ثقافة وفكر

النسويّات وسياسات الفضح: شرطة أخلاقيّة أم عدالة بديلة؟/ مايا العمّار

أثبت لجوء النساء إلى مواقع التواصل الاجتماعي للبوح عن تعرّضهنّ للعنف والتحرّش جدواه في أكثر من حالة. ولكن هل هذا هو شكل العدالة المطلوب للناجيات؟ أين ينجح الفضح وأين يخفق؟

في كلّ جلسة نقاش أو عشاء، يحضر السؤال نفسه تقريباً، حول العنف ضد النساء وتعريفه وآليّات التعامل معه ومحاسبة مرتكبيه. تعلو أصوات الحاضرين في وجه نسويّات، ممّن يسمّونهنّ “الراديكاليّات”، وغالباً ما ينقسم الجالسون بين فئتين من المُتململين. الأولى هي فئة متفهّمي ردود فعل النساء الشاكيات والناشطات الحقوقيّات اللواتي يدعمنهنّ ما أن يبحن بالتعرّض للتحرّش أو العنف، إلّا أنّ هذه الفئة تبقى حائرة أو غير مقتنعة بعدالة مسار الدعم المعتمد، تحديداً لجهة فضح اسم المرتكب المفترض أو اللجوء إلى مقاطعته. أمّا الثانية فهي فئة رافضي أساليب العدالة البديلة بالمطلق، وإن أقرّوا بأن اعتمادها سببه غياب العدالة القانونيّة والمجتمعيّة وواقع الاستهتار بشكاوى النساء، لا سيّما تلك المتعلّقة بالتحرّش الجنسي الإلكتروني واللفظي والبصري. 

لماذا تلجأ النساء إلى مواقع التواصل الاجتماعي؟

في السنوات القليلة الماضية، راج لجوء النساء إلى مواقع التواصل الاجتماعي لمشاركة شهاداتهنّ وقصصهنّ مع العنف الجنسي عموماً، في أكثر من دولة عربيّة وغربيّة، ولاقَيْن تشجيعاً لا بأس به في حالات عدّة، حتّى ولو لم تُفضِ مشاركاتهنّ إلى أحكامٍ قضائيّة نموذجيّة لمصلحتهنّ. وهنا من المُجدي التذكير بأن لجوء النساء إلى مواقع التواصل الاجتماعي كان ينبع في معظم الحالات من إدراكهنّ ضآلة حظوظهنّ في كسب المعارك القضائيّة، في ظلّ ضعف النصوص القانونيّة الخاصّة بالعنف الجنسي، والعقليّة الذكوريّة التي تسود سلطات إنفاذ القانون وعناصرها، حتّى في الدول الغربيّة. إلى ذلك، غالباً ما لا تتناسب الانتهاكات التي تتعرّض لها النساء مع الفلسفتَيْن التشريعيّة والاجتماعيّة السائدتَين، ومنطق التعريفات الجامدة الذي تستندان إليه. لذا، انبرت النساء إلى صوغ همومهنّ ومخاوفهنّ بكلماتهنّ، ومواءمة احتياجاتهنّ مع التفرّعات القانونيّة المتاحة، وفي بعض السياقات، إلى البحث عن أدوات نضاليّة بديلة يعوّضن بها عن إخفاق القانون والمجتمع في إنصافهنّ، وذلك بهدف ممارسة حقوقهنّ في البوح والمساءلة والعدالة التي حُرمن منها لقرون طويلة.

لجأت النساء إلى مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً لتحذير غيرهنّ من النساء من هذا الشخص أو ذاك، وإرسال إشارة إلى مَن سبق أن خافت أو قلقت أو تألّمت لوحدها بأنّها في الواقع ليست وحدها، وأنّ هناك امرأة أو اثنتين أو العشرات غيرها، تعرّضن للانتهاكات ذاتها على يد الرجل نفسه. وهذا بالفعل ما حصل في لبنان أخيراً مع شاب تبّين أنّ في رصيده أكثر من 50 حالة تحرّش جنسي وتعقّب. وهذا ما حصل حين رفعت المرأة الأولى شكواها في منشور إلكتروني تحدّثت فيه عن قيام الداعية الإسلامي والأستاذ المصري طارق رمضان باغتصابها، وهو يحاول حالياً تبرئة نفسه من اتّهامات عدّة وجّهها إليه القضاء الفرنسي. وهذا ما حصل حين أعلنت المرأة الأولى عن قيام الفنّان المغربي سعد لمجرّد باغتصابها، وهو ما زال يُحاكم في فرنسا أيضاً. وهذا ما حصل حين شكت المرأة الأولى تعرّضها لمحاولة اغتصاب على يد الصحافي المصري يسري فودة، وكرّت بعد شهادتها سبحة الشكاوى والمنشورات في ألمانيا، حيث كان فودة يعمل مقّدماً لبرنامج “السلطة الخامسة” على قناة “دوتشيه فيلليه” التي أنهت علاقتها به، بعد التحقّق من مزاعم التحرّش، والتي عادت ووثّقتها صحيفة “تسايت” عام 2018 في تحقيق استقصائي تضمّن مقابلات معمّقة مع الناجيات.

إذاً، أثبت لجوء النساء إلى “العلن” الذي تمثّله مواقع التواصل الاجتماعي جدواه في أكثر من حالة، إذ ساعد النساء على تصديق أنفسهنّ أوّلاً، وتصديق أنهنّ لسن مجنونات أو مهلوسات أو هاويات انتقام، بخاصّة حين يكون المتّهم شخصاً قويّاً له حيثيّة وازنة في محيطه. والأهم، أنّه ساعدهنّ على الاعتراف أمام ذواتهنّ بشرعيّة إحساسهنّ بالانزعاج، أو الألم، أو الانكسار، لمجرّد تأكّدهنّ من أنّ المشكلة ليست بشخصهنّ، بل بشخص مَن اعتدى عليهنّ، حتّى ولو كان رجلاً “محترَماً” في مجتمعه، أو رجلاً قريباً أو عزيزاً.

“الاغتصاب شيء والعنف شيء آخر”

يُلحَظ استمرار تسجيل الكثير من الأصدقاء والمعارف، تحفّظات على هذه الوسيلة (البوح والفضح على مواقع التواصل الاجتماعي)، حتّى بعد عرض هذه الأمثلة، أبرزها التحفّظ القائل إنّ الاغتصاب شيء، وهو دوماً مُدان، والتحرّش الجنسي “الخفيف”، والعنف في العلاقات الحميمة، شيئان آخران، نظراً لصعوبة إثبات الانتهاك الأوّل، بخاصّة حين يكون عرضيّاً، وافتراض سهولة مقاومته، ووجود طبقات من التعقيدات العاطفيّة والتفصيليّة في قصّة الانتهاك الثاني. وفي هذا الاعتقاد شيء من الصحّة، لا سيّما لناحية وجود معطيات خاصّة ومستويات لأي انتهاك أو جريمة.

إنّما في هذا الاعتقاد الكثير من المغالطات أيضاً.

المغالطة الأولى والأهم هي في اعتبار أنّنا في حقبة من التاريخ أصبح فيها الاغتصاب يُدان بشكل تلقائي وبداهي، وأن لا خلاف اليوم على التنديد به، في وقت لا يزال غياب الكدمات أو الوجود الإرادي للمرأة في شقّة المعتدي، يغرز الشكوك في رؤوس الكثيرين، بمن فيهم داعمو قضايا نسويّة شتّى.

ترى أسئلة من قبيل، “لماذا ذهَبَتْ إلى شقّته؟”، “لماذا تجاوبت معه وهي تعلم أن له سوابق؟”، “لماذا لم تروِ قصّةً واحدةً متناسقةً مثاليّة؟”، أسئلة تدور في عيونهم، وإن لم يطرحوها. ولا بأس، فليطرحوها. فليشكّوا. فلنبُق نحن أيضاً معهم البحصة. بمعنى آخر، فلنخبر أنفسنا أن لا مانع من التعبير عن غيظنا ونعترف بـ”حوصتنا”. لكن، وبالتوازي مع السماح لذواتنا باختبار الغضب، فلنكفّ عن التنظير على غيرنا الذي لا يتمتّع بالضرورة بسمات قوّتنا أو بمعجم مفاهيمنا أو اتّساق خطابنا. ولنتذكّر أيضاً المرّات السابقة التي كنّا فيها نحن أيضاً نعطي الفرص لأشخاصٍ يعرّضوننا للأذية، ونحن أيضاً نخاف من قول الحقيقة، ولنسألْ ذواتنا لماذا؟

ألم نكن نحن مَن قلنا إنّ الانجذابات العاطفيّة والرغبات الجنسيّة شديدة التعقيد؟ فلمَ ندين بهذه الحجّة المُعَنَّفة، خصوصاً تلك التي تبدو قويّة، ونستخدمها لتبرئة المُدان؟

تكمن المغالطة الكبرى الثانية في اعتبار أنّنا في حقبة من التاريخ ستُدعَم فيها النساء المُعرّضات للتحرّش ما أن يتفوّهن بكلمتين، ويُدان فيها المرتكبون تلقائيّاً ما أن يُعلم بهم، وبالتالي، لا يعود سكوت النساء اليوم مقبولاً. فحصولهنّ على الدعم صار مضموناً أكثر من ذي قبل.

صحيح أنّ هذا الدعم تُرجِم فعليّاً في عددٍ من الحالات، ومع ذلك، لم تأتِ تلك الترجمة من دون عراقيل جمّة. فقد بدا التضامن بين النساء لبعض الأشخاص بمثابة تحالفٍ خطر. فجأةً، وعلى إثر تحقّق شيء من التعاضد، اهتزّت كيانات. رُذِل الجسم الغريب المستجدّ، حتّى من قِبَل مَن كانوا ينادون به. شعروا بغرابته عنهم، و”بعنفه” ربّما. “عنف” داعمات الناجيات صار لبعضهم بمستوى قساوة عنف المُرتكِب. لكن المؤسف أنّه لولا هذا “العنف”، لما اهتزّ المرتكب، متحرّشاً كان أو معنِّفاً، ولما قرّر الاعتراف والتغيّر ربّما. ولا أحد يعترض على حقّ الفرد في تحوّلٍ كهذا، رجلاً كان أو امرأة.

لكنّ المسألة لا تنتهي هنا.

ما بعد البوح

التيّارات النسويّة من حول العالم هي تيّارات دائمة التحوّل والحركيّة، وعليها أن تكون كذلك لكي لا ينخر الصدأ عظمها. عليها أن تجرّب وتصيب وتخطئ وتصحّح. عليها ألا تتوقّف عن السؤال، وأن تنصت إلى إجابات مَن يحومون خارج دوائرها وتتلقّف المعاني والإشارات. من دون هذا الاشتباك المعقّد والوعي باختلاف الأنساق، ستقع المجموعات في فخّ غُرَف الصدى. تحاكي نفسها، تسأل السؤال وتجيب عنه ولا تسمع إلا صدى صوتها. ومن أكثر الأسئلة إلحاحاً التي تستدعي البحث فيها اليوم هو إذا ما أصبحنا أمام واقع غدت فيه نسويّاتٌ حالماتٌ بتغيير مجتمعيّ جذريّ أقرب إلى عناصر شرطة حاملات مصطلحات جاهزة وتعريفات معلّبة يدُرن فيها من حالة إلى حالة، ومحاكمة إلى محاكمة، وفي بعض الأحيان، من تشهير إلى آخر؟

من الواضح أنّ هناك شبّاناً قلقين اليوم من فكرة التشهير بهم بسبب انتهاكٍ لم يدروا به، أو لم يعرفوا لحظة اقترافه بأنّه موصوف كانتهاك، أو لم تُعلمهم به مَن أحسّت بضرره حين ارتكبوه الشهر الماضي، أو حتّى، عام 2007 مثلاً.

وقد تحدّث ممثّلون هوليووديّون عن عواقب حملة “أنا أيضاً أو Me Too” عليهم، وأطلقوا صفّارات الإنذار ضدّ ظاهرة “اغتيال الشخصيّة”، أو “حكم الإعدام” المعنوي، الذي يتسبّب به الفضح والتشهير ودعوات المقاطعة وقطع الأرزاق، أي عمليّاً قطع الأعناق التلقائي، مع وقف التنفيذ، بسبب انتهاكات لا يمكن التعريفُ عن الشخص أن يُختزل بها. وهي فكرة يتكرّر صداها في دوائر اجتماعيّة مختلفة، في دول عربيّة وغربيّة، ومن المفيد التوقّف عندها.

إعلاء الصوت بعيداً من سجون الدولة

لطالما كانت للنسويّات، بخاصّة الملقّبات بـ”الراديكاليّات”، مواقف معادية لثقافة التنمّر وممارسات اغتيال الشخصيّة التي تشكّل النساء والفتيات نسبة كبيرة من ضحاياها ويفهمن خير فهمٍ معانيها وآثارها. ولطالما عارضنَ أحكام الإعدام، ووقفن ضد نموذج العدالة السجنيّة حتّى، فاستطعن تخيّلَ عالمٍ خالٍ من صناعة السجون وإنشاءاتها، وبدأن وضع تصوّرات لكيفيّة الوصول إلى مثل هذا العالم.

في الوقت نفسه، كانت هؤلاء النسويّات الحالمات، ومنهنّ روث غيلمور وأنجيلا دايفس، داعمات شرسات لحقوق النساء ووجوب حمايتهنّ ومحاسبة المعتدين عليهنّ. لكنّ ذلك لم يمنعهنّ من صبّ انشغالهنّ في الخطوات القريبة والبعيدة الأمد اللازم اتّخاذها لتجاوز سؤال “ماذا نفعل بالمُعنِّفين والمجرمين؟”، والاهتمام أكثر بسؤال “ماذا نفعل لكي لا يعود هناك معنِّفون ومجرمون؟”. فالطرح الإلغائي لا يقتصر على إقفال سجن قديم أو منع إنشاء سجن جديد، بل يشتمل على العمل على معالجة جذور الأفعال المؤذية، من عنصريّة وإفقار وتمييز طبقي وجندري متعدّد الأشكال، وعلى تحقيق عدالة اجتماعيّة في صلب صراع طبقي كان الأصل في نشأة الفلسفة الإصلاحيّة السجنيّة.

وعلى النحو ذاته، لا يمكن أن يقتصر طرح العدالة البديلة القائمة على البوح والفضح بغية هزّ العصا –وهذا أمر مفهوم- على إعادة إنتاج سجنٍ جديدٍ موازٍ يسدّ غياب السجن الفعلي، من دون أن يشتمل على التفكير بأسئلة أخرى أبعد من الحدث الآني، تتعلّق بالحالة نفسها، وطبيعة الانتهاك، والأدوات المعتمدة، والآليّات المنوي اتّباعها لحماية الناجية، وبما هو مطلوب لئلا يبقى الشخص المتّهم بهذا الفعل أو ذاك منبوذاً إلى الأبد، صديقاً كان أم غريباً، ولئلا تبقى الناجية أسيرة الحدث- الخبر.

ولكن، يبدو أنّ التعب من عبء التفكير في الحلول، والذي غالباً ما يُلقى على عاتق الناجيات والناشطات الحقوقيّات، يحول دون التفكير بالأسئلة الأوسع حول شكل العدالة المنشودة، وهو ما أدّى بعددٍ منهنّ إلى اعتماد مقاربة أكثر صرامة، مفادها أنهنّ غير مضطرّات إلى تحمّل عبء التفكير بالحلول، وغير معنيّات بمصالح المرتكب، هنّ مَن يعانين من عواقب أفعاله على مدى ساعات أو أيّام أو سنوات. فشهادتهنّ المباشرة على التحرّش أو روايتهنّ الشخصيّة لما تعرّضن له كفيلان بتلقّيهنّ الدعم المطلوب، من تصديق وتضامن ومحاسبة معنويّة أو قانونيّة للمرتكِب.

لكنّ الحقيقة المرّة هي أنّ المعاناة من المشكلة هي حتماً مصحوبة بواجب المعاناة من حلّها والتفكير بتفرّعاتها؛ فواقع الحال يؤكّد لنا مراراً وتكراراً أنّ أحداً لن يبادر إلى إطلاق عجلة التفكير بهذه المسائل غير المعنيّات بها والمتضرّرات منها. والمطلوب اليوم وأبداً أن لا تشبه “سجوننا” سجون الدولة التي نسعى إلى إلغائها.

هل من مجلس قيادة يقرّر ذلك كله؟ بالطبع لا. ولكلّ حالة حيثيّاتها، وحلفاؤها، وظروفها. وللمناسبة، ما زالت أكثريّة الناجيات تتّخذ الصمت قراراً، بسبب الخطر المباشر وغير المباشر الذي يشكّله المعنِّف، وما زال المعنِّف ممتلئاً من نفسه في معظم الحالات، يهاب الاعتذار والتغيّر. أمّا القاعدة الوحيدة التي يمكن اعتمادها فهي أنّ الناجيات هنّ مَن يقرّرن عموماً الردّ من عدمه، وشكل هذا الردّ. وفي ما عدا ذلك، فإنّ الأفراد أحرار في ما يقرّرون ويدعمون، وجلّ ما بإمكان النسويّات فعله هو دعوة الجميع إلى التضامن مَع من “فضحت” نفسها أوّلاً وخدشت الحياء العام، لا مَع من خدشها وفضحَتْه ثانياً، من دون أن ينطوي ذلك بالضرورة على اغتيال كينونة الشخص، ما دام هذا الشخص قادراً على الاعتراف بخطأه وبذل الجهود من أجل التخلّص من سلوكه المؤذي والذكوري.

أمّا القلق المفرط على المُرتكِب، فليس سوى دليل قاطع على أنّنا لا نزال في حقبة من التاريخ ننحاز فيها للأقوى، للعشيرة، للمرتكِب حين يكون صديقاً، لمَن نحب ضد من لا نحب، للعادات القديمة المألوفة، أمام العادات الجديدة التي تشقّ طريقها نحو شكلٍ من أشكال العدالة. والمهمّ ألا نطمئن إلى أنّ الشكل الراهن من أي عدالة نحقّقها هو شكلها النهائي.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى