مقالات

أورخان ميسّر رائدا للسريالية العربية/ أيمن باي

“دعني

 أحلم في صمت”

(أورخان ميسّر )

كان النصف الأول من القرن العشرين جريئا في مجالات مختلفة من أمور الثقافة والفن، وهو في الشّعر أكثر جرأة وتمرّدا ومغايرة. فقد أخذت الأصوات الشعرية الحديثة تتكاثر من رحم التجريب أكثر من أيّ وقت مضى بكيفية لم يجد معها حماة الموروث الشعري العربي طريقة يجابهون بها تيّار الحداثة الذي أصبح يعصف بأصوليتهم الشعرية بلا هوادة.

ولئن كانت هذه التجارب الشعرية متفاوتة من حيث ابتعادها عن نواميس القصيدة التقليدية فإن من بينها من ابتعد كثيرا أبعد ممّا بين السّماء والأرض، فتاهت عن القارئ أو تاه عنها، فأصابها اليتم وعضعضها النفور والنسيان، وهي، مع ذلك كله، أولى لبنات الحداثة الشعرية شكلا ومضمونا.

تجربة أورخان ميسّر الشعرية في ديوانه الوحيد مع علي النّاصر “سريال” مؤسسة للسريالية العربية ورائدة للحداثة الشعرية.

أورخان ميسّر والحداثة الشعرية

يقترن الحديث عن بواكير الحداثة الشعرية العربية بالممارسات الشعرية التي قبلها القارئ والناقد والتي وجدت مكانا لها في الخطاب النقدي الذي درسها وبيّن خصائصها ومؤثراتها وقرأ احتمالات بقائها. ونعني بذلك حركة الشعر الحر وروّاده، بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبدالوهّاب البياتي. لقد شغل هؤلاء الروّاد وأعمالهم الأولى، “هل كان حبا؟” 1947 لبدر شاكر السياب وقصيدة ” الكوليرا” 1947 لنازك الملائكة إضافة إلى كتابها النقدي “قضايا الشعر المعاصر”، الساحة الثقافية العربية واعتبروا روّادا للحداثة الشعرية العربية، بل وتنازعا (السياب والملائكة) مسألة الريادة، فذهب مجموعة من النقاد مع السياب وذهبت أخرى مع الملائكة. لكن في ظل كل ذلك كانت الريادة منزوية في ركن من عالم الثقافة العربية وهي تجربة أورخان ميسّرمع ديوانه “سريال” 1948، فهي الأكثر مغامرة وجرأة وتمرّدا على القصيدة العربية التقليدية. فقد تخلت عن العروض كليا وعوّلت على معاويل إيقاعية جديدة وأتت ببلاغة حديثة في تكوين الصورة الشعرية تتسم في بنائها بنزعة سريالية واضحة.

إن الحداثة عند أورخان ميسّر تقوم على الهدم والبناء على أنقاض القديم وليس التحديث في صلب الموروث، ولعلها المسألة التي عمّقت من عزلة تجربة أورخان ميسّر أمام تجارب شعرية مزامنة زمنيا لكنها أقل جنونا. ففي الوقت الذي بشّر فيه السياب بكتابة متأثرة بشعر  ت.س إليوت وهو شعر يقترن بمشاكل الإنسان وشواغله ويحاكي همومهم بلغة بسيطة تقترب من لغة اليومي، كان أورخان ميسّر يبشر بكتابة سريالية غريبة تحاكي غرابة الواقع العربي زمن التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية، كتابة مستلهمة من أندري بريتون  وأنطونان آرتو ولويس آراغون وأرنست موريس.

قصيدة أورخان ميسّر قصيدة غريبة، تجيء من المستقبل، كتبت لقارئ لم يوجد بعد. إنها الوجه الآخر المنسيّ للحداثة الشعرية العربية.

حتى نفتح

 بابا

 في الغياب..

الكتابة الآلية: كتابة خارج المنطق

تقوم الكتابة السريالية عند أورخان ميسّر على الكتابة الآلية التلقائية التي يعوزها تدخل أيّ رقيب ذوقي أو أخلاقي فيها، فهي كتابة حرة لا تخضع لأيّ منطق سوى منطق اللاوعي ذلك المعين الغابر في النفس حيث ترسب فيه كل شواذ الذات والرغبات المطرودة من عرف المجتمع، الكتابة السريالية تحررها، تعيدها إلى الحياة، بغبارها، بفوضويتها، كتابة دون أقنعة، مكبوتات اجتماعية وجنسية وأحلام مبتورة وأضغاث أحلام وكوابيس تؤرق ومخاوف تنخر النفس، كلها تمتزج في عفوية كما يتمثّلها العقل.. فتكوّن قصيدة سريالية.

فعند تحرير اللاوعي وإدماجه بالوعي وعندما تتحرر الكلمة من أيّ رقيب وتصل ذروة الحرية، حينها، تبلغ مرحلة الأداء السريالي الحقيقي. الأمر الذي يجعل القصيدة السريالية غريبة، الصور فيها لا تلتزم بالبلاغة العربية التقليدية وبأدبيات الكتابة الشعرية. والمعجم فيها موحش مظلم يأتي من أقصى أقاصي النفس.

القصيدة السريالية عندما تتكور على نفسها

 في العالم

 رجع صدى

 من بعيد..

الإدهاش والغريب: بلاغة شعرية مغايرة

 يتسكّع في الظلمة بقدم واحدة وبنصف عين

( أورخان ميسّر) “يقظة”.

يتجسد الغريب في شعر أورخان ميسّر في مستويات عدة سنقف على اثنين منها: المعجم والصورة.

المعجم

إن أول ما يلفت انتباه قارئ ما عندما يتصفح مجموعة “سريال” تلك العناصر الشعرية المتداخلة والمتفجرة في حيز مكاني وجيز والتي تحقق قدرا كبيرا من توهج شعري غريب ورؤية فنية شاذة. فالمعجم فيها مأخوذ من أعماق اللاشعور للشاعر ومن أكثر الأماكن بعدا وظلاما في ذاته لا يستحي أورخان ميسّر من استدعائها في نصوصه الموجزة استدعاء عفويا يعكس ما يختلج في ذاته من اضطرابات ووعي فني مغاير. يقول الشّاعر:

هنا، في قعر كأسي رؤى لا تنضب

رؤى يحيلها فراغ الكأس، أحيانا، إلى مآتم شفافة

تولول فيها غصات

من زمن مبتور، وتعربد حولها بقايا صلوات مجّت التحنّط

والالتصاق بجدران هياكل دأب لبناتها التثاؤب.

ليس من الصعب تحديد هوية هذا المقطع الشعري السريالي من خلال تردّد مجموعة من الكلمات ذات الدلالة السلبية والتي كونت معا معجما أو حقلا دلاليا سرياليا يمكن أن نسمه بمعجم الموت والذي يتمثّل في الكلمات التالية ( فراغ، مآتم، غصّات، مبتور، تحنّط). إذ يلحّ أورخان ميسّر على استعمال كلمات تحقق معنى الموت والفراغ وما يحفّ به من طقوس فهو معجم يعكس الحالة الشعورية للشاعر وقد استدعى هذه الكلمات من أعمق مكان في اللاوعي دون حذف أو تعديل، وهي آلية سريالية أساسية، الأمر الذي سيتواصل في تكوين الصورة الشعرية.

الصورة السريالية

لعل أكثر ما يلفت الانتباه في الشعر السريالي عموما وعند أورخان ميسّر على وجه التحديد طبيعة الصورة التي تؤسس لبلاغة جديدة ومستحدثة تقوم على الإخلال بالتناسب والتشابه بين عناصرها مما يجعلها صادمة ومنفرة وتنحو منحى غرائبيا يدل على الفوضى الشعورية التي يعيشها الشاعر وعلى اتزانه النفسي المفقود الذي يعبّر عنه بشكل تلقائي، ويظهر ذلك في مستويات عدّة من آليات تكوين الصورة مثل الصورة القائمة على التشخيص والصورة القائمة على التشبيه:

الصورة التشخيصية

يقول أورخان ميسّر في قصيدته “الطريق”:

أما الغبار الذي يكاد يفقأ عيني الآن

فسيرتد عند الفجر

ليتقمص أسطورة ضامرة البدن

ذات شفتين ضخمتين شفافتين.

يجعل الشاعر من الغبار كائنا متحركا عنيفا له ملامح غريبة تقوم على المفارقة التي تعمق الدلالة السّريالية للمشهد، فهو أسطورة ضامرة البدن لكنها ذات شفتين ضخمتين وشفافتين وهي صورة غريبة ومنفّرة للغبار تذهب بالغريب إلى أقصى حدود التطرّف حيث يتطلب بلوغ دلالاتها اجتهادا في القراءة والتأويل.

يقول أورخان ميسّر في قصيدة “طين”:

أما الغبار، أنا المجرد من الظلال والألوان وخفقة الدّم

فأمضي كبحة وتر مقطوع غمر في الطين.

تبدو عناصر الصورة في هذا المقطع مفككة عبر التشبيه الذي يقوم على مشبّه به غريب غير متواضع عليه في اللغة والثقافة، وهو اختيار مقصود من الشاعر حتّى يعدل بالصورة عن النمطية إلى الغريب والمدهش الأمر الذي يستفز القارئ ويحرك لديه حالة شعورية غريبة يقصد إليها أورخان ميسّر قصدا، فهو بذلك يحفّز القارئ على التفاعل مع القصيدة ويدعوه إلى لملمة شتات الفكرة المبعثرة في الكلمات.

وميض متفرّط

في

الغسق.

إنّ تجربة أورخان ميسّر على أهميتها من حيث الريادة في التأسيس للسريالية العربية التي أسست للحداثة الأدبية في مفهومها القائم على التغيير الجذري في الموروث الشعري، فهي، رغم ذلك، تجربة منسية، ملقاة في ركن بعيد من الذاكرة الإبداعية العربية، مليئة بالغبار ومحاطة بركام من أضغاث إبداع، ومن هنا، وجب إعادة النظر في هذه التجربة نظرة إجرائية موضوعية تنتشلها من الظلام إلى النور. نور القارئ يكتشف كنه التجربة ويعي ديدن تكوينها، نور جرح القصيدة يعرّي ويفضح اللاوعي ويصوّر غرابته دون قناع او تجميل.

دم يخضّب الحلم، نفس أثقلها المكبوت فأدماها، واقع يئن، نزيفه يفيض من القلب إلى القصيدة.. إلى العالم.

أورخان ميسّر.. شمعة منسيّة تضيء العتمة بالأحمر.

ينشر المقال بالاتفاق مع الجديد الشهرية الثقافية اللندنية

ناقد تونسي

العرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى