ثقافة وفكر

أصوات الغائبين: أفكار لإصلاح التفكير/ ياسين الحاج صالح

تُعرِّفُ حنة آرنت التفكير بأنه حوار مع النفس. وهي تنسب هذا التصور إلى «التراث الغربي»، وتعيد أصوله إلى أفلاطون. فكأنما في التفكير تزدوج النفس إلى متكلم ومخاطب، يتحاوران في شأن ما من أجل معرفة أفضل، وهذا مثلما كان سقراط يتحاور مع أثينيي عصره، ومثلما سمحت ديمقراطية أثينا بأن تكون السياسة اجتماع المواطنين وتبادلهم الكلام. التجربة السقراطية التي حمّل أفلاطون تفكيره الخاص على منهجها الحواري المولد للأفكار تكمن في خلفية تصور التفكير هذه. وفي اتصال الحوار السقراطي بديمقراطية أثينا ما يسبغ صفة سياسية على التفكير بما هو كذلك، مثلما يضفي صفة حوارية على الديمقراطية التي قضت بإعدام سقراط لاحقاً. لكن مثلما استُبعِد من الحوار وقتها، ومن الديمقراطية، النساء والعبيد والأجانب (أو غير الأثينيين)، وقد كانوا نحو 90% من سكان أثينا، فإن هذا الثالوث لا يزال أقرب إلى الغياب كذلك من مفهوم التفكير كحوار. قد يُحال الغائب إلى موضوع يجري الكلام عليه، لكنه في كل حال لا يمثل نفسه، لا يتكلم ولا يُخاطب. فإن كان لا يستطيع أن يتكلم، مثل أجنبي لا يجيد لغة أهل البلد، أو مثل غير البشر من الأحياء، كان من المحتمل لغيابه من الحوار، ومن السياسة، أن يُيسِّر أمر إساءة معاملته، أو حتى أن يفتح الباب لإبادته أو التسبب بانقراضه، مما هي أوجه أساسية لواقع العالم اليوم. 

في أوروبا في أزمنة لاحقة ساد المونولوغ المسيحي، واقترن ذلك بزوال واسع للتفكير نفسه لمصلحة الاعتقاد والعقيدة المعصومة، التي «يُحرم» من يتأوّلها بصورة مغايرة، وقد يقتل. وفي المجال الإسلامي، دان الأمر كذلك للعقيدة القويمة التي جرى الاستناد إليها لإخراس أو استئصال أصوات مغايرة. التفكير المتنوع الذي اقترن بالانفتاح على تراثات أخرى، ومنها اليوناني المترجم إلى العربية، زال لمصلحة الترديد، ترديد كلام المتكلم الأصلي: الله، وما نشأ من كلام حوله.  

عموماً، اقترنت سيادة المعتقد التوحيدي بتضيق المساحة التي يتباين فيها المخاطب عن المتكلم وتجول فيها الأذهان، فضلاً عن استبعادات قوية هي بمثابة تبرع للغياب بأفكار وتصورات مغايرة. ضربٌ من تَقرُّب من الحق بقرابين من أفكار ضالة وأصحابها. أي باختصار، يقترن التوحيد بتضيق مساحة التفكير.

لم يبدأ ظهور أقوال جديدة في أوروبا إلا مع عصر النهضة. وتوافق ظهور أقوال وقائلين جدد في وقت لاحق مع انبعاث التفكير كحوار مع النفس ومع الديمقراطية الحديثة. وبعض مما كان «هو»، غائباً وغير معترف به كمتكلم أو كمخاطب شرعي، أخذ يصير مخاطباً وحاضراً في مسرح التفكير، وسياسته. أعني «الطبقة الثالثة»، ثم الطبقة العاملة، نساء، مُهرطقين في الدين وملحدين، وكذلك تعبيرات عن ميول وتجارب جنسية غير قياسية. على أنَّ تَسلُّلَ الغائب القديم جرى تحت رقابة المتكلم الحاضر، الدولة- الأمة، يقودها رجال الطبقة الوسطى المدينية الجديدة، البرجوازية، ويقبل الداخلون الجدد بهيمنته. بمشقة أخذ الغائبون، من «نساء وعبيد وغرباء»، يشقون طريقهم إلى مفهوم التفكير، يخاطَبون، ويتكلمون أو يخاطِبون هم أنفسهم. وبقدر لا يقل من المشقة امتلك هؤلاء الغائبون التفكير وأنتجوا خطابات وأسمعوا أصواتهم. والعملية بعيدة عن أن تكون مكتملة في أعرق الديمقراطيات الحديثة، بل هي تبدو اليوم متراجعة في كل مكان بالأحرى. وهي لم تكد تقلع في بيئات اجتماعية أخرى، منها بيئاتنا، فضلاً عن بدائيتها على الصعيد الدولي. وهذا الأخير صعيد حديث، أخذ يظهر بفعل نزع الاستعمار، ولا يزال بقدر كبير تحت هيمنة المستعمرين السابقين، في وحداته وقواعده ولغته. وتمثل فيه الدول المتكلمة كوحدات خالية من التعدد الذاتي.

سأقول هنا إن الديمقراطية تنزع بصورة ثابتة لأن تكون حوارية- ثنوية (ديالوغ)، وإنه مع ظهور مشهد عالمي متعدد الأبعاد، ثلاثي وأكثر، تجنح الديمقراطية نحو المحافظة وتشتغل كإدارة حصر وتغييب، في الداخل وفي العالم. وهو ما يعني إن صح أنه لا حل ديمقراطياً لمشكلة الغائب. لم تحل المشكلة في أثينا القديمة ولا في الغرب المعاصر.  

تَعدُّدٌ أليف

حنة آرنت لا تنشغل بما يحدث للتفكير حين تتقارب تصورات المتكلم والمخاطب بأثر تحاورهما المستمر والتقارب المحتمل لأقوالهما وأفكارهما. ليس بعيداً عن مقاصدها يمكن تصور أن هذا التقارب يفقر التفكير الذي يتجه لأن يكون تكرارياً، فيخلو أكثر وأكثر من الطرافة والجدة. الأحزاب السياسية في الديمقراطيات الليبرالية تقول أشياء متقاربة مما يفترض أنها موضع إجماع وسطي، ويعرض المفكرون المكرسون منزعاً سكولاستيكياً، يُغلِّب الحوار مع المراجع المعتمدة على التجارب المعاشة والمتخيلة. الفيلسوف تحديداً يبدو غربياً بالكلية، لا يحاور تراثات أخرى. فإذا كنا نقول أشياء متقاربة أو متطابقة، فلن ينتج حوارنا قيمة مضافة، ومن غير المحتمل أن يثمر تفكيري مفهوماً كحوار مع نفسي شيئاً طريفاً إن كان ليس ضمن المتاح من المحاورين لي من يقولون إلا ما يقارب قولي. وعلى هذا يمكن أن نبني منذ الآن أن تجدد التفكير رهن بتجدد التعدد في المجتمع، واليوم في العالم، وأن الديمقراطية التي لا تنفتح على تعدد متجدد، أو تكون منظومة مفتوحة، تتجه لأن تتصلب على نفسها وتحاصر نفسها بنفسها. هذا، ارتباط التجدد في التفكير بالتعدد، رأته آرنت نفسها، لكن التعدد الذي رأت فيها شرطاً للجديد في التفكير، كما للحرية، يتقابل عندها مع التوتاليتارية في أشكال عرفتها أوروبا مع النازية والستالينية، وليس مع أشكال داجنة من التعدد تولدت في إطار مجتمعات تعددية، أشكال تتراجع قدرتها على تحريض تفكير جديد وسياسة جديدة بفعل تحولها إلى منظومات تعدد مغلق إن جاز التعبير أو غير متجدد، وتنمو فيها بالعكس ميول قومية أو «حضارية» استبعادية، تنزع نحو إقصاء الغريب، الآخر المغاير فعلاً. الغياب اليوم يتجه لأن يكون نتاجاً نشطاً للعالم المتكلم الحاضر، ولممارسات سياسية واجتماعية وفكرية مسيطرة فيه، وليس تقصيراً من طرف الغائبين أو فشلاً في الحضور يتحملون وحدهم مسؤوليته. يجنح كل غياب اليوم لأن يكون تغييباً. أي لأن يكون سياسياً.   

مفهوم آرنت للتفكير لا يوفر ضمانات ضد ارتداد الحوار إلى مناجاة للنفس أو مونولوغ، بل هو لا يكاد يتجاوز ذلك في كل حال. وسأعود إلى هذه النقطة.

مسرح لا حوار

في هذا التناول التخطيطي أَميلُ إلى تصور التفكير كمسرح ثلاثي الممثلين على الأقل، وليس كحوار ثنائي. في مسرحية التفكير ثلاثة أشخاص، متكلم ومخاطب وغائب أو غائبون، وقد يتاح للغائب حين لا يكون استبعاده نشطاً أن يقتحم المسرح ليتكلم أو يخاطب، يخرج من الغياب ويطلب المشاركة، أو يثير المشكلات ويخرب حواراً يستبعده.

أكثر من ذلك، الغائب هو مبدأ التعدد في الثلاثية، لأنه هو ذاته متعدد، ومن جهته يأتي الجديد والمختلف، فيثير الفضول ويحرك التفكير. ثم لأننا، كما سيتواتر قوله في هذا التناول، حيال مستويات من الغياب غير متماثلة: الغائب البشري متعدد الصور والأصوات، والغائب البيئي المتعدد بدوره، الكون بجلاله وألغازه، «الغيب».

ولا يقتصر الأمر على أن الغائبين لا يُمثَّلون، بل يتعداه إلى أن تمثيل الحاضرين هو في الواقع تغييب منظم وشرعي. وهذا ظاهر في السياسة الديمقراطية المعاصرة التي تقوم على التمثيل أساساً، حيث يقوم هذا (أي التمثيل) على حضور وجيز لـ «الشعب» في الانتخابات العامة، يتلوه غياب طويل. هذا باستثناء أوقات الهبات الاجتماعية، التي يمكن تعريفها بحضور الغائبين، وبامتلاكهم الكلام. لا يحضر الغريب أو «التابع» إلا حين يقتحم المسرح ويثير المشكلات.      

في غير هذه الأوقات، الغائبون الذين يجب تمثيلهم لأنهم غائبون لا يُمثَّلون، بل يمتنع تمثيلهم بسبب ما هم عليه من تعدد وتنوع، والمتكلم- المخاطب الذي لا يحتاج إلى تمثيل لأنه يمكن أن يتكلم بلسانه لا يمثل إلا بأن يُغَيَّب، وإن بعد تفقد عابر. هذا التناقض قائم في صلب مفهوم التمثيل.

في الديمقراطية الحديثة، وفي التفكير الحديث المتأثر بالتراث الغربي، لا تزال ثمة سقوف زجاجية وغير زجاجية تحول دون دخول عام إلى مسرح التمثيل، التفكير والسياسة. دخل غائبون سابقون، لكن ظل الغياب كبنية قوي الحضور، أو لا تزال البنية نشطة في الاستبعاد والتغييب. وعلى مستوى عالمي، الغائب هو المستعمَر و«التابع»، وهو الأسود الذي كان مباحاً للعنصرية، وهو المرأة وبخاصة الفقيرة والغريبة و«الملونة»، وهو المسلم المباح اليوم للتمييز. هل يمكن للتابع أن يتكلم؟ تساءلت غايتري سبيفاك في مقال شهير، ومقالها يوضح أن المقصود أن يتكلم التابع بصوته هو، أن يقول قولاً مُنشِئاً لخطاب ومُنتِجاً لمعنى وبانياً لهوية، أي أن لا يبيد نفسه بترداد الخطاب المهيمن.  

الغائب هو الذي لا يتكلم إما لأنه أعجم (شيء أو نبات أو حيوان) أو أعجمي (أجنبي أو غريب)، أو لأنه مُستبعَد ومقموع، فلا يتاح له الكلام. إنه الأكثرية الحية التي ألحقت بها الأقلية البشرية هزيمة ماحقة (شملت أكثرية الأقلية البشرية ذاتها التي نزعت بشريتها)، وهو الغريب الذي لا يتكلم لغتنا ولا يدخل في مخاطبة، وهو الذي ليس هنا، فلا يستطيع الكلام والتدخل في ما يجري من مداولات: السجين، المُغيّب، المُحاصر… لكن في كل صوره، الغائب اليوم نتاج تغييب سياسي، وإن بمعنى واسع للكلمة. ففي الغائب تتلاقى «مشكلات» البيئة، ومشكلات الفقر وتعذر الوصول، ومشكلات الكولونيالية والتمييز العنصري، ومشكلات القمع والديكتاتورية، ومشكلات الغرباء والمهاجرين واللاجئين، ومشكلات الأقليات مسلوبة الصوت. وليس بين هذه المشكلات ما ليس سياسياً.

الصفة السياسية للغياب أساسية على نحو يلزم التفكير بأن يكون سياسياً أو فعل مقاومة، تفكيراً يُسائِل كل وضع معطى عمّن وعمّا يُغيَّب، ويُسائِل السلطات التي تقرر من يتكلم ومن يخاطب، وما هو الكلام، وما هو التفكير. وفيما نعرف من تاريخ ومن مؤسسات بشرية لا يبدو أن هناك أوضاعاً لا تُغيِّب، ولا تحاول أن تشكل التفكير بحيث لا يبدو أن هناك ما هو غائب، أو أنها لا تخفي شيئاً.     

ويبدو أن المونولوغ يتجه لأن يكون الشكل السائد من الخطاب في الغرب الديمقراطي اليوم بفعل رفض أخذ العلم بحضور الغائب في الغرب نفسه، في صورة المهاجر واللاجئ، ثم بفعل تقارب المتكلم والمخاطب في الغرب بأثر ما يقترب من اقتصار الديمقراطية على التعدد التقليدي في الدولة- الأمة، والثبات على أشكال مفوتة من التعدد الداخلي، كانت ذروة إنجازها إدماج الشيوعيين بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا (وليس في الولايات المتحدة). لم يعد في هذا أي شيء تعددي اليوم، إن كنا نعني بالتعددية دخولاً متسعاً للغائبين أو الأقل حضوراً إلى مسارح التفكير والسياسة. لا شيء ديمقراطي في محاولة فعل الشيء نفسه حيال المهاجر واللاجئ عبر مفهوم الاندماج، الذي يعني عملياً تجريد «التابع» من كلامه المحتمل. كان نقد الديمقراطية الاشتراكي يركز على غياب الطبقة العاملة ووقوف الديمقراطية عند باب المصنع. وهو ما أسس للخيال السياسي الاشتراكي والشيوعي، وقد دخل في أزمة منذ ثمانينات القرن العشرين. واليوم يبدو أن هناك حاجة إلى نقد يُظهِرُ تأصُّلَ غيابٍ ثلاثيِ الشُّعَب في الديمقراطية: غائب داخلي في صورة المهاجر واللاجئ، وغائب دولي في صورة أكثرية البشر، تتحكم بهم بصور مختلفة أوليغاركيات داخلية مستندة إلى مفهوم الدولة السيدة، وغائب بيئي يتمثل في انقراض كائنات حية وتسخّن الكوكب والجفاف والفيضانات واللجوء البيئي المرشح للتوسع. ويبدو أن هذا يدعو إلى خيال سياسي جديد، عالمي أو عوالمي.  

ومن منظور عالم اليوم، يبدو أن هناك غائبان أساسيان: الأكثرية البشرية والبيئة الحية، وأن هناك سياستا تغييب: الامبريالية المستمرة بأشكال مختلفة، و«السيادة على الطبيعة»، وهما تُريان من وجهة نظر الغائبين كإبادة أو جينوسايد وكتدمير للإطار الحي، أي إبادة أيضاً.

التفكير والمجتمع

قد يمكن التمييز بين أشكال من الاجتماع السياسي وفقاً لشكل مسرح التفكير.

هناك أولاً أشكال تقتصر على المتكلم، فلا يوجد مخاطب فيها يمكن أن يتكلم بدوره. ومن أبرزها اليوم الإسلامية المعاصرة، التي تعيش في عالمها الخاص، لا تترجم كلام غيرها ولا يقبل كلامها الترجمة إلى لغة مشتركة مع غيرها. ليس أن الإسلاميين لا يكلمون غيرهم كلياً، لكن المُخاطَب لا يُخاطَب إلا على نحو عارض، لا أثر له على مضمون تفكير المتكلم وسياسته، والمتكلم قبل الخطاب وبعده مكتفٍ بما لديه ومستغنٍ عن غيره. السيادة هنا للواحد، للفكرة الواحدة وللقول الواحد وللقائلين القول الواحد نفسه. وقد يمكن تعريف السيد في هذا المقام بأنه من يحتكر الكلام الدال، والمؤهل بحكم ذلك بإحالة كلام غيره إلى ما لا معنى له من كفر أو جنون أو معادلاتهما. كانت أحادية الصوت ميزت كذلك شيوعية القرن العشرين في تنويعاتها السوفييتية. ليس هناك حوار في الحالين، دع عنك أن يكون ثمة مسرح وتَعدُّدُ أصوات. مصير ميخائيل باختين، دارس الأدب الذي طلع بنظرية تعدد الأصوات في أعمال دوستويفكسي، تعطي فكرة عن الحال (عاش مغموراً حتى أواخر حياته، وقضى ست سنوات منفياً في كازاخستان). لا تجري مخاطبة هنا لأننا نقول الكلام نفسه كلنا. ليس هناك مُخاطَب مختلف. هناك فقط المتكلم والغائب، ولا يقابل نحن المتكلمين المتماثلين غير هم الغائبين المتماثلين بدورهم. وهو ما يؤسس لاغتياب شرعي ومنظم. نحن الحق، هم الباطل! نحن الخير، هم الشر! الاغتياب لا يقتصر على قول السوء عن الغائبين، بل على تغييبهم في السجن أو المنفى أو مشفى الأمراض العقلية. الصوت الواحد هو كذلك المنزلق الذي تنساق إليه الديمقراطية بفعل تقارب المتكلم والمخاطب في القول والفعل. ربما يطلق على هذا الصوت الفكر الغربي أو التراث الغربي أو الحضارة الغربية (وهي تعابير تتواتر في كتابات حنة آرنت)، وهو إن كان لا يزال يعرض حيوية معقولة بفعل تعدد اجتماعي أوسع من الديمقراطية، فإن الاتجاه العام يبدو نحو حيوية أقل بفعل جمود الإطار السياسي. 

وفي غياب المُخاطَب الذي يتكلم هو ذاته ليعترف بما يقال أو يعترض عليه، يبدو أن أحادية الصوت محتاجة إلى كفالة عليا أو متعالية: من الله أو التاريخ أو العلم أو العقل. ومن وجه آخر، لا يبدو أن وجود متكلم آخر، وبالتالي الحوار، ممكن على أرضية متكلم أعلى أو كافل أعلى للكلام. هنا المُخاطَب مأمور، وليس متكلماً، ينصت ليقول. والمأمور لا قول له. ويمكن التساؤل في الواقع عن وجود المتكلم ذاته في حال وجود متكلم أعلى. فإما أنه محل لقول المتكلم الأعلى، السيد، أو هو سيادة، سلطة عليا واحدة تأمر، لكنها لا تتكلم. الكلام مشروط بمتكلمين.

السؤال تالياً ليس فقط ما إذا كان في وسع التابع أن يتكلم، وإنما كذلك ما إذا كان السيد يتكلم، يتبادل كلاماً مع غيره. وبالتالي ما إذا كان التابع لا يستطيع الكلام، أي تمثيل نفسه وصوغ ما يقوله في خطاب، لأنه ليس لخطاب السيادة بنية كلام يمكن التفاعل معها. الهيمنة بلغة سبيفاك (وغرامشي) لا تصغي ولا تسمع.  

وفي المقام الثاني ثمة أشكال يحضر فيه المتكلم والمخاطب، أشكال حوارية، تظهر مع إدخال التعدد إلى أي مجتمع، بما في ذلك إدخال ناقص في المجال الدولي. الديمقراطية كما أخذت تعرف في الغرب في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (سبقتها ضروب من التعدد بقرن أو قرنين، ثورات علمية وفنية ودينية…) وما بعد من هذا الصنف الحواري، الذي نزع نسقياً نحو ضرب من نظام الحزبين الاثنين، قبل أن يبدأ بالتعثر منذ تسعينات القرن العشرين بفعل الفشل في استيعاب أشكال التعدد الجديدة، ما يتصل بالمهاجرين واللاجئين فقط، وما يتصل بالنظام الدولي، ثم كذلك ما يتصل بالإطار الحي. التطورات السياسية الجارية اليوم، صعود اليمين الشعبوي وتشخيص الإرهاب كشر سياسي أساسي وأمننة السياسة، ترجح معالجات باتجاه أنوي، يمتص المخاطب ويقصي الغائب أو يراقبه ويعاقبه بقسوة. وربما يسوغ نفسه بمتكلم أعلى: الحضارة الغربية. اليمين الشعبوي حضاروي، ويبدو أَميَلَ إلى حل مشكلات الديمقراطية في اتجاه الواحد والاغتياب. وهو ليس عدائياً للغائب العاقل، بل وللغائب غير العاقل، الأحياء وإطار الحياة، أي أنه حضوروي، فوق حضارويته. فرص اليمين ظلت مفتوحة في الديمقراطيات الغربية بفضل أيلولة التعددية على نحو ثابت إلى الارتداد إلى ثنائية متكلم ومخاطب، تجنح بدورها إلى التصرف كنحن، أي كواحد جمعي، كقومية أو كحضارة، وبخاصة في أوقات الأزمات. هنا، حيثما حضر الغريب والغائب، يُفكَّرُ فيه كخطر.

وما زلنا لا نعرف أشكالاً حديثة من الاجتماع والتفكير يختار الغائبون فيها الغياب مع قدرتهم على الحضور وعدم استبعادهم منه. لا تشترك الأنواع الحية في التصويت في الديمقراطيات التمثيلية التي ترعى الغربية منها نمط حياة موسر، مُغيب لها (للأنواع الحية)، مؤذ للكوكب والحياة فيه، ولا يقبل التعميم العالمي (وهو ما يعني أنه غير شرعي من وجهة نظر مصلحة البشرية والحياة والكوكب). ولا يشترك في الديمقراطية الأميركية الشرق أوسطيون الذين يتأثرون أيما تأثر بقرارات الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ أكثر من سبعين عاماً. ولا الأميركيون اللاتينيون الذين لطالما كانوا شديدي التأثر بدورهم. نحن مضاعفو الغياب، لسنا غائبين بأثر هذا العالم المُغيِّب حصراً، يشاركهم مغيبون محليون، لكن الشرط الكولونيالي المُغيِّب لم ينته في منطقتنا قط (بفضل إسرائيل وأمن البترول، ومنذ ثلاثة عقود: «الإرهاب» والحرب ضده). «صفقة القرن» ليست غير أحدث الأمثلة. الواقع أن الشرق الأوسط العربي نظام تغييب ثلاثي وليس مضاعفاً فقط، تحرسه ثلاثة غيلان عدمية، تتبدل العلاقات بينها جيلياً: نُظُم الطغيان المحلية، مركب السيطرة الامبراطورية الأميركي الإسرائيلي، والإسلام السيادي «مدير التوحش».     

ماذا يمكن أن يكون مسرح تفكير دون تغييب واغتياب؟ الأرجح أن هذا عالم ما بعد ديمقراطي بسياسته التي تشمل كوكب الأرض، وبتفكيره غير الثنوي المنفتح على الغائبين. عالم يوفر فرصاً للغائبين و«التابعين» كي يتكلموا. ولعل عالماً لا يُغيِّب هو عالم ما بعد حديث وما بعد إنساني كذلك (متجاوز للمركزية الإنسانية)، قائم على التنوع، وعلى علاقة تعايش سلمي مع الطبيعة. ضرب من متعدد عوالم أو (pluriverse) بحسب أرتورو إسكوبار، وليس عالماً واحداً (universe). إسكوبار أنثروبولوجي كولومبي، ناقد للنمو والحداثة، ويرى أنه ليس هناك حلول حداثية لمشكلات الحداثة، ويعتقد أن حركات السكان الأصليين ومجموعاتهم الصديقة للبيئة هي اتجاه التفكير في بدائل أو عوالم بديلة1.

يتجاوز هذا شكل التعدد التقليدي الذي اقترن بفكرة الديمقراطية إلى قبول إيجابي لأشكال التعدد الجديد، وتعميم التعدد عالمياً، وما يقتضيه من تغيرات جذرية في نظام الدول والسياسة القائم اليوم، ثم بخاصة تصالح مع الغائب غير العاقل، مع البيئة وشروط الحياة على الكوكب، وأخذ «رأي» الأحياء الأخرى بما يفعل الإنسان الحديث، الامبريالي والسيد. كان غسان الحاج ربط بين العنصرية والإسلاموفوبيا من جهة ومشكلة البيئة من جهة ثانية2. أعتقد أن تصور التفكير كحوار ثنائي لا ينصب أي عوائق في وجه مركب العنصرية ودمار البيئة. الغائبون مقتضى جامع للمشكلتين. وقد تكون أزمة الديمقراطية اليوم مرتبطة بامتناع بنيوي لتجاوز الأوضاع الحالية بوسائل وحساسية الديمقراطية ذاتها، وتصور التفكير المقترن بها، وهذا في عالم يضيق ويشكل أكثر وأكثر وحدة مصيرية. شكل الحضور المسيطر عالمياً، يُغيِّب كثيرين من البشر والأحياء من التفكير ومن السياسة. ومثلما تَقدَّم، يبدو أن هذا يقودنا إلى ما بعد الديمقراطية ذاتها، إلى خيال سياسي جديد، يتجاوز التعددية الديمقراطية نحو تعددية ما بعد ديمقراطية لا بد من اختراعها.

ومن مدخل الخيال، يتعين عدم تغييب حقيقة أن الغائبين لا يقتصرون على «الآخر» البشري وعلى بيئة الحياة على الكوكب ممن هما موضع تغييب سياسي. فنحن والكوكب جزء من كون لا نعرف عنه الكثير، ولعل المعرفة ليست حتى أقوى رباط لنا به، وبالخصوص ليس المعرفة السيادية، الموجهة نحو السيطرة والسطوة. نحن مِن هذا الغائب وهو مِنّا.

ثم إنه حين نفكر في قضايا الشر مثلما فعلت آرنت، نشعر أن في مجتمع البشر، وفي نفس الإنسان من الغياهب ما قد يتجاوز غياهب كوكب الأرض ومجاهل الفضاء من مجرات مجهولة. ويبدو هذا الغائب وكيلاً لما نُغيِّبُ من تعددية في المجتمع والعالم. غياب تمثيل تعدد العالم في نفس آيخمان والمشروع السياسي الذي والاه آل به إلى الامتثال لهذيان المشروع النازي، وإلى أن يعمل على تقليل تعدد العالم أكثر.    

وبقدر ما إن الغائب ليس بشرياً حصراً، ولا يقتصر على من استُبعدوا من التمثيل، ويشمل الحي الذي صار موضوعاً، ويشمل النفس ذاتها كعالَم من مجاهل وغياهب، وهذا فضلاً عن «عالم الغيب»، ما يتصل بأصول وجودنا وبالكون وامتداداته ومجاهله، أقول بقدر ذلك فإن صورة المسرح ذاتها التي قد تكفي لتمثيل الثلاثي البشري، تكف عن أن تكفي. نحتاج لتصور متعدد الأبعاد، يؤهل عالم التفكير لأن يكون تفكير العالم.

التفكير والتغير

وبالتوازي، قد نميز بين أشكال ثلاثة للتفكير في علاقته بالتغيّر.

بداية، ليس التفكير كحوار للواحد مع نفسه بحسب آرنت معادلاً للتعدد على صعيد المجتمع والسياسة. التعدد يقتضي الثالث الغائب والغريب، ومقاومة التغييب والاغتياب. هنا فقط يكون التفكير مفتوحاً على الغيرية والتغير. الحوار مع النفس لا يستبعد أشكالاً من التواطؤ مع الذات وتبرير الذات بقدر ما يتآكل التعدد في المجتمع، ويحتمل بالتالي أن ينزلق إلى مطابقة النجوى أو المونولوغ. لا يتغير التفكير بالحوار مع النفس الذي ينزع إلى التبرير والعقلنة، أي إلى بث ضرب من الوحدة في التفكير تقضي على تعدديته. مشكلة مفهوم التفكير الآرنتي هذا أنه يرتضي من التعدد بالثنائية، ويستبعد حضور الغائب، فلا يتبين الصفة السياسية للتفكير إلا في حدود ضيقة، وبالخصوص لا يرى أن الغياب هو تغييب في واقع الأمر الحديث والمعاصر. 

القصد أن تعدد آرنت هو صيغة محددة للتعدد، تمتاز على التوتاليتارية التي شخّصتها في ألمانيا النازية وروسيا الستالينية، لكنها تحافظ على الاستبعادات الديمقراطية القديمة، ولا تكف عن التسييج وإنتاج غيابات جديدة. لا يمكن حماية تعددية آرنت من التبرير والتواطؤ والتآمر الذي ينشأ حتماً بين اثنين، ومن الواحدية، دون اندراجها في تعددية أوسع، دون مقاومة التغييبات القديمة والجديدة لهذه التعددية. أو لنقل إن هناك تناقضاً بين تعددية آرنت السياسية وثنائية مفهوم التفكير لديها. أميل إلى الاعتقاد بأن التعدد أخذ يظهر مع عصر النهضة، وأن الديمقراطية جاءت متأخرة، وأسهم في تثبيتها على ثنائية مفقرة مفهوم التفكير كحوار، وربط الديمقراطية ذاتها بالغرب ربطاً ماهوياً. بنية تفكير آرنت تجنح في تصوري إلى الإعلاء من شأن مثنى التفكير على تعدد السياسة والمجتمع. وهذا على الأرجح أساس نزعتها المركزية الأوربية القوية. وسأعود إلى هذه النقطة.  

هناك كثير من الوجاهة في تصوري في خص اللغة العربية مكانة للمثنى مستقلة عن العديد أو الجمع فوق استقلالها عن المفرد، وهذا خلافاً للغات أخرى تحصر التمييز بين المفرد والجمع. فمن وجه أول وأساسي، المثنى، وليس المفرد ولا الجمع، مقام الحب. والحب لا يُفكر، يستبعد الغائب أكثر حتى من الديمقراطية، فضلا عن أنه يجنح إلى الواحد بحسب ما يقتضيه مفهوم الحب الأفلاطوني، وما تُؤوَلُ إليه مفاهيم الحب الإلهي الصوفية من «فناء» في الواحد. ثم إنه تنشأ ضمن المثنى الاجتماعي أشكال من التواطؤ والتماثل تتعذر ضمن الثلاثة وأكثر، وتنفتح بالمقابل على الواحد. العلاقة بين زوجين يعيشان معاً لسنوات طويلة تتجه نحو الواحد وليس نحو التعدد. السياسة تلزم بين ثلاثة حتماً، بينما قد يكون الحب «سياسة» كافية بين اثنين. الثلاثة يشكلون مجتمعاً، والسياسة لا بد منها في مجتمع.    

على أن التفكير الحواري يبقى رغم نزوعه نحو التماثل متميزاً عن الكلام الذي لا يتغير، المقدس. فهنا يرجح أن يكون المرء محلاً للقول مثلما تقدم، وليس خالقاً لأقواله، ليس متكلماً. هنا يزول الفكر كلياً، ولو في شكل تبرير. فلا قائل إلا الله، إن حاكينا صيغة للأشاعرة عن الفعل. أما المؤمنون فهم ناقلون، يرددون الكلام المقدس دون «تحريف»، أي أنهم في الواقع لا يتكلمون، هذا إن كان الكلام تبادلاً.

وبقدر ما إنَّ ما نكون يظهر فيما نقول، فإن عدم تغير القول يعني عدم تغيرنا.

وما يمكن ترتيبه على ذلك هو أن التغير، الشخصي والاجتماعي، الفكري والسياسي، قرين الانفتاح على الغائب. وأن الحوار يُفضي إلى تماثل مانع للتغيير ومنتج للغياب، وأن الكلام الذي لا يقبل التحريف والتغير يغيب البشر ذاتهم، ويجد ترجمته العملية في «حاكمية» قلة منهم، أقل مما يمكن أن تتيحه أي ديمقراطية.  

إصلاح التفكير

وظاهرٌ أن هذا التحليل للتفكير ينطوي على رؤية سياسية لإصلاح التفكير، أساسها مقاومة التغييب، وتمكن الغائب من المخاطبة والكلام. نتحول من الواحد والاثنين إلى الجمع، إلى مسرح تفكير مفتوح، لا يسد الأبواب في وجه الغائب في التفكير والسياسة، ولا يحول دون اقتحامه خلوة المخاطب والمتكلم وتشويش حوارهما أو دفعهما إلى تفكير مغاير، مفتوح.

ومن أن كل حضور لغائب، والغائبون كثر ولا يقبلون التمثيل، أن يُحدِثَ ثورة في التفكير وينشأ معه ضمير جديد. فالغائب الاجتماعي في صورة النساء والفقراء والغرباء والأقليات يحدث ثورة اجتماعية وضميراً اجتماعياً يتمثل في الاشتراكية والنسوية ومناهضة العنصرية، وحضور الغائب العالمي من شأنه أن يحدث ثورة سياسية وثقافية عالمية، مثَّلَت صورةً باكرةً عنها حركةُ نزع الاستعمار وبصورة ما تيار فكر ما بعد الاستعمار. ومن شأن مخاطبة البيئة والأنواع الحية والإصغاء إليها أن تحدث ثورة بيئية وضميراً بيئياً. ولعل التنبه إلى الأغوار والغياهب المجهولة في النفس والمجتمع والكون أن يحدث ثورة أخلاقية تدفع إلى التواضع والقطيعة من منطق السيادة الامبريالي.

يقول بوافنتورا دي سوسا سانتوس، وهو سوسيولوجي وباحث قانوني برتغالي، «إن ما لا يوجد هو ما أنتج كغير موجود في واقع الأمر، أي كبديل لا يقبل وجوده التصديق عمّا هو موجود»3. وهو يجعل من ذلك مبدأ لما يسميه «سوسيولوجيا الغياب» التي يرى أنها تسخر خمسة أصناف من المنطق لإنتاج الغياب أو اللاوجود: منطق الجهل أو نقص الثقافة، منطق التأخر عن سابقين، منطق الدونية، منطق الخصوصية أو المحلية، وأخيراً منطق العقم واللاإنتاجية. وما يصدر عن جهل أو عن تأخر وتخلف، أو عمن هم دوننا، أو عن سياقات خاصة محلية، أو عما هو عقيم وغير مثمر، ليس موجوداً وغير جدير بأن يوجد. على هذا النحو يُظهِرُ دي سوسا سانتوس أن الغياب تغييب، أو إنتاج لغير الموجود. وهذا في سياق سعيه لبلورة «إبستمولوجيا الجنوب»، وهي مُساءلة معرفية وسياسية للمشروع العقلاني الغربي أو «الشمالي»، وتسعى إلى «عدالة إبستمولوجية» لمجتمعات الجنوب لا تقوم العدالة الاجتماعية دونها بحسبه4.   

و يمكن صوغ خلاصة حول إصلاح التفكير بعبارة مختصرة مزدوجة المعنى: البديل هو الغائب. بمعنى أن البديل هو ما يجري نفيه وتغييبه عبر تطبيع الأوضاع القائمة، أو تقرير أنه ليس هناك بديل مثلما قالت مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية في ثمانينات القرن الماضي، مساهمة في ذلك بتأسيس القدرية النيوليبرالية المسؤولة بقدر غير قليل عن تعثر دول غربية غنية في التعامل مع وباء كورونا؛ ثم بمعنى أن ما هو غائب أو مُغيَّب هو البديل عن الراهن، ولذلك يجب فتح أبواب التفكير والسياسة لمجيئه و«تعجيل فرجه». على أن الغائب، خلافاً للإمام الشيعي الغائب، ليس شخصاً ولا عقيدة ولا حقبة من الزمن، وإنما هو علاقة بالعالم تقوم على الانفتاح والكرم، وعلى الترحيب بالغريب.

ما بعد السيادة

تقتضي ثورات الغائبين إعادة نظر جذرية في ما يسميه وائل حلاق، تأسيساً على فوكو، نظام السيادة المعرفية، حيث المعرفة العاملة على ما يتجاوز الضبط والسيطرة والتحكم إلى السيادة في الطبيعة والعالم، وهو منطق مفتوح بحسب حلاق على الإبادة، الجينوسايد. ورد كلام حلاق في سياق نقده لكتاب إدوارد سعيد الاستشراق، وهو يرى، حلاق، أن نقد سعيد للاستشراق واهن الأساس حين هو لا يمضى إلى نقد السيادة المعرفية، أو السيادة كنظام للمعرفة5، ما يمكن أن يسميه دي سوسا سانتوس إبستمولوجيا الشمال. كان الاستشراق في الجوهر اغتياباً لـ «الشرق»، توافقَ مع تغييبه الاستعماري، التغييب الذي لا توفر وضعية «الحوار مع النفس» أساساً صالحاً للاعتراض عليه. بصياغة مغايرة لموقف وائل حلاق، يمكن أن يُعترض على إدوارد سعيد بأن نقده للاغتياب الاستشراقي لم يتأسس على نقد الوضعية الفكرية الحوارية، التي تحصر الكلام  بين رجال متحضرين، الهاجسة بالسيادة والمتواطئة مع التغييب. 

وعموماً يبدو أن شيوع الاغتياب في الحداثة الغربية على ترابط بنيوي مع التفكير كحوار مع النفس. أنتج الغرب الحديث، الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي، تعددية داخلية أتاحت له أن يكون عالماً مكتفياً بما عنده، وأن يغتاب بنشاط «باقي العالم»، أي كل العالم خارجه، بل أن يحتكر الاغتياب العادل لغيره في العالم. واقترن الاغتياب في الوقت نفسه بمقدار عظيم من الثناء على الذات. فلسفة هيغل، وعصر التنوير قبله، مشتهران بذلك. على أن تعددية الغرب- العالم وفرت كذلك فرصاً لظهور نسق من الاعتراض على الاغتياب الغيري والثناء الذاتي، لا نعرف نظائر مهمة له في «حضارات» أخرى. بل يمكن الكلام على نسق فرعي من اغتياب الذات والثناء على الغير مَثَّلَهُ مفكرون وتيارات انشقاقية. وهو ما يعني أن التعددية، وإن تكن بسيطة وليست تعددية متعددة إن جاز التعبير، تشجع على التفكير في تعددية أكثر تركيباً. وبينما لا يطعن هذا في صحة القول بأن «الحضارة» الغربية تفوقت على غيرها في اغتياب غيرها، فإن إبراز نسق اغتياب الذات، وقيامه على الثنائية الحداثية، الفكرية والسياسية، ضروري من أجل ألا ننزلق إلى نقد الاغتياب الغربي من مواقع اغتيابية أخرى، أقل تعددية.

ويبدو أن الصوابية السياسية، «بوليتيكال كوركتنس»، التي تنهى عن استخدام عبارات غير لائقة بحق النساء أو السود أو اليهود أو غيرهم، هي ضرب من معالجة لمحصلات الاغتياب وليس للاغتياب ذاته، وفي الوقت نفسه خطوة إلى الوراء قياساً إلى نسق نقد واغتياب الذات الذي ظل هشاً وفاقداً للاتساق. تشومسكي أبرز مثال. الرجل يغتاب في حضورها الذات الغربية، لكن فضلاً عن انتقائيته في التضامن مع الغائبين، فإنه قلّما يعرف شيئاً ذا قيمة عن العوالم المغيبة والمغتابة التي يحصل أن تفوز بثنائه. وهو من هذا الباب مركزي غربي بالمقلوب.   

اليوم يصير الاغتياب أكثر وأكثر ممتنعاً بفعل اقتحام متزايد للغائبين مساحات الضوء المتاحة، لكن يصير الاغتياب في الوقت نفسه أشد خطورة وإثارة للعداوات لأن إنتاجه مستمر، ولأنه تقريباً يجري اغتيابك في حضورك. أليس هناك صلة في عالم اليوم بين الاغتياب الحضوري، الذي هو تعبير عن الكراهية ورفض الاعتراف بك نداً ومساوياً، وبين تفجرات العنف من قبل المغتابين؟ عنف التابع الذي لا يتكلم؟ إن كان هذا صحيحاً، على ما أقدر، فالآن هو الوقت الصحيح لتحويل امتناع شرط الاغتياب (بفعل الحضور المتزايد للغائبين) إلى امتناع للاغتياب نفسه، أي إلى تحول رفض الاغتياب إلى محتوى أساسي للضمير.

وليس في نقد الحداثة المغتابة ما يعفي المغتابين القدماء، الأقل تعددية بكثير، من اللوم على اغتيابهم للغير. الإسلام، والمسيحية الممأسسة، وفي زمن أقرب إلينا الشيوعية، عقائد مغتابة، ديّانة، تمنح لنفسها الحق في قول السوء عن غيرها بقدر ما لا تكف عن مجاملة نفسها وقول الخير عن نفسها، أو بالأحرى مطابقة ذاتها بالخير. إصلاح التفكير كي يستحضر الغائب، وإصلاح السياسة كي تصير ما بعد ديمقراطية ولا تغيب، يسير مع إصلاح الأخلاقيات كي يصير الاغتياب من أشر الشرور.       

الإنتاج الاجتماعي للإيخمانية  

تقدمت الإشارة إلى آلية بنيوية لسيادة الواحد: اتجاهُ الفوارق بين متكلم ومخاطب إلى التضاؤل، وبخاصة في شروط ظهور الغائب، وهو الاتجاه العام لتطور الحياة السياسية في الديمقراطيات الغربية بعد الحرب الباردة. ويتوافق الصوت الواحد مع الفشل في الخروج من الذات، ما يعني أن له مفعولاً آيخمانياً، إن استعدنا تحليل آرنت نفسها، مفعول عدم التفكير وعدم القدرة على رؤية النفس من موقع الغير وعدم التبصر في معاني أفعالنا6.

الآيخمانية ليست تكويناً فردياً ربما تُوفِّرُ له بَقرَطة الحياة العامة شروط انتشار أنسب، وإنما هي نتاج اجتماعي محتمل، يتولد في شروط تدهور التعدد في أي إطار اجتماعي. النازية التي كان إيخمان موظفاً في مشروعها شكلٌ متطرف من الواحدية، تحول بين المرء والتفكير، وبالتالي دون نشوء الضمير. 

وعلى ضوء خبرتنا المعاصرة في سورية وإقليمها يبدو أن هناك شروطاً سياسية لإنتاج الإيخمانية على نطاق واسع، من حيث نزع التعددية طوال نحو ستين عاماً، معززاً بمظلوميات نشطة تدفع نحو الالتصاق بالنفس وتعذر الخروج منها، وتوفر تسويغاً ناجزاً يعفي من التفكير بكل ما قد نمارس من شر لكوننا عادلين حتماً ما دمنا مظلومين. المظلومي، من يعرف نفسه بمظلوميته، محاصر بنفسه، وهو يكف عن الكلام مع غيره وعن القدرة على الإصغاء إلى غيره بقدر شدة حصاره الذاتي. وتموه سرديات المظلومية الفارق بين تقرير ظلم موصوف واقع بالفعل، وبين إضفاء طابع نسقي، مستمر ودائم، على الظلم مما هو بناء خيالي وغير تاريخي، يضعنا كلنا في مواجهة كلهم، والهدف منه بناء عصبة ومعسكر، وليس الدفاع عن المظلومين. حلّلت ذلك في مواد سابقة7، يهمني منه هنا أن المظلومية غياب عن العالم بالانعزال وتغييب للعالم بالغضب المنقلب إلى هوية. وعبر التغييب ثمة توافق بين المظلومية وبين التكوين الآيخماني، أي الشر الذي يمزج بين الهول والابتذال و… الشرعية الذاتية.

يهمني أيضاً أن المظلوميات تؤهب لأشكال من تدميرية من عودة الغائب، مما يفترض أننا نعرفه جيداً في إقليمنا الشرق أوسطي. إسلامية إدارة التوحش مثال قريب على نسق متكرر.   

ثم أن الأمر لا يقتصر على المظلوميات. سرديات التفوق لها أثر تغييبي مماثل، وإن بآلية مختلفة: مَن هؤلاء لنضع أنفسنا في موضعهم؟ لنشعر بهم؟ ليسوا مثلنا لنتمثلهم! (التمثل هي الترجمة الأنسب في تصوري لـ empathy). هذا لا يعني حتماً أن آيخمان المتفوق سيقتل فقط من ليسوا مثله، إذ إن المِثْل بعد القتل لن يبقى مثلما كان قبله، وسينتج القتل أشكل تماثل تزداد ضيقاً، بالتالي توسعاً في قتل من لم يعودوا ضمن دائرة التماثل المتضيقة، مثلما حدث في ألمانيا النازية. ومثل ذلك بخصوص آيخمان المظلوم مثلما تظهر سيرة روسيا الستالينية. ومهما يكن مستوى التعدد محدوداً في اللحظة آ، تولي ستالين للسلطة، فإنه سيكون أدنى بكثير في اللحظة ي، وقت موته.

ألمانيا النازية بالذات أسست واحديّتها المتطرفة على مركب بارانوئي هاذٍ من التفوق: ألمانيا فوق الجميع (على ما كان يقول النشيد النازي)، ومن المظلومية: طعنة يهودية بلشفية تلقتها ألمانيا في الظهر في معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى.

والقصد أن التعددية التي يحضر فيها الغائب، الاجتماعي والسياسي والبيئي، هي مساحة التقاطع بين إصلاح التفكير والإصلاح الاجتماعي والسياسي وإصلاح الضمير. وأننا نكون في وضع أفضل في مواجهة الآيخمانية بمحاربة المظلوميات والنضال ضد الظلم، وكذلك بمحاربة التمييز العنصري والتفوقيات. وجوهر الإصلاحين معاً هو محاربة أشكال التغييب المختلفة، بالنظر إلى أن الغياب هو نتاج تغييب، وليس نسياناً أو جهلاً.

يصلح التفكير في مفهوم الغائب مُرتكَزَاً في تقديري لإعادة ترتيب علاقتنا مع العالم، العالم الحي وعالم البشر، والعالم ككون، بما في ذلك ما يسمى إسلامياً الغيب. هناك حاجة إلى باراديغم جديد اليوم، يدرج الأوجه المختلفة لمشكلات التمييز والعنصرية في أفق مشترك مع مشكلات البيئة مثلما تطلع غسان الحاج، وينفتح على تصور مغاير للتفكير نفسه. ما يميز الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى هو اللغة والتفكير، وإننا لنكرم اللغة والفكر، وأنفسنا، بأن نظهر مسؤولية عن الحياة، وقت أخذت هذه المسؤولية تصير مسألة حياة أو موت، لنا بالذات وللحياة نفسها.   

الغياب والمركزية الأوروبية

غياب الغائب من تفكير آرنت في التفكير يكمن في أساس مركزيتها الأوروبية والغربية. آرنت غربية جداً، لديها شعور بالعدالة حيال غير الغرب، لكنها لا تمتنع عن اغتياب غير الغرب (وهو في أساس الاستشراق)، بما في ذلك اليهود الشرقيون. التفكير مع أو التفكير المشارك، وليس تفكير التبني والاعتناق، يدعو إلى نقد أسس المركزية الغربية في فكر آرنت. التفكير كحوار يستبطن الديمقراطية الأثينية ثم الغربية الحديثة لا يسمح برؤية شيء آخر، لا يسمح بغير تعددية تنحل إلى ثنائية في كل وقت. في مواجهة التوتاليتارية هذا شيء طيب، لكن ليس في مواجهة تفوقية غربية، تضعف الضمير مثلما تفعل المظلومية، وتؤول إلى النرجسية وإدمان الأفضلية، وإلى فكر تبريري على المدى الأطول.  

أريد أن مركزية آرنت الأوروبية تقوم في صلب مفهومها للتفكير ذاته، وأن كسر المركزية الأوروبية يقتضي مواجهتها في مفهوم التفكير ذاته. التعددية التي دافعت عنها المنظرة السياسية لا تذهب بعيداً على أرضية التفكير كحوار، على أرضية المثنى.

ربما يتمازج في نزعة المركزية الغربية عند آرنت، وعند معظم من يقرأ لهم المرء من المفكرين الغربيين، دافع صدور من تراث يعرفونه جيداً وتقوم بتعليمه وتعميمه مؤسسات التعليم والتأهيل الاجتماعي في الغرب من جهة، مع شعور بأن هذا التراث غني كفاية، وأغنى من غيره، من جهة ثانية. قد لا يكون هذا خطأ، لكن الثبات عليه كان مُفقِراً دوماً، وهو أشد إفقاراً اليوم مع تفجر مشكلة البيئة وأزمة الديمقراطية. حتى النقد اللاذع الذي يوجهه مفكرون غربيون للغرب يشيع أن يكون اكتفاء بهذا العالم، وضرباً من الإصلاحية الوطنية الغربية إن جاز التعبير، وليس نقداً جذرياً من أجل عالم أعدل وأعقل، أو وطنية ومواطنة عالمية. اقترن التراث الغربي في العصر الحديث مع الثورات العلمية والتكنولوجية والاجتماعية، وحاز ضرباً من هيمنة عالمية تنزع لأن تغيب غير الغربي من المشهد، لأن يصير الغياب تغييباً سياسياً محروساً بالقوة. الثورات المذكورة اقترنت من وجه آخر بالامبريالية وبإبادات مهولة، بدءاً من أميركا «المكتشفة» لتوها أواخر القرن الخامس عشر حتى اليوم (لا تكاد آرنت تقول شيئاً عن ذلك، بحسب ديرك موسز)8، وبمخاطر كبيرة تعصف بالكوكب، وتدفع إلى التساؤل عمّا إذا لم نكن بحاجة إلى التفكير في قطيعة مع مجمل عالم الذات السيدة والمعرفة السيدة والدولة السيدة، على ما يستشف من كلام وائل حلاق.

فإذا كان هذا صحيحاً، وكان العالم مسرح ثورة الفكر والسياسة والأخلاق المأمولة، فلا يبدو أن ثمة خيار غير مقاومة الغياب بوصفه تغييباً، والعمل من أجل حضور جميع الغائبين، فلا يكون ثمة غائب غير «الغيب» كشيء نتكون منه.

عملياً،

فإن كان من توصية عملية يمكن الخلوص إليها من هذه التقديرات، فهي الانتباه في كل وضعية إلى ما يَغيب ويُغيَّب، وإلى عمليات التغييب التي قد نعبر عنها بكلمات من نوع إقصاء أو استبعاد أو تهميش أو تمييز أو إغفال، فضلاً بالطبع عن القمع بدرجاته المختلفة. لا يتجدد تفكيرنا دون أن يدخل أشياء لم تكن موضع انتباه (لأنها مكبوتة أو جرى تطبيع غيابها)، أو يستحضر الغائب وينتبه إلى عمليات التغييب، فيوسّع مساحة ما يمكن أن يُقال. يتشكل الضمير عبر عمليات الانتباه هذه، وما تعود به علينا من توسع عالمنا الداخلي. وهذه عملية ديناميكية، لا تتحقق مرة واحدة وينتهي الأمر، وتوجب المثابرة على نفض عادات التفكير المستقرة عن كاهلنا. فلا يمكن أن نشغل الموقع الأخلاقي العادل نفسه بالثبات على الموقع الفكري نفسه أياً يكن، أو بحصر الانتباه بقضايا بعينها تقررها بوصلة ما، بوصلة آرنت أو ماركس أو «شرع رب العالمين». لا نستطيع أن نكون عادلين باعتناق مذهب فكري أياً يكن، لا دين ولا نظرية علمية ولا دعوة اجتماعية، ولا من باب أولى هوية قومية لا تُحضِرنا إلا بتغييب غيرنا. أياً يكن التفكير الاعتناقي، فإنه يُغيِّب شيئاً أو أشياء، أو هو ينتهي إلى تغييبها. فإذا أردنا أن نشغل الموقع العادل نفسه فلا بد من المثابرة على تغيير ما نعتنق من عتاد فكري على نحو يسمح بأن يُرى ما لم يكن مرئياً، وأن يظهر أو يتلامح ما كان غائباً. التفكير في عملية المعرفة بأنها محو الجهل أو نزع المجهولية يتضمن هذه الدلالة، ولكن في صورة ساكنة أو سلبية. نعرف حين ندرك أن هناك ما كان مجهولاً، غائباً، محجوباً، يحجبه علمنا المستقر الذي قال عنه النفري إنه جهل مستقر. أي نعرف حين ندرك أن سبب الجهل هو العلم، أو أن سبب لا وجود العلم، إن حاكينا لغة دي سوسا سانتوس، هو وجود العلم، علم بعينه. الجهل المستقر ليس غياب العلم أو نقصه، بل العلم الذي يُغَيِّب. لذلك فإن المعرفة ليست فعل محو جهل، بل هي كذلك محو علم أو نزع تعلم، نزع استقرارنا في ما نعلم ونزع استقرار ما نعلم في أنفسنا. نُغفِل ما نعرف كي نعرف ما نُغفِل. لا نتعرف على المحجوب والمغيب إن لم ننزع ما لدينا من معرفة تحجب وتغيب.

لكن حين يجري الكلام على نزع معرفة تحجب وتُغيِّب، من هو الفاعل؟ هل المسألة قرار وعي؟ قرارنا نحن كوعي وانتباه؟ هل نذهب إلى الفكرة أو تأتي الفكرة إلى بالنا و«تخطر» له؟ أقدر أن المسألة تفاعلية. يتفاعل فيها انتباه من طرفنا، مع توتر لا تخلو منه وضعية نعيشها. 

ما الذي يأتي إلى البال؟ لعله ما ينتأ عن الشكل المستقر للخبرة، فـ «يحكّ» الذهن ويجبره على الانتباه، ما ينبو على المألوف فيشكل نبأ. أفعال مثل نتأ ونشأ ونبأ تشير إلى ما يظهر ويبرز، ما ينتزع الانتباه أو يدعونا إلى الاقتراب. أي أن هناك ما يقترب منا، وهناك اقتراب من طرفنا. وقريب من نبا فصار نبأ،َ أفعال نبت ونبع ونبه، ونبغ ونبج ونبض (ونبر ونبث ونبح، ونبق ونبك، أجمعها بصيغة: نَبَـ، والمضارع ينبُـ). ننتبه لأن هناك ما ينبه حولنا، ما يشق طريقه إلى الوجود، وما يدعونا إليه شاداً انتباهنا ومنتزعاً إيانا من غفلة الاعتياد. من المحتمل أن الانتباه تشكل تطورياً عبر التفاعل مع ما يتغير في البيئة، ما ينشأ وينتأ، ما ينبع وينبه وينبت. فما ينشأ وينتأ وينبه، وما ينبع وينبت، وكذلك ما ينبر وينبض، هو ما يخرج على مألوف اعتدناه، وما ينفلت من شكل استقر عليه، أي ما يشكل. أي ما يطرح مشكلة تستوقف، تسترعي الانتباه أو تدعوه إليها. الصلة ظاهرة في العربية بين الشكل والمشكلة، المشكلة وضع لا شكل له، يشد الانتباه لأنه بلا شكل، أو لانتهاكه شكلاً معلوماً. إلفتنا باستقرار الأشياء في أشكالها تقتصد في انتباهنا لها، فإن نبهت ونبتْ ونبتت، انشد انتباهنا إليها. الحياة في عمومها هي عمليات تشكل واستقرار في أشكال وخروج من أشكال. تثبيت الأشكال هو قتل للحياة فوق أنه قتل للسياسة والتفكير والضمير.

لا يحول دون الانتباه إلى ما ينبه غير «العلم المستقر» القادر بفعل استقراره في النفوس على تبليد الحواس، والثقافة، فلا يرى الغائب الذي ينبو وينبت، وينبه. ما هو العلم المستقر؟ أقرب شيء إلى أن يكون كذلك هو معتقد ديني أو دنيوي يعتبر مكتملاً ومعصوماً، لا يقبل التغيير ولا التحريف ولا التعديل. يؤول العلم المستقر إلى تجمد الأذهان عبر سكونها إلى ما استقر فيها من علم، وإلى تجمد الضمير الذي يتشكل عبر الأفعال الانعكاسية من مساءلة الذات وتفحص الذات ومراجعة الذات ونقد الذات…، أي عبر التعدد في الذات. ذلك أن المعتقِد أو مستقر العلم يعرف واجباته والتزاماته بصورة ثابتة لا تتغير في أوضاع لا تكف عن التغير، فوق أنها (الواجبات…) يغلب أن تقتصر على شركاء الاعتقاد. يعرف كل واحد منا من تجاربه أن المعتقَد أو الفكر الذي كان يشحذ حسه الأخلاقي في طور من حياته يكف عن أن يكون له الأثر نفسه في طور لاحق، وهذا بقدر ما هو يتشكل في صورة علم مستقر أو عقيدة، في صور حضور متماثل. وهو ما يقود من جديد إلى أن المثابرة على إشغال موقع أخلاقي عادل يقتضي المثابرة على التغير الفكري، أي ممارسة تفكير متجدد، مفتوح على الغائب. فالعدالة ليس مسألة اعتقاد، إنها إن جاز التعبير مسألة اعتدال، فعل تعديل مستمر لأفعالنا بما يحد من احتمال إيذاء الغير.

ولعل مما يمد لنا يد العون في الانتباه إلى ما هو غائب ومغيب من كل وضعية، هو أنه ليس هناك وضعيات تنجح كلياً في كتم أصوات الغائبين أو نبراتهم وهمهماتهم، أو تخلو مما ينبه وينبت وينبع. المهم أن نتدرب على الإصغاء ونشحذ حواسنا وأذهاننا للانتباه إلى ما ينبه، وما ينبثق وينبجس.

الفكرة في النهاية وليدة التفاعل بين ما ينبه حولنا خارجاً من الغياب وما ينتبه فينا منفلتاً من حضور مستقر. أي التفاعل بين حركة غير الموجود أو الغائب، وخروجه من الشكل المستقر الذي وضع فيه، وبين تطويرنا لملكة متجهة نحو ما يشق طريقه إلى الوجود، ما يتمرد على شرط الغياب.

ومن ذاك، يمكن أن نصوغ تصوراً للفكرة الصحيحة بأنها ما تُبقي الباب مفتوحاً على ما هو غائب، أي هي الفكرة الناقصة وغير المكتملة. الفكرة الكاملة خاطئة حتماً لأنها تُغيِّبُ حتماً.

فهل إذن يمكن للغائب أن يتكلم؟ الواقع أنه يهمهم، ينبـ، يشق طريقه إلى الوجود، وتفكيرنا لا ينصلح دون أن نأخذ نبّـهُ بعين الاعتبار. الغائب هو ما ينقصنا، هو جهة الاكتمال. ومن الغائب الذي ينبـُ يأتي الجديد في التفكير وفي السياسة، وفي الوجود. ويأتي التعدد والحرية.

1. Arturo Escobar: Designs for the Pluriverse: Radical Interdependence, autonomy, and the Making of Worlds, Duke University Press, 2017. الكتاب ملهم ومحرض للتفكير، لكن يمكن التساؤل عما إذا لم يكن ما يدعو إليه إسكوبار يؤول إلى ضرب من الغيابة (مقابل الحضارة)، أن يكون البديل هو الغياب في صورة انحلال في الطبيعة أو بداوة مختارة

2. في كتابه Is racism an environmental problem? Polity Press, 2017 الحاج يبرز أشكال الآخريةothering التي يناسب بقليل من اللعب اللغوي الجدي أن تترجم بالتأخير، وما يرتبط بها من أشكال سيطرة وحكم، ثم بديناميات الاستغلال الرأسمالية للموادر والبشر وارتباطها بالاستعمار، ثم ببنى «التدجين المعمم» كنمط للوجود.

3. تنظر ورقته: Public Sphere and the Epistemologies of the South

وكذلك: Epistemologies of the South and the Future

4. نحتاج إلى معرفة أوسع بتيارات فكر أميركا اللاتينية وتجاربها السياسية، بخاصة بعد الوثبة الكبيرة في انخراطنا التاريخي التي مثلتها الثورات العربية. هناك ما يتردد المرء بشأنه مما يبدو مقوياً للتيارات «الأصلانية» في مجتمعاتنا ربما تولدت في السياق الأميركي اللاتيني عن مركزية التجربة الاستعمارية. دو سوسا سانتوس يعتقد أن الجنوب تعرض لإبادة معرفية (epistemicide)، وتبدو إبستمولوجيا الجنوب يمثابة رد أو عصيان إبستمولوجي بحسب تعبيره. في تقدير أولي، أتصور أن هناك الكثير مما هو ملهم، ومما يتعين في الوقت نفسه عدم مجاراته. في أيام كوفيد 19 هذه مثلاً، من الملح أن نركز على وحدة العالم أكثر من تعدده الذي ركز عليه إسكوبار كذلك، وإن كان يتعين الدفاع عن التعدد في معظم السياقات الأخرى، وبخاصة في وجه الإفقار الحداثي للعالم. المهم أن نفكر في تجاربنا الفعلية، وأن ننتج تجارب مغايرة، ونتدرب على التفكير مع وإلى جانب ضداً على التفكير الاعتناقي والتتلمذي الذي يردنا على طريقة المؤمنين إلى محلات لقول لا يحتاج إلى تجاربنا في شيء.

5.   وائل حلاق: قصور الاستشراق، منهج في نقد العلم الحداثي، ترجمة عمرو عثمان، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت 2019.

6. Hannah Arendt, Eichmann in Jerusalem, a Report on the Banality of Evil, Penguin Books, 2005 من أجل نظرية آرنت في الشر المبتذل، تنظر الصفحات 48 و49 و54 و276، 287، 288، و290.

7. في مقالة من جزئين، الضمير الخارجي، في المظلومية وأصول الشر السياسي. الجزء الأول، والثاني

8. Dirk Moses: Das Romische Gesprache in a New Key: Hannah Arendt, Genocide, and the Defense of Republican Civilization

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى