مقالات

قبّرات هاينة وسيوف الصهيونية/ صبحي حديدي

آزادي سيهان Seyhan، أستاذة الأدب الألماني والمقارن في كلية برين ماور، بنسلفانيا؛ والأستاذة المشاركة، أيضاً، في دراسات الشرق الأوسط ضمن الجامعة ذاتها؛ واحدة من ألمع الأسماء في ميدان الآداب العابرة للثقافات والأمم والجغرافيات. ولها، في هذا المضمار تحديداً، أعمال رائدة ومتميزة، مثل «حكايات المصائر المتقاطعة: الرواية التركية المعاصرة في سياق مقارن»، و»التمثيل ومظانّه: الموروث النقدي للرومانتيكية الألمانية»، و»الكتابة خارج الأمّة»؛ ومؤخراً اصدرت «هنريش هاينة وخريطة العالم الأدبية: إعادة تصويب الموروث».

وهذه السطور تتوقف عند سيهان لسبب واحد على الأقلّ، لكنه جوهري ومركزي وإشكالي في آن معاً، يتصل بكتابها الأخير عن الشاعر الألماني الكبير، وبالمقاربة البارعة التي اعتمدتها في ذلك المؤلف: أنها نظرت إلى نتاج هاينة من زاوية أدب المنفى والنفي، داخل اللغة وخارجها معاً، من زاوية أولى؛ كما تحاشت، من زاوية ثانية، وعن سابق قصد منهجي كما يتوجب القول، الانزلاق إلى الموضوعة المأثورة، شبه الإلزامية، كلما نوقش موقع هاينة في الأدب العالمي: يهوديته، من عدمها. ويحلو لها، كما فعل سيغموند فرويد قبلها، أن تقتبس تلك العبارة الشهيرة التي أطلقها هاينة في ذروة تعبيره عن الانتماء إلى العالم بأسره، على رحابته: «نحن نترك السماء/ للملائكة والقبّرات»!

وترى سيهان أنّ هاينة انكبّ على ابتداع مَزْج خلاق بين الوضوح الحداثي الفرنسي والثراء العاطفي والمفهومي الألماني، فكان استطراداً شاعراً فيلسوفاً متأصل الجذور في النزعة الكوزموبوليتية، رغم أنّ هذا المصطلح لم يكن قد شاع بعدُ في زمانه. وفي الفصل الثالث من كتابها، وتحت عنوان «المنفيّ بوصفه مترجماً ثقافياً»، ترصد سيهان أثر المنفى الباريسي في إكساب نثر هاينة ذلك البُعد الفكري الترابطي بين الثقافات؛ الأمر الذي ساهم، بعمق، في نقله من المزاج الرومانتيكي إلى النزوع التاريخاني العميق، واستبصار «الإيقاعات» و»الأنساق» و»الشرائع» و»الاتجاهات» الكامنة في قلب «ارتقاء التاريخ».

وهاينة، للإيضاح المفيد، هو الشاعر الذي لا يكفّ الألمان عن تلاوة قصائده الغنائية البديعة، وترتيلها، خصوصاً تلك التي تحوّلت إلى مقطوعات موسيقية على يد موسيقيين كبار من أمثال شومان وشوبيرت ومندلسون. قد وُلد سنة 1797 في دسلدورف لأسرة يهودية، وحمل اسم هاري بن سيمون هاينة، ثمّ اعتنق الديانة المسيحية وهو في الثامنة والعشرين من عمره كي يحصل على وظيفة إدارية و»ينتسب إلى هذه الحضارة الغربية» كما قال. كذلك تتلمذ على يد هيغل، وصادق كارل ماركس (الذي استقى من هاينة العبارة الشهيرة التي تصف الديانة المسيحية بـ «الأفيون الروحي»)، كما عاشر كبار الأدباء الفرنسيين حين نفى نفسه إلى فرنسا، وبقي فيها حتى وفاته سنة 1856.

لكنه، في عرف تيّار عريض من المثقفين اليهود، اليهودي المرتدّ الأكثر شهرة وإثارة للسجال والجدل؛ ليس بسبب ارتداده عن الديانة فحسب، بل لأنه أطلق العبارة الشهيرة: «اليهودية ليست ديانة. إنها كارثة». أكثر من ذلك، يتابع خصومه من اليهود، كتب هاينة مسرحية بعنوان «المنصور»، يروي فيها تفاصيل اضطهاد المسلمين في إسبانيا أيّام محاكم التفتيش، ولكنه يسكت عن اضطهاد اليهود في المكان ذاته وخلال الفترة ذاتها. وفي المقابل، ثمة تيّار من الباحثين اليهود يرون العكس، ويفرطون في تمجيد هاينة وتنزيهه عن الارتداد.

ففي كتابه «هاينة: حياة مزدوجة»، حاول الإسرائيلي إيغال لوسين إعادة استكشاف سيرة الشاعر على نحو يتيح بلوغ نتيجة معاكسة تماماً للرأي الشائع في أوساط المثقفين اليهود: هذا الرجل كان يهودياً أصيلاً (استناداً إلى عبارة شهيرة أخرى أطلقها: «لن أعود إلى الديانة اليهودية لأنني لم أتركها في الأساس»)؛ وكان من كبار المنذرين بالفكر الصهيوني، بل كان لا يقلّ صهيونية عن هرتزل نفسه! ثمة، هنا، اتكاء واسع على مسألتين: أنّ هاينة اعتنق المسيحية مكرهاً لا راغباً، وقد يكون هذا صحيحاً بالطبع؛ وأنّ السلطات النازية فهمت هذه الحقيقة، فوضعت أعماله في عداد 25 ألف كتاب أُحرقت في برلين سنة 1933. ويرى لوسين أنّ هاينة ــ الذي كتب يدافع عن ظلم اليهود في قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، وفي قضية «فطير صهيون»، واقعة دمشق الشهيرة ــ لا يمكن إلا أن يكون يهودياً، بل صهيونياً أيضاً وأوّلاً.

لكنّ كتاب سيهان، وعشرات الأعمال الأخرى التي تناولت سيرة هاينة وأدبه، تبرهن أنه لم يكترث بموقعه في أيّ من الديانتين، بقدر انهماكه بكتابة قصيدة سوف تشكل واحدة من صوى الحداثة على مستوى الأدب العالمي؛ وأنّ محاولات زجّه قسراً في تراث حصري يهودي أو مسيحي، لن ينتهي إلى إغناء تراثه الوضاء، ولا إلى إفقاره أيضاً. ومن جانب آخر، ما الذي سيتغيّر في شعر هاينة، إذا تبيّن أنه كان هاري بن سيمون أكثر من كونه كريستيان يوهان هنريش؟ أليس من حقّ قبّرات هاينة أن تحلّق في السماء، حرّة طليقة، بمنأى عن سيوف الصهيونية المسلطة؟

الإجابة منتفاة، بالمطلق، عند تيّارات البحث اليهودية التي تشتغل أوّلاً على تضخيم عقدة الضحيّة، لاعتبارات لا يخفى أنها تلبّي الأغراض السياسية والمؤسساتية وليس الإنسانية أو الأخلاقية؛ وذاك، أيضاً، هو السبب وراء تأثيم حفنة من كبار يهود البشرية، بذريعة أنهم كانوا أكثر اكتراثاً بالقبّرات وليس السيوف.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى