل في حال حصوله خسارة هذه الأجهزة لذراعها داخل القوات المدعومة أميركياً، وبالتالي خسارة قدرتها على التأثير في قراراتها وتوجهاتها.

ويرى هؤلاء أن تسريب وثائق تثبت علاقة التنسيق والتعاون بين أجهزة الأمن السورية وبين “حزب العمال الكردستاني”، لا سيما الوثيقة الثالثة التي تتحدث عن إعادة انتشار مسلحي “العمال الكردستاني” في مناطق عمليات الجيش السوري، قد تكون الغاية منها إحراج كلا التيارين ضمن قوات “قسد” ومنع حصول اي تقارب بينهما وبالتالي إصرار كل طرف على موقفه من مفاوضات التوحد وشروطه ومطالبه. ولا يخفى أن فشل هذه المفاوضات سيصب في نهاية المطاف في مصلحة دمشق لأنه سيعطي مؤشراً واضحاً على عدم وجود بديل قادر على حكم المنطقة والمحافظة على استقرارها.

النهار العربي

——————————-

أردوغان.. رجل تركيا المريض/ مالك العثامنة

 – الجزء الأول

مع كل أحداث نوفمبر الذي نعيشه، تحمل الأخبار أيضا تغيرا في خطاب رجب طيب أردوغان، تغير جديد في سياق تقلبات رئيس الجمهورية التركية الأكثر جدلا وتقلبا في المواقف.

الأخبار تحمل لهجة ناعمة ورسائل تودد في خطابات أردوغان ورسائله نحو واشنطن، وأوروبا والسعودية كذلك !!

هذا تصرف براغماتي طبيعي أمام احتدام الصراع مع روسيا، لكن غير الطبيعي والمتطرف هو أن الصراع مع روسيا أيضا كان صناعة أردوغان نفسه بمواقف متقلبة حين توغل في مجال روسيا الحيوي وعبث أكثر من اللازم في جغرافيا الشرق لإقامة مشروع طوران العظيم، وهو ما يفسر حينها تغير الموقف التركي القديم والساعي بجهد لتكون تركيا جزءا من الاتحاد الأوروبي، فأدار رأس الدولة التركية ظهره ( وصار العالم كله يعرف تفاصيل ظهر الرجل كما من كانوا حلفاءه في الداخل التركي أكثر من وجهه)، لمطلب تركيا القديم مع أوروبا، فخسر كل فرص العضوية فعليا، وكانت مغامراته الممتلئة بالترميزات العثمانية في شرق المتوسط أخيرا لعبة سيئة الأداء قد يخسر فيها باسم تركيا ما قد يكون فعلا حقوقا بحرية عادلة لأنقرة.

هذه مقدمة فيها اتهامات لرجل سياسة دولي معروف هو نفسه باتهاماته التي يوجهها بكل الاتجاهات حوله، لكن فلنبدأ من أول السطر ونوضح أولا، ما هو مشروع طوران العظيم، وكيف أفسد أردوغان مسيرة مفاوضات شاقة ومضنية ولعقود طويلة لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، كما يجب أن نوضح “التعنت” الأوروبي غير المعقول الذي خلق الاستبداد الأردوغاني نفسه، تماما مثلما خلق الأوروبيون ذات تعنت وسوء تقدير لمواقف هتلر في ألمانيا.

مشروع طوران العظيم

وهو آخر مغامرات أردوغان في تبديل المواقف بشكل جوهري، والرهانات الحادة المتطرفة التي يدمن تغييرها أثناء السباق نفسه.

ومشروع طوران العظيم، فكرة عصبوية فاشية تؤمن بسيادة الطورانيين وتدعو إلى هيمنة العنصر الطوراني، وقد ظهرت في مرحلة متأخرة جدا من الدولة العثمانية، وكانت فكرة شوفينية مستبدة في مواجهة فكرة الخلافة الإسلامية “المستبدة أيضا”.

في الدولة التركية الحديثة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك ( والذي لم يخل عهده من الاستبداد على كل ما أسسه في الدولة)، قام سياسي وضابط عسكري تدرب في ألمانيا النازية على يد ضباط نازيين بحمل لواء الفكرة الطورانية، واسمه أرسلان توركيش. وأسس حزب الحركة القومية التركية، وهو حزب يؤمن بإمبراطورية “تركية” تمتد من إسطنبول حتى حدود روسيا والصين وبلاد فارس وتتوغل في الدول العربية.

الحزب منذ نشأته لا يخفي عداءه وكراهيته في كل أدبياته للأكراد وتعصبه الشديد ضد الروس والأرمن والعرب.

ورث دولت بهتشلي زعامة الحزب عن  توركيش، وهو لا يقل تعصبا عن سلفه بل وله طريقة في الخطاب تحمل عنصرية واضحة ضد العرب كما يخاطب أوروبا على أنها “صليبية” ويصف أمريكا بالإمبريالية الشيطانية (يذكرنا هذا بخطاب الملالي الإيراني)، واستطاع بهتشلي وهو سياسي بامتياز أن يصل بالحزب إلى جماهيرية واسعة حتى صار من الأحزاب القوية في تركيا وحليف حزب العدالة والتنمية في السلطة حاليا.

حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي تم تأسيسه مطلع الألفية الحالية على يد عبدالله غل وأحمد داود أوغلو ورجب طيب أردوغان بدأ منتهجا توجها سياسيا نحو دولة تركية ديمقراطية علمانية بطابعها وثقافتها الإسلامية، مع توجه في السياسة الخارجية عنوانه “صفر مشاكل”! وذلك للنهوض بالاقتصاد التركي الذي كان قد بدأ يتلمس استحقاقات نجاح سياسات الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، صانع كل نجاحات الاقتصاد التركي الحالية.

انفراد أردوغان المستمر بالسلطة، ونزعته الاستبدادية المركبة في شخصيته، أثرت على مسيرة الحزب والدولة بالضرورة، مما دفع في النهاية كلا من عبدالله غل وأحمد داود أوغلو إلى الانشقاق التراجيدي عن العدالة والتنمية وأسس كل منهما حزبا جديدا بذات الأفكار التي حملاها مع تأسيس العدالة والتنمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن داود أوغلو كان فعليا وعمليا منظر كل أفكار العدالة والتنمية.

في انتخابات الرئاسة التركية الأخيرة، وتحرك أردوغان لتغيير الدستور نحو نظام رئاسي يجمع السلطات والنفوذ بين يديه وحده، كان حلفاؤه التقليديون قد انفضوا من حوله، فاتجه عمدة إسطنبول السابق وتلميذ فتح الله غولن الذي ناصبه العداء الدموي الشرس بعد ذلك، نحو حزب الحركة القومية التركية بتحالف سياسي استفاد منه الطرفان، وكان حزب الحركة القومية التركية أصلا قد حقق حضورا قويا في المشهد السياسي التركي منذ عام ١٩٩٩ حيث بلغت نسبة الأصوات التي حصل عليها 18٪.

وفي عام ٢٠١٨ ومع التحالف الجديد والنوعي والمفاجئ مع العدالة والتنمية بنسخته الأردوغانية الجديدة، كان الاتفاق بين بهتشلي وأردوغان مفاده أن يدعم بهتشلي بكل قواه السياسية ونفوذه الحزبي ترشيح أردوغان لرئاسة الجمهورية، مقابل أن يعمل أردوغان كرأس للدولة التركية على مشروع حزب الحركة القومية بجعل تركيا مركزا للمشروع الطوراني القائم أساسا منذ عام ٢٠٠٩ عبر تأسيس مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية أو ما يسمى اختصارا (المجلس التركي)، والذي ضم عند تأسيسه تركيا وأذربيجان وكازخستان وقيرغزستان وأوزبكستان كما انضمت إليه مؤخرا تركمانستان، وهو منظمة دولية تقع أمانته العامة في إسطنبول، طبعا مع تبني فكرة الحزب الأساسية بأن تكون تركيا دولة مركزية في آسيا وجزءا منها لا جزءا من أوروبا كما كانت طموحات مؤسس تركيا أتاتورك، وسعي كل من أتوا بعده من رؤساء حتى أردوغان.

الأخطر في مفاهيم وأدبيات المشروع الطوراني ليس في الحزب الذي تقيده القوانين والتشريعات في الدولة التركية، لكن في منظمات متطرفة تتبع الفكرة وليست مرتبطة بالحزب رسميا لكنها تلقى الرعاية منه ومن سلطة إردوغان مثل منظمة غير حكومية مسجلة رسميا في تركيا اسمها باختصار ووضوح “طوران”، لكن شعارها الذي يصرح به رئيسها ومؤسسها وهو طوراني متعصب جدا اسمه درويش رجب فار يتلخص بجملة طويلة ومكثفة ومرعبة: “سيادة طورانية تمتد من هضاب ماشار إلى السهول المجرية ومن سهول سبيريا إلى الصحارى العربية”.

في السياسة الخارجية، فعليا انتهجت أنقرة في بدايات عهد “العدالة والتنمية” سياسة “صفر مشاكل” التي وضع أسسها أحمد داود أوغلو وعبدالله غل، لكن مع استفراد أردوغان بالسلطة وانفضاض حلفائه المحترفين في السياسة عنه، أصبحت تركيا مع أردوغان مشكلة الجميع في الإقليم، وفي العالم، ورافق ذلك بالضرورة لتأثر الاقتصاد دوما بالسياسة، هزات مزلزلة في العملة التركية التي وصلت في نوفمبر الحالي إلى سعر ( 8,54) أمام الدولار مع ارتفاع منسوب الفساد الذي صار حديث الشارع وانتهى باستقالة ضاجة بالشبهات لوزير المالية وهو صهر أردوغان نفسه المتهم بالتلاعب المصرفي، مع انخفاض واضح في جودة المؤسسات التركية التي أسس لها تورغوت أوزال الراحل ببنية مؤسساتية قوية بعد فتح السوق أمام التجارة الحرة.

أحمد داوود أوغلو نفسه، لم يعد قادرا على الصمت وهو أقرب من عرفوا أردوغان وكان مستشاره ووزير خارجيته ورئيس وزرائه حيث صرح مؤخرا بعد استقالة بيرات البيرق صهر أردوغان ووزير المال، أن تركيا مع أردوغان بصدد العودة إلى نظام القبيلة. وأكد داود أوغلو على ضرورة احترام المؤسسات والعودة إلى النظام البرلماني للوقاية من سطوة الرئيس المتسعة باستمرار.

طبعا، أردوغان الذي لا يزال يحاول توسعة فقاعته الشعبية التي يعيش في داخلها إلى أوسع حجم ممكن، لا يزال يعتاش على غوغائية من يصدقون بمزرعة الوهم التي يزرعها باستعراضات درامية متنوعة ربما كان أكثرها تجليا في الذاكرة ما قام به في منتدى دافوس عام ٢٠٠٩، عندما أخذ الميكرفون من مدير الندوة وبدأ بتقريع عبثي وشديد اللهجة لشمعون بيرس “الرئيس الإسرائيلي الراحل”، ثم أنب بقوة منتدى دافوس وخرج من القاعة في الدقائق الأخيرة أصلا من الجلسة.

كنت أنا شخصيا – ولا أخفي ذلك- ممن أخذهم الإعجاب بجرأة الرجل، وهي لحظة عاطفية انتهت مع نضج الوعي عبر السنوات، لننتهي بحسم مثير للدهشة في أغسطس الماضي حين صرح أحمد داود أوغلو نفسه وهو ممن كانوا مع أردوغان في حادثة “الدقيقة الواحدة” تلك، أردوغان “لم يقل الحقيقة وكلانا يعرف ما جرى تلك الليلة في دافوس بعد اختفاء الأضواء، هو يعلم أني قمت شخصيا بدبلوماسية الباب الخلفي من أجل الاعتذار من شمعون بيريس بصفتي كبير مستشاري أردوغان وقتها وهذا الاعتذار تم من هاتفي الشخصي”.

إذن نحن أمام رجل مولع بالاستعراضات، والانقلاب الدرامي بالمواقف السياسية وتغيير الرهانات حتى والخيول لاتزال تركض في منتصف الحلبة.

من يرون في الرجل “خليفة الإسلام المنتظر” عليهم أن يطلبوا منه توضيحا حول تحالفه العضوي مع حركة شوفينية ترى في العرب كائنات أقل شأنا من ناحية العرق، ومن يرى فيه أملا للأمة وقصة نجاح عليه أن يدقق جيدا في تصريحات الرجل الأخيرة بعد لعبة البوارج البحرية في شرق المتوسط، وهو يرسل إشارات إلى أوروبا من جديد ليؤكد أن تركيا جزء من أوروبا، ويهاتف الملك السعودي قبل أيام، في خطوة تودد موجهة لواشنطن وقد تغير فيها ساكن البيت الأبيض والساكن القادم الجديد ألمح إلى سياسة أكثر حزما مع أنقرة ( وهذا يشي بانقلاب أردوغاني وشيك على حلفائه القوميين في أنقرة).

وفي مقالنا القادم، الجزء التالي من هذا المقال، سنوضح ونتوسع بقضية تركيا والاتحاد الأوروبي، تلك العلاقة الشائكة والمعقدة منذ عقود، وكيف أفسد أردوغان نفسه كل فرصة ممكنة لتركيا كي تصبح عضوا أو شريكا موثوقا لأوروبا، وكيف أيضا – وللإنصاف- تواطأت أوروبا عبر سوء التقدير في خلق حالة عداء “شعبوي” تركي ضدها وقام أردوغان بتوظيفه في سلسلة مغامراته ومقامراته المستمرة.

——————————–

أردوغان.. رجل تركيا المريض – الجزء الثاني

وقعت تركيا “دولة أتاتورك وما بعده” ضحية تاريخها العثماني رغم كل مقارباتها نحو الغرب “الأوروبي تحديدا”، وكذلك وبالمحصلة وبسوء التقدير وسوء النوايا أحيانا، كانت تركيا في تلك المقاربات أيضا ضحية تقلب المزاج السياسي “الأوروبي” وغطرسة بعض دوله المؤثرة.

واليوم، يمكن القول أن تركيا هي بين فكي كماشة لا ترحم، أحد طرفيها أوروبا بذات مزاجيتها السياسية، وكماشة الحكم الأردوغاني الذي يؤرجح الدولة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب في لعبة مصالح لا لتركيا “الدولة” بل لتحقيق مصالح رجب طيب أردوغان المتعددة والكثيرة والمتعلقة بالسلطة والسلطة فقط.

ويمكن التثبت من خلاصة الرؤية الأوروبية بتعطل فكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بعضوية كاملة وقد رسخت سياسات “الحكم الأردوغاني” مخاوف أوروبا التي كان يمكن تبديدها منذ عام ٢٠٠٥ لو انتهج الحكم التركي سياسة دولة تسعى فعلا لأن تكون دولة مؤسسات ديمقراطية بلا سلطة عسكرية مقلقة، ولا ديماغوجيا تستند على أسوأ ما عاشته تركيا في تاريخها: الحكم العثماني.

أوروبا ساهمت بصناعة الاستبداد الحديث وقد ارتدى ربطة عنق وبذلة أنيقة في أنقرة، والذي تشكل بفعل عوامل الطرد المركزي الذي مارسه الاتحاد الأوروبي منذ كان “جماعة أوروبية” معنية بالحديد والصلب، حتى اكتملت فكرته كوحدة إقتصادية وسياسية هي الأكبر في التاريخ الحديث.

كان خطأ أوروبا الفادح في مجمل علاقاتها مع تركيا أنها ظلت ترى “الباب العالي” في إسطنبول، منكرة واقع تركيا الجديد كدولة حديثة تسعى لترسيخ “علمانيتها وديمقراطيتها” عبر الانزياح القاري الصعب نحو الغرب.

المعادلة في الطرف التركي كانت بسيطة ومعقدة بنفس الوقت: الاقتراب من أوروبا يعني تفكيك سلطة العسكر بالضرورة ومع الوقت، وهذا يعني أيضا ذوبانا أكثر في دمقرطة المؤسسات والدولة.

الحجج التركية كانت أيضا متوفرة لدعم “أوربة” الأناضول: فمساحة ٣٪ من تركيا هي في طرف أوروبا الشرقي، وقد اعتبر الأتراك ( من خلال عيون أتاتورك ورؤيته) أن باقي المساحة الممتدة شرقا بعد ذلك ليست إلا امتداد طبيعيا لأوروبا.

واقتصاديا فإن تركيا ترى في نفسها جزءا حيويا من نظام السوق الأوروبي، في صادراته ووارداته وكذلك في استيعاب عمالته الوافرة والمؤهلة، والأهم استقطاب رأس المال الأوروبي للاستثمار.

وكانت الحرب الباردة سببا إضافيا جعل أنقرة ترى في أوروبا ملجأها الأمني الطبيعي، فاندمجت في حلف شمال الأطلسي بسهولة وفعالية، وكان الانضمام للاتحاد الأوروبي أمنية تركية أهم من عضوية الناتو بكثير.

تاريخيا، كان أول طلب رسمي تقدمت به تركيا الانضمام إلى “الجماعة الأوروبية” في نيسان عام ١٩٨٧، وبعد كثير من المد والجزر والتردد الأوروبي المستمر، وقعت أنقرة مع المنظومة الأوروبية الناشئة اتفاقية اتحاد جمركي (وفوائدها لا تزال منهمرة بوفرة على تركيا)، ويستمر الشد والجذب في التصريحات بين الطرفين حتى قمة هلسنكي عام ١٩٩٩، حيث قررت أوروبا ان تعطي املا كبيرا جدا لأنقرة فاعترفت بتركيا مرشحا رسميا للعضوية الكاملة فبدأت بذلك مفاوضات، بل ووضعت عام ٢٠٠٥ علامة نهائية للانضمام المتوقع.

ومنذ عام ٢٠٠٥، دخلت تلك المفاوضات مرحلة اليأس، وفي الأعوام الخمس الأخيرة ترسخت القناعة “أوروبيا” أن تركيا حتى بعد غياب سلطة العسكرتاريا التاريخية ليست مؤهلة الانضمام، فما هو أخطر من سلطة العسكرتاريا المناقضة لدولة المؤسسات الديمقراطية هو سلطة أردوغان الاستبدادية التي تلوح بعمامة الخليفة واستحضار العثمانيين مع إشعال النزاعات سواء بقضية اللاجئين، أو الاصطفافات الإقليمية ومؤخرا في المواجهة المباشرة في شرق المتوسط، وهي مواجهة كشفت عبثية الحكم الأردوغاني ومغامراته في علاقاته، وكشفت كذلك تاريخا مطويا من الظلم والتجني الأوروبي على الحقوق التركية منذ معاهدة سيفر، والرؤية الأوروبية القاصرة التي ظلت ترى في تركيا “خطرا عثمانيا” وجاء أردوغان ليرسخ الرؤية على سذاجتها.

كما انه من السذاجة كذلك الاعتقاد والتوهم بأن الإخوان المسلمين هم من يحكم تركيا، فسلطة أردوغان هي مزيج “سمي وقاتل” من قومية طورانية تتوسع بشرعية الباب العالي المقدسة، ويرى أردوغان تحقيقها من خلاله شخصيا عبر تحالفات لا تستقر وخاضعة لمزاجيته ومزاجيته فقط.

لم تكن السياسة الأوروبية “واحدة وموحدة” تجاه أنقرة، كما انها لم تكن ثابتة حد الاطمئنان، ومن أمثلة ذلك الانقلاب الفرنسي نحو أنقرة، فكان جاك شيراك بحكمته ( العميقة كرجل دولة ديغولي التأسيس) يرى في تركيا حليفا مهما لأوروبا وحائط دفاعها الشرقي مما يستدعي ضرورة التقارب للوصول إلى صيغة التحالف الأكثر مثالية. لكن في عهد ساركوزي “وهو المغامر سياسيا بكل الطيش الممكن” تنقلب السياسة إلى رفض كامل لتركيا، ووضعها موضع الشبهة الدائمة وفي خانة الخصوم.

ألمانيا، القطب الآخر في الاتحاد الأوروبي، كانت أكثر اعتدالا وتوازنا في العلاقات مع تركيا، ولأسباب عديدة ليس أقلها وجود الأقلية التركية بكثافة في الجغرافيا الألمانية، وخلو التاريخ المشترك بين الطرفين من مصادمات ومواجهات عسكرية أو احتلال جغرافي.

لكن أوروبا “بمنظومتها السياسية” أو بعقلها الأكثر عمقا تعاملت مع تركيا بمنطق معاهدة “سيفر” (١٩٢٠)، وغيرها من اتفاقيات ومعاهدات كانت أشبه بعقوبات دولية على تركيا العثمانية، وبأثر رجعي على كل تاريخ العثمانيين، انتهت إلى مواجهة أشبه باستحقاق تاريخي متوقع، في شرق المتوسط، لتجد أن الأزمات التي لم يعمل أحد على حلها في قضايا الحدود البحرية، وبقيت معلقة على ذمة معاهدات قديمة وظالمة، هي قنابل موقوتة وقعت في الأيادي “الخطأ” في أنقرة.

أردوغان، الرجل المنتشي بسلطته والمستمتع بلعبة التأرجح العبثي بين تحالفات لا تجد مستقرا لها في عهدته، لديه رؤية “غشيمة” بأن تلك المعاهدات يكفيها  وعود “شعبوية” بتمزيقها، وكان الأجدى بأنقرة ان تشق طريقا سياسيا للحوار حولها، وفتح ملفاتها دوليا وإقليميا بدبلوماسية كان أحمد داود أوغلو مثلا، قد بدأ بشقها على وعورة “العقل السياسي الأوروبي”.

إن تتبعا بسيطا لتحركات أردوغان الإقليمية تكشف أنه يمارس عملية تمزيق للمعاهدات السابقة عبر تحركاته، فالاتفاق مع حكومة الوفاق في ليبيا، والذي أثار حنق أوروبا، ليس أكثر من رد فعل بأثر رجعي متأخر جدا على أتفاقية أوشي (١٩١٢)، والتي تم توقيعها بين إيطاليا والدولة العثمانية في قلعة اوسي بلوزان، حيث انسحب العثمانيون من ليبيا، مقابل انسحاب إيطاليا من جزر بحر إيجة التي احتلتها، لكن إيطاليا لم تفعل، بل واحتلت ليبيا نفسها بعد ذلك.

يمكن لنا قياسا ان نتتبع كل المعاهدات التي وقعتها تركيا “العثمانية أو الأتاتوركية” ونطابقها مع سياسات أردوغان لنكتشف “سياسة التمزيق” لا دبلوماسية الحوار التي ينتهجها سيد “الباب العالي” الجديد، ليس بدءا من معاهدة أثينا مرورا بسيفر المهينة والمذلة فعلا، أو لوزان (١٩٢٣) ثم اتفاقية أنقرة والتي يحاول أردوغان بتمزيقها على طريقته أن يحتل الموصل كأرض تركية، أو اتفاقية مونترو (١٩٣٦)  والتي يحاول فيها الرئيس التركي إعادة السيطرة على المضائق والسيطرة على البحر الأسود، ثم معاهدة باريس (١٩٤٧) والتي أخضعت جزرا كثيرة في المجال الحيوي التركي لسيطرة دول المحور وتريد تركيا استعادتها.

كل ذلك، كان يمكن حله سابقا لو قبلت أوروبا بمفاوضات أو بادرت هي بالتفاوض مع تركيا في قضايا ترسيم الحدود البحرية ومعاهدات بحرية منصفة بدلا من التلويح بوثيقة غير رسمية امام أنقرة مثل “خريطة أشبيلية” وهي خريطة غير رسمية وضعها عام  ٢٠٠٠ أستاذ جغرافيا بحرية إسباني في جامعة أشبيلية واعتبرت (هكذا ببساطة) ان كافة الجزر في بحري إيجة والمتوسط ومهما كان قربها من اليابسة التركية جزرا يونانية لأنها تتمتع بجرف قاري يوناني (!!).

أوروبا لم تتبن الخريطة رسميا، لكنها ظلت على الدوام تدعم اليونان التي اعتمدت تلك الخريطة “الغريبة” رسميا كسند قانوني لمطالبها، مما يعني مثلا وليس حصرا – حسب الخريطة- ان جزيرة “ميس” التي تبعد عن أنطاليا التركية ٢ كم فقط، وتبعد عن أقرب نقطة يونانية يابسة مسافة ٥٨٠ كم، هي أرض يونانية لأن الخريطة منحت اليونان جرفا قاريا بمساحة أربعين ألف كيلومتر مربع. وعليه تصبح تركيا عاجزة عن المطالبة بأي ثروة طبيعية على مرمى شباك صيد من سواحلها.

السياسة الأكثر حصافة في التعامل مع أنقرة كانت في ألمانيا، التي حاولت ولا تزال تحاول أن تلجم مراهق الأليزيه النزق ماكرون، والذي يبحث في تصعيد أزمته مع تركيا عن مخرج آمن لأزماته الداخلية.

ألمانيا وعبر ميركل وإدارتها الأكثر خبرة تاريخيا في التعامل مع الأتراك (هناك طواقم مستشارين من أصول تركية بل وعربية يقدمون الرأي على الدوام)، استطاعت أن تميز بين الخصومة مع أردوغان وطموحاته العبثية، والحفاظ على مصالح الأتراك عبر التواصل مع الأحزاب الأخرى والمعارضة لأردوغان والمستعدة لسياسات أكثر عقلانية.

ألمانيا، أدركت أن أردوغان ليس تركيا، ولو أنها تعاملت معه على أساس أنه “كل تركيا” أو أتاتوركها الجديد، فإنها تقدم له خدمة بترسيخ مفهوم يسعى هو شخصيا إلى ترسيخه.

على أوروبا باتحادها ومنظومتها السياسية أن توحد دبلوماسيتها تجاه أنقرة ضمن سياسة حازمة لكن بلا ظلم، سياسة تحمل القيم الأوروبية التي شكلت منظومتها السياسية أساسا، لا قيم فترة الحرب العالمية الأولى الاستعمارية.

عليها ان تتعامل مع أردوغان بحزم يتناسب فعلا مع مغامراته العبثية التي تضر بتركيا قبل غيرها، ومع تركيا “الدولة” بتعامل الحليف والشريك المميز والمؤهل لأن يكون عضوا..ربما ذات يوم.

واستطرادا..

بعد قراءات كثيرة استغرقتني واستغرقت فيها عن تركيا وتاريخ مع جغرافيا الأناضول، كنت استذكر دوما قصيدة للشاعر الروسي بوشكين، يتحدث فيها عن روسيا، لكن وجدت قصيدته مناسبة تماما لتركيا، فاستبدلت كلمة روسيا بتركيا من قصيدة بوشكين والتي صارت تقول:

نعم..

تركيا هي الشرق الأقرب للغرب

نعم..

تركيا هي الغرب الأقرب للشرق.

وذلك لغزها الغامض..

غموض ليس فيه أي أسرار.

———————————

تركيا – أوروبا: “إلا أنت”!/ سمير صالحة

ما هذا العشق الذي مضى عليه 6 عقود كاملة دون نتيجة. غرام الأجداد انتقل إلى الأبناء واستمر مع الأحفاد ولكنه لا يصل إلى بوابة القفص الذهبي. تركيا والاتحاد الأوروبي حكاية غرام نحو العضوية بدأت عندما كانت المجموعة تضم 6 دول فقط. اليوم هي تستمر مع 27 دولة تحتاج أنقرة إلى موافقتها بالإجماع لتحقيق الحلم. كيف ستنجح في ذلك واليونان والقبارصة اليونانيون وهولندا وفرنسا يقودون اليوم حملات الرفض والمواجهة والتلويح الدائم بحق النقض؟

هل المواجهة التركية ـ الأوروبية هي حقيقية هذه المرة وهل ستصل في القمة الأوروبية المرتقبة بعد أيام إلى القطيعة التي تطيح بحلم العضوية التركية في الاتحاد، أم انه غرام القضاء والقدر على طريقة “الحب عليك هو المكتوب” حتى ولو لم يصل الطرفان إلى النهاية السعيدة؟

القيادات السياسية التركية تطرح بين الحين والآخر فتح صفحة جديدة من العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وتقول إنها متمسكة بتحقيق هدفها الاستراتيجي المتمثل في الحصول على بطاقة العضوية الكاملة بدلا مما يطرح عليها من “شراكة بامتياز”. المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن يكرر قبل أسبوعين مثلا، وخلال اجتماعه مع مسؤولي الاتحاد في بروكسل لبحث ملفات الخلاف الإقليمية المتراكمة والمتزايدة يوما بعد آخر مثل تطورات شرق المتوسط وليبيا وسوريا وإقليم قره باغ، أن بلاده ترى أن عضويتها في الاتحاد الأوروبي تعد أولوية استراتيجية وتحتاج إلى دفعة ديناميكية. لكن كل المؤشرات تذهب باتجاه آخر نحو الانفجار.

إلى جانب الرسائل السياسية العلنية والمباشرة التي توجهها القيادات الأوروبية إلى أنقرة باستحالة قبول عضويتها والتي تفوق العشرات وكان الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الأكثر صراحة في إعلانها “التطورات الأخيرة في تركيا لم تسمح بأي تقدم في عملية انضمامها للاتحاد الأوروبي”، هناك في الآونة الأخيرة المواقف التي تتحدث عن اقتراب لحظة التصادم بعدما كان الحديث عن نهاية الحلم، وأنه لن يكون سهلاً بعد الآن إخفاء حقائق الاصطفافات والمترسة الاستراتيجية المتقابلة. سيناريو فرض عقوبات جديدة على أنقرة في القمة الأوروبية المرتقبة بعد أيام يتقدم على غيره من الخيارات بفارق أن أسباب خطوة من هذا النوع كانت مرتبطة أكثر بملفات الداخل التركي التي تنتقدها بروكسل منذ عقود لكنها هذه المرة موجهة نحو سياسة تركيا الإقليمية التي تتعارض مع مواقف ومصالح أوروبا.

اتجهت الدول الأوروبية في الفترة الأخيرة إلى ممارسة ضغوط أقوى على تركيا، عبر تصويت أعضاء البرلمان الأوروبي، في 26 الشهر المنصرم، على مشروع قرار فرض عقوبات بالأغلبية المطلقة ضد تركيا في القمة الأوروبية التي ستعقد في العاشر من الشهر الحالي. السبب هذه المرة هو الرد “على محاولات تركيا فرض أمر واقع في قبرص ومياهها الإقليمية، فضلاً عن تحركاتها في منطقة شرق البحر المتوسط وخلافاتها التي تتسع تدريجياً مع اليونان”.

هناك مؤشر آخر حول تصاعد الأزمة وهو مضمون قرار مجلس الشيوخ الفرنسي والذي تبعه توصية البرلمان هذه المرة، على قرار غير ملزم يحث الحكومة على الاعتراف بإقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان كجمهورية مستقلة. السبب هو “أن سياسة تركيا التوسعية هى العامل الرئيسي لزعزعة الاستقرار في شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط والآن في جنوب القوقاز، وتشكل تهديداً لأمن فرنسا وأوروبا ككل”.

قبل ذلك بأسبوعين أيضا كان هناك مواجهة “إيريني” بعدما اقتحمت فرقاطة ألمانية سفينة شحن ترفع العلم التركي في المتوسط، وتم تفتيشها بعد تشككها في قيامها بنقل أسلحة إلى ليبيا. المناورات الخماسية اليونانية المصرية الفرنسية القبرصية اليونانية والإماراتية المشتركة في المياه اليونانية تعكس مرة أخرى حجم وطبيعة الاصطفافات القائمة ضد أنقرة.

علاقات مجمدة أصلا في مسار العضوية التركية منذ سنوات وحكاية الغرام سائرة في طريق مسدود، وكلا الطرفين يعرف ذلك حيث مواقف القوميين الأوروبيين المتشددين لا تختلف كثيرا عما يردده “تحالف الجمهور” في تركيا الذي يجمع حزب العدالة مع الحركة القومية والذي يضع شعاراته ومطالبه في الملفات الوطنية والإقليمية فوق أي مصلحة. المشكلة هي تقنية فقط من الذي يملك شجاعة إعلان فسخ الخطوبة وتحمل تبعاتها السياسية والحزبية والشعبية.

أردوغان يقول للأوروبيين إن مشروع العضوية الكاملة ما زال قائما بالنسبة لأنقرة لكنه جاهز لتكرار ما قاله أكثر من مرة أيضا “إذا كانت أوروبا ترغب في إعادة تقييم طلب عضوية تركيا، فلتفعل ذلك بسرعة ولتخبرنا بالنتيجة وعندها سنلجأ إلى الشعب مثلما فعلت بريطانيا”.

استطلاعات الرأي التركية ما زالت في غالبيتها تتحدث عن قناعة أكثر من ثلثي الأتراك أن موضوع العضوية التركية في أوروبا بين المستحيلات فعلى ماذا تعول أنقرة إذا لتعلن فك الشراكة؟ الاستطلاعات نفسها كانت تتحدث عن رغبة شعبية تركية واسعة في تحسين العلاقات مع دول الجوار والمساهمة في قيادة العالم الإسلامي فهل تعطيها هذه العواصم ما تريده بعد تراجع “صفر مشاكل”؟

أوروبا لم تعد في هذا الوضع الصعب وخيارات أحلاها مر بين المضي في سياسات التهدئة مع اللاعب الإقليمي المهم تركيا والذي تحتاجه جغرافيا وعسكريا واقتصاديا وبين تلبية صرخات عواصم عديدة بالتصعيد ضد أنقرة حفاظا على وحدة التكتل وحماية تماسكه والدفاع عن حدوده الجغرافية التي باتت تشمل شرق المتوسط وبحر أيجه وأوروبا السوفياتية سابقا. عواصم أوروبية عديدة غاضبة لكنها تريد أن ترمي الكرة في ملعب الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن والاستقواء به ليساعدها على إنهاء مشروع 60 عاما من الشد والجذب. بروكسل تريد من بايدن أن يدخل على الخط لحسم الموضوع من خلال عدم تجاهل “مخاطر التوسع التركي” الإقليمي على حساب أوروبا وأميركا وبالتنسيق مع الخصم والعدو الروسي والصيني.

يقول مساعد وزير الخارجية التركي السفير فاروق قيمقشي إن تركيا ليست عاجزة عن الذهاب وراء بدائل وخيارات أخرى عندما تصل إلى طريق مسدود في علاقاتها مع الغرب. أنقرة تريد من الاتحاد قبولها أوروبيا لكنها تقول أيضا إنها لن تتنازل عن حماية مصالحها الإقليمية إذا ما كانت تتعارض مع مصالح أوروبا وأميركا. أردوغان في العاصمة الأذربيجانية يوم الأربعاء المقبل قبيل ساعات من القمة الأوروبية. هي ليست صدفة حتما.

الأزمة حتى الأمس القريب كانت بين أنقرة ومؤسسات الاتحاد الأوروبي لكنها هذه المرة تنتقل إلى مواجهات مباشرة مع اللاعبين الكبار في المجموعة الأوروبية وفي مقدمتهم فرنسا وألمانيا وإيطاليا.

تركيا حققت الكثير مما تريده في ملفات إقليمية حساسة بينها الليبي والقبرصي والأذري والسوري وشرق المتوسط. وهي فعلت ذلك من خلال التصادم المباشر مع شركاء وحلفاء أوروبيين. فلماذا تعطيها أوروبا الفرصة لمواصلة هذه السياسات؟

تلفزيون سوريا

—————————-

توطين المرتزقة السوريين.. تركيا تقدم الوعود وأذربيجان لا تنفذ

الحرة – واشنطن

لم تف تركيا بوعودها للمقاتلين السوريين الذين شاركوا في المعارك التي دارت بين أذربيجان وأرمينيا، حيث رفضت الحكومة الأذربيجانية توطين أيا منهم في البلاد.

وأعادت أنقرة أكثر من 900 مقاتلا من المرتزقة السوريين إلى سوريا، والذين وصلت آخر دفعة منهم الخميس الماضي، وفق ما قال المرصد السوري لحقوق الإنسان.

ويبلغ إجمالي عدد المقاتلين السوريين المشاركين في معارك ناغورنو قره باغ أكثر من 2580 مقاتلا، عاد منهم أقل من 350 بشكل مسبق، وتنازلوا عن الحصول على مستحقاتهم المالية التي كانت قد وعدتهم بها أنقرة.

أكاذيب تركية

مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبدالرحمن، قال في تصريحات لموقع “الحرة” إن عدم الإيفاء بالوعود للمقاتليين السوريين، أصبح نهجا من قبل تركيا، والتي وتقدم وعودا للمرتزقة بأشياء لا تملكها، حيث تكرر هذا الأمر أكثر من مرة.

وأشار إلى أن الوعود بالتوطين في أذربيجان، لم تطلقها الحكومة الأذربيجانية، ولكن أنقرة استخدمتها لدفع المقاتلين السوريين للالتحاق في صفوف الفصائل المقاتلة التي تريد تركيا إرسالها.

وأضاف عبدالرحمن أن تركيا لطالما أغرت المقاتلين السوريين بالمزايا والنقود والوعود الكاذبة، فحتى المستحقات المالية لهم لم يحصلوا إلى على جزء منها، وهي 10 آلاف ليرة تركية، أي ما يعادل أقل من 1300 دولار أميركي، لكل مقاتل، ناهيك عن أن قادة الفصائل يأخذون أيضا جزءا من هذه المخصصات.

وقتل خلال المعارك بين أذربيجان وأرمينيا نحو 300 مقاتل سوري من المرتزقة، وأعادت تركيا جثمان 250 قتيلا منهم حتى الآن.

وذكر عبدالرحمن أن غالبية المقاتلين سيعودون إلى مناطق سيطرة الفصائل الموالية لتركيا في الشمال السوري، والتي تضم الباب، وعفرين وجرابلس.

الإبقاء على بعض المقاتلين في قره باغ

ورغم عدم التزام تركيا مع المرتزقة السوريين إلا أنهم لا يزالون يصدقون وعودها، حيث استطاعت إقناع العديد منهم بالبقاء في إقليم ناغورنو قره باغ، ليكونوا ضمن صفوف المقاتلين التابعين لها، حيث ستشارك أنقرة مع موسكو في إقامة مركز مشترك لمراقبة وقف إطلاق النار.

وهذا الأمر يتعارض مع مطالب أوروبية تدعو إلى تبديد “الغموض” حول عودة المقاتلين الأجانب، والذي اعتبر شرطا أساسيا لاستقرار المنطقة.

ولكن تركيا تتذرع بأن المقاتلين السوريين الذين ستبقي عليهم في ناغورنو قره باغ ينحدرون من مناطق القوقاز، ما يعني أنهم ليسوا أجانب، وفق المرصد.

مطلع نوفمبر، وقعت أذربيجان وأرمينيا اتفاقا برعاية روسيا يضع حدا لأسابيع من المواجهات الدامية في ناغورنو قره باغ، المنطقة الانفصالية الأذربيجانية ذات الغالبية الأرمنية.

ولمراقبة احترام هذا الاتفاق الذي يكرس المكاسب الميدانية التي حققتها باكو وينص على إخلاء الأرمن لبعض المناطق، بدأت موسكو نشر قواتها “لحفظ السلام”.

وفي مقترح أُرسل إلى البرلمان التركي في منتصف نوفمبر، طلب الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الموافقة على إرسال جنود إلى أذربيجان بهدف المشاركة في المهمة الروسية التركية.

فيلق الشام

ويعد “فيلق الشام” الفصيل السوري الأقرب إلى تركيا، وقد قاتل إلى جانبها على جبهات عدة داخل سوريا وخارجها.

وتأسس هذا الفصيل في مارس 2014 بعد اندماج عدد من الفصائل المسلحة كانت تنشط في شمال ووسط سوريا كما في ريف دمشق، وبرز اسمه سريعا على الساحة السورية.

وشكل الفيلق جزء من تحالف “جيش الفتح” الذي ضم عددا من الفصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام وسيطر على كامل محافظة إدلب صيف العام 2015، قبل أن يخوض “فيلق الشام” قتالا في وقت لاحق ضد “هيئة تحرير الشام” التي تفردت تقريبا بالسيطرة على محافظة إدلب وبعض المناطق المجاورة.

وشارك الفيلق في العمليات العسكرية الثلاث التي نفذتها تركيا منذ العام 2016 في سوريا، وتركزت خصوصا ضد المقاتلين الأكراد.

وكأحد الفصائل المعارضة الأبرز، شارك ممثلون عن “فيلق الشام” في جلسات مفاوضات عدة بين المعارضة والحكومة السورية برعاية الأمم المتحدة في جنيف لم تسفر عن أي نتيجة، كما شارك ممثلون عنه في محادثات أستانا.

وينتشر الآلاف من عناصره في مناطق سيطرة القوات التركية في شمال سوريا مثل أعزاز وعفرين، وفي ريف إدلب الشمالي.

وشارك نحو 18 آلاف مقاتل من فيلق الشام في المعارك في ليبيا، إلى جانب “حكومة الوفاق الوطني” التي تدعمها أنقرة في مواجهة حكومة موازية مدعومة من روسيا، كما اعتمدت أنقرة عليهم في المشاركة في معارك قره باغ.

الحرة – واشنطن

————————————

تقارير بحثية: “السوريون سعداء في تركيا وباقون فيها”/ مروة شبنم أوروج

في الأسبوع الماضي، تمّت مناقشة بحث مكثّف مع اللجنة الفرعية للهجرة والاندماج في البرلمان التركي، ويُعدّ هذا البحث أكبر بحث متعلق بالسوريين في تركيا، في السنوات الأخيرة. وبحسب البروفسور مراد أردوغان (مدير مركز أبحاث الهجرة والاندماج في الجامعة التركية الألمانية) الذي أنجز البحث، يوجد اليوم ثلاثة ملايين و635 ألف لاجئ سوري في تركيا.

بالمقارنة مع الأبحاث السابقة، يذكر أردوغان أن نسبة من قالوا: “لن نعود إلى سورية، بأي شكلٍ من الأشكال” ارتفعت، في السنوات الأخيرة، إلى 51،8 % مقارنةً بعام 2017، إذ كانت نسبتهم 16،7 %. وبينما كانت نسبة من قالوا “نعود إلى سورية، إذا انتهت الحرب وتشكلت حكومة كما ينبغي أن تكون”، في عام 2017، نحو 60 %، انخفضت هذه النسبة في البحث الأخير إلى نحو 30 %.

البحث المعنيّ لمّا يُنشر بعد، لكن البيانات والتحليلات التي عُرضت للمجلس، من البحث الميداني في 2019، تؤكد ما يقوله البروفسور أردوغان: “بالنظر إلى الأبحاث الثلاثة الأخيرة؛ نرى أن سعادة السوريين في تركيا قد ازدادت”، ويضيف: “هنالك تصوّر بأنهم يشعرون بتحسّن وبأمان أكثر من الأعوام الثلاثة السابقة”.

وبحسب البحث، ما زالت نسبة السوريين في تركيا، الذين يقولون “أخطط للعودة”، هي 6،8 %. وقد تشير النتائج إلى أن السوريين غيّروا رأيهم، بسبب فقدانهم الأمل من سورية. وعلى الرّغم من أنني أقف على مسافة بعيدة من الثقة في استطلاعات الرأي والتسليم بها، فإني أرى أن هذه الإحصاءات التي كشفت عنها هذه الدراسة هي على الأقل نقطة مرجعية للأشخاص المشككين مثلي. لقد مرّ ما يقرب من عَشر سنوات على بداية الحرب السورية، ومن الطبيعي أن يكون يأسُ اللاجئين من مستقبل البلاد قد ازداد.

من جهة أخرى، نرى أن اللاجئين كانوا، في الأعوام السابقة، ينتظرون انتهاء الحرب والعودة إلى بيوتهم، لكنّهم مع مرور الزمن أسسوا حياة جديدة في تركيا التي هاجروا إليها، ومن الطبيعي أنهم لا يفكرون بترك هذه الحياة، لتأسيس حياتهم من جديد مرة أخرى، وإنْ تغيّرت الظروف، وهذا واقع في الحياة الفردية والمجتمعية. إن الحياة تستمرّ في كل الأحوال، بطريقة أو بأخرى، والوقت الذي يمرّ يجلب معه حياة جديدة، وصراعًا جديدًا من أجل تلك الحياة، ونظامَ حياة جديدًا، وأهدافًا جديدة.

مع مرور الزمن الذي تحوّلت فيه الأسابيع إلى شهور والشهور إلى سنوات، وجد المهاجرون أنفسهم في وضع “الانتظار” على أرض بلد آخر، وأصبحوا يواجهون مصاعب ومحنًا مختلفة في حياتهم، سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوه. وعلى الرغم من توقّف الحياة في سورية، فإن الحياة مستمرةٌ في العالم. على سبيل المثال، الأطفال السوريون الذين وُلدوا في تركيا في بدايات الحرب صار عمرُهم اليومَ عشر سنوات، والقاصرون الذين لجؤوا إلى تركيا أصبحوا الآن شبانًا يافعين. وعندما يضاف البحث عن العمل والتعليم والتنمية الشخصية والفرص الأخرى إلى احتياجات الناس، مثل المأوى والغذاء والرعاية الصحية، يأخذ كل شخص حاجته من قائمة “الانتظار”، ويضعها في وضع “التفعيل”. ولا يُعدّ ذلك تخليًا عن الوطن، حيث يجبُ على كل فرد أن يجعل حياته مستمرةً.

يجدر بنا القول إن عملية اندماج اللاجئين السوريين في المجتمع التركي لم تكن سهلة، على الرغم من أن الجمهورية التركية قدّمت تضحيات كبيرة، ولم تدّخر أي جهد في سبيل تأمين الاحتياجات للاجئين السوريين. غير أن بعض المجموعات المؤيدة لنظام الأسد، إضافة إلى الأقليّات التي هي تحت تأثير النهج المذهبي والطائفي في تركيا، تحيّزوا ضد السوريين، كما حصل في باقي بلدان العالم، نتيجة صعود تنظيم (داعش)، والأهم من ذلك ظهور خطابات لبعض السياسيين والصحفيين المعارضين، تحض على كراهية السوريين، ومن المعروف أن ذلك أدى إلى تحيّز شريحة محددة في المجتمع التركي ضد السوريين. ويلاحظ أيضًا أن الانتقادات التي استهدفت سياسة إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان تجاه سورية، من خلال مزاعم كاذبة كالقول إن “السوريين يتلقون الدعم أكثر من المواطنين الأتراك”، في المساعدات المادية والخدمات الصحية وغيرها، قد أثارت الشكوك لدى شريحة من المجتمع.

وعلى الرغم من كل السلبيات الواردة وبعض الأحداث والقضايا القانونية المؤسفة، لم تكن هناك توترات كبيرة بين السوريين والأتراك طوال المدة الماضية. ولكن هذا لا يعني أن السوريين والأتراك باتوا جاهزين للتعايش معًا. حيث يعاني المجتمع التركي مشكلات عدة سببتها الحرب الأهلية السورية، وهذا يعني أن الأتراك غير راضين عن عدد اللاجئين الذين يهاجرون من سورية إلى تركيا، لكنهم لم يُظهروا ردّات فعل ومقاومة شديدة.

وبحسب البحث، فإن نسبة التمييز ضد السوريين، عند المجتمع السوري في تركيا، في حالة تناقص. أما بالنسبة للمجتمع التركي، بالرغم من الأقاويل، فإن “ثقافتنا لم تعد هي نفسها”، يُلاحظ أن السوريين باتوا يتأقلمون مع العيش في تركيا بمرور الوقت، وسيكون هناك في المستقبل عوامل محددة أكثر حسمًا. ومع ازدياد تكيّف السوريين في تركيا، يمكن توقّع زيادة الاندماج الاجتماعي بين السوريين والأتراك، ولن يكون هذا على المدى القصير، بل بمرور الوقت.

ويذكر البحث أيضًا أن رضى السوريين عن الخدمات العامة في تركيا في ازدياد مستمر. وتحتاج الزيادة السكانية في بلد ما بنسبة 3-4 %، في وقت قصير جدًا، إلى قيام الدولة بتنمية شاملة حتى في بنيتها التحتية، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي، فضلًا عن الخدمات العامة أو التعليمية. بعبارة أخرى: هناك تكاليف غير ظاهرة بقدر التكاليف الظاهرة.

ويمكننا القول إن تسريع الخطوات المتخذة لتحسين نظام الهجرة، في دولةٍ تعاملت في فترة الهجرة نفسها مع تهديدات الأمن القومي (مثل الهجمات الإرهابية ومحاولات الانقلاب) وخاضت اضطرابات سياسية، إنما يعتمد على التجربة التي طُوّرت بمرور الوقت، وعلى الخطط الإستراتيجية التي اتُّخذت. ونرى أن النظرة القصيرة المدى التي ظهرت مع بداية الحرب الأهلية السورية، بمقولة “السوريون موجودون مؤقتًا، وسيعودون عند انتهاء الحرب”، قد حلّ مكانها، مع مرور الوقت، خطط طويلة المدى تؤثر في سياسة الدولة. وبينما يسعى السوريون للتأقلم مع الحياة الجديدة، تسعى الدولة التركية للتكيف مع الوضع الطبيعي الجديد.

في عام 1961، تم اتفاق عمالة بين تركيا وألمانيا الغربية، وسمي آنذاك بـ “اتفاق العمالة التركية”، وبدأت بذلك أول هجرة عمالة رسمية. وعلى الرغم من عدم وجود حربٍ أهلية في البلد الذي هاجروا منه في تلك الفترة، وعلى الرغم من إمكانية العودة إلى البلد، لم يعد معظم المهاجرين الأتراك، ويوجد هناك أتراك قضوا 60 عامًا وعاشوا ثلاثة أجيال في ألمانيا، والسبب يعود إلى أن الأتراك في ألمانيا قبلوا الاندماج ضمن المجتمع الألماني.

إن هجرة السوريين شبيهة نوعًا ما بهجرة العمالة التركية، من حيث المدة الزمنية التي قضوها في بلد المضيف، مع أن أسباب هجرة السوريين مختلفة كليًا عن أسباب هجرة الأتراك. وإذا أخذنا بالحسبان نسبة السوريين في مخيمات اللجوء في تركيا، وهي 1%، وجدنا أن عملية الاندماج قد بدأت منذ زمن. لقد وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، بعدما تجاوزنا أيامًا عصيبة، وذلك بفضل حكمة الأتراك والسوريين معًا، وإذا نجحنا في حماية هذه الحكمة؛ فسيكون الغدُ أسهل بكثير لكلا الطرفين.

ترجمة فارس جاسم

مركز حرمون

——————————–

=====================

تحديث 09 كانون الأول 2020

————————————-

هل السوريون سعداء في تركيا؟/ عمر كوش

ما تزال آثار وإرهاصات وجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في تركيا تتفاعل على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، خصوصا وأن السوريين، وبعد مرور ما يقارب عشر سنوات على ثورتهم، وغياب أي أفقٍ حقيقيٍّ لحل سياسي في بلادهم، لم يعودوا مجرّد لاجئين ينتظرون نهاية الحرب الكارثية في بلادهم، كي يعودوا إليها، بل تحولوا إلى مهاجرين يحاولون التأقلم والتكيف مع الأوضاع الجديدة في المجتمع التركي، ونما استعداد كبير لدى معظمهم لطيّ صفحة الماضي، والبدء في حياة جديدة، وكأنهم ولدوا من جديد.

ويفيد أحدث بحث ميداني تناول أوضاعهم وهمومهم، وجرت مناقشته أخيرا في البرلمان التركي، أن عدد اللاجئين السوريين بلغ ثلاثة ملايين و635 ألفا في تركيا، وأن نسبة 51.8% منهم “لا يريدون العودة إلى سورية بأي شكل”، بينما كانت نسبتهم 16.7% في عام 2017. كما أن نسبة الذين يريدون العودة إليها في حال انتهاء الحرب وتشكيل نظام جديد انخفضت إلى 30%، بينما كانت نسبتهم 60% في عام 2017، فيما يخطط 6.8% من اللاجئين للعودة إلى سورية.

ويستنتج مدير مركز أبحاث الهجرة والاندماج في الجامعة التركية الألمانية في إسطنبول، مراد أردوغان، الذي أشرف على البحث وأعدّه، أن “سعادة السوريين في تركيا قد ازدادت”، وأن هنالك تصوّرا أنهم “يشعرون بتحسّن وبأمان أكثر من الأعوام الثلاثة السابقة”. والسؤال في هذا السياق: هل السوريون سعداء في تركيا؟

تعاطف ثم كراهية

بداية يصعب القول إن اللاجئين السوريين سعداء في أي بلد من بلدان اللجوء، إذ لا يمكن التكهن بأن من أُجبر على الهروب من بلده يمكنه أن يكون سعيداً في أي بلد آخر. والأمور نسبية، ووضع غالبية السوريين في تركيا أفضل كثيراً من أوضاع أقرانهم في البلدان العربية، وخصوصا لبنان والأردن وسواهما، لكن ذلك لا يخفي تبعات اللجوء في تركيا، وصعوبات العيش والتكيف والاندماج وسوى ذلك.

والواقع أنه في السنوات الأولى للجوء السوري، أبدى المجتمع التركي، في غالبيته، تعاطفاً مع اللاجئين السوريين، كما أن الحكومة التركية وصفتهم بالـ”ضيوف”، واتبعت سياسة الأبواب المفتوحة أمام تدفقهم، وشيّدت مخيماتٍ عديدةً لإيوائهم، وقدّمت لقاطنيها مساعدات إنسانية كثيرة، وتركت للسوريين حرية السكن والتنقل والعمل، لكن الأمور تغيرت كثيراً في السنوات اللاحقة، إذ ظهرت نزعاتٌ معاديةٌ لهم في المجتمع التركي، وحاولت أحزاب المعارضة توظيف قضية اللاجئين سياسياً في إطار مناكفتها وصراعها مع حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، ونشأت حملات تحضّ على الكراهية ضد الوجود السوري في تركيا، حيث يظهر البحث أنه في عام 2014، اعتبر 70% من الأتراك المستطلعة آراؤهم فيه أنه لا يوجد تشابه ثقافي أو ثقافة مشتركة بينهم وبين السوريين، ثم ارتفعت النسبة في 2019 لتبلغ 82%. وقال 75% من الأتراك إنه لا يمكنهم العيش بسلام مع السوريين في تركيا، كما عارض 80% من الأتراك المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية منح السوريين حقوقاً سياسية.

الوجود السوري

يطلق على السوريين في تركيا وصف “لاجئين” مجازاً، لأن القوانين التركية لا تسمح بتصنيفهم لاجئين وفق اتفاقية جنيف التي وقعتها تركيا مع الأمم المتحدة عام 1951، ما يعني حرمانهم من حقوق اللاجئين في إطار القانون الدولي. في المقابل، استحدثت الحكومة التركية قانون “الحماية المؤقتة” الذي دخل حيز التنفيذ في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، ويتضمن الإقامة غير المحدودة لهم في تركيا، وحمايتهم من الإعادة القسرية، وتوفير خدمات الرعاية الصحية والتعليم، ومعالجة الاحتياجات الأساسية الفورية. ويشمل نظام الحماية المؤقتة جميع اللاجئين السوريين، بمن فيهم الذين لا يملكون وثائق تعريف شخصية (هوية، جواز سفر). كما يشمل أيضاً الفلسطينيين القادمين من سورية أيضاً. ويوجد في تركيا القسم الأكبر من اللاجئين السوريين في العالم، بنسبة 65% منهم، حيث وصل عدد المشمولين بقانون الحماية المؤقتة إلى 3.610.022 لاجئاً حتى شهر أغسطس/ آب 2020 من بين 5.553.905 لاجئين اضطروا إلى مغادرة ديارهم، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، ويشكلون قرابة 4.5% من إجمالي سكان تركيا، البالغ عددهم 82 مليون نسمة. وبالمقارنة مع عدد سكان سورية، وفق إحصاءات رسمية في عام 2011، البالغ 20.8 مليوناً، فإن 17% من سكان سورية يوجدون في تركيا.

وتُظهر أعداد وتوزع السوريين في تركيا أن أغلبهم يعيش في المدن التركية، فمن بين أكثر من 3.6 ملايين سوري، يوجد فقط 63443 سورياً في مخيمات اللاجئين السوريين التي تدعى رسمياً في تركيا “مراكز الإقامة المؤقتة”، وتقع في ولايات شانلي أورفا وأضنة وكلس وقهرمان مرعش وهاتاي وعثمانية وغازي عنتاب، أي أن جميع السوريين تقريباً يعيشون في المدن، وبالتالي فإن سمة اللجوء السوري هي لجوء حضري أو مديني.

وتعتبر إسطنبول المدينة التركية التي تضم أكبر عدد من السوريين، وبلغ 549 ألفا و903 أشخاص في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2019، ويشكلون ما نسبته 3.65% من سكانها، يليها في ذلك مدينة غازي عنتاب التي يوجد فيها 452 ألف سوري، أي 22.2% من إجمالي تعداد سكان المدينة، ومدينة هاتاي التي يعيش فيها 440 ألف سوري، أي 27.3% من إجمالي تعداد سكان المدينة، وشانلي أورفا التي يعيش فيها 429 ألفاً من السوريين أي 21.1% من إجمالي تعداد سكان المدينة. أما كيليس فهي المدينة التي تضم أكبر عدد من السوريين مقارنة بعدد سكانها، حيث يبلغ عدد سكانها 142 ألف نسمة، في حين عدد السوريين فيها 116 ألف شخص، أي أن 81.7% من القاطنين فيها هم من السوريين، بينما تعتبر بايبورت (شمالي شرق) أقل المدن من ناحية سكن السوريين فيها، إذ يعيش فيها 25 سورياً فقط، بحسب الإحصاءات التركية الرسمية.

العمل والأعمال

فرضت ضرورات العيش على اللاجئين السورين التكيف مع الظروف الجديدة، وأولها المشاركة في الأنشطة الاقتصادية، والبحث عن فرص العمل وتشييد الأعمال، حيث أصبح الانخراط في العمل أمراً لا بد منه، خصوصا بالنسبة إلى سكان المدن، نظراً إلى أن الدعم المادي للسوريين الذي بدأ منذ 2011 لا يشمل المقيمين خارج المخيمات، إلا في أحوال استثنائية جداً. وبدأ السوريين العمل بشكلٍ غير قانوني، لأن الحكومة التركية تأخرت في إصدار التشريعات الناظمة لعمل السوريين، حيث أصدرت لوائح تنظيمية في هذا الخصوص، واعترفت بموجبها في 15 يناير/ كانون الثاني 2016 بحق العمل للسوريين المشمولين بالحماية المؤقتة.

وبحثاً عن تأمين لقمة العيش، بدأ اللاجئون السوريون بالبحث عن عمل في مختلف أرجاء تركيا، ومن الطبيعي أن تكون إسطنبول وجهتهم الأولى، بوصفها المدينة الكوزموبولتية والأكبر في تركيا، والعاصمة الاقتصادية والسياحية فيها، ويمكن تأسيس الأعمال والحصول على فرص للعمل فيها أكثر من باقي المدن التركية، وخصوصا خارج الأطر القانونية.

وفي بدايات اللجوء، شعر غالبية السوريين في تركيا بالأمان، وكانوا يعيشون في انتظار العودة إلى بلدهم، لكن مع مرور الوقت، راحوا ينخرطون في قطاعات أعمال من أجل الانتفاع من بعضهم بعضا، ففتحوا مطاعم ومقاهي يرتادها زبائن سوريون، وأنشأوا مخابز للخبز السوري المميز، وفتح التجار الدكاكين والمتاجر التي تؤمن البضائع والمواد السورية، وفُتحت معامل وورشات الخياطة والنسيج والألبسة، كما افتتحوا مدارس للطلاب السوريين التي تعلم مناهج دراسية لمختلف المراحل التعليمية، كما أُنشئت مراكز لتعليم اللغات، وخصوصا اللغة التركية للسوريين وسوى ذلك. كما أنشأ سوريون مشافي ومراكز وعيادات صحية، طاقمها من الأطباء والممرضين السوريين، وراح أطباء آخرون يفتحون عياداتٍ في بيوتهم، كي يستقبلوا ويعالجوا المرضى السوريين، كما أسّس سوريون منتدياتٍ ثقافية ومؤسسات إعلامية، فصدرت مطبوعات دورية عديدة ومواقع إلكترونية، وأسسوا محطات تلفزيون وراديو، كما نشأت جمعيات سورية مدنية في مختلف المجالات.

وهكذا مع مرور سنوات اللجوء، نشأت مجتمعات العمل والأعمال في سائر المدن التي يوجد فيها أعداد كبيرة من السوريين، وبات السوري يعمل في مكان سوري، ويرتاد مقهى أو مطعما سوريا، ويذهب إلى صالون حلاقة سوري، ويشتري ما يحتاجه من محلات سورية تؤمن بعض البضائع والسلع السورية، ويسكن في أحياء ومناطق يسكنها سوريون بكثافة، وبات معظم السوريين لا يحتاج للاحتكاك بالمواطنين الأتراك إلا قليلاً، وأفضى ذلك إلى نشوء ما يشبه مجتمعات سورية موازية.

صعوبات وتحدّيات

ويفيد البحث الذي قدّمه مراد أردوغان بأن مليونا و300 ألف سوري يعملون في تركيا، وبدأوا حياة جديدة، ولم يعد يهمهم ما يحدث في سورية، بينما تظهر دراسات أن عدد السوريين في سنّ العمل (15 – 65 سنة) المسجّلين في تركيا هو 2.1 مليون شخص. ويتوزع المنخرطون منهم بنشاط في سوق العمل على قطاعات النسيج والألبسة وقطاعات الخدمات والبناء والتعليم والزراعة وسواها.

وكانت لرجال الأعمال السوريين مساهمات مهمة في عملية التكيف والاندماج الاقتصادي، وتمكنوا من تأسيس أعمالهم التجارية الخاصة بهم في تركيا، وفق قانون التجارة التركي، حيث تعود أكثر الشركات الأجنبية التي تم تأسيسها في تركيا عامي 2017 – 2018 إلى السوريين، وبلغ عدد الشركات التي يساهم فيها شريك واحد على الأقل سوري الجنسية 15.159 شركة، حسب الأرقام الرسمية التركية.

ويعاني السوريون من صعوبات كثيرة في سوق العمل، تتعلق بتدنّي الأجور التي يتقاضونها، وساعات العمل الطويلة، والتنمر والمعاملة السيئة التي يتلقونها من بعض أرباب العمل، وعدم وجود ضمان صحي، إلى جانب افتقارهم لإتقان اللغة التركية، وعدم قابليّة نقل بعض خبراتهم ومهاراتهم إلى سوق العمل، وتدنّي مستويات التعليم. وهناك صعوباتٌ في الحصول على معادلاتٍ لشهاداتهم الدراسية. لذلك يضطرّ كثيرون منهم للعمل في أعمال أخرى ذات أجور متدنية، وعادة ما يكونون عرضةً للاستغلال، بينما يجد متعلمون منهم أنفسهم خارج سوق العمل، وهو ما يمثل خسارة للاقتصاد التركي، لأن السوريين، في النهاية، يمثلون قوة اقتصادية واجتماعية، بما لديهم من خبرات ومهارات ورغبة في العمل.

وقد أسهم انخراط السوريين المبكر في سوق العمل التركي في التخفيف من صعوبة ظروفهم المعيشية والتكيف والانسجام والنشاط الاقتصادي، لكن التشريعات التركية لم تعمل على نقل السوريين من حالة العمل غير القانوني إلى الحالة الرسمية. لذلك اضطروا للعمل فيه بشكل غير رسمي. ومع ذلك، تمكن سوريون كثر من تأسيس حياة جديدة في تركيا، وذلك بعد أن فقدوا ما كانوا يمتلكونه في بلدهم. ولذلك يميل قسم كبير منهم نحو البقاء في تركيا والحصول على جنسيتها، من أجل تسهيل سبل عيشه وأعماله، ولم يعد يفكر بالعودة إلى سورية في ظل تلاشي الآمال بالتوصل إلى حل سياسي ينهي الكارثة التي ألمّت بهم.

ويبدو أن سياسة الحكومة التركية التي اتبعتها بعدم إجبار السوريين على الإقامة في المخيمات والسماح لهم بالعمل، ولو بشكل غير رسمي، قد أفادت السوريين في التخفيف من معاناتهم وتأمين معيشتهم، وأسهمت كذلك في رفد الاقتصاد التركي بقوة العمل السورية، وبخبرات وطاقات العاملين السوريين. ولكن مع مرور الوقت تحولت مسألة الوجود السوري في تركيا، نتيجة الصراعات السياسية الداخلية التركية، إلى مسألة سياسية ووطنية، مجرّدة من أي بعد قانوني دولي أو إنساني وأخلاقي، مع أن مسألة اللاجئين السوريين، يجب النظر إليها من جهة اختبار النموذج التركي للديمقراطية، ومدى وجود بنية قانونية تحمي الانسان وتحفظ حقوقه، بصرف النظر عن جنسيته، طالما أنه يوجد على الأرض التركية، وهي قضية تتطلب من الحكومة التركية اتخاذ إجراءاتٍ قانونيةٍ لدمجهم في سوق العمل وفي المجتمع التركي، ويمكنها كسر الجمود في هذه الأزمة الإنسانية التي يعاني من تبعاتها ملايين السوريين، بعد أن أجبرتهم الحرب الشاملة التي خاضها النظام السوري، وحلفاؤه الروس والإيرانيون، ضد غالبيتهم، إلى مغادرة بلادهم، وباتوا يعانون كثيراً من تبعات النزعات الكارهة للاجانب، إلى جانب عن تبعات التهجير القسري، وصعوبات العيش والاندماج.

العربي الجديد

———————————

رسالة لروسيا وتركيا، مناورات أميركية لتدمير منظومة “إس-400

فيما يبدو أنّه دليل على استعداد الولايات المتحدة لحرب ضدّ روسيا وكل من يستخدم سلاحها، نقلت وكالة أنباء نوفوستي الروسية، عن موقع Defence Blog بأن الولايات المتحدة أجرت مناورات عسكرية في ولاية فلوريدا جنوب شرقي البلاد، تم خلالها تدريب القوات على تدمير أسلحة روسية.

وأورد الموقع إحدى الصور للقوات الجوية الأميركية ظهرت فيها مقاتلات “سو-34” وأنظمة “إس-400” الروسية التي باتت تمتلكها تركيا رغم اعتراض واشنطن، إضافة إلى غواصات تحاكي “الأهداف المعادية”، التي تم استهدافها أثناء التدريبات.

وأشار الموقع إلى أن القوات الأميركية استخدمت نسخا من دبابات “تي-72” الروسية أثناء التدريبات.

واستخدمت القوات الأميركية أسلحة برية وجوية وتقنيات الحاسوب والأقمار الصناعية أثناء المناورات.

وتعليقا على المناورات الأميركية أشار الخبير العسكري الروسي قسطنطين سيفكوف في حديث لصحيفة “فزغلياد” الروسية، إلى أن المناورات تختلف كثيرا عن العمليات القتالية الحقيقية، مؤكدا أن أنظمة “إس-400” ومقاتلات “سو-34” من أفضل المعدات العسكرية في العالم، وليس من السهل تدميرها.

يُذكر أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن في أكتوبر الماضي، أن بلاده أجرت أول اختبار للمنظومة الصاروخية الدفاعية الروسية “إس-400” المثيرة للجدل، مقللا من أهمية الانتقادات الأميركية.

وقال أردوغان ردّاً على انتقادات واشنطن “لن نطلب الإذن من الأميركيين”.

وأكدت وسائل إعلام تركية أن أنقرة أجرت أول اختبار لنظام دفاع جوي روسي فائق التطور من طراز “إس-400” في 16 أكتوبر، وأثار شراؤه غضب الولايات المتحدة وحلفاء أخرين لتركيا في الحلف الأطلسي.

وعلقت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية مورغان أورتاغوس أنه “في حال تأكد ذلك، سندين بأشد العبارات اختبار صاروخ نظام إس-400 غير المتناسب مع مسؤوليات تركيا كحليف في حلف شمال الأطلسي وشريك استراتيجي للولايات المتحدة”.

وأضافت أن “الولايات المتحدة قالت بوضوح إنها لا تريد تفعيل نظام إس-400. وحذرنا بوضوح من التداعيات الوخيمة المحتملة على علاقاتنا في مجال الأمن في حالت فعّلت تركيا النظام”.

وسبّب شراء تركيا نظام “إس-400” في سياق تقاربها مع موسكو، خلافات مع عدة دول غربية تقول إن النظام الروسي لا يتماشى مع معدات حلف شمال الأطلسي (ناتو).

وردا على تسليم أول بطارية العام الماضي، علّقت الولايات المتحدة مشاركة تركيا في برنامج تصنيع طائرات حربية أميركية حديثة من طراز “إف-35″، معتبرة أن منظومة “إس-400” يمكن أن يتسبب في كشف أسرارها التكنولوجية.

كما هددت واشنطن أنقرة بفرض عقوبات عليها في حال تفعيل نظام الدفاع الجوي روسي الصنع. وقادت الأخبار حول الاختبار إلى إصدار المدافعين عن فرض العقوبات دعوات للحكومة الأميركية للمُضي قدما في تطبيقها، وهو ما يتوقع أن يقوم به الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن.

وتدافع أنقرة عن خيارها بالقول إن الولايات المتحدة رفضت بيعها نظام “باتريوت” للدفاع الجوي.

وقالت السفيرة الأميركية لدى الناتو كاي بيلي هاتشيسون، إن الولايات المتحدة عملت جاهدة لضمان إسقاط تركيا لخطط شراء الصواريخ الروسية.

—————————————

هل أصبحت سوريا «ملحقاً» بملفات أخرى؟/ إبراهيم حميدي

لا تكتفي الأطراف المعنية بالملف السوري بالانتظار إلى حين تسلم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، مقاليد الحكم في نهاية الشهر المقبل. كل طرف يحاول خلق وقائع جديدة، يجدها فريق بايدن أمامه، من دون أن تصل إلى خطوات استفزازية للرئيس الأميركي الجديد. كان بين هذا إعلان القاهرة وعمان قبل أيام من اجتماع عربي رباعي ضم السعودية ومصر والأردن والإمارات، بهدف البحث عن تنسيق «الدور العربي» في حل الأزمة السورية. المشاورات غير المعلنة والعلنية ترمي إلى المساهمة في صوغ «استراتيجية عربية» تتضمن عناصر رئيسية، بينها الدفع لحل سياسي وفق القرار 2254 والحفاظ على أمن سوريا و«ووحدتها وسيادتها»، والمطالبة بخروج «جميع القوات والميليشيات الأجنبية»، حسبما نُقل عن وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي.

وزاد منسوب القلق العربي من الدورين التركي والإيراني في سوريا و«أثر التدخلات الإقليمية على وحدة سوريا»، باعتبار أن أنقرة تسيطر عبر فصائل موالية أو بشكل مباشر على أكثر من 10% من مساحة الأراضي السورية البالغة 185 ألف كلم. وتحاول توسيع نفوذها في الشمال. كما أن طهران تعمّق تغلغلها تحت غطاء موسكو أو بالتحالف مع دمشق في جنوب سوريا وشرقها.

وتبلغت روسيا رسمياً من أطراف عربية، «تسهيلها» الوجودين التركي والإيراني في سوريا، بل إن المبعوث الرئاسي ألكسندر لافرينييف سمع في عمان ملاحظات لعدم وفاء بلاده بالاتفاق المبرم في منتصف 2018 وقضى بـإبعاد تنظيمات إيران عن جنوب سوريا مقابل عودة القوات الحكومية السورية وتخلي حلفاء المعارضة عن فصائلها في «مثلث الجنوب»، أي أرياف درعا والقنيطرة والسويداء.

وضمن التفكير بـ«الدور العربي»، أفكار كثيرة، بينها دعم تكتل جديد للمعارضة السورية يقابل «هيئة التفاوض» أو «الائتلاف» اللذين يُنظر إليهما من أطراف عربية على أنهما تحت النفوذ التركي خصوصاً بعد عدم حل «عقدة المستقلين» في «الهيئة». أيضاً، طرح معارضون فكرة توسيع «الفيلق الخامس» الذي تدعمه قاعدة حميميم، ليضم آلاف المقاتلين والنهل من «الخزان البشري» الذي يضم 70 ألف متخلف عن الجيش السوري، تحاول طهران جذبهم عبر «إغراءات وإعفاءات». تُضاف إلى ذلك أمور تخص المسار السياسي والإعمار.

وتسعى أطراف عربية إلى تشكيل «كتلة عربية» خصوصاً أن هناك كتلتين أخريين: الأولى، هي «المجموعة المصغرة» وتضم أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية ومصر والأردن. والأخرى، «مجموعة آستانة» وتضم روسيا وإيران وتركيا.

«المجموعة الصغيرة» استعادت التشاور بينها وعقدت اجتماعاً وزارياً قبل أسابيع تضمن التنسيق بين الدول الغربية والعربية إزاء الحل السياسي واللجنة الدستورية ومقاطعة مؤتمر اللاجئين الذي رعته موسكو في دمشق منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وتدفع واشنطن إلى استمرار بقاء «دمشق في صندوق العزلة» عبر عدم التطبيع الثنائي والجماعي العربي وفرض عقوبات اقتصادية أميركية وأوروبية وربط الإعمار بتحقيق تقدم في العملية السياسية، إضافة إلى دعم الضربات الإسرائيلية لـ«التموضع الإيراني».

ضمن هذا، فإن المبعوث الأميركي الجديد جويل روبرن، زار أنقرة والقاهرة، لهدفين: الأول، الحفاظ على خطوط التماس الحالية في سوريا وعدم قيام تركيا بعملية شرق الفرات بعد تردد معلومات عن نية الرئيس رجب طيب إردوغان استقبال بايدن بواقع جديد ضد الأكراد السوريين القريبين لقلب الرئيس الأميركي الجديد وفريقه. والآخر، عدم التطبيع العربي مع دمشق وعدم فك العزلة عنها. و«النصيحة» التي قدمها مسؤولو الملف السوري في إدارة الرئيس دونالد ترمب إلى فريق بايدن، هي: الحفاظ على الجمود الحالي وخطوط التماس بين «مناطق النفوذ» الثلاث، لحرمان موسكو وطهران ودمشق من «الانتصار السياسي» وإبقائها في «المستنقع» ما لم تحصل تنازلات جيوسياسية وداخلية.

في المقابل، واصلت أطراف «مجموعة آستانة» التنسيق بينها. موسكو وطهران تحاولان إقناع دمشق بأن «مسار آستانة لصالحها». وكان هذا مضمون الكلام الذي سمعه فيصل المقداد من نظيره الإيراني محمد جواد ظريف، في أول زيارة لطهران لوحظ حجم الحفاوة الإيرانية بالوزير السوري الجديد، بعدما سمعت دمشق من الروسي سيرغي لافروف، أن «مسار آستانة حقق مكاسب لدمشق ووسّع مناطق السيطرة التابعة لها». دمشق، لها رأي آخر، فيه رغبة بالعودة إلى إدلب والقامشلي، اللتين تقف موسكو وواشنطن أمام تحويلهما إلى واقع. ما لم تقله طهران، أنها ربطت الملف السوري باحتمال مفاوضاتها مع واشنطن، كما هو الحال مع موسكو وتوقعاتها الأميركية. وبين تحركات «الكتل» المعنية بالملف السوري، استعاد المبعوث الأممي غير بيدرسن، فكرته القديمة، وهي خلق مجموعة اتصال جديدة أو التنسيق بين «الكتل». سابقاً، كان فيتو أميركا ضد الجلوس مع إيران على طاولة واحدة أحد أسباب عدم الدمج بين «ضامني آستانة» و«المجموعة الصغيرة». رهانه أن هذا قد يتغير مع إدارة بايدن. لكن الواضح أن «الملف السوري» بات ملحقاً بملفات دولية وإقليمية أخرى ولم يعد منفصلاً بذاته.

الشرق الأوسط

——————————-

=====================

تحديث 14 كانون الأول 2020

—————————–

تركيا تفتتح قرن الأردوغانية.. معارك تثبيت نفوذ ومصالحات/ منير الربيع

ما اندلعت الأزمة الخليجية لولا دونالد ترامب. حلّت بحلوله رئيساً أميركياً يفتتح جولاته الخارجية إلى الخليج العربي وتحديداً المملكة العربية السعودية. مع خساراته للانتخابات، تنتعش فرص المصالحة وإعادة إحياء مجلس التعاون الخليجي، في موازاة مساع لترتيب العلاقة بين تركيا والمملكة العربية السعودية.

زيارات ولقاءات سرية بين الطرفين، بحث عن تحسين العلاقات، وذلك في إطار لملمة كل الأوراق قبل تسلم إدارة جو بايدن، بحث في إمكانية تعزيز التعاون العسكري والاستخباري بين تركيا والسعودية في المستقبل، لا سيما بعد ثبوب نجاح وفعالية طائرات بيرقدار، والتي قد يتم استخدامها من قبل عدد من الدول العربية. من سوريا إلى ليبيا وأذربيجان، في البحر الأبيض والمتوسط والبحر الأسود، بين النفط والغاز، والتمدد العسكري والمصالحات السياسية، تعمل تركيا على تجميع أكبر كم من الأوراق الرابحة.

ثلاث سنوات تفصل تركيا عن بلوغ مئة سنة بعد الأتاتوركية. في العام 2023، سيطوي رجب طيب أردوغان الأجزاء الكبرى مما أرساه مصطفى كمال أتاتورك، ليفتتح قرناً جديداً للجمهورية التركية بصيغتها الأردوغانية. معالم تركيا السياسية، الاقتصادية، الثقافية، والعلاقات مع كلّ العالم ودول الجوار ستشهد تغيّرا جوهريا.

ينطلق أردوغان من نجاحه في إجهاض الانقلاب الداخلي عليه، كأوّل زعيم تركي ينجح في الصمود بوجه الانقلابات، فيما طبعت الحقبة الأتاتوركية بعهود الانقلابات العسكرية على الرؤساء المنتخبين، وبسطوة الجيش على المفاصل السياسية والإدارية في تركيا. في عهد أردوغان وتحديداً ما بعد الانقلاب الأخير، وما بعد الاستفتاء الذي نجح فيه الرئيس التركي بتحويل بلاده إلى نظام رئاسي يتسيّده بنفسه… انعدم نفوذ الجيش، مقابل تعزيز نفوذ جهاز الاستخبارات.

حقان فيدان بات رجل تركيا القوي، ونصير أردوغان، رئيس الاستخبارات الذي نال الثقة الكاملة من رئيسه بعد أن كان أوّل من كشف الستار عن الانقلاب العسكري الفاشل، مفوضاً بوضع سياسة وخطط تركية لافتتاح القرن الجديد من تاريخ الجمهورية التركية.

تتسع مطامح فيدان، من سوريا إلى العراق، وصولاً إلى ليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط، لتحفظ أنقرة حقوقها ومصالحها النفطية والغازية في وسط البحر. وهي التي تستعد لتطوي مئة سنة على اتفاقية لوزان، كي تبدأ في عمليات التنقيب عن النفط داخل أراضيها ومياهها. كان لا بدّ من ذهاب أردوغان إلى ليبيا ليمنع تكوين جبهة إقليمية مناهضة لتركيا، تعمل على محاصرتها وتطويقها من مصر والأردن وإسرائيل واليونان وقبرص.

حقان فيدان هو أحد الممسكين بزمام مبادرة المشروع التركي في المنطقة. اتفاقية لوزان بالنسبة إلى الأتراك ظالمة، ومنعت تركيا من التمتع بنفوذ سياسي في المنطقة لمدة مئة عام، بخلاف المشروع الإيراني وغيره. تنتظر تركيا هذه المحطّة لاستعادة الدور والنفوذ، الذي بدأ التمهيد له منذ سنوات، في الدول الآنفة الذكر. لبنان لا بدّ أن يكون على الخريطة التركية أيضاً.

قبل حوالي سنة، زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بيروت، وفاتح المسؤولين اللبنانيين بطلب عقد اتفاق على ترسيم الخطوط البحرية. لم يلقَ استجابة لبنانية، لكنّه يريد فقط ضمان عدم ذهاب لبنان إلى التوافق والترسيم مع اليونان وقبرص بمعزل عن تركيا.

اتّخذت أنقرة قرار الدخول إلى ليبيا، على طول الخط البحري. لأنّها تنطلق من ضرورة الاحتفاظ بمناطق نفوذ، ولبنان لن يكون بمنأى عنها مستقبلاً. خاصة أنّ تركيا تراهن على دور لها في لبنان استناداً إلى معطيات عديدة، أبرزها استشعارها “القهر السنّي” الهائل بفعل الفراغ العربي، وبفعل غياب وانعدام أيّ مشروع سياسي قادر على احتضان السنّة وإثبات فعاليتهم في المعادلة الوطنية. تراهن تركيا على الشعور بالوهن السنّي، مرتكزة على شعبية أردوغان وتقديم نموذجه الناجح سياسياً واقتصادياً، الذي يجعله مثالاً تتلاقى معه طموحات كثير من اللبنانيين. وهؤلاء يحتفظون في وجدانهم بكثير من الحنين إلى السلطنة العثمانية.

في العام 2023 مثلاً، تستعيد تركيا كثيرا من أملاكها في لبنان، مثل “مدرسة حوض الولاية”، و”السراي الحكومي” في بيروت، وأملاكاً كثيرة مستأجرة بقيمة عملة انقضى عليها الزمن. كما تستعيد تركيا سيادتها على مضيق البوسفور، الذي جعلته اتفاقية لوزان مضيقاً مفتوحاً أمام السفن التجارية لكلّ دول العالم.

يسعى أردوغان إلى إعلان تركيا الأردوغانية خلال السنوات المقبلة، مرتكزاً على الثقافة الإسلامية أو العثمانية، التي يستعيد من خلالها سلاحاً ثقافياً تاريخياً، من أرطغرل والمؤسس عثمان، إلى السلطان عبد الحميد.

حاكت الدرما التركية عناصر تكوين السلطنة العثمانية وتأسيسها، وآخر حقبها في عهد السلطان عبد الحميد، الذي يركّز أردوغان في اللاوعي الثقافي المراد إرساؤه، على تجديد انطلاقة تركيا في عهده، من حيث انتهى عهد عبد الحميد. ذاك الذي تُرك وحيداً وتعرّض للمكائد والمؤامرات، تماماً كما يصوّر أردوغان نفسه ضحية. حتّى إنّ الجموع المؤيدة لأردوغان ومنذ ما بعد الانقلاب إلى ما بعد الاستفتاء يردّدون بأنهم لن يتركوه وحيداً كما تُرك عبد الحميد من قبل.

يتجاوز أردوغان بشخصه وشعبويته، مدارات حزب العدالة والتنمية. هو الذي أصبح بنظر نفسه أكبر من الحزب الذي تتجاذبه خلافات كثيرة، لم تكن آخر محطاته، تأسيس ميرال أكشنار “حزب الخير”، ولا ذهاب لدوده اللصيق سابقاً أحمد داوود أوغلو مع علي باباجان إلى تأسيس حزب جديد، يفترض أن يغرف من صحن العدالة والتنمية. مرحلة الحزب كانت انتقالية بالنسبة إلى أردوغان، الذي يريد أن يكون أكبر من المؤسسة الحزبية التي أنتجته وجاءت به، تماماً كما كان عبد الحميد في علاقته مع السلطنة والباشوات. وهو الذي لا يفارق دعائياته عبد الحميد ومشاريعه. فيدّعي أّنّ تنمويته مستمدّة مما بدأه عبد الحميد، وأنّها استمرار لمساره، من البنى التحتية، والمعابر والأنفاق المائية، وآخرها نفق أوراسيا.

تنتظر تركيا سنوات ثلاث لتطوي مرحلة اتفاقية لوزان، وتفتح مرحلة جديدة، يسعى أردوغان من خلالها إلى توسيع نفوذه في دول الجوار، التي تضجّ بالأزمات والفراغات الهائلة، مراهناً على أنّ الطبيعة لا تقبل الفراغ. وهو تجتمع فيه تناقضات كثيرة، من تحالفه مع حزب الحركة القومية، أو إسلاميته

التي يعبّر من خلالها عدم الانحسار داخل حدود وطنية، فتتوسع مشاريعه إلى سوريا ولبنان والعراق وليبيا. وهو الذي يستمر في محاولات ترتيب علاقته بإسرائيل والفلسطينيين معاً، عارفاً أن لا مجال للشروع في تخطّي الحدود التركية دون علاقة جيدة مع إسرائيل، حالياً ينتظر أردوغان حصول انقلاب إسرائيلي على بنيامين نتنياهو، سيرسي متغيرات كثيرة، لا بد لها أن تنعكس على واقع المنطقة ككل.

تلفزيون سوريا

———————————–

العرب يموّلون تقلبات السياسة الأميركية/ أحمد جابر

ينتظر العالم الإدارة الأميركية الجديدة وسياساتها، مع انتقال الإمرة إلى الرئيس الجديد، جو بايدن، الذي يظهر عزماً مبكراً، على مخالفة سياسة سلفه دونالد ترامب، في مفاصل مهمة منها. لكن بين إعلان العزم السياسي، من قبل المسؤول الأميركي الأول، وبين الوقائع المصلحية العنيدة، التي تؤمن استمراريتها “الإدارة الأميركية العميقة”، تتبدل نوايا كثيرة، وتدوّر زوايا عديدة، وتبتكر “نظريات” تسوِّغ ما هو قائم، وتشرح مدى التبديل الذي يجب أن يصيبه، أو حدود التعديل الضرورية التي يجب أن يخضع لها.

أميركا وإيران

تحتل إيران البند الأول على مفكرة السياسة الأميركية، ارتباطاً بملفها النووي، هذا الذي جعله الرئيس أوباما درّة إنجازاته، عندما حاز توقيع “الخصم الإيراني”، وعندما أوقف العمل به، الرئيس ترامب، وجعله نقطة ارتكاز سياسته الهجومية العالمية.

انطلاقاً من القراءة الاسترجاعية لظروف توقيع الاتفاق، ولعناصر الانسحاب منه، يجب القول إن سياسة الإدارتين الأميركيتين، الديمقراطية والجمهورية، تتحملان مجتمعتين المسؤولية الأولى عن السماح بتمدد النفوذ الإيراني، في العراق وأفغانستان، وفي اليمن وسوريا ولبنان، ففي كل هذه البلاد، كانت إيران “حليفاً موضوعياً”، للسياسة الأميركية التي استهدفت الأكثرية العربية، من خلال جعلها أكثرية مذهبية سنية أولاً، ومن خلال شيطنتها بالجملة، عندما جعلتها منتجاً وحاضناً للإرهاب العالمي. لقد واءم التصنيف الأميركي، السياسة الأميركية الإيرانية التي توسّلت المذهبية كسلاح لانتشارها، وكمادة لتثبيت نفوذها، بين من يشبهها مذهبياً، فيقول قولها سياسياً. الخلاصة من السياسة الأميركية كانت إعلان هجوم “أممي”، ضد “الأممية الإسلامية” الإرهابية، والخلاصة من السياسة الإيرانية كانت، إعلان “أممية مذهبية” في ثوبٍ إسلامي فضفاض، ضد ذات الأممية المذهبية المستهدفة أميركياً.

وعلى ذات السياق السياسي الأميركي، لم يتجاوز التهديد الذي كان يوجه إلى إيران، حدود مطلب تعديل سلوك النظام، وليس تغييره. لقد حمل التهديد هذا دائماً، عنصر طمأنينة للنظام الحاكم في إيران، وترك له المجال فسيحاً، ليبادل الإدارة الأميركية لعبة شدّ الحبال، ولعبة عضّ الأصابع، وفي مضماري اللعبتين، كانت الأثمان تدفع من أرواح المواطنين العرب، ومن استقرار بلدانهم، ومن خزائن ثرواتهم. الخلاصة المشتركة التي تجمع بين سياستي أميركا وإيران هي: منع الاستقرار في الديار العربية، ومن مدخل هزّ الاستقرار، تبقى الدول المستهدفة موضوعاً للابتزاز السياسي والجغرافي والديمغرافي والمالي، مما يجعل من هذه البلاد ملحقاً وتابعاً، يقرَّر مصيره الأخير على طاولة التفاوض الإقليمي، الذي يجلس إليها أكثر من شريك ظاهر، ويقف خلفها أكثر من شريك مستتر.

أميركا وتركيا

تتحرك تركيا كشريك واضح في تقرير مصير خريطة توزيع النفوذ في “الإقليم”، وتتبع سياسات نشطة تخالف بعض جوانب سياسات حلفائها القدامى، وترسل رسائل ذات معانٍ عديدة، إلى من يمكن أن تختارهم كأصدقاء جددٍ.

لا ترضي السياسة التركية تماماً، حليفها الأميركي، وتصل إلى حدود تلامس التوتر مع شركائها في حلف الناتو، خاصةً الأوروبيين منهم، وتقترب من السير على “حافة السقوط” عن الحبل المشدود، مع الروسي الذي يقترب منها في مكان، ويميِّز سياساته عنها في مكان آخر، هذا لأن الروسي يسير هو الآخر على خط “سيرك” مفرد، ويخشى السقوط على أرض إدارة الظهر للأميركي، أو وضع السقوط في أحضان الطامح التركي، أو السقوط في وهده الجفاء مع المنافس الإيراني. هذه “النقزة” تتحكم بالسياسة التركية، حيث الميادين مشتركة، وحيث الشريك والمنافس المتربِّص، يدير كل منهم سياساته التركية، متسلحاً بالحذر اللازم، وبالتحرك المتوازن، و”بالتقية” المقصودة.

معاينة السياسة الأميركية حيال تركيا، تظهر بوضوح اختلاف المعايير التي يعتمدها المسؤول الأميركي حيال كل من حليفته الأطلسية، وحيال إيران، التي يصنفها كخصم إقليمي، وكمسؤول عن جانبٍ من الأعمال الإرهابية. المعايير تظهر تناقضاً، إذا ما قيست على التصنيف الأميركي لكل من تركيا وإيران، فالسياسة حيال الحليف المفترض، الذي هو التركي، تقوم على طلب ضبطه وتحجيمه، وعلى دعوته إلى الالتزام بموجبات انتمائه الأطلسي، هذا من دون الأخذ في الاعتبار، أن الموجبات الأطلسية جرى العبث بها من قبل السياسي الأميركي قبل غيره، وحيال أوروبا مجتمعة التي تشكل المجموعة الأهم على إحدى ضفتي الأطلسي.

في مقابل المشاغبة على التركي مباشرة، شاغبت السياسة الأميركية على الإيراني بالواسطة، فذهبت إلى ميادين نفوذه بدلاً من أن تذهب إلى قواعد ارتكازه الداخلية، هكذا استهدفت شعوب وبلدان كبدل عن “ضائع”، مع أن الضائع أميركياً، معروف عالمياً، ويشار إليه بالبنان. خلاصة الأمر، أن السياسة الأميركية، وهي تعيد قصّ وتفصيل وخياطة الأدوار الإقليمية، ما زالت توجه “االرعاية” الأعلى “لعدوها”، وما زالت تستهدف “بالتنبيه” الأعلى، شريكها المفترض في المواجهة التي تخوضها. لماذا هذا؟ وهل في الأمر تخبط سياسي أميركي؟

الأقرب إلى الواقع القول، إن أميركا إذ تفعل ذلك، فإنها تبني نصها السياسي المفترض، على النص السياسي الوظيفي الواقعي، الذي تريده لكل من تركيا وإيران، وعلى دور كل منهما الذي يقيم على تماس مع المنطقة العربية من جهة، ومع أفغانستان، وآسيا الوسطى من جهة أخرى، وهذا ما يلخصّه القول باستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية العالمية، التي لا تغمض عينها عن موسكو، عندما تخاطف أنقرة، ولا تشيح ببصرها عن بكين، وهي تكثر الحديث عن طهران.

أميركا والمنطقة العربية

مما تقدَّم، لا يخفى أن المستهدف بالخسارة هو “العربي” قبل غيره، ومما هو معلوم، أن البلاد العربية عاشت وتعيش، في أجواء كارثية جراء هذا الاستهداف، ومما هو غريب وغير مألوف، أن الهجوم الأميركي هذا مغلَّف بعناوين الصداقة، والتحالف ضد الإرهاب، والرؤى المستقبلية المشتركة، والتعاون على صعيد دولي عام!!

المبادرة إلى تحديد الاستهداف، وبالإسم وبالسياسة، يطرح على “العرب” عموماً، وعلى الخليج العربي ومصر خصوصاً، التنبُّه لما قد تكون عليه “منوعات” السياسة الأميركية في ظل رئاسة جو بايدن، ولما قد يستمر من “الترامبية” فيها، خاصةً في ميدان الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الميدان الإيراني. لن يكون مفارقاً للواقع القول، إن دول الخليج ومصر، ستظل مطالبة بتسهيل السياسة الأميركية، فيكون التطبيع المتوالي مع إسرائيل على حساب المصالح العربية عموماً، وعلى حساب القضية الفلسطينية خصوصاً. كذلك سيكون الطرفان مطالبين، بعدم عرقلة سبل الاتفاق مع إيران، من خلال إحياء الاتفاق النووي القديم، أو من خلال اعتماده معدَّلاً. إلى ذلك، فإن دول الخليج سيُلقى على عاتقها “واجب” دفع المال اللازم على كل جبهات التقدم الأميركي، في “هجومه” الهادئ الجديد، مثلما كان مطلوباً منها التغطية المالية، عندما كان الهجوم الأميركي صاخباً في السابق.

لعلَّ من أولى المهمات التي تواجه العرب عموماً، هي المبادرة إلى وضع حدّ للخلافات البينية، أو تأجيلها على الأقل، والمبادرة إلى إعادة صياغة أسس عمل عربي مشترك، لتشكيل درع وقاية من التبدُّلات المرتقبة، بحيث إذا لم يفلح الدرع في صد كل الأخطار، فليكن قادراً، أقلِّه، على الحدّ من تداعياتها.

يتبدَّل العالم سريعاً، وعندما يجري قطار الزمن، لا يمكن التخلف طويلاً في قاعات الانتظار.

المدن

—————————-

الجرح الايراني والملح الاردوغاني/ حسن فحص

لاشك ان القيادات الايراني كانت تراقب عن كثب وقائع استقبال الابطال والمنتصرين الذي اقيم للرئيس التركي رجب طيب اردوغان في زيارته الى العاصمة الاذربايجانية باكو للاحتفال بالنصر العسكري على أرمينيا الذي حققته اذربايجان بمساعدة عسكرية من الجيش التركي والمقاتلين السوريين الموالين لانقرة الى جانب نظيره الاذربايجاني الهام علييف.

الحساسية الايرانية من هذه الزيارة والابعاد الجيوسياسية التي تحملها كانت مرتفعة الى حد التوتر، وواكبت كل التفاصيل المرافقة لهذه الزيارة، حتى لأدق التفاصيل في خطاب الرئيسين التركي والاذربايجاني، وتفجر هذا التوتر عندما استشهد اردوغان بأغنية شعبية آذرية تتحدث الالام التي تعانيها شعوب المنطقة الواقعة شمال نهر”آراس” في 17 ولاية، التي انسخلت عن ايران على مراحل بعد معاهدتي كلستان(1813) وتركمنتشاي (1828) مع روسيا القيصرية، وتقول الاغنية ما مضمونه “لقد فصلوا اراس وزرعوه بقضبان الحديد والحجارة/ انا لا انفصل عنك/ لقد فصلونا بالقوة”.

وعلى الرغم من محاولات تذكير الرئيس التركي بان الارض التي يتحدث عنها قد انفصلت عن ايران، الا ان التوقيت الذي جاءت فيه وبالتزامن مع الانقلاب الجيوسياسي الذي نتج عن حرب اقليم ناغورنو قره باغ وما اسفرت عنه من استعادة باكو لسيطرتها على هذا الاقليم، الامر الذي ايقظ الحساسيات وحتى المخاوف الايرانية من تداعيات هذا التحول الاستراتيجي على حدودها الشمالية والطريق التي تربطها بالقوقاز واسيا الوسطى وصولا الى الصين وروسيا.

التحدي الذي اطلقه اردوغان في خطابه والاغنية الشعبية التي استشهد بها، كانت بمثابة الملح – التركي – الاردوغاني الذي نثره على الجرح الايراني وما فيه من تداعيات الذاكرة المرة في هذه المنطقة، وفتحت الباب امام التحذير من مخاطر الاحلام التي تدور في ذهن الرئيس التركي في تكريس “العثمانية الجديدة” من بوابة استقطاب الشعوب التركية والاذرية في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، خاصة وان اردوغان في خطابه حاول ايصال رسالة واضحة للجانب الايراني بان اذربايجان قد انفصلت عن الجسد التركي وهاهي تعود اليه مرة جديدة.

ولعل اخطر ما يمكن ان يحمله كلام الرئيس التركي للجانب الايراني، هو الحديث عن الجهود التي يجب ان تبذل لاستعادة كل المناطق التي يعيش فيها الاتراك او الاذريون الى الحضن التركي، ما يعني ان اردوغان ومن اجل الوصول الى الاهداف التي يسعى وراءها في مختلف المناطق، ان كان في سوريا او ليبيا او شرق البحر الابيض المتوسط، والان في القوقاز واسيا الوسطى، قد لا يتورع عن القيام باي خطوة حتى داخل ايران من اجل تحقيق ذلك. والخطر في هذا التوجه نحو “التركية الجديدة الاردوغانية” هو استعداده لمد يد الى المناطق الاذرية داخل ايران وما فيه من اثارة للحساسيات القومية في محاولة لتحريك هذا المكون واعتباره الهدف التالي بعد اذربايجان للعودة الى الحضن التركي، وهذا بالنسبة لايران محاولة اردوغانية لاعادة احياء الصراع التاريخي العثماني الصفوي، وبالتالي استهداف لامنها القومي في هذا المفصل الدقيق من ازماتها المتعددة وما يعنيه ذلك من امكانية تفجر صراعات داخلية على خلفية قومية بين مكونات الشعب الايراني.

هذه النقلة في مسيرة “الدكتاتور القومي” حسب توصيف بعض الاوساط الايرانية لأردوغان ، شكل صدمة لدى هذه الاوساط ودفعها لاعادة قراءة التطورات الحاصلة في علاقات ايران مع تركيا – اردوغان في العقدين الاخيرين، وما شهدته حرب اذربايجان – ارمينيا من تطورات أحدثت تغييرا جوهريا في الموقف الجيو سياسي والجيو اقتصادي لايران في منطقة القوقاز يجب ان ينظر له من منظار الطموحات التركية لتكريس دور جديد في اطار العثمانية الجديدة والتي تعتمد في الدرجة الاولى على محاصرة الدور الايراني في منطقة غرب آسيا وبناء الموقع التركي على حسابه او بالشراكة معه.

هذه التطورات أربكت المشهد الايراني الساعي الى الحد والتقليل من حجم الخسائر والاستمرار في عملية الصبر الاستراتيجي في مواجهة الحصار الامريكي بانتظار حصول متغير ينقل المنطقة الى مرحلة من الحوار، الا انها كشفت للقيادة الايرانية ان الخطر الذي تشكله جيوسياسية الاقليات القومية، خاصة القومية التركية قد تشكل مصدر تهديد حقيقي للطموح الايراني في تكريس دور اقليمي في هذه المنطقة، والخطر يأتي هذه المرة من طموحات الرئيس التركي ليكون السلطان الجديد في الاقليم على حساب كل مؤلفاته حتى العربية، وليس من الجار التركي او الجوار الجغرافي الذي لا يمكن تغييره، بل يجب التعامل معه على أساس المصالح المشتركة وشروطها. وهذه الطموحات “الاردوغانية” تفرض على المسؤولين الايرانيين إعادة تقويم المواقف التي اتخذت حول ازمة قره باغ والانتقال من الحياد الايجابي لصالح أرمينيا الى التشدد في دعم الحقوق الاذربايجانية في استعادة اراضيها، خاصة تلك المواقف التي صدرت عن المرشد الاعلى وعن ائمة الجمعة في المحافظات الاربع التي تضم ابناء القومية الاذرية في ايران، باعتبار انها فتحت الطريق امام اردوغان للاحتفال بالنصر التاريخي الذي فتح له الطريق واسعاً للنفاذ الى منطقة القوقاز واسيا الوسطى واستنهاض العصبية القومية لبناء دور له على حساب المصالح الايرانية.

واذا ما كان اردوغان في خطابه حول عودة مناطق انتشار القومية التركية الى الحضن التركي يحمل رسالة غير ايجابية لكل من روسيا والصين وامكانية ان تتحول مناطق القوقاز واسيا الوسطى الى ساحة مفتوحة لصراع نفوذ جديد، فإن اي تغيير جيوسياسي في هذه المنطقة سيسمح لطموحات اردوغان ان تصل الى حدود الصين والاقلية الايغورية، الامر الذي قد يفرض على هذه الدول مع ايران اعادة صياغة موقفها من تطورات هذه المنطقة والتوقف عند الدور والطموح التركي المستجد الذي يبحث عن ساحة جديدة لترميم هذه الطموحات التي تتعرض لانتكاسات في سوريا وليبيا وشرق المتوسط وتضعه في مواجهة سيف العقوبات الاقتصادية التي بدأت تطل برأسها بوضوح، فضلا عن امكانية ان يواجه سياسة ايرانية عراقية جديدة في مواجهة طموحاته الكردية والموصلية.

المدن

——————————

إيران تعلن انتهاء الأزمة مع تركيا

أعلنت السلطات الإيرانية الأحد، انتهاء “سوء الفهم” بين طهران وأنقرة، عقب الاتصال الهاتفي بين وزيري خارجية البلدين. وقالت السفارة الإيرانية في تركيا، في تغريدة، إن الطرفين أكدا أهمية تعزيز وتوسيع العلاقات بين البلدين.

وبحث وزيرا خارجية البلدين مولود تشاوش أوغلو ومحمد جواد ظريف، خلال مكالمة هاتفية السبت، الخلاف الدبلوماسي الذي برز بين دولتيهما بعدما تلا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال زيارته إلى أذربيجان مؤخراً، أبيات شعر تتحدث عن نهر آراس الحدودي، الأمر الذي أثار غضب المسؤولين الإيرانيين، ورأى في ذلك الكثيرون من الإيرانيين اعتداء على سيادة بلدهم.

ونقلت وكالة “الأناضول” عن مصادر أن تشاووش أوغلو أوضح لظريف أن القصيدة تتعلق بإقليم قره باغ و”لم يلمح الرئيس مجرد تلميح إلى إيران”، مؤكداً “عدم قبوله الإدلاء بتصريحات شديدة اللهجة لا أساس لها استهدفت الرئيس أردوغان، بذريعة القصيدة، في وقت كان بإمكان طهران التواصل مع أنقرة عبر القنوات المفتوحة”.

وذكّر تشاووش أوغلو، حسب “الأناضول”، بأن تركيا “وقفت إلى جانب إيران في أيام الشدائد، حينما أدار الجميع ظهورهم لها”، ودعا ظريف إلى “عدم نسيان هذه الحقيقة”، وقال إن خيبة أمل أنقرة زادت إزاء التصريحات الإيرانية المذكورة.

وتختلف الرواية “التركية” بشأن المكالمة جذريا عن بيان الخارجية الإيرانية الذي ينص على أن تشاووش أوغلو أكد لظريف التزام أنقرة بسيادة إيران وأوضح أن أردوغان لم يكن على دراية بشأن حساسية تلك القصيدة بالنسبة لإيران.

وكانت وزارة الخارجية الإيرانية استدعت سفير تركيا بطهران الجمعة، وسلمته مذكرة احتجاج شديدة اللهجة على تصريحات أردوغان، التي وصفتها ب”التدخلية وغير المقبولة في شؤون الجمهورية الإسلامية”.

فيما استدعت وزارة الخارجية التركية السفير الإيراني لدى أنقرة، بسبب استيائها من ادعاءات وجهتها طهران بحق أردوغان. وعبرت الخارجية التركية للسفير الإيراني، عن استيائها من استدعاء الخارجية الإيرانية سفير أنقرة.

ورغم إعلان انتهاء الأزمة، أصدر مجلس الشورى الإيراني الأحد، بياناً “استنكر فيه تصريحات أردوغان، التي تمس وحدة أراضي الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.

وأعلن 214 نائباً في البرلمان الإيراني، احتجاجهم على التصريحات الأخيرة للرئيس التركي، مؤكدين أن “أدبيات الرئيس التركي المثيرة للانقسام غير مقبولة”. وقال البيان إن “استخدام الأدبيات المثيرة للانقسام من قبل الرئيس التركي، الذي يتوقع حسن الجوار وبذل الجهود من أجل وحدة العالم الإسلامي وإحلال السلام والاستقرار في المنطقة، يعد أمراً مستغرباً للغاية وغير مقبول ونحن ندينه بشدة”.

————————–

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى