مقالات

المثقفون وأحوالهم المعيشية.. هل اليوتيوبرز هم مستقبل الثقافة؟/ عمران عبد الله

يعرف العاملون في حقل الثقافة سواء كانوا كُتابا أو أدباء أو شعراء أو حتى صحفيين صعوبة تأمين الأحوال المعيشية في عالم يزداد صعوبة يوما بعد يوم، وبينما يجتهد بعضهم لتأمين حياتهم من مصادر أخرى بعيدة عن مجالهم الثقافي ذي المقابل المحدود، يقول كثيرون إن “الثقافة لا تكسب عيشا” والأفكار لا تحظى بمقابل مادي ملائم هذه الأيام.

هذه القناعة تحظى بموافقة معظم العاملين في العمل الثقافي، ولكنها ليست دقيقة تماما فثمة مجالات مربحة للغاية في مجال الثقافة والأفكار، منها الكتابة للسينما وكتابة الخيال والروايات ذات المبيعات العالية.

ومع ذلك يُظهر تقرير حديث أن متوسط ​​دخل الكاتب منخفض بدرجة كبيرة بحيث يتطلب أن يكون الكُتاب حاليا مدعومين من قبل شخص آخر، ولا يتطلب الأمر أكثر من جولة على صفحات المؤلفين والأدباء والشعراء على الصفحات الاجتماعية حتى ترى شكواهم الدائمة من كون “الأفكار والثقافة لا تجلب المال”.

ولكن الأكاديمي الأسكتلندي ماثيو ماكيفر لا يتفق مع هذه القناعة السائدة، فبرأيه أن الأفكار تجني كثيرا من الأموال وتصبح مربحة عند عرضها بالطريقة الصحيحة على الوسيلة المناسبة، ويضرب المثل بمقاطع الفيديو والبودكاست الثقافية والترفيهية المنتجة جيدا على منصة الفيديو يوتيوب، التي تجني بالفعل مشاهدات هائلة وأرباحا في كثير من الأحيان مما يجعلها مزيجا رائعا من الأموال والأفكار، حتى في مجالات صعبة ولا تحظى بمتابعين كُثر مثل الفلسفة بحسب الأكاديمي الشاب.

ويقول ماكيفر إن الاعتقاد السائد بأن الناس لا يهتمون بالأفكار خطأ تماما، فالناس يهتمون كثيرا بالفعل ويمكن أن يدفعوا مقابل ما يهتمون به، لكن منتجي الأفكار هم من لا يستطيعون بيع أفكارهم للجمهور بطريقة صحيحة ومناسبة، بحيث تجعلها تحظى بالشعبية وتجني الأرباح، بحسب مقاله المنشور على صفحته في موقع “ميديام”.

ورغم أن البعض “يبيع الأفكار” بالفعل مثل العديد من المدونين الذين يقومون بالبث عبر الإنترنت ويحصلون على كثير من المشاهدين ومزيد من الأرباح، ومن هؤلاء “اليوتيوبرز” الذين يلخصون لمتابعيهم موضوعات ثقافية وعلمية ويقدمونها بطريقة مبسطة لجمهور واسع يحوز مشاهدات كبيرة بالفعل.

ومن هؤلاء الفيلسوف والناقد الثقافي سلافوي جيجيك المنحدر من سلوفينيا بشرق أوروبا، الذي يقدم “نموذجا لفيلسوف قاري مؤثر للغاية” بحسب ماكيفر، ويمزج باحتراف بين الثقافتين العالية المتخصصة والشعبية السهلة في تحليل ملامح الحياة المعاصرة أو الفن أو السياسة، وتحظى مقاطع مرئية لجيجيك رغم طبيعتها الفلسفية بأرقام مشاهدات هائلة وتظهر أن هناك “سوقا” حقيقيا للأفكار.

ومثل جيجيك هناك عالم النفس الكندي جوردن بيترسون الذي اشتهرت كتبه -رغم كونها فلسفية كذلك- بملايين القراء ما جعلها تتصدر أعلى المبيعات، لكن السؤال الأكثر أهمية -بالطبع- هو ما إذا كان هناك سوق للأفكار الجيدة، وما إذا كانت جميع الأموال تتجه نحو أشياء ذات قيمة ثقافية حقيقية وليس نحو محتوى تافه وغير مفيد ثقافيا؟

لماذا يعاني المثقفون؟

تبدو الإجابة مثيرة للدهشة وكأن هناك فراغا في سوق الأفكار لم يملأه المثقفون بعد، أو أن هناك فجوة لم يملأها كل هذا الزخم من الأعمال الفكرية والثقافية المتداولة في الوسائط والوسائل المختلفة.

يعتقد ماكيفر أن الإجابة الحقيقية تتعلق بما يسميه النخبوية الفكرية، أي الاعتقاد أن الأفكار الحقيقية ليست شيئا ذا جاذبية جماعية، وأن الفلسفة والأدب من المنتجات المتخصصة التي تنتجها القلة من المثقفين من أجل القلة من القراء، ويبدو أن هذا الاعتقاد يحاصر المؤلفين والمفكرين.

والمفارقة أن هذا هو ما يجعل “اليوتيوبرز” ناجحين للغاية، فهم ليسوا محاصرين بهذه الفكرة عندما ينتجون أفكارهم، ولقد أنتجوا بالفعل أفكارا ومحتوى ثقافيا كبيرا للجمهور مختصا وآخر غير مختص، ويبدو أنهم الأقرب لإدراك أن الأفكار تتمتع بالفعل بجاذبية كبيرة ولهذا استفادوا من هذا “السوق” بنجاح كبير.

وفي حين كانت روايات عالمية مثل أعمال ديستوفيسكي في القرن التاسع عشر متاحة ومتداولة مع جمهور واسع وحققت بالفعل مكاسب تجارية كبيرة، ونشرت سلاسل في كل المجلات في حينها وقرأها كثيرون ممن يستطيعون القراءة بأريحية، يبدو أن الأمور تغيرت بعد ذلك مع تزايد “عملية التحديث” وتحول الثقافة لصنعة ومهنة تقتضي التخصص الدقيق، وهو ما جعل الثقافة والفن بعيدي المنال بالنسبة للعامة ويحتاجون للتعليم والتخصص.

وإذا كنت وجدت ما في هذه المقالة مقنعا، فإليك بعض النصائح لعمل ثقافي مربح:

خبرة الآخرين

في البداية اتخذ عقلية جديدة، فالأمر شبيه بالأعمال التجارية وعليك أن تكون ذا ميزة تنافسية جديدة لأن الكُتاب كثر كما تعلم.

وسواء كنت كاتبا أو مؤلفا أو “يوتيوبر” يتعين عليك أخذ الأبعاد التجارية في الاعتبار والتعامل

وكسب المال كاتبا أو يوتيوبرا يعني أنك تبيع شيئا ما، سواء كان كتابا أو فكرة أو مقالة أو محتوى، ومثل كل الكُتاب أنت غالبا لا تحب كلمة “بيع”، لكن إذا كنت ترغب في جعل حياتك المهنية مستدامة من الكتابة فستحتاج للبيع بالفعل ومتابعة هذا البيع أيضا، بما في ذلك الاهتمام بموضوعات حقوق النشر والدعاية والتسويق.

النصيحة الثانية التي يتوجه بها الخبراء إليك، هي أن تتعلم حرفتك الثقافية باعتبارها عملا مهنيا يكسب دخلا، وهذا يتضمن الإلمام بالمهارات المطلوبة وتطويرها حتى تنجح، ودراسة التجارب الناجحة لتصنع مسارك الخاص.

والأمر المهم لكل كاتب أن تحدد جمهورك جيدا، فهناك جمهور على الإنترنت وفي الأسواق، وكل ما تفكر أن تكتبه أو تقدمه فثمة أشخاص يريدون قراءته وآخرون يريدون شراء ما تنتجه.

وبمجرد تحديد جمهورك عليك “إنشاء الجمهور”وتنبيههم إلى محتوى جديد تقدمه ويحتاجونه، ويمكن إنشاء مدونة أو موقع لأعمالك وكذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتسويقها ولتصبح معروفة، ويستغرق ذلك بعض الوقت، لكنه ينجح!

وإذا استطعت إنشاء محتوى مؤثر ومتقن، فعليك بإنشاء رابطة مشجعيك ليساعدوك في تقديم وعرض ومخاطبة جمهورك، فإذا نجحت في ذلك فستكون “قد صممت “آلة” تقوم بطباعة الأموال لسنوات أو حتى عقود في المستقبل”، كما يقول جون مورو في مقاله عن تسويق المحتوى.

وما يفيد الناشطون في المجالات الثقافية هو إدراك أن ثمة تطورا مثيرا يجري بالفعل، وبدلا من انتقاد الجمهور الذي لا يأبه للثقافة الجادة يمكن الاستفادة من الفرص التي تتيحها منصات وتقنيات مثل اليوتيوب والبودكاست، التي تبشر بمسار جديد، بعيدا عن المساحات المعتادة التي تحتكرها النخب الثقافية التقليدية.

وتبدو المنصات الجديدة كذلك أقل نخبوية وأكثر انفتاحا على الجميع، ويمكن من خلالها العودة لزمن ديستوفيسكي وما قبل “النخبوية الحداثية” عندما كانت الثقافة عملا يسهم في صناعته الجميع ويخاطب شرائح واسعة أيضا، ورغم أن إنتاجا بهذا النوع يحتمل أن يكون مستواه أدنى في بعض الجوانب لكنه يبشر بأنماط تفكير جديدة قد تجتذب جمهورا جديدا كذلك.

فرغم الصورة السائدة عن الإنترنت أنه يدمر الثقافة، تحمل الفرص الجديدة أمام المثقفين لاستخدام الإنترنت من أجل كسب الأموال وعودا باستمرارية الإنتاج الثقافي الذي يعاني كثيرا بسبب الهموم الاقتصادية، إذ يمكن للنشاط الثقافي أن يحظى بالشعبية والربح أيضا.

المصدر : الجزيرة,مواقع إلكترونية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى