ثقافة وفكر

إعادة قراءة تاريخ “الإقليم” كسبيل للخروج من حلقة التدمير/ منير الربيع

طرح الأستاذ حازم صاغية في مقالة تحت عنوان “النظرية الخرقاء في فهم حزب الله”، جملة أفكار من شأنها التحفيز على إعادة بناء مفهوم متجدد للسياقات التاريخية الني نحتكم إليها وتأسرنا.

يقارن صاغية بين الأفكار التي رافقت اللبنانيين مع بداية نشوء الحزب وتنظر إليه كمقاومة هدفها التحرير، وبين ما استحال إليه حزب الله كقوة تأخذ اللبنانيين أسرى ورهائن، وتحول وظيفة السلاح من التحرير إلى السيطرة على لبنان ومهاجمة سوريا والعراق واليمن.

ويخلص إلى القول إن حزب الله في الأساس لم ينشأ على خير وتحول إلى قوة للشرّ. ويمرّ صاغية على تجارب عديدة كالنظر إلى الثورة البلشفية في العام 1917، والتي كان المنظور العام حولها بأنها ثورة تحرر، وإذ بها تتحول إلى عسس عسكري ومخابراتي ونظام حديدي وظيفته القتل، وكذلك بالنسبة إلى الوحدة العربية بين مصر وسوريا وما أنتجته من نتائج كارثية.

كل هذه الأمثلة، يمكن أن تضاف إلى عشرات لا بل مئات الأمثلة، حول لجوء الناس بطبائعهم إلى صناعة أساطير متخيّلة والبقاء أسرى لتلك الصورة، فتتغير معها المفاهيم وآليات التفكير، فيصاب المتلقي بعمى سياسي وفكري وتاريخي.

وذلك يمكن التعبير عنه بمقولة واحدة سائدة على مرّ العصور، أن التاريخ يكتبه الأقوياء أو المنتصرون، الذين يتمكنون فيه من فرض “أدلجتهم” التاريخية على باقي مكونات المجتمع، بحيث يصبح مجرد التفكير في هذه السرديات ونقدها أو النظر إليها من جانب أو زاوية مختلفة، عنواناً للتخوين والنبذ الإجتماعي والسياسي.

وجهة النظر التي يطرحها صاغية حول حزب الله، يمكنها التوسع لتطال تشكيل نظرة جديدة ومغايرة حول الثورة الإسلامية في إيران مثلاً، وتحولات كثيرة نتجت عن هذه الثورة على الصعيد الجيوستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط. لا مجال أو حاجة هنا للعودة إلى تجارب وسياقات تاريخية كثيرة منذ الحرب العالمية الأولى، والمملكة العربية المتحدة والسرديات العربية حول الطعن البريطاني لهم، والتي أيضا كلها تحتاج إلى إعادة قراءة مجرّدة للتاريخ وحيثياته وأحداثه. أما العودة إلى الثورة الإسلامية في إيران، فهناك حاجة إليها ربطاً بكل ما يجري من تطورات في هذه المرحلة.

تلك الثورة وإمامها التي كانت تحظى برعاية ودعم فرنسي وأميركي، حتى إن عودة الخميني من فرنسا إلى إيران كانت بحماية ورعاية دولية، لأن الثورة الإسلامية في تلك الفترة كانت تمثّل حاجة غربية في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وتجربة الأميركيين مع رجال الدين في إيران سابقة للثورة الإسلامية وتعود إلى الخمسينيات، وحقبة محمد مصدّق، وإلى ذلك التاريخ يعود الدعم الأميركي لرجال الدين في إيران، لضرب مصدق وإحداث تغييرات جوهرية في بنية السياسة الإيرانية، في إطار التقدم والتوسع الأميركي في المنطقة على حساب البريطانيين أيضاً، فكانت الحاجة إلى رجال الدين، كما هي الحاجة إلى ثورة الضباط الأحرار في مصر. ومنذ تلك الفترة بدأت تبرز في المنطقة ثنائية الصراع المركزي بين العسكر والإسلاميين، والتي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا.

في تلك الحقبة أيضاً، والتي كان فيها العرب أصحاب المد القومي والتقدمي والهادف إلى مواجهة إسرائيل والمقيم في خانة العمل على تحرير فلسطين، كانت إسرائيل تلجأ إلى الاستعانة بتركيا وإيران في مواجهة العرب. إلى أن بدأ السقوط العربي في الصراع الذي خاضته الأنظمة مع الشعوب، والصراعات الداخلية، أو الصراعات العربية العربية، التي دفعت بمصر إلى كامب ديفيد، وبدأ التراجع العربي الهائل، الذي غيّب مصر عن المعادلة، وأدخل العراق وسوريا في صراع البعثين، وصولاً إلى لحظة مفصلية في التاريخ الوجداني العربي، بالذهاب إلى إسرائيل لمواجهة إيران وتركيا.

التهديد الجدي والحقيقي لإسرائيل هو حرب الديمغرافيا. سواء الديمغرافيا داخل فلسطين، أم في الدول المحيطة. وما يهدد إسرائيل هو المشروع الوطني في هذه الدول ذات الأكثريات السنية والقادرة على تشكيل مقومات للدولة الوطنية. الهدف الإسرائيلي هو ضرب هذه الحواضر، وتدمير أي بنى وطنية، من خلال صراعات داخلية على أسس مذهبية وطائفية، تأخذ طابع صراع الأقليات مع الأكثرية.

كل المسار الأميركي الإسرائيلي، الذي وفّر الصعود التركي على الصعيد الداخلي، والتوسع الإيراني في المنطقة، دفع بالعرب إلى الخيار الإسرائيلي. هنا انقلبت المعادلة، فبعد أن كانت إسرائيل تلجأ إلى إيران وتركيا لمواجهة العرب. أصبح العرب هم من يلجؤون إلى إسرائيل لمواجهة تركيا وإيران.

معركة الديمغرافيا التي أوصلت المعادلة إلى مثل صفقة القرن، أصبحت واضحة المعالم، فبتهجير سوريا، وشرذمة العراق، وضرب لبنان وخصوصاً الدور السنّي السياسي فيه، وتصوير السنّة بأنهم إرهابيون ما برر تهجيرهم وتدمير بناهم، من شأنه ينعكس على التفوق البشري الفلسطيني في الداخل، ويبرر للإسرائيليين ورعاتهم “قصقصة” فلسطين وتمزيقها بموجب خريطة ترامب. ما يشكّل التفافاً على ارتباط حجم الديمغرافيا بالدور السياسي.

بتلك المعادلة عملياً، يكون العرب قد خسروا دولهم وحواضرهم وأي أدوار يمكنه الاضطلاع بها، كحال غياب التأثير السعودي أو المصري على المجريات والتطورات في المنطقة، وافتقاد أي عنصر للمبادرة. فيما يولون مهمة الدفاع عن أنفسهم في مواجهة تركيا وإيران إلى إسرائيل، سواء كان ذلك في البر أم في البحر. وتحت هذا العنوان، تدور معارك جديدة بمفعول عمره 100 سنة، على منابع وممرات النفط في المنطقة، وخصوصاً في البحر الأبيض المتوسط، بحيث تجتمع إسرائيل، مصر، الأردن، اليونان، قبرص، بدعم فرنسي وغربي في مواجهة أي مشروع تركي ولقطع الخط بين تركيا وليبيا.

الحرب التي تعرّض لها العرب وصولاً إلى إنهاء أدوارهم، عملت تركيا على سدّ فراغاتها، ولكن بجوانب غير كافية كما حصل في سوريا أو شمال العراق، وصولاً إلى ليبيا. لكن حرب الديمغرافيا ستبقى مستمرة، وهي تتجلى بكلام يقوله رئيس المخابرات الإسرائيلية يوسي كوهين قبل أيام، معتبراً أن تشكّل التهديد الأكبر على إسرائيل أكثر من إيران، لهذا الكلام، مفاعيل كثيرة سياسياً واستراتيجياً للمستقبل، ولن يقف عند حدود مواجهة تركيا في البحر الأبيض المتوسط، والتي وجدت مخزوناً غازياً هائلاً في البحر الأسود.

المواجهة مع تركيا ستكبر أكثر، ولن تكون في مياه المتوسط فقط، ثمة خطر دائم يتهددها، وربما سيتعاظم أكثر بعد كلام رئيس المخابرات الإسرائيلي، في اختلاق مشكلات تطال الوطنية التركية على مشارف العام 2023، من خلال الاستثمار بصراعات الأقليات ونزاعاتها وتزكية صراع القوميات والهويات، لاستعادة مشهد الساحات العربية.

المشروع لم يبدأ بمحاولة الإنقلاب ولم ينته بإجهاضها. وربما مستقبلاً سيتكرر كما كان الوضع قبل أكثر من مئة سنة، في اجتماع العرب والغرب والكرد والأرمن وغيرهم ضد تركيا، مع فارق أن إسرائيل موجودة هذه المرة، وتسعى إلى تحقيق صفقة القرن، بالاستناد إلى تدمير في البنى المحيطة اجتماعياً واقتصادياً.

تلفزيون سوريا

—————————-

النظريّة الخرقاء في فهم «حزب الله»/ حازم صاغية

مرّة بعد مرّة يداهمنا التحليل التالي: كان «حزب الله» مقاومة ثمّ انقلب إلى شيء آخر. كان خيراً محضاً ثمّ انقلب شرّاً محضاً.

تاريخ الانقلاب هذا يردّه البعض إلى 2008. لحظة الانقضاض المسلّح على بيروت، ويردّه البعض الآخر إلى 2012 – 2013 عندما تدخّل الحزب في سوريّا.

هذا التحليل خرافي في أحسن الأحوال، خصوصاً أنّه بمثابة طريقة في النظر إلى تطوّرات وأحداث كبرى سابقة، من دون أن يفضي تكرارها المدهش إلى أي مراجعة، وهذا، بدوره، من سمات الوعي الخرافيّ.

مثلاً، قبل «حزب الله»، كانت المقاومة الجزائريّة مفخرة العرب والمسلمين، لكنّ نظام بن بلّه – بومدين الأمني والديكتاتوري هو ما نجم عن انتصارها. وحدة مصر وسورّيا في 1958 كانت أهمّ إنجازات تاريخنا الحديث، لكنّ الاستبداد الناصري ما لبث أن حلّ على سوريّا. الناصريّة كانت أروع أفعالنا، لكنّ هزيمة 1967 المدوّية شكّلت خاتمتها البائسة. المقاومة الفلسطينيّة كانت أهمّ يقظات تاريخنا، لكنّها أفضت إلى حربين أهليّتين في الأردن ولبنان ثمّ إلى فجيعة 1982.

الأمثلة كثيرة، وهي تتعدّى التاريخ العربي الحديث إلى التاريخ العالمي الحديث مقروءاً بعين خرافيّة: ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917 الروسيّة كانت الفاتحة المجيدة للقرن العشرين، لكنّ الستالينيّة ما لبثت أن ظهرت واستولت على روسيا.

هذه النظرة تشبه بيت شعر من شطرين: في الشطر الأوّل، يعلن القائل أنّه لا يزال على وفائه للمبادئ (ثورة، مقاومة، اشتراكيّة إلخ…) وأنّه لم يتزحزح عنها. في الشطر الثاني، يعلن بؤس الأقدار التي آلت بنا إلى ما آلت.

فيما خصّ «حزب الله» تحديداً، لن يكون من الصعب دحض هذا التحليل الخرافيّ، واكتشاف أنّ «شرّ» الطور الثاني كان كامناً في «خير» الطور الأوّل. أمّا اجتياح بيروت في 2008 والتدخّل، بعد 4 سنوات، في سوريّا، فلم يكونا سوى لحظتي تتويج لما بدأ مع التأسيس في 1982.

فلنراجع هذا التأسيس قليلاً علّنا نكتشف «الخير»: الحزب، وهو ما لم يعد سرّاً، وُلد في السفارة الإيرانيّة في دمشق حين كان علي أكبر محتشمي هو السفير. ومنذ البداية، ضمّ أفراداً من لون مذهبي واحد، وتولّى قيادته رجال دين تطبيقاً لمبدأ «ولاية الفقيه» الخمينيّ. وهو مثّل انشقاقاً، مَرعيّاً من طهران ودمشق، عن النيات التسوويّة التي أظهرتها قيادات شيعيّة لبنانيّة أخرى. ومنذ أيّامه الأولى، ربط لبنان بالحرب العراقيّة – الإيرانيّة اغتيالاتٍ ونسفاً وخطفاً للأجانب، كما دعا إلى إقامة «جمهوريّة إسلاميّة» في لبنان قبل التخلّي عنها لاحقاً.

في حالة بلد مؤلّف من 18 طائفة، لا يعني حزب كهذا غير تدمير البلد نهائيّاً. إنّه شرّ محض.

في المقابل: التحليل الذي يركّز على مقاومة الشطر الأوّل، ولا تستوقفه العوامل المذكورة أعلاه، لا يكون يعلن إلاّ شيئاً واحداً: إنّ أمر لبنان وسلمه الأهلي لا يعنينا. المهمّ: مقاومة إسرائيل. وهذا إنّما يضيف إلى خرافيّة تلك المقاومة خرافيّة أخرى تتعلّق بخطّتها: ذاك أنّ المنطق البسيط يكفي لتعليمنا أنّ إضعاف لبنان إلى هذا الحدّ لا يؤدّي إلى مقاومة ناجحة لإسرائيل. بإضعاف ممنهج كهذا تغدو مقاومة إمارة ليختنشتاين أمراً صعباً.

والحال، إذا وضعنا المبالغات جانباً، أنّ الحزب نجح في تفكيك لبنان أكثر كثيراً مما نجح في تحرير الأرض اللبنانيّة من إسرائيل. دعْ جانباً تحرير فلسطين والصلاة في الأقصى!

حرصاً على الدقّة، ينبغي التذكير بالعوامل الأخرى التي أسهمت، إلى جانب الحزب، في التحرير: في حملته الانتخابيّة في مارس (آذار) 1999 تعهد إيهود باراك بانسحاب أحادي من لبنان، مستجيباً لرغبة الرأي العامّ الإسرائيليّ. قتلى إسرائيل على يد «حزب الله» كانوا مؤثّرين من غير شكّ، لكنّهم لم يتجاوزوا الـ800 قتيل على مدى 18 عاماً (1982 – 2000). ضحايا حوادث السير في الدولة العبريّة كانوا دائماً أكثر بكثير. على أي حال، فبوصول باراك إلى رئاسة الحكومة، نفّذ الانسحاب بأسرع مما وعد وطبّق القرار 425. تمّ ذلك في 24 مايو (أيار) 2000.

انتصارات «حزب الله» الكبرى كانت في مكان آخر: في شلّه الحياة السياسيّة اللبنانيّة وإرعابها ابتداءً بـ2005. فلنفكّر للحظة في هذه الحقيقة الرهيبة: يتحدّث أحد بنود «اتفاق الدوحة» الذي تلا اجتياح بيروت في 2008، عن:

«تعهد الأطراف بحظر اللجوء إلى استخدام السلاح أو العنف أو الاحتكام إليه»، فيما «حزب الله» الطرف الوحيد الذي يملك السلاح ويستخدمه ويحتكم إليه.

وبالطبع انتصر الحزب في انتزاعه قرار الحرب والسلم من يد الدولة، لا لكي يحرّر فلسطين، بل لكي يغزو سوريّا ويوطّد فيها نظاماً تابعاً لإيران!

نظريّة «كان خيراً وانقلب شرّاً» نظريّة خرقاء. لقد وُلد شرّاً، واليومَ يشيب على ما شبّ عليه.

الشرق الأوسط

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى