مقالات

فيزياء هوميروس/ صبحي حديدي

إلى اللغة الإنكليزية وحدها صدرت، حتى عصرنا، 75 ترجمة لقصيدة هوميروس الخالدة «الأوديسة»؛ منذ نسخة جورج شابمان، سنة 1615؛ وانتهاءً بنسخة جيروم وشكرافت، 2018؛ مع تنويه خاصّ بترجمة أناس من أمثال مؤسس الفلسفة السياسية توماس هوبز، سنة 1675؛ والشاعر الشهير ألكسندر بوب، 1725؛ وت. إ. لورنس (العرب)، 1932. وخلال العامين الماضيين وحدهما، صدرت ثلاث ترجمات، من أنتوني فيريتي، وإميلي ولسن، وبيتر غرين. الفرنسيون أقلّ حماساً، لأسباب شتى ذات صلة بالعلاقة التاريخية بين الثقافة الفرنسية وتلك الإغريقية أو الهيللينية عموماً؛ إذْ نعثر على 22 ترجمة، تبدأ من جاك بيلتييه دو مانس، سنة 1571؛ وتنتهي عند لوي باردوليه، 1995. في اللغة العربية، كما هو معروف، وبمعزل عن ذكر «أوميروس» لدى ابن سينا وابن رشد، ولدى الشهرستاني في «الملل والنحل»، كشاعر يجمع بين «إتقان المعرفة، ومتانة الحكمة، وجودة الرأي، وجزالة اللفظ»؛ تبدأ أولى ترجمات «الأوديسة» مع سليم البستاني، سنة 1904، الذي صدّرها بمقدّمة مستفيضة ورائدة حول فنّ هوميروس؛ وتمرّ، بالضرورة، من نسخة دريني خشبة، 1945 (التي اختار لها اسم «الأوذيسة»، وأدخل فيها معطيات قرآنية!)؛ ولا يتوجب أن تنتهي عند أمين سلامة، 1960، الوحيد الذي ترجم عن اليونانية مباشرة.

جاذبية خالدة، خلود العمل ذاته في الواقع، ليس هنا مقام استعراضها في الحدّ الأدنى من التعليل الواجب؛ ويكفي المرء أن يقرأ مقدّمة كلّ مترجم جديد، والبواعث التي يسوقها في تبرير إقدامه على الترجمة الخامسة والسبعين للكتاب ذاته، لكي يدرك أنّ الأمر ليس جديراً بالعناء وتحمّل محاذير التكرار فحسب؛ بل لعلّ فيه الكثير من المتعة، الشخصية والعامة، والمثوبة غير القليلة أيضاً. وفي حماسه لترجمة هوميروس، عبر «الإلياذة» هذه المرّة، كان الشاعر والمسرحي والمترجم السوري الراحل ممدوح عدوان قد أوضح أنه اعتمد على ستّ ترجمات إلى الإنكليزية، فضلاً عن ترجمة سلامة باللغة العربية، لكي يستخلص: «ربما استطعنا الادعاء أنها ترجمة مقارنة، تستهدف الوصول قدر الإمكان إلى أقرب جوّ للإلياذة». بيتر غرين، الذي صدرت ترجمته لـ«الأوديسة» أواخر العام الماضي، اعترف بأنه فقد القدرة على تعداد المرّات التي أعاد فيها قراءة هوميروس، سواء مع طلابه أو مع نفسه؛ ولكن يندر أنه أعاد الكرّة دون أن يكتشف، في كلّ قراءة جديدة، تفاصيل كانت خافية عليه خلال القراءات السابقة!

فلنضعْ جانباً خلود هوميروس كما يتجلى في ميدان الترجمة، ولنذهبْ إلى ميدان آخر مختلف تماماً، هو… الفيزياء الرياضية! مارشيللو مانياسكو رئيس قسم الفيزياء الرياضية في جامعة روكفلر، نيويورك، وزميله كونستانتينو بايكوزيس رئيس المرصد الفلكي في لابلاتا، الأرجنتين؛ غرقا في قراءة «الأوديسة» لأسباب ليست أدبية أبداً، بل هي علمية فلكية حصرياً. وإذا كانت أبحاثهما لم تضف أي جديد حول صحة، أو بطلان، الحوادث الجسام التي تسردها «الأوديسة»، وقبلها «الإلياذة» في الواقع؛ فإنهما برهنا أنّ الشاعر الضرير لم يكن يطلق الخيال على عواهنه دائماً، بل كان في بعض المواضع يعرف… حقّ المعرفة، أيضاً. مانياسكو وبايكوزيس انكبّا على تحليل جميع الأقمار الجديدة بين سنوات 1250 و1125 قبل المسيح، وبلغ عددها 1684 قمراً، للبحث فيها عن تواريخ تُطابق أحداث «الأوديسة»؛ فعثرا على يوم 16 نيسان (أبريل) 1178، الذي يصادف عند هوميروس تاريخ عودة أوديسيوس (عوليس) إلى إيثاكا، وانتقامه الرهيب من عشّاق زوجته بنيلوبي.

وفي النصّ الأدبي، عشية مذبحة العشاق، يروي هوميروس (في ترجمة خشبة) أنّ ثيوكليمنوس يهتف باالخُطّاب: «تعساً لكم أيها الأنجاس لقد سيءَ بكم! ماذا تخبيء لكم المقادير يا ترى؟ ما هذه الظلمات كأنها قِطَع الليل تغطس رؤوسكم وتزلزل أقدامكم؟ وما هذه الدموع تتصبب من عيونكم فتشوي خدودكم؟ أنظروا إن استطعتم! (…) تلك آية أخرى، لقد كسفت الشمس فجأة وتوارت بالحجاب! الضباب الضباب!». أمّا الظواهر الطبيعية التي سردها هوميروس، ونجح مانياسكو وبايكوزيس في رصد تواريخ وقوعها على نحو فعلي متطابق، فبينها التالية على سبيل الأمثلة: قبل ستة أيام من المذبحة، كان كوكب الزهرة مرئياً في السماء، وعالياً؛ وقبل 29 يوماً، كانت مجموعة كواكب «بنات أطلس» و«بؤرطيس» (أو «راعي الشاء») مرئية بدورها عند الغروب؛ وقبل 33 يوماً، كان عطارد عالياً وقريباً من الطرف الغربي لمساره، وأمّا هرميس، التسمية الإغريقية لكوكب عطارد، فإنه في «الأوديسة» كان على سفر لتسليم رسالة!

ليست هذه رياضة فيزياء مجانية، كما أنها قد لا تضيف قيمة جمالية إلى النصّ، ولا تنتقص منه في المقابل؛ إذْ ليس التطابق بين الفنّ والواقع قلادة جودة أو رداءة بالضرورة، سيّما إذا جُرّد من جدليات اشتغاله داخل العمل الإبداعي. وفي نهاية المطاف، مَن يجرؤ اليوم على التكهّن بما اعتمل في تلك المخيّلة العبقرية لذلك الشاعر الضرير، فأهدى الإنسانية تحفتين كُتبتا للرسوخ في الأبدية، وليس لأيّ عصر واحد، أو حتى سلسلة عصور؟ ومَن يلوم المترجمين، على مرّ الأحقاب واللغات، إذا خضعوا دون كلل أو ملل لإغواء هذا النصّ العابر للزمان والمكان؛ وإذا كان أهل الفيزياء والفلك والعلوم العسكرية والتاريخ … يسابقونهم، كذلك، في الخضوع الحميد هذا؟

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى