مقالات

الرواية العربية…إلى أين؟


ملف الرواية العربية الذي يتضمن سلسلة مقالات ومقابلات وأراء لروائيين من مختلف التجارب (إلى جانب آراء لنقاد وأصحاب مكتبات ودور نشر)، يجيبون عن مجموعة أسئلة عن طفرة الروايات والجوائر والرواية المترجمة…

أسباب وجيهة للشعور بالضغينة/ وجدي الأهدل

(*) يمكن للرواية العربية أن تسلك مسالك متعددة، فالرواية هي فن “حر” بامتياز. لكن طرح السؤال الآن، وفي هذه المرحلة التاريخية التي نمر بها، يتطلب أن نمعن التفكير في الدور الذي يمكن أن تنهض به الرواية في إنقاذ الأرواح البشرية. إن الإنسان العربي تمتلئ نفسه بالضغينة. وعند هذا المستوى النفسي الرديء، يتعامل مع العالم من حوله. فلا عجب أن “العربي” لا يحظى بشعبية كبيرة لدى الأمم الأخرى. إنسان مضطغن، لن يستطيع أن يقدم شيئاً مفيداً للبشرية، والإنسان العربي بحالته النفسية الراهنة – حيث يتخبط في حبائل الكراهية ضد عدو ما- ليس مؤهلاً ليساهم مساهمة فعالة في بناء مستقبل أفضل وأجمل للجنس البشري.

على الرواية العربية أن تكون واعية بهذا الخلل في شخصية الإنسان العربي، وأن تعمل على إصلاح هذا العطب النفسي المريع. بالطبع، هناك أسباب وجيهة للشعور بالضغينة، كمثال الشعور بالضغينة إزاء سلطة ديكتاتورية. لكن القبول بهذا الشعور النفسي وتمكينه من السيطرة على الشخصية، سوف يثمر كائناً يبحث عن الانتقام، الثأر، تصفية الحساب، الغلبة الخ، وعند هذه النقطة تحديداً لا يعود الإنسان قادراً على التفكير السليم. ولا أحد يعيش في هذه البيئة يمكنه أن يحظى بفرصة حقيقية للعطاء والإنتاج وتعزيز قواه الروحية والفكرية والإبداعية.

لكن يمكن أن توجد حلول على المستوى الفردي، فيغادر الفرد هذه المنطقة المضطغنة ليندمج في حضارة أخرى متسامحة، فنسمع تالياً أن فلان الذي تعود أصوله إلى هذه الدولة العربية أو تلك قد حقق إنجازاً علمياً أو ثقافياً مرموقاً، كـإدوارد سعيد وأحمد زويل وغيرهما، وهو الإنجاز الذي ما كان متيسراً لهما أن يحققاه لو أنهما مكثا في هذه المنطقة التي تُطفئ الشعلة المتوقدة في الروح. لا ريب في أن هناك المئات من نظراء أحمد زويل وإدوارد سعيد، لكنهم ببقائهم في دولهم العربية، تعرضوا لانطفاء الشعلة التي كانت متوقدة في أرواحهم. هنا يجب أن يتدخل الفن الروائي ويبذل جهده للحفاظ على شعلة العظمة الإنسانية متقدة في الأرواح. عندما خلق الله الإنسان احتجت الملائكة، لأنها ظنت أن كل البشر ميالون إلى سفك الدماء والفساد في الأرض، لكن الله أجابهم بأنه يعلم ما لا يعلمون، ومعنى هذا الجواب أن كل إنسان في روحه شعلة عظيمة يمكن أن تشع على ما حولها وتنشر الخير والمحبة والسلام. وأن هناك أشخاصاً جيدين سوف يصنعون الفرق. على الرواية أن تسير في هذا الاتجاه. لتؤكد أن رهان الله على عظمة الإنسان كان في محله.

أحمد الشيطي: روايتي الأولى لم أملك ثمن نسخة منها(1-2)/ أحمد شوقي علي

يُعرَّف الروائي المصري أحمد زغلول الشيطي، غير منفصل عن روايته الأولى “ورود سامة لصقر”، رغم أنها ليست كتابه الوحيد.

عرفتُه خلال فترة عودته، مرة أخرى، إلى الحياة الأدبية، بعد غيبة استمرت 13 عامًا. لم يكن يشبه –ولايزال- أياً من بَطَليه “صقر” أو “يحيى”. خجول وأقل اندفاعًا من صقر، وإن جاء من جذره الطبقي ذاته، لا يؤمن بأفكار يحيى السياسية وإن بدا مثله حالمًا. كان يسير، وثمة سؤال يتبعه: “مش ده الشيطي بتاع ورود سامة”، محاطًا بصخب يشبه ازدحام الحياة حول عائد من المجهول؛ صخب يستمد ذاته من النوستالجيا، فيثير شعورًا سلبيًا، بقدر ما يثير من شغف للتعرف على أسبابه.

في العام 1990، صدر عدد سبتمبر من مجلة “أدب ونقد” ذات التوجه اليساري، يبشر بموهبة أدبية فارقة، لكاتب شاب من دمياط، وبين دفتيها النص الكامل لروايته الأولى، ومرفق معه ملف نقدي شارك فيه عدد من النقاد البارزين؛ سيد البحراوي وصبري حافظ والسوري خليل الخليل وفريدة النقاش رئيسة تحرير المجلة ذاتها. تبعه احتفاء أوسع في الوسط الأدبي، ومتابعات نقدية أكثر عددًا، تثمن قيمة النص وتعتبره النقلة الحقيقة للرواية المصرية لما بعد نجيب محفوظ، بل وربما، تضعه على مسافة قريبة من أعمال صاحب “الحرافيش”، على نحو ما كتبه سامي فريد، في “الأهرام”، من أنه ينتظر أن يحصد الشيطي نوبل الثانية لمصر في الآداب. لكن صاحب “ورود سامة لصقر”، خيب أماله، ولم ينشر أي روايات أخرى خلال 28 عامًا تالية على نشر روايته الأولى، بل اختفى تمامًا من الساحة الأدبية.

وفي العام 2008، نشرت باحثة دكتوراه بجامعة القاهرة، دراسة تقارن بين الشيطي وجيمس جويس، تحت عنوان “التوقيع وصحة التوقيع، قراءة لجيمس جويس وأحمد زغلول الشيطي”، وكأنها الخطوة التي استدعت الكاتب الدمياطي من عزلته “المجهولة”. فعاد إلى الحياة، ومعه مجموعة قصصية جديدة بعنوان “ضوء شفاف ينتشر بخفة”، نشرتها دار “ميريت” العام 2009، ليترك من خلالها أثرًا طيبًا، سرعان ما انضوى تحت وطأة صدور طبعة جديدة من الرواية الأيقونة في العام 2010 عن الدار نفسها.

تختلف شروط تلقي العمل الفني باختلاف الظرف التاريخي المصاحب لصدوره، ورواية قُدمت على أنها ابنة “لحظة حرجة في التاريخ” لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط المقولات الكبرى –ذلك الوصف الذي لم يعد له أثر ذو معنى في متلقي ما بعد الألفية الجديدة- ربما لا تترك الانطباع ذاته لدى قارئ يتناولها بعد عشرين عامًا من تفسخ ذلك الاتحاد. وقد لا أتذكر وصفًا دقيقًا عن أثر الرواية فيَّ عندما قرأتها للمرة الأولى قبل ثماني سنوات، لكني وأثناء إعادة قراءتها، خلال التحضير لهذا اللقاء مع أحمد زغلول الشيطي، كنت غير قادر على تمييز جملتي السردية التي كتبت بها روايتي الأولى -التي صدرت منذ ثلاث سنوات- من جملة الشيطي التي كتب بها روايته المنجزة في العام 1986، وكأنها أسرتني فلم أستطع إيجاد نبرة شخصياتي إلا عبرها.

كان مُقدّراً لذلك الحوار أن يتم في ظرف آخر، كأن يأتي مواكبًا لصدور رواية الشيطي الثانية، التي انتهى منها مؤخرًا ودفعها للنشر، بعد انقطاع نحو 7 سنوات، منذ آخر كتاب أصدره في العام 2011 عن ثورة يناير (للشيطي 5 كتب فقط أصدرها بين العامين 1990 و2011)*. لكن استدعاءً آخر لـ”ورود سامة لصقر”، أعادها إلى المقدمة من جديد، بعدما حصد فيلم “ورد مسموم” للمخرج أحمد فوزي صالح، والمأخوذ عن قصتها، ثلاث جوائز في الدورة الأخيرة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ولاقى استقبالًا جماهيريًا لافتًا لدى عرضه في السينما خلال الأيام القليلة الماضية.

وفي الجزء الأول من هذا الحوار، الذي تنشره “المدن” في حلقتين، ضمن ملف “الرواية العربية.. إلى أين؟”، حاولنا أن نفهم ماذا جرى بعد “ورود سامة لصقر”، وكيف اختفى كاتبها من الساحة الأدبية بعد ما حققه من نجاح.

– إن عدت إلى قراءة “ورود سامة لصقر”، كيف ستراها بعد مرور تلك السنوات كلها؟

* لا أطيق قراءة أعمالي، بل أنظر أحياناً في بعض الصفحات وأشعر بكثير من الخجل. ويبدو أن ذلك الشعور لا يتعلق بالقيمة، لكن نفوري ناتج عن أن ذلك النص ربما لم يعد يعبّر عني، أو لعلّي لو كتبته الآن ربما أكتبه بشكل آخر.

علاقتي إشكالية بما أكتب، لدرجة أنني أثناء كتابتي لروايتي الثانية، كلما قلت إنها انتهت، عدتُ لاستكمالها، أو لإادة كتابتها مرة أخرى. أظن أن لحظة اكتمال العمل، لحظة اعتباطية، هي لحظة تضطر فيها أن تسلم النص للناشر حتى تتخلص منه، لكن لا عمل ينتهي أبدًا، طالما ما زلت على قيد الحياة، فلن ينتهي، وكلمة النهاية تضعها فقط للتخلص من العمل لأنه ربما يحجب عملاً آخر غيره، وهذا ما حصل مع روايتي الأخيرة “صخرة هليوبوليس”، والتي كان لها عنوان آخر غير ذلك، وأعتقد أنها لو مكثت معي أكثر من ذلك لكنت عدلتها وغيّرتها مرة أخرى.

– أن تقول إن “ورود سامة لصقر” لم تعد تعبّر عنك، وأنك تضطر إلى كتابة النهاية لأن العمل يحجب غيره، يوحي بالضرورة أن لديك أعمالاً أخرى غيرها!

* “تعبّر عني” جملة ستبدو غير دقيقة على إطلاقها.. تعبّر عني على أي مستوى؟ ذهني؟ شعوري؟

أعتقد أن الكتابة في “ورود سامة لصقر” كانت تعبّر عن كافة مستويات الوجود في حالة أزمة، في حالة احتقان شديد جدًا، وهي حالة نادرة في حياة الإنسان يصعب تكرارها، من الصعب تكرار شروط عملية إبداعية مرة أخرى، تلك لحظة خاصة جداً تلاقت مع وضع عام فأنتجت تلك الحالة، هذه الحالة أنشأت بداخلي، بناءً معيناً، علاقات معينة بيني وبين اللغة، أحاسيس جمالية معينة، شعوراً بأزمة معينة، أنتجت الشكل الذي ظهر في ورق “ورود سامة لصقر”.

لم أتجاوز هذا العمل لأن هذه الأبنية التي كشفت عن ذاتها، من خلال علاقات إشكالية داخل النص، كانت موجودة داخلي، وكان لا بد لها أن تتغير هي الأخرى حتى أستطيع أن أخوض المغامرة مرة ثانية، وفعلاً أنا ضحية نص كبير بمعنى ما قدمه من حلول جديدة. بقيت داخلي هذه الأبنية، وصرت غير قادر لوقت كبير على خوض مغامرة الكتابة مرة ثانية، لأني لو فعلت، سأكرر نفسي. أذكر كلمة، أعتقد أن بريخت، أو ربما فالتر بنجامين، قالها، إن البناء عندما يصل إلى درجة من الاكتمال داخل الكاتب يكون قد انتهى، وبالتالي فإنه يرى أن الكاتب ينبغي أن يتعلم اللغة من جديد. ذلك أحياناً يأخذ عند بعض الكتّاب صورة محاولة تلمس عالم غائم، محاولة تلمس كتابة خطية لإعادة فهم العالم بشكل مغاير. في حالتي، أخذت شكل كتابة نصوص أطلقت عليها وقتها اسم “أساطير موجزة”، حاولت فيها الكتابة عن أشياء عرفتها خلال مرحلة الطفولة في دمياط.

– لكنها نصوص ارتبطت بعالم “صقر” أيضًا.. وأعتقد أن مَن تابعها وقت نشرها في جريدة “الدستور” في 2010، سيلحظ تلك الصلة بينها وبين “ورود سامة”.

* نعم مرتبطة بعالمه، لكن ببناء مختلف، وبمحاولة أخرى للتعرف على ذلك العالم، بهدوء وبلا غضب، أخذت طابعًا استفهاميًا، سؤالًا مفاده: “ماذا حدث بالضبط”؟ من دون إدانة لأحد أو مشاعر انتحارية، ومن دون غناء أيضًا. محاولة للاقتراب من حقيقة ما حصل، لم يكن بناؤها معقّداً مثل رواية “صقر”، كان بناؤها بسيطًا، واقعيًا.

في الرواية الجديدة، التي انتهيت من كتابتها، الذات مفككة وموزعة على أكثر من شخص، البطل الرئيس ليس له اسم واحد، له أسماء متعددة، وليس له انتماء طبقي واحد، له انتماءات متعددة، ولا ينتمي لجغرافيا واحدة، بل إلى جغرافيات متعددة، وربما ما ستوحّده “صخرة هليوبوليس”، وهي عنوان الرواية، ذلك الحجر الذي ينصب وعيه عليه في لحظة مواجهة حادة.

رواية صقر ربما تعبّر عن “الولد” الذي كتبها، ولد عانى اليتم مبكرًا، وخرج للعمل وهو طفل، لأن أسرته لا بد أن تعيش، ثم  قرر أن يهج إلى القاهرة، رغم أنه لا يملك مليمًا في جيبه وليس لديه من ينتظره هناك.

– لماذا لا نبدأ الحكاية من أوّلها، ألاحظ أن لديك تحفظاً دائماً في ما يخص الحديث عن تجربتك الشخصية.

* ثمة مساحات أتحفظ فيها، لكنه ليس تحفظًا أخلاقيًا، هو تحفظ من يدخر أشياءه لكي يستخدمها في سياق إبداعي، لأني عندما أحكي الحكايات يستحيل علىّ أن أمسّها مرة أخرى، إلا بعد عمليات تزييف متعمد، كي أخلّصها من كونها لفظت من قبل. بهذا المعنى أكون حريصًا ألا أكشف عنها بصورة كاملة، لكن المعروف أني أنتمي لطبقة فقيرة، عائلتي من الحرفيين، وكنت الوحيد أنا وأخواتي البنات الذين واصلوا طريق التعليم (نحن 4 صبيان وبنتان)، لذلك اعتُبرتُ مثلهن، بنتًا، وأوقعني ذلك في العديد من المشاكل، تعلّمتُ بالصدفة أصلًا.

كتبتُ الرواية في بيتنا بدمياط، وبعد نشرها واجهتُ ظاهرة غريبة. عندما أتأملها الآن، أجد أن “صقر” كان يجب أن يموت تسعمئة مرة، لا مرة واحدة، أن تجد بعض الناس وأنت ما زلت صغيرًا وتملك الموهبة، وكأن لديهم رغبة في عقابك لأنك موهوب. كان هناك أديب في دمياط –طبعاً أنا سامحت الكل- عندما تأتي سيرة الرواية، يتهكم عليها ويقول “الجنازة حارة والميت كلب”، في إشارة إلى أن صقر بطل حقير، وكأني كان ينبغي وقتها أن أكتب عن بطل ثوري، من أبطال الواقعية الاشتراكية حتى أنال احترامه.

– ذلك الأديب كان يكتب الرواية؟

* لا. لكنه كان شخصاً مؤثرًا جدًا في محيطي الجغرافي وقتها.

ألاحظ أن هناك ميلاً عند أعداد من المتوسطين لتدمير الموهبة الجديدة، كونها تعيد ترتيب المكانات من جديد وتهدد المواقع القديمة، وهذه جريمة، وهناك أيضًا ميل مضاد، هناك أطراف أخرى تستشعر الموهبة وتعمل على احتضانها ورعايتها. لكن الأمر يخضع للصدف وحدها، وحظ الواحد، مَن سيقابل منهما.

– هل ذلك ما دفعك لأن تحمل روايتك وتذهب بها إلى القاهرة؟

* لم أذهب بالرواية إلى القاهرة. كان هناك مؤتمر أدبيّ في دمياط، وكان سيد البحراوي، أحد المشاركين فيه، لم يكن بيننا سابقة تعارف، ولا أعرف كيف أخذت روايتي المكتوبة على الآلة الكاتبة، وذهبت لأقول له: “خذ هذه الرواية، واعرف أنها ستترك أثرًا في الأدب المصري يساوي الأثر الذي صنعته رواية “تلك الرائحة” لصنع الله إبراهيم”. ثم فوجئت بعدها بمدة وجيزة أن البحراوي قد أعد دراسة حول الرواية ونشرها في مجلة “الهلال” المصرية، قبل أن تصدر الرواية في كتاب! ومن يده خرجت الرواية لكثيرين، وفوجئت أن إبراهيم أصلان قرأها، وقال إن هذا أفضل عمل أدبي قرأه ذلك العام (1989) مع رواية “الحب في زمن الكوليرا” لماركيز. ومن هنا، وبسبب تلك الواقعة، جئت إلى القاهرة، لكنها لم تكن الزيارة الأولى. فلقد تخرجتُ في كلية الحقوق بجامعة القاهرة.

– وكيف كان شكل حياتك في دمياط عندما انتهيت من الدراسة، وعدت إليها برواية؟

* لم يمض وقت طويل حتى التحقت بالتجنيد الإلزامي، لمدة سنة وثلاثة أشهر، وعندما انتهت خدمتي، عدتُ إلى دمياط بلا مهنة، لا أعرف كيف سأعيش، والتدريب لدى المحامين لم يكن بتلك السهولة في ذلك الوقت. ولأني تخرجت بتقدير عال، رُشحتُ للنيابة العامة، وذهبت لأقابل النائب العام، وشحذت كرافات (ربطة عنق) من على بابه من زميل سبقني إلى لقائه، ثم بعد ذلك اللقاء، أُرسلت إلى مباحث أمن الدولة ليسألوني عن عائلتي، واكتشف الذي يسألني أن أقربائي، واحد يصنع أقفاص الفاكهة، وآخر يعمل “مدهباتي” (حرفي طلاء الأثاث بالورق الذهبي)، وواحدة تعمل على طبلية أسمنت مسلح.. إلخ، ولا يوجد شخص واحد منهم تجاوز طبقة العمال اليدويين، إلا أني وبالصدفة وصلت إلى هذه الدرجة من التعليم الجامعي، ومن ثم أجلس أمام سيادة العقيد لأدلي له بعمل أقاربي. لعل الرجل أشفق عليّ. لقد قرأتُ المستقبل وأنا في الناحية الأخرى من مكتبه، وأمامي فنجان القهوة الذي أمر به لي، كانت هذه جريمتي، طبعاً رُفضت ولم أنجح في الالتحاق بالنيابة. وكنت، أثناء انتظار النتيجة، أمارس عملي في ورش الأويما (النقش على الأثاث) كما أنا، لكني كنت وكيل نيابة أعمل “أويمجي”، وذلك جعل العمّال من حولي يعاملونني كوكيل نيابة فعلي، وليس مستقبليّ حتى، وسلوكهم تغير معي تماماً، حتى الذين كانوا يعاملونني بقسوة، حسّنوا علاقتهم بي. وقد حاول أحد أصحاب ورش الحدادة الكبار أن يقدم لي عروسًا، وهذا كله سيؤول إلى لا شيء.

– لذلك رحلت للقاهرة؟

* أرجو أن نعلق هذا السؤال قليلًا. هذه الحكاية ربما لا أستطيع سردها الآن…”شوية كدة”.

– شوية كده. لآخر الحوار تقصد؟

* لا. ليس في حوارنا، لكن ربما في ما بعد. لأن هذا موضوع ربما أستخدمه في عمل روائي.

– روايتك صدرت في “أدب ونقد” ولم يكن في جيبك ثمن شرائها. هذه المعلومة أخبرتني بها من قبل، ما يعني أنه من المتاح أن تحكي عن تلك الفترة.

* في ذلك الوقت، ردود الأفعال المحيطة بي، كانت متنوعة، أخوتي على سبيل المثال ظنوا أن نشر الرواية بهذه الطريقة، حل لأزمتي المالية، وأن الأدب باب للرزق يعينني على الحياة. كانوا يسألونني “تجيب كام دي”؟ وكنت أقول لهم. المفروض أن أدفع… مبيدوش حاجة خالص يعني. طبعاً كانوا يتعجبون. كيف لذلك أن يحدث، وأنا لا أستطيع إعالة نفسي من الكتابة.

كنت أذهب لأتفرج على المكتوب عني عند بائع الجرائد أبو حجازي، في أهم شارع رئيسي في دمياط، شارع الجلاء، لأني لا أملك ثمن الصحف، أو أجد شخصاً اشترى جريدة “الأهرام المسائي”، فيخبرني أن سامي فريد كتب عني (كان ذلك في الأعداد الأولى للأهرام المسائي، ربما العدد الثالث أو الرابع) فيصيبني ذلك بصدمة، لأن سامي فريد قال في ذلك العدد، إنه يتوقع أن ذلك الشاب الذي كتب “ورود سامة لصقر” سيحصل على نوبل الثانية لمصر. كنت في مقر “حزب التجمع” بدمياط، وكدت أفقد الوعي من ذلك التصريح، فأحضر لي المحيطون بي كوب به ماء بسكّر، لكي أستعيد وعيي، طبعاً دلوقتي توقعاتي قلّت كثيرًا جدًا.. ده أنا معملتش إلا رواية واحدة يعني. دي محصلتش!

– كم من كاتب عاش بفضل رواية واحدة..

* طبعاً. لكني أيضًا تجاوزت أوهام الجوائز، بعد ذلك، وبالصدفة البحتة، لأن الحياة تمنح المأساة وتمنح كذلك الانفراج؛ “واحد يجي يقوللي طب أنت محام، طب تعالى اعملي حاجة كده صغيرة، أقوم أعملها، يقوم قايلي طب بص أنا باشتغل مستخلص في الجمارك، وعندي مجموعة ناس بس دول من القاهرة ومن جميع أنحاء مصر، بخلص لهم شغلهم في الجمارك، وبيحصل لهم قضية كدة معينة، يعني تيجي تعملها لهم”. طبعا بدأت أعمل كمحام لمجموعة من أكبر المستوردين في مصر، وهذا طبعاً حسّن حياتي المادية جدًا، ثم في لحظة من معينة قررت التوقف تماماً عن المحاماة بعدما شعرت بالاستقرار نسبياً، وهكذا أنا أمامك الآن.

– وهكذا انتهت القصة؟

* أكملها أنت فقد منحتك الخط العام.

– متى تركت الأدب؟ وكم سنة استغرقت عزلتك الاختيارية؟

* من 1994 إلى 2007 تقريبًا.

– 13 عاماً قررت خلالها، مثلا، أن الأدب “مالوش لازمة”؟

* لا بالتأكيد. لم أتخيل ذلك طوال عمري. وكذلك لم أقل أبدًا أني كاتب. لكني وصلت إلى قناعة، أني لن أستطيع الكتابة طالما لا أستطيع أن آكل، أو أن أساعد أحداً من أهلي المحتاجين لمساعدتي. لم أكن أستطع شراء جريدة كتبت عني. فلما وجدت عملًا..

عندما تختار العمل في المحاماة، فأنت لا تختار وظيفة يتطلب إنجازها يومًا واحدًا. أنت تستلم قضية ربما تستغرق في المحكمة 6 سنوات، لذلك أصبحتُ مرتبطاً باتفاق مع العميل، لا أتركه حتى تنتهي القضية. طبعاً قراري اليوم بالتقاعد من المحاماة، أعتبره معجزة! ذلك قرار رهيب ويترك آثاراً تستمر سنوات. حتى اليوم، رغم تقاعدي منذ 11 عامًا، ما زال هناك مَن يسألني عن بعض القضايا التي كنت أتابعها، وما زال مكتبي مفتوحًا لذلك. كلفت زميلة بمتابعة هذه الأمور. في 2007 تقاعدتُ وعدتُ للأدب، وبدأتُ كتابة “صخرة هليوبوليس”، وأنجزتُ فصلها الأول وأذكر أنني قرأته وقتها على مصطفى ذكري.

– إذا تركنا قصتك عند هذه النقطة: “مستخلص جمركي. وناس عندهم قضية”، أخشى أن تُفهم بشكل سلبي. خصوصاً أنك تحولت من شخص معدم لا يملك ثمن الجريدة، إلى محام ناجح، لديه سيارة، يسكن في مصر الجديدة، ويمتلك مكتبًا في وسط البلد.

* كان ميناء دمياط ما زال جديدًا (أنشئ العام 1982)، وأهل المدينة ليسوا أصحاب خبرة كافية في عمل الموانئ، فكانت إدارة الميناء تضطر للاستعانة بآخرين معتادين على أعمال الموانئ من المدن القريبة مثل بورسعيد. والمستخلص الجمركي، موكل من صاحب الشحنة الواردة من الخارج لإنهاء كافة أوراق خروجها بالميناء وتوصيلها إلى مخزنه، ودائماً ما يطلب المستورد، عندما تكون عنده قضية، من المستخلص، أن يبحث له عن محام يفهم في قضايا الجمارك. في تلك الفترة أصدرت المحكمة الدستورية العليا، حكماً يقضي بعدم قانونية تحصيل مصلحة الجمارك نسبة من قيمة الشحنات الواردة تحت مسمى خدمات، وبالتالي فإن المستوردين أصبحوا في حاجة إلى محام يقاضي هيئة الجمارك لاستعادة تلك النسبة، وطبعاً هذه النسبة كانت كبيرة، ستجد أنها قد تتعدى في الشحنة الواحدة، الملايين، لا فرق بين شركات القطاع الخاص أو الشركات المملوكة للدولة والتي كانت بدورها تسترد هذه النسبة. المحامي له نسبة بالطبع من هذه الأموال المستردة. ومَن كان يعرف هؤلاء المستوردين، ويعلم حاجتهم إلى محام؟ مستخلص الجمارك.

لماذا أحكي تلك الحكاية، لأنه بعدما ظهرت نتيجة النيابة بتجاوز اسمي، كان من الصعب عليَّ أن أعود للعمل في ورش النجارة، “يعني بعدما الناس سلمت عليَّ باعتباري وكيل نيابة، هروح أشتغل تاني على البنك (طاولة النجار)”. وبعد فترة قصيرة، قررت أن أعمل محاميًا، واستطعتُ بالكاد من خلال نظر بعض قضايا الأحوال الشخصية، أن أعيل نفسي، وذات يوم أرسل لي صديق وزميل من بورسعيد – مستخلصًا جمركيًا من معارفه، يريد إنجاز بعض الأمور القانونية الخاصة به في دمياط، ولما أنجزتُ له طلبه، سُرّ الرجل جدًا، وأراد إكرامي، فعرّفني على أول موكل لي من المستوردين الذين يريدون استعادة النسبة التي حصلتها الجمارك من دون وجه حق. طبعا لم أكن أعرف شيئًا عن الجمارك، فبدأت أقرأ في القانون وأسأل، ويوماً بعد آخر صرت متمرسًا، ثم ذاع صيتي، وأصبح لدي موكلين من أهم المستوردين في مصر. هم الذين أعادوني إلى القاهرة، لأن إدارات تلك الشركات في القاهرة، وثمة أوراق أحتاج أن أراجعها بنفسي في ملفاتهم.

(*) أصدر الشيطي خمسة كتب هي: “ورود سامة لصقر” (3 طبعات)، “شتاء داخلي”، وهي مجموعة قصصية عن الهيئة العامة للكتاب (1991)، و”عرائس من ورق”، مجموعة قصصية عن دار شرقيات (1994)، و”ضوء شفاف ينتشر بخفة” مجموعة قصصية عن دار ميريت (2009)، و”مائة خطوة من الثورة” عن دارَي الآداب في بيروت وميريت في القاهرة (2011).

أحمد الشيطي: لا أريد مشاهدة فيلم “ورد مسموم” (2-2)

عندما اتصلتُ بالروائي أحمد زغلول الشيطي، للاتفاق على إجراء هذا الحوار، وكان ذلك في اليوم التالي على عرض فيلم “ورد مسموم” المأخوذ عن روايته في مهرجان القاهرة السينمائي، وقبل إعلان فوزه بثلاث من جوائزه، سألته عن رأيه فيه، فأخبرني أنه لم يشاهده بعد، فاتفقنا وسط حماس شديد من جانبه على أن نشاهد الفيلم سويًا في السينما بعد اللقاء، حتى أنه طلب مني أن أذهب فورًا لحجز التذاكر خوفًا من نفادها.

كان لقاؤنا بعد يوم واحد من فوز الفيلم بالجوائز الثلاث، وهي جائزة صلاح أبو سيف في مسابقة “آفاق” للسينما العربية، وجائزة أفضل فيلم عربي في المهرجان، بالإضافة إلى جائزة صندوق الأمم المتحدة للشباب. وخلال الحوار الذي امتد نحو أربع ساعات، تنقلنا بين عدد من شوارع وسط القاهرة، وبدا الشيطي مترددا جدًا في مسألة مشاهدة الفيلم، مؤجلاً الذهاب إلى السينما كلما ذكرته بموعدها!

والجزء الثاني من الحوار(بعد الجزء الأول الذي نشر أمس ضمن ملف “الرواية العربي.. إلى أين؟”)، يدور حول “ورود سامة لصقر”، وروايته الجديدة “صخرة هوليوبليس”، ومحطات أخرى في سيرته الشخصية، والفيلم طبًعا، الذي يبرر الشيطي أسباب تردده في مشاهدته، أو ربما عزوفه عن مشاهدته إلى الأبد.

وإلى نص الحوار:

– لماذا في ظنك أثارت “ورود سامة لصقر” تلك الضجة كلها؟

* أظن أن جزءًا من جودة العمل، ومن كونه أثار ما أثاره، أنه لم يكن يعبّر عن لحظة خاصة بي وحدي، لكن لأنه كان يعبّر عن مأزق عام، بل ومأزق يتعلق أيضًا بالرواية المصرية.

ظهر النص في لحظة مفصلية، عندما كانت الرواية المصرية تبحث عما بعد كيانين كبار في الكتابة؛ ما بعد رواية نجيب محفوظ، وما بعد رواية جيل الستينيات، فبدت وكأنها جسر الانتقال إلى ما بعد هذين الكيانين، وكانت تبشر برواية مصرية جديدة، رواية تتناول أزمة من نوع مختلف، بمقاربة لغوية وجمالية مختلفة، مقاربة في صراع مع نفسها، تقدم بطلاً غير مسبوق، غير متأكد من أي شيء، في صراع مع ذاته.

ثمة أربعة أصوات في الرواية، صوت يتسم بأنه ينتمي إلى الرواية المصرية التقليدية آنذاك وهو صوت يحيى، وصوت ناهد الأكثر تقليدية منه، وصوت تجريبي جدًا وشعري جداً، وهو صوت صقر، ثم صوت تحية، وهو صوت مركب لأنها هي التي تدفع ثمن التحولات والتناقضات الاجتماعية، كونها تعبّر عن نفسها كامرأة، وكفتاة اضطرت للنزول صغيرة إلى سوق العمل لا تعرف عد القروش بعد، بالإضافة إلى أنها تعيش مأزق أخيها الذي يسير باتجاه موته.

هذه الرواية كانت في داخلها لغات متصارعة كذلك، حتى أن اللغة التجريبية الحادة جداً، كانت تدخل في إدانة واضحة للغة التقليدية التي تستخدمها ناهد والتي يستخدمها يحيى، وتكشف عن زيف تلك اللغة، وطبعاً اللغة التي تحمل قدراً من التعبير المجازي، والتي جعلت صقر يدفع ثمنها روحه، ثم لغة الكاتب التي تتسم بالصرامة والتقريرية، حتى إنها ليست لغة واقعية بل لغة وقائعية إن صح القول. ورغم تصارع هذه اللغات وتداخلها أحياناً، استطاعت أن تقدّم اللحظة الروائية الحرجة -زمن بداية التسعينيات- على نحو غير مسبوق، وفقاً لما لاحظه النقاد.

لم أكن أتصور أن نصي، الذي يمثل حوالى 13 ألف كلمة، ربما حقق مشكلة أخرى حول نوعه من حيث الحجم، فهل هو قصة طويلة، أم رواية. إذن شكل هذه الرواية، إشكالي، وفجّر العديد من الأسئلة، وبينما يبني ذاته هو يفجر ذاته أيضًا، لأن تصنيفه نفسه محل سؤال دائم.

– أتخيل، من بعض ردود الأفعال حول الرواية، أن “ورود سامة لصقر” تبدو بمثابة العمل القومي لدمياط. وأعتقد أن ذلك أحد أسباب اختيار أحمد فوزي صالح لها، لتحويلها إلى فيلم، كونه من بورسعيد القريبة منها.

* كثير من الدمايطة قدموا لي تهنئة بعد الفيلم، الناس العادية أقصد، وطبعاً بعض المثقفين والكتّاب.

– لكن الفيلم لا تدور أحداثه في دمياط. تدور في منطقة المدابغ في القاهرة.

* أحب أن أرجئ كلامي عن الفيلم حتى أشاهده.

– قرأت منشوراً لك في “فايسبوك”، كتبته بعد حصول الفيلم على ثلاث جوائز في مهرجان القاهرة السينمائي، تهنئ فيه فوزي بالجائزة، لكنها بدت تهنئة منقوصة، ومشروطة بمشاهدته له، وكأنك ستغضب إن لم يعجبك، أو بتعبير آخر ستغضب إن ابتعد من عالم الرواية. فلماذا تربط الفيلم بالرواية على الرغم من أنهما باتًا عملين فنيين مختلفين لاختلاف وسائطهما.

* شوف. دعني أتفلسف مثل نجيب محفوظ وأقول إني كروائي، لا علاقة لي بالفيلم السينمائي، كما أني لم أره حتى الآن.

– سنراه بعد قليل.

* ربما.

– إذا لم ترد مشاهدته، فلا مانع. لكني سأكتب ذلك.

* لا مانع عندي أيضًا (…) ممكن أن نقول مع نجيب محفوظ أن المعالجة السينمائية شيء أخر غير الرواية، وأنا لم أقرأ السيناريو بالمناسبة. ودائمًا كنت أسمع أن الفيلم ستدور أحداثه في مدابغ الجلود في القاهرة، طبعاً المدابغ مكان يعبر عن الطبقات الشعبية بشكل جيد جدًا ومتميز جداً، وأحببت فيلم “جلد حي”، العمل الأول لفوزي، وهو فيلم تسجيلي، وأتصور أنه قدم خلاله صورة جيدة كما ينبغي للفن أن يكون، صادماً وجديداً، لكني كنت أظن دائماً أن تجربة رواية صقر هي تجربة دمياطية بامتياز، وأن رائحة الفقر والقمع الدمياطي، يختلف عن أي فقر وقمع آخر، وكنت أتمنى لو أن علاقات الإنتاج السينمائي في مصر، تسمح بالانتقال لدمياط، والتصوير هناك، حيث عاش البطل، وحيث ولدت مأساته، لكني عرفت أن كلفة ذلك ستكون عالية جداً. ولكن اليوم أصبح أبطال هذا العمل، أقصد الرواية، شخصيات لا تموت في سجل الأدب، وتجاوزت صاحبها، اسم صقر وتحية ويحيى وناهد، باتوا مثل غيرهم من الشخصيات التي طرحها الأدب مثل عاشور الناجي وشمس الدين وسعيد مهران. فتلك شخصيات حية تجاوزت كتّابها، وفي رأي دائما، أن الكتابة الابداعية فن يتجاوز صاحبه، وهو أوسع من حياة صاحبه، والشكل الجمالي عظيم لأنه يتجاوز إمكانات صاحبه. إن ما تقدمه من إبداع يتجاوزك وهو أكبر منك بمراحل، يعيش حياة منفصلة عن حياتك. وهكذا ستعيش الرواية حياتها في الأدب وفي السينما، وأنا أعيش حياتي.

– وما علاقة ذلك بترددك حول مشاهدة الفيلم بعدما كنت متحمسًا؟

* أفكر كثيرًا في وجاهة ما قام به نجيب محفوظ، لأنه كان ذكياً للغاية، يعني هو أعطى الثلاثية لحسن الإمام الذي أفسدها باقتدار، لكنه أخذ منه أن “السكرية” و”بين القصرين” و”قصر الشوق”، و”سي السيد”، أصبحت كلمات على لسان رجل الشارع العادي من دون أن يقرأ العمل. اليوم أحمد فوزي صالح، جعل تحية وصقر، من الأسماء العامة التي ينطقها الناس العاديون، اليوم أهل بلدي في دمياط عرفوا امرأة اسمها تحية من فوزي صالح، ولم يعرفوها مني.

نجيب محفوظ لم يكن يشاهد الأفلام، لأنه حصل على فائدتها بلا فرجة، أخشى أن أشاهد الفيلم فأختلف مع أحمد فوزي صالح، أو أن تخلق مشاهدتي نوعاً من أنواع الحذر الشديد أثناء الكتابة مرة ثانية. ولذلك أنا متردد. أكاد أعرف كيف عالج الفيلم، وأخشى أن يكون قد لجأ إلى الحلول السهلة.

– ألم تطلع على السيناريو في أي مرحلة من مراحل إعداده؟

* أنا شخص متحفظ، وأتحرج من اقتحام الناس، وكنت أعتقد طوال تلك السنوات، أن ذلك فضل هائل ما كنت أتوقع حدوثه؛ أن يهتم أحد بتحويل عملي إلى فيلم. زوجتي وابنتي غاضبتان لأن الفيلم لم يلتزم بحكاية الرواية، وقد عارضتهما في ذلك.

– لكن هناك أعمالاً سينمائية كثيرة ناجحة، لم تلتزم بالنصوص المقتبسة منها، وثمة أفلام كثيرة أخرى حاولت الالتزام بالنص وجاءت متواضعة فنيًا..

* أريد أن أقول لك شيئًا، “ورود سامة لصقر” رواية شخصيات. هل يمكن أن تتخيل فيلمًا مأخوذًا عن رواية دوريان غراي، من دون دوريان غراي؟ كذلك لن تتخيل رواية صقر من دون أبطالها الأربعة، كون فوزي صالح قدم بطلة واحدة أو بطلين، حلو. “الجاي، يعمل” هو أو غيره. حق استغلال الرواية لا يزال ملكي.

– داوود عبد السيد انتقى من “مالك الحزين” الشيخ حسني…

* السينمائيون يتعاملون مع الأعمال الأدبية بـ”المنشار”، وحساسية السينمائي غير حساسية الأديب، إلا في ما ندر. وقد سمعت أنه كانت تتم معايرة إبراهيم أصلان، بأنهم لم يأخذوا منه سوى الشيخ حسني، وأن “الكيت كات” أعظم من “مالك الحزين”، وكان ذلك يثير حفيظته جداً ويحزنه، أنا علمت بهذا الكلام من أصدقاء وليس بصفة مباشرة منه، ولكن أتصور أن ذلك حصل. أظن أن معالجة أحمد فوزي صالح للرواية، لا تصادر أي معالجة مستقبلية لها.

– ولماذا تظن أن الرواية يمكن أن تُحول إلى السينما مرة أخرى؟

* ما يحدث مرة، قابل لأن يحدث مرات أخرى، آمل أحياناً أن أعدّ سيناريو للسينما، وفكرت أن ألتحق بورشة للسيناريو كي أتعلم كتابته… يعني مجرد حلم.

المعرفة يعاد إنتاجها باستمرار، مجلة “Variety” في تغطيتها لفيلم “ورد مسمود”، مثلاً، عادت إلى رسالة البحث الأكاديمي حول روايتي، وأخذت منه اقتباسًا مفاده أن “تحية هي إيزيس الحياة المعاصرة”، عندما قرأت الجملة “Tahya as a kind of modern-day Isis” تذكرت البحث الذي أعدته الدكتورة الباحثة منى النموري حول الرواية، ضمن تحضيرها للترقية ونشرته في مؤتمر في جامعة القاهرة في العام 2008. كان أول من قارن بين روايتي، ورواية جيمس جويس، هو صبري حافظ في دراسته المنشورة ضمن ملف في مجلة “أدب ونقد”، تخيل من وأنا شاب قدموا عني دراسة مقارنة مع جيمس جويس، “دية كانت من العجائب، وقد أسعدتني لا شك”.

– تُقارن بجيمس جويس منذ أكثر من 28 عامًا، وبالرغم من ذلك لم تترجم الرواية حتى الآن.

* لا أملك تفسيرًا واضحًا لذلك، وإن كنت لا أشعر بالحزن.

أظن أن السبب في ذلك عائد لطبيعتي، لم أكن في يوم من الأيام منتسبًا إلى أي تجمعات أدبية، وليست لي علاقات وطيدة بالمحيط الأدبي. أعيش على هامشه بشكل عام، لطبيعتي الخاصة، وهي طبيعية موروثة من الطفولة، لأني انطوائي بشكل ما. ما يربط الطفل بالعالم هو والده، لأن الأب يمثل قانون العالم بالنسبة للطفل، فإذا رحل ذلك الأب في سن مبكرة، يظل ذلك الطفل في بحث عن علاقة ما مع العالم. وأنا أترجم كتاباً لسوزان سونتاغ، وجدتها تقول في أحد مقاطعه: “تنطوي الإصابة بورم، في وجدان البشر، على نوع من أنواع الشعور بالعار”، أعتقد أن طفلاً فقد أباه في وقت مبكر، ينطوي شعوره على نوع من أنواع العار أيضًا، لأن ذلك يجعله مختلفًا بحدة عن الجماعة المحيطة به. فلعلي اكتسبت حالة الانطواء تلك من طفولتي. أحياناً تتهمني زوجتي وابنتي بأنني انطوائي، فأعارضهما، وقد أقول لهما: “صعب اللي عمل الإنجازات دية في الحياة يكون انطوائي. يعني أنا طلّعت كتب، واشتغلت محامياً لشركات كبيرة، ما نيش انطوائي”، لكن أعود وأقول لنفسي أنا انطوائي بشكل يخصني.

– لكنك حاولت التغلب على هذه الانطوائية لدى عودتك للحياة الأدبية، ونشرك المجموعة القصصية “ضوء شفاف ينتشر بخفة” في ميريت، فبالإضافة لكونها دار نشر، فهي في الوقت نفسه تعد منتدىً أدبيًا..

* لكني لم أنجح في هذه التجربة.

– غير أن هذا لا ينفي سعيك لأن تكون جزءًا من مجتمع أدبي ما.

* طبعًا. لكني فشلت. وعدت إلى طبيعتي على هامش المجتمع الأدبي. أحياناً أتبنى شعارات تشبه ما يطلقه سعدي يوسف “أعيش في الهامش وتوجد قصيدتي في القمة”، شعار حلو. تحرص أن يظل إنتاجك في القمة فنيًا وجماليًا. لكني في الحقيقة أعيش على الهامش، وغالبًا ما أنسى الحياة الثقافية، وتنساني أيضًا في المقابل.

سبب آخر دائماً ما أتذرع به في مسألة عدم ترجمتي حتى الآن. درست اللغة الإنكليزية. وأدري كيف تكون المهمة معقدة جدًا على مترجم يتصدى لترجمة “ورود سامة لصقر”، في الأجزاء التي تكسر شكل الجملة التقليدي تمامًا. لا أعرف كيف سيجد مقابلاً جمالياً لذلك في اللغة الإنكليزية. أعتقد أن العملية ستكون في غاية الصعوبة في الفصول الخاصة بصقر وتحية تحديدًا.

– في حياتك انتقالات حادة. أصدرت روايتك الأولى، نجحت. اختفيت. ثم أصبحت محامياً، نجحت، توقفت. ثم تركت القاهرة وذهبت إلى لندن لتدرس من جديد.

* سافرت بفلوس الرأسماليين اللي أخدتها منهم.

– لماذا قررت أن تعود مرة أخرى للدراسة؟

* أظن أن ذلك عائد للجذر الطبقي الذي أنتمي إليه، والدي كان يعمل في وظيفة عجيبة جدًا، كان يذهب ليشتري منتجات المحلة الكبرى (منسوجات وملابس)، ثم يذهب ليبيعها بالقسط للعمال في دمياط، وفي نهاية كل أسبوع (يوم قبض الأجر الأسبوعي) يحصل منهم القسط. لم يكن يهدأ أو يرتاح طوال الأسبوع. وأنا ابن هذا الرجل، وبالتالي لن أهدأ عن البحث إلا بموتي. كنت أريد أن أتعلم لغة ثانية، ولم أسافر خارج مصر في حياتي، غير تلك المرة التي ذهبت فيها إلى لندن العام 2012، لم أكن أعرف شكل العالم خارج الإقليم الذي أعيش فيه. سافرت لأدرس اللغة الإنكليزية، مع أولاد وبنات من دول الاتحاد الأوروبي ومن أميركا اللاتينية والمكسيك، وكنت في وسطهم أكبرهم سنًا، لكني لم أكن كذلك حينما كنت أجالسهم، هل كنت أبدو أصغر في السن مما كنت عليه فعلاً؟

مسألة توقفي عن الكتابة للعمل، ثم توقفي عن العمل والعودة للكتابة، تذكرني بحوار قرأته لكاتبة أميركية، لا أتذكر اسمها للأسف، أنها كانت تريد أن تكتب روايتها، وفي الوقت نفسه هي بحاجة إلى المال لتؤمن معيشتها حتى تستطيع الكتابة. فذهبت لتعمل كـ”مومس” لفترة من الزمن، ثم عادت لتكتب، فكرة ادخار المال للتفرغ للكتابة ليست مسألة تخص واقعنا وحده، وهي موجودة في العالم، وأعتقد أن فترة عملي بدت بالنسبة اليّ البديل الأنسب للوظيفة التي وجدها، مثلاً، إبراهيم أصلان في صغره، أو بديلاً للعلاقة بالدولة التي وجدها جيل الستينات والسبعينات والثمانينات مع الدولة بحيث يستطيعون التفرغ للكتابة، “أنا مكنش عندي حاجة” غير مهنة حرة يمكن أن تأكل الإنسان كله إذا استسلم لها، مهنة المحاماة لا تقبل أي شريك آخر. فلعل هذه الوظيفة كانت فترة الادخار بالنسبة اليّ، من أجل أن أذهب لأدرس اللغة، وأن أعود لأشتغل على ذاتي من جديد، وأستطيع تقديم تجربة جديدة. ولعل روايتي الجديدة “صخرة هليوبوليس” دليل أقدمه للعالم بأني ما زلت حياً، وأني أخوض مغامرتي مرة أخرى، وأني أعمل كما لو كنت كاتبًا شاباً من أول وجديد، أحاول تقديم هذا العمل التجربة التالية لصقر، وأنا أقدمها لا لتُقرأ فقط، وإنما كدليل على نجاتي، وأني استعدت روحي من الموت.

الرواية العربية: بعض من التفاؤل المفرط/ شادي لويس

لم يكمل لورنس ستيرن الكثير من القصص التي بدأها في روايته “حياة وآراء تريسترام شاندي”، وبالكاد تكشف أجزاؤها التسعة عن شيء يذكر من حياة بطلها. لكن، ومع هذا وربما بفضله، اضحى ستيرن، الذي أصدر روايتين فقط، مؤسساً للرواية التجريبية، أو ربما بشكل أدق للتجريب في الرواية. طرحت “تريسترام شاندي”، في أوج صعود الرواية الأوروبية نهاية القرن الثامن عشر، طيفاً واسعاً من التقنيات والألاعيب السردية والتجريب في مستويات اللغة وتماسك الحدث وأبعاد الشخصيات وعمقها. لم تكن الصفحة السوداء، التي تركها بعد حدث مأسوي، تعبيراً عن الحزن، والصفحة البيضاء الفارغة التي تركها ليدوّن فيها القارىء رأيه في دوافع الأبطال، هي أقصى ما وصل إليه ستيرن من نزق. فالقصص المشتتة، والسرد غير المكتمل، والشخصيات الضحلة أحياناً والسائلة، والطبيعة الفضائحية لحبكاته المتتابعة بلا ترتيب مقنع، والحديث المباشر إلى القارىء، هو ما جعل معظم نقاد عصره يتجاهلونه تماماً، وهو ما مهد لتنصيبه من قِبل مؤرخي الأدب كجدّ للرواية ما بعد الحداثية.

ورغم الإحالات الكثيرة إلى نصوص فلسفية في طيات “تريسترام شاندي”، واللعب على معضلة اللغة/الحقيقة بشكل مباشر، فإن ستيرن لم يكن معنياً بكتابة أدب “جادّ” على الإطلاق، بل سلسلة كتب شعبية وساخرة، وفي أفضل الأحوال الهبوط بذائقة الأدب من الطبقة الارستقراطية إلى الطبقة الوسطى البريطانية الصاعدة حينها.

ولم تكن تلك الانعطافة سوى واحدة من دورات الرواية العكسية الكثيرة وارتكاساتها المتكررة. فالفن الذي كان رواجه في القرن السابق لستيرن، مقترناً بـ”رخص الطباعة” وإتاحة الكتب للعامة أو استباحتها، والذي وُصمت شعبيته بالفحش وقصص النميمة الفضائحية، كان قد قفز من النقيض إلى النقيض أكثر من مرة. ففي مطلع القرن الـ18، كان الطلبة الألمان ونساء الطبقة العليا الفرنسية، قد نصبوا لفنهم الوقور غاية رئيسة، هي الإصلاح، قبل أن ترتد الموجة في نهاية القرن، وتتصدى الرواية لسؤال المتعة والجمال واللذة، وتضع الشكل بديلاً للمضمون مرة أخرى.

في نهاية التسعينات، كانت الرواية العربية قد بلغت نهاية واحدة من تلك الدورات. فانهيار النظريات الكبرى، أو على الأقل فقدانها للجاذبية رويداً رويداً، واستهلاك أسئلة الهوية في مجتمعات ما بعد الاستقلال، والتوجس الفرداني الصاعد من الجماعي والمقولات الكبرى، كان قد وصل بعد عقود من الركود النسبي إلى تحرر من وصمة “الأدب الملتزم”، واندفاع نحو التجريب والتركيز على اللعب بالأدوات الأسلوبية وتعدد طبقات اللغة ومستويات السرد وتقنيات البناء والحبكة وأعماق الشخصية أو تشظيها، والتمرد على الزمن التقليدي. ومع الزخم الذي اكتسبته تلك المحاولات، وتجاوز رواية “التفاصيل الصغيرة”، فإن موجة من الروائيين الأصغر سناً، انطلقت في استكشاف أراض بِكر للعربية، من أدب الديستوبيا، مروراً برواية الرعب والرواية المصورة، وصولاً إلى الأدب “الرياضي”.

واليوم، ورغم صيحات التشاؤم بشأن موت الرواية أو ابتذالها، تبدو الرواية العربية في أكثر لحظاتها الواعدة إشراقاً، وأكثرها تحدياً في الوقت نفسه. فثمة رواج غير مسبوق في سوق النشر وترجمة الأدب العربي للغات الأخرى، ومنظومة سخية من الجوائز الأدبية والإقامات الفنية وورش العمل وغيرها، ما يضع عبئاً اضافياً على التصدي لسؤال الشكل/المضمون.

ورغم أن موجة “الشكل”، ومبدأ اللذة وأولوية الجمالي ومحاولات التجريب، لم تستنزف نفسها بعد أو تصل لغاياتها، إلا أنه من البادي أن بعضها قد أصابه الوهن. ويظهر أن تياراً متدفقاً بصبر، لأدب نسوي ومثليّ، وروايات تتناول الهجرة والشتات وتجربة الأقلية، يجمع روافده، للعودة إلى أولوية المضمون والمعنى، على الشكل، أو التركيز على الحكاية نفسها في أقل صورها تقشفاً بدلاً من أدواتها.

مع هذا، تظل معضلة الرواية العربية خارجها. فالأوضاع السياسية والاجتماعية لمحيطها لا تقوضها بالضرورة، بل على العكس تحملها أكثر مما تحتمل، وتنتظر منها ما لا تستطيع أن تقدمه. فانسداد أفق الأمل في المستقبل المنظور سياسياً، وما شهدته المنطقة ولازالت من صراعات مسلحة غير مسبوقة في فداحتها وضحاياها، لا تترك إمكانية للحياد، وتضع مسؤوليات التسجيل والذاكرة والفعل والاستشراف على عاتق الرواية، لا لشيء سوى لأنها واحدة من المساحات القليلة الممكنة اليوم. ويجد روائيو اليوم أنفسهم أمام خيارات محدودة: إما نبذ “الالتزام” بقسوة مفرطة، أو السقوط في وهم دون كيشوتي بـ”كلّية الرواية”. لكن، وببعض من التفاؤل المفرط، يمكن لنا التمني بأن التوتر بين هذين الموقفين وتنويعاتهما، هو ما سيقود حراكاً أكثر سخاءً وتنويعاً وتجريباً، على مستوى الشكل والمضمون أيضاً، لينتج رواية ربما لن تستطيع أن تفي بما يُنتظر منها، لكنها على الأقل ستحاول أن تصل بحدودها إلى أقصى ما يمكن.

الرواية انعتاق الفرد من الجماعة/ جنى فواز الحسن

(*) طفرة الرواية في العالم العربي قد تكون لها أسباب عديدة. ولا أعرف إن كانت إيجابية أم سلبية. هناك رغبة في التعبير طبعاً لدى العرب من مختلف الجنسيات لأنّ هذا ليس مباحاً لهم بشكل كافٍ، وهناك الكثير من البؤس في الدول العربية، لهذا يتّجه البعض إلى الكتابة. بهذا المعنى، هذه الطفرة ليست سلبية ولا تسيء للأدب لأنّ ما سيبقى من كل ما يُنشر هو ما يستحق البقاء. الزمن كفيل بأن يكون الحكم الأكبر. لكن في الوقت نفسه، يجب ألّا يكون هناك استسهال للكتابة. الكتابة التي لا تقترن بالشك، شك الكاتب نفسه بعمله، ومحاولته لأن يكتب ما هو قيّم وليس فقط ليكون له إنتاج أدبي، لا تستحق أحياناً أن تُنشر.

الجوائز ساهمت فعلاً في ترويج الرواية، خصوصاً أن الكتّاب عادةً لا يحظون بالتقدير ولا يجدون الدعم الكافي. عندما تصبح الجوائز هدفاً، تصبح هذه هي المشكلة. الرواية لم تعد تنتج بطلاً أسطورياً لأنها باتت أقرب إلى الواقع ولأنها انعكاس لما يعيشه الناس والمجتمع. لم يعد هناك أبطال في مجمل الميادين ولا حتى قيادة حقيقية لكي ينقاد الفرد وراء الجماعة. الكتابة الآن، كتابة الرواية تحديداً، تمثل انعتاق الفرد من الجماعة، ورغبته بأن يرسم صورة حقيقية لما تنطوي عليه الحياة من انكسارات. هذا التركيز على الإنسان الفرد، بكلفة تحدياته واضطراباته، الإنسان العادي الذي تثقله أعباء الحياة، هو الصوت الذي تمنحه الرواية لهذه الأشياء العادية. نحن نأتي من مجتمعات عشائرية وأبوية، فيها مفاهيم مبالغ فيها عن الشرف والاحترام، وفيها مثالية زائفة، لطالما جرّدت الإنسان من أن تكون له هوية فردية. ومع كل ما يحدث مؤخراً، سقطت الكثير من هذه الشعارات وظهرت هشاشة هذه المجتمعات، ومعها خرج إلى العلن وهم الأساطير.

الاندفاع إلى الرواية المترجمة هو البحث عما لم تستطع الرواية العربية أن تقوله بعد. تجربة الرواية في الدول الغربية أنضج من تجربة الرواية في الدول العربية. وبـ”أنضج”، أقصد أن أقول أكبر سناً وتجربة. وربما لهذا السبب، يبحث القارئ عمّا يفتقده في الرواية العربية. هناك الكثير من الإنشاء في الرواية العربية وحاجة إلى تطوير الكثير من الأمور وإلى مساحة أكبر من الحرية في الكتابة. ومن هنا أستطيع القول إن الرواية العربية ستذهب إلى مكان أفضل في المستقبل. عندما تتطور مجتمعاتنا، وتصبح المكتبة بأهمية المكتبات في الدول الغربية، وتتطور المناهج الدراسية، ستتطور الفنون كلها ومعها الأدب. لا أدري إن كان ذلك سيحدث في الزمن القريب، لكن يمكننا أن نأمل في ذلك.

العالم قذر بما يكفي لنزع الهالة عن كل شيء/ فوزي ذبيان

(*) ربما سبب هذه الطفرة في الإنتاج الروائي يكمن في قدرة الرواية على التعبير أكثر من غيرها. فالعالم العربي هو عبارة عن خزان ضخم من الخيبات والبؤس والتدين والتخلف وكما هو الحال في لبنان مثلاً، هو خزان من الانتصارات الكاذبة. فالرواية تستطيع أن تلبي حاجة الكاتب في أن يفش خلقه أكثر من المدونات النصية أو البصرية الأخرى. هذا فضلاً عن سهولة النشر وتيسره بالإضافة إلى سبب آخر يغريني التكلم عليه وهو التصور النوستالجي عن الكاتب الذي يخالج الكثير من الناس وهو تصور مستمد من سرديات لها علاقة بتراث العرب البياني كما أظن، بالإضافة إلى عوامل أخرى كرغبة الذين لم يخرجوا من أحضان امهاتهم بعد بالتصفيق والحضور الدائم وهذه الأمور التي افهمها.

لا يعنيني من خبريات الجوائز سوى ذلك “البعط” الذي يرافقها عبر الميديا من قبل الكثير من الكتاب والكاتبات، والأمر لذيذ كموضوع لرواية كوميدية لكن حزينة (على غرار الجندي الطيب شفايك، بصرف النظر عن اختلاف المواضيع). بالنسبة إليّ لا توجد في العالم هيئة معنوية يمكن أن تملي عين وقلب الكاتب الأصلي بدءاً من لجنة نوبل للآداب، وصولاً إلى اللجنة الثقافية في قريتي والتي تقدم الجوائز السنوية لشعراء الزجل هناك. “العالم قذر بما يكفي ليشي بنزع الهالة”- اذا أردنا أن نستعير فالتر بنيامين- عن كل شيء سوى عن شركات السلاح والمصارف وما شاكل. قد يتساءل احد ما بخبث وهو يقرأ هذا الكلام اذا كنت سأرفض جائزة ما في حال عرضت علي، اقول لهذا الإنسان كلا، لا أرفض. فكما قلت، العالم قذر بما يكفي لأن نتلوث فيه جميعاً، والا لا نستطيع ان نستمر. (حدا جايي يقلك هول 100 الف دولار، بتقلو لا!!!!).

في ما يتعلق بعدم انتاج الرواية العربية للبطل أقول: لا يوجد لدى العرب سوى بطل واحد هو الرسول محمد واعادة انتاجه بصورة مغايرة عن المتخيل العام ضرورية إنما يبدو أنّ أوانها لم يحن بعد. أما الأبطال الآخرون، لا سيما في السياسة والحروب، فإن بطولاتهم اتخذت طابعاً هشاً منذ أبطال الحركات الاستقلالية حتى آخر “بطل” في العالم العربي اليوم. ثم ان كلمة “بطل” بحد ذاتها تستبطن مدلولات تتجاوز بعدها المحض معجمي. فأبطالي، على سبيل المثال، هم اكثر فئات المجتمع هشاشة وأكثرهم ضعفاً. إن بطل العالم العربي هو ذاك العاطل عن العمل والذي يتسكع في الشوارع بلا أمل، أو ذاك الذي يغرق قبالة السواحل الأوروبية أثناء فراره. المهمش هو البطل، أما الآخرون فهم سفلة العالم وشياطينه. فعل البطولة الوحيد الذي يمكن ان يُعتد به في أي عمل روائي هو بطولة الفار من الجندية، أو بطولة أن يقبّل الشاب العربي حبيبته على الكورنيش، أو أن يسرق من صندوق المسجد أو الكنيسة كي يطعم أطفاله او يذهب هو وحبيبته الى الفندق… سحقاً للأبطال الآخرين. تصوُّري عن البطل الكلاسيكي والذي يسعى للانتصارات العظيمة هو التالي: انه شخص يهوى جمع أعواد الثقاب لإعادة إشعالها في وقت لاحق كي يعود وينتصر من جديد.

بخصوص انكباب القارىء العربي على الرواية المترجمة، افضل ان تكون مقاربتي اقرب الى السيكولوجيا. كل قارئ يستبطن اثناء فعل القراءة، رغبة في أن يكون هو أيضاً كاتب، انما ليس فقط كاتب على مستوى العالم العربي، بل كاتب عالمي (وله الحق في ان يحلم). بالتالي ان هذا الانكباب على الأدب الأجنبي يستدعي بعض التماهي مع هذه “الأجنبية” كواقعة تتخطى عالمه الهش. ثمة ضعف غير مبرر في الكثير من الأحيان امام كل ما هو أجنبي ولعل الأمر يتعلق بنظرة ما إلى الذات إزاء هذا الاجنبي، مع التذكير بأن ثمة روائع في الأدب الأجنبي لا يمكن الا الوقوف امامها بإجلال. وهذه الأعمال، وانطلاقاً من هذه النظرة، ليست غريبة عني كعربي، إنها أعمال عالمية وكفى. فشخصية اوسكار في الطبل الصفيح لـغونتر غراس تتجاوز ألمانية بل أوروبية بل غربية هذا العمل، ليكون عملاً انسانياً بلا حدود، وهو ما يمكن ان نلحظه في ناقة الله للكاتب الليبي ابراهيم الكوني على سبيل المثال لا الحصر. العالمية من هذا المنظور شيء محترم، انما ان تكون العالمية معطوفة على محض نيل هذا العمل او ذاك لهذه الجائزة او تلك لأسباب لا تتعلق بالناحية الإبداعية… ان في الأمر نظر.

الرواية العربية إلى أين. الآن لا أعرف. أما في المقبل من السنين سيكون لها شأن عظي.. إذ، من المستحيل أن لا ينتج كل هذا الدم النازف في عالمنا العربي نصه الخاص به والذي سيتجاوز – وانطلاقاً من هذه الخصوصية بالذات- حدوده، ليستثمر في التأسيس لنمط آخر من تلقف العالم غير هذا التلقف القذر الذي نُجبَر عليه كلنا اليوم.

هاني نقشبندي: الجوائز لا تخرب الرواية، بل تدمرها/ هاني نقشبندي

(*) طفرة الرواية في العالم العربي، سببها أنها الشيء الوحيد الذي يمكن أن تقرأه من دون مجاملة سلطة أو ممالأة سلطان. بل إن الكثير من الروايات ولدت مصطدمة مع مجتمعها.

قل لي: ماذا يستطيع أن يقرأ الإنسان العربي اليوم، عدا الرواية؟ هل يقرأ الصحف؟ المجلات؟ كلها إما ممولة من مؤسسات حكومية، أو تعكس توجهات سياسية تفتقر الى الموضوعية والحيادية. الرواية ليست كذلك. على الأقل، غالبية الروايات ليست كذلك. نعم، هناك ما يأتي منها ضمن سياق المجتمع وإرادة المؤسسات السياسية أو حتى الدينية، لكنها في المجمل تكون مخالفة لها. من هنا، فهي تحمل قدراً من الواقعية والصراحة، أكثر مما تحمله النصوص الأخرى، الإعلامية والصحافية على وجه الخصوص. أضف الى ذلك أن الناس في شوق إلى شيء مختلف، وقريب منها. الرواية تلامس هموم الناس، أو هكذا يُفترض أن تفعل أحياناً. وعندما تصبح الملامسة تواصلاً كاملاً، تمسي أكثر وقعاً وقبولاً في نفس القارئ.

عنصر أخير يمكن أن أضيفه، وهو مسألة الظهور. فهناك من يكتب من باب “أنا هنا”. لعله يعتقد أن حضوره الإنساني، من خلال الرواية، يخرجه من دائرة المجهول إلى المعروف. لكن مثل هؤلاء لا يلبثون ان يصطدموا بواقع أن الرواية ليست فعلاً ظاهرياً، أو مظهرياً، يعطي صاحبه شأناً في المجتمع. لن تفعل الرواية ذلك، على الأقل في بدايات العمل الأدبي. لذلك، فإن كثيرين لا يستمرون. لعلهم كانوا يتوقعون نجومية العمل الواحد. وهو، فوق أنه لا يتحقق، يعطي نتاجاً أدبياً قد يسيء إلى كاتبه أكثر مما يفيد. الأدب هو غاية تُقصد لذاتها. لن يكون أبداً الوسيلة للوصول. الكتّاب الكبار يكتبون لعشق الكتابة ذاتها، لالتحامهم مع النص. الأدب هو منتهى الغايات، وعندما يكون الوسيلة لشيء ما، يتلاشى. وإن بقي العمل موجوداً، فلن يكون أكثر من شجرة يابسة.

الجوائز لا تخرب الرواية، بل تدمرها.

تصدر، كل عام، آلاف الروايات، على امتداد الساحة العربية. عندما تفوز رواية واحدة بجائزة ما، فمَن ذاك الذي استطاع قراءة كل تلك الآلاف من الروايات كي يقرر أن هذه أو تلك هي أفضلها؟ عندما تفعل ذلك، فأنت تكرّم عملاً أدبياً واحداً، لكنك تسحق آلاف الأعمال الأخرى تحت أقدام النسيان والتجاهل. ذلك أن الناس يتكالبون على الرواية الفائزة، ظناً أنها أفضل ما صدر، وتنسى ما عداها، أو تتجاهله. هكذا تكونُ قد كرَّمتَ زهرة واحدة، وسحقت آلاف الأزهار. فأي حديقة أدبية تنتظر؟ ثم، مَن الذي يقرر؟ لجنة من خمسة أو ستة أو عشرة أشخاص؟ أنت تتكلم إذاً عن ذائقة إنسانية مزاجية، وليست إلكترونية تسير وفق مقاييس محددة. فما تحبه أنت، قد لا أحبه أنا، والعكس بالعكس. لك أن تتخيل ذائقة شخص ما، تحدد لك ما تقرأ وما لا تقرأ. هنا يقع ظلم كبير، ليس على الأدباء وحدهم، وإنما على القراء أيضاً. وسأكرر دوماً ما قال برنارد شو: “قد أغفر لنوبل اختراع الديناميت، لكني لن أغفر له أبداً اختراع جائزة للأدب”.

ليست مهمة الرواية أن تنتج بطلاً، بل أن تصنع نصاً جميلاً. أقول أن الرواية هي: نص وقصة. القصة يجب ألا تمثل ربع الرواية. فكل منا يملك قصة أجمل من غيره، ربما. المهم هو كيف تقدم قصتك، وبأي نص وأسلوب. قوة الرواية، أي رواية، ليست في مَن ذهب وراح، ولا في بطل أسطوري يحقق المعجزات، ولا في قصة حب مأساوية أو مفرحة، بل في نص جميل متماسك وقوي. نص يصنع صورته، لا صورة تصنع النص.

لماذا اندفاع الكثير من القراء الى الرواية المترجمة، وإن كانت سيئة؟

أولاً، أعترض على كلمة “سيئة”. لا رواية سيئة. ضعيفة ربما. ركيكة ربما أيضاً. لكن صفة “سيئة” جارحة قليلاً في حق أي عمل أدبي مهما كان متواضعاً.

ثانياً، لا أتفق معك في أن الرواية المترجمة هي ما يندفع إليها القارئ، هذا إن كنت تقصد الأعمال الأجنبية المترجمة إلى العربية. أما إن كنت تقصد الأعمال العربية المترجمة إلى لغات عالمية، فلست أعتقد بالمثل أنها ما يدفع القارئ العربي إليها. ذلك أن هذا الأخير لا يعرف، على الأغلب، ما تُرجم أو لم يُترجم الى لغات أخرى لرواية اختار قراءتها. أزيد على ذلك أن كتّاباً كثر، يدّعون ترجمة أعمالهم إلى لغات عالمية. وأعتقد أن مثل هذا الإدعاء، وإن كان صحيحاً، هو وسيلة مهينة لترويج العمل الأدبي. ليس على الكاتب أو الأديب التسويق لقلمه على أساس ما ترجم منه إلى لغات أخرى. فأنت بإمكانك أن تدفع مبلغاً إلى مُترجم ما، ثم تدفع مبلغاً آخر الى دار نشر متواضعة لنشر عملك بأي لغة تريد. فهل هذا عمل أدبي؟ هو حتى عمل تجاري فاشل.

الرواية العربية.. إلى أين؟ لا أعلم، ولا أفكر في الأمر. هي سفينة تبحر. المهم أن تبقى في حركة دائمة. لا أعلم أين سيكون مرفأها التالي. لكني أدعو ألا تتوقف يوماً، سواء في عرض البحر، أو على رصيف جاف. سيأتي يوم، ويحقق كثير من كتّابنا حضوراً أدبياً مميزاً في المحافل الدولية. لكني لست أرى ذلك شرطاً لنجاح الروائي أو الأديب. فالنجاح ليس في الإنتشار، بقدر ما هو في إنتاج العمل الأدبي ذاته.

القارئ لا يثق في دور النشر العربية/ رولا الحسين

في كل عام عندما يحين موعد معرض بيروت الدولي للكتاب، تُتداول نكتة أن الأصدقاء الذين أصدروا كتبًا هذا العام صاروا أكثر من الذين اشتروها، كاعتراض ساخر على كثرة النشر.

لكن، لم لا؟ لطالما أن دور النشر هي وسيلة النشر الوحيدة، وكان وصول الأعمال إليها مشقة أو حكرًا على النخبة، وكان ذلك أمرًا مثيرًا للسخط، ومحبطًا. الآن، اختلف الأمر مع ظهور المنصات الإلكترونية التي أتاحت للجميع أن يكتب. وربما أدى هذا إلى اهتمام دور النشر بالأسماء والتجارب التي لاقت صدى في تلك المنصات وبين جمهورها. وكأن هذه الدُّور اعتمدت على المنصات في اكتشاف أسماء جديدة، ومن ثم في تسويق ما تنشره لها. هذا إضافة إلى الواقع الذي ولّدته الثورات المتنقلة من بلد إلى آخر. فنتج عنها ما نتج من تجارب مكتوبة وجدت طريقها إلى دور النشر، والمنظمات الأجنبية التي فتحت أبوابها لها باعتبارها مادة دسمة تندرج ضمن القضايا التي تدعمها. والاهتمام الأجنبي نفسه دفع دور النشر العربية إلى الاهتمام أيضًا بهذه التجارب. وهذه الفرص والمنصات سمحت للقراء بأن يصبحوا كتّابًا، أو على الأقل أن يخوضوا تجربة الكتابة.

والرواية الأجنبية المترجمة، طرحت على القارئ العربي أبعاداً إضافية لم يجدها في الكثير من الروايات العربية. وذلك، رغم أن تغييرًا نسبيًّا طرأ على مفهوم البطل والبطولة في الرواية العربية، فأصبحت صفات البطل الروائي أكثر واقعية، وإنجازاته أكثر إنسانيةً، وبهذا المعنى أصبح أي شخص بطلاً، وأي فعلٍ بطولة ويستحق الكتابة له وعنه. إلا أن القارئ لا يثق في الرواية العربية كثقته بالرواية الأجنبية.

أولاً، لأنه لا يثق في دور النشر العربية كثقته بتلك الأجنبية. ذلك أن الأولى، نتيجة الشكوى الدائمة من عدم البيع، فتحت باب الدفع مقابل النشر، وهو باب ما زال غير مفهوم، بالنسبة اليّ على الأقل: كيف يدفع الكاتب ثمن طبع ونشر كتابه، ويحصل في المقابل على عدد محدود من النسخ ونسبة مخجلة من المبيع، كون البيع قليلاً؟

وثانيًا، لأن الرواية الأجنبية حاصدة جوائز. فتصبح الجوائز هاجس الكاتب كجواز عبور هو الأبرز إلى ترجمة أي رواية، كون الترجمة هي باب الانتشار الوحيد والاعتراف الأهم. وهنا، تبرز مشكلة الثقة في هذه الجوائز والأعمال المرشحة، والتي في أحيان كثيرة تطغى على موضوعاتها القضايا الطارئة، بغض النظر عن قيمتها الأدبية.

الرواية العربية في حاجة إلى التخفيف من الدهون الزائدة والحشو والاستعراض اللغوي، تحتاج إلى الحذف، لا الإضافة. ولهذا لا بد من تعاطٍ مختلفٍ معها، من قبل دور النشر، بحيث يتخطى دور الناشر التحريري التدقيقَ اللغويَّ، ليصبح المحرر شريك الكاتب في إنتاج عمل رشيق. وهناك حاجة إلى ما يُغني الروائي عن الهجس بالجوائز والتسويق، وبالتالي إلى وجود وكيل أعمال يحرر الروائي من عبء سوق الدارج.

محمد ربيع…أتوقع أن يزداد الإنتاج الجيد من الكتّاب الخليجيين/ محمد ربيع

(*)هناك الكثير من الروايات التجارية الآن في المكتبات العربية، وما يُطلق عليه في الغرب “خيال أدبي” أصبح قليلاً، ربما يعود ذلك لاتساع دائرة القراء، وتفضيلهم النصوص السهلة المباشرة التي تهتم بسرد حكاية مثيرة.

تأثير الجوائز يختلف من جائزة لأخرى، هناك جوائز بلا تأثير تقريبًا إلا المكافأة المالية التي يحصل عليها المؤلف، وجوائز أخرى تزيد من مبيعات الأعمال الفائزة. بشكل عام لا توجد قاعدة، ولا أعلم إن كان اهتمام القراء – والكتاب أيضًا – بالرواية التجارية يُعد تخريباً، أظن أنه تغير ما يطرأ على الرواية وكتابها.

أظن أن الروايات كفت عن إنتاج الأبطال منذ أول القرن العشرين، نماذج مهمة مثل عوليس والبحث عن الزمن المفقود، لم يهتم كتابها بهذا النوع من الأبطال، ما يحدث الآن ليس جديدًا أبداً.

لا أظن أن هذا التصور صحيح، أظن أن القراء يقرأون مواطنيهم بشكل أساسي، ثم يهتمون بقراءة الروايات المترجمة. وربما سبب كثرة الروايات المترجمة على رفوف المكتبات هو قلة الأعمال العربية الجيدة المنشورة حديثًا، وعدم اهتمام الناشرين بنشر الأعمال العربية المتميزة التي صدرت في الاعوام المئة الماضية.

أتوقع أن يزداد الإنتاج الجيد من الكتاب الخليجيين، يساندهم في ذلك وجود دور نشر متميزة ومنظمة، على عكس ما يحدث في مصر على سبيل المثال، حيث لا اهتمام بعملية التحرير والمراجعة اللغوية والتصميم والتوزيع إلا عند دور نشر قليلة جدا، أما الباقي فيمكن وصفه بكل أريحية بأنه “سمسار مطبعة”. الكتابة والنشر خطان متشابكان طوال الوقت، هما يصعدان معًا أو ينتكسان معًا، وتبقى هناك استثناءات بسيطة أتمنى ألا تستمر طويلًا، كأن ينشر كاتب متميز نصوصه عند “سمسار مطبعة” مع علمه بأنه كذلك، أو كأن ينشر ناشر متميز كتابًا سخيفًا لأنه سيحقق مبيعات جيدة.

الرواية العربية نجحت بجَلب موضوعاتها من قاع المدن والقرى/ شاكر الأنباري

(*) شهدت الرواية العربية طفرة في عدد ما يصدر منها خلال السنوات العشرين الأخيرة، قبل أن تنشأ الجوائز لها.

ولهذه الظاهرة أسباب كثيرة أهمها خروج المجتمعات العربية من سباتها، مما جعل من الشعر والقصة قاصرين عن ملاحقة التفاعلات العميقة في أحشاء المجتمعات العربية.

ونعرف أن هذين الفنين كانا مهيمنين على ساحة الإبداع، وعلى ذائقة القارئ، حتى سنوات قريبة. ولأن تلك التفاعلات كانت ضخمة، ولامست طبقات المجتمع كلها، لم يعد للقصة، ولا للشعر، القدرة على استلهامها فنياً، وجاءت الرواية بديلًا، أو رافداً عملاقاً مواكباً للشعر والقصة. وما لبثت أن طغت عليهما، لقدرة الرواية على رصد الأصوات المتعددة للقوى الفاعلة، واستيعابها لإمكانية الحوار وتعدد الرؤى حول الاشكالات المستعصية، سواء لكتلة بشرية بعينها، أو لفرد يعاني اغتراباً وجودياً عن واقعه، وعن دهاليز السلطات المهيمنة على قدره اليومي.

وتزامن هذا التطور الإبداعي مع طفرة في الطباعة، وسهولة التنقل، وتوافر وسائل إعلام ثقافية غير مسبوقة، كالمجلات الأدبية المتخصصة والصحافة اليومية والفضائيات، ولاحقاً وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الانترنت. ذلك كله دفع إلى قيام موجة ترجمة تسونامية لما يصدر في اللغات الأجنبية، خصوصاً أن معظم دور النشر يتكالب على ترجمة الروايات، وغيرها من حقول الفكر والإبداع، كونها عملية مربحة أكثر بكثير من الكتاب محلي التأليف.

حركة الترجمة حملت أيضاً طابع التبعية للثقافة الأجنبية، وأدخلت القارئ العربي في سحر الذائقة الغربية، وهي لا تنفصل عن التبعية الفكرية والصناعية والإبداعية التي نعيشها اليوم.

ولأن الرواية العربية حديثة العهد، ضمن التراث السردي العربي، فهو ما حدا بالكثير من نماذجها إلى الفشل لدى مقارنتها مع الروايات المترجمة التي تمتلك قروناً من التجربة، والنقد، والنظريات حول البناء والبطل والحوار والوصف والأحداث. كما أن الحكم بنضوج رواية عربية ما، دائماً ما يرتكس لدى القارئ الخبير، نحو روايات أساتذتها في العالم، مما صار يستجلب الاستهانة، والتقريض الحاد لها، وهي ظاهرة غير مستغربة، فنحن عادة ما نرى المستهلك العربي يقارن بين سلعة محلية وأجنبية، لتكون الكفة الراجحة للسلعة المستوردة طبعاً. فحداثتنا ما زالت طرية العود، تحبو خارجة من كهوف التحريم، والمنع، واحتقار الحياة والجسد، على الصعد كلها.

ورغم الاخفاقات، والسلبيات البنيوية في الرواية العربية، إلا أنها نجحت في ملامسة النبض السائد في مجتمعها، والغوص في جل المعضلات المجتمعية والانسانية، حتى أنها تقترب أحياناً من أن تكون وثيقة مهمة لفترة زمنية محددة. تمتلك مصداقية عالية إذا ما قورنت بالتاريخ الرسمي، والرؤية الحكومية التي تغطي عادة على الأزمات، وتخلط الأوراق، وتجير الأحداث كي تصب في صالح سرديتها الإعلامية والجمالية والتاريخية. نجحت في جلب موضوعاتها من قاع المدن والقرى، ومن الهواجس المكبوتة للفرد، والصراعات الروحية والأهواء المقموعة. فكانت هناك روايات عن الصراعات الطائفية، والهجرات البشرية، والحروب، والسجون الغاصة بالضحايا حيث يمارس أقسى أنواع التعذيب، وحياة الغربة والمنفى، علماً أن روايات كثيرة استلهمت التجربة الذاتية للكاتب في صياغة عالم الرواية.

هذا ما جاءت به روايات جعلت من الثورة السورية، والحياة اليومية في ظل الحرب، ومأساة الهجرة المليونية، موضوعاً لها. وكذلك فعلت روايات عراقية كثيرة أضاءت بأحداثها الاحتلال ومآسيه، والحروب الطائفية والقومية المحتدمة للسيطرة على الشارع، ونزوح الملايين عن المدن، وموضوعة اختطاف النساء، وتدمير الذاكرة، وعبثية القتل في الواقع اليومي للمدن والبلدات. ويصح ذلك في روائيين مصريين كتبوا يوميات الثورة المصرية، وروائيين لبنانيين توغلوا في رواسب الحرب الأهلية التي اشتعلت ذات يوم وتواصلت لسنوات سود ما زال جمرها يتلظى تحت الرماد. بالتأكيد لم تحقق كل تلك الروايات الشروط الفنية للرواية، لكنها رغم ذلك ضخت للقارئ العربي تجارب مهولة، صادقة، منفتحة على أساليب الرواية العالمية، شرقاً وغرباً، ويمكن أن تعتبر عقلاً جمعياً يسترجع الكوارث التي عاشها أبناء الأرض خلال العقدين الأخيرين.

ذلك الكم الهائل من الإبداع الروائي لم يكتب من أجل الجوائز بالتأكيد، بل يمكن تفسيره على أنه حاجة روحية، جماعية، لمجتمعات أريد لها أن تظل صامتة، تبلع لسانها وتتفرج على مسرح العرائس السلطوي الذي كشف عن وضاعته، وجهله، ودونيته، وبربريته في التعامل مع حقوق الانسان المشروعة في العدل، والحرية، والكرامة البشرية. شجعت الجوائز كاتب الرواية على المثابرة، وخلقت لديه الأمل في الشهرة والثراء، والترجمة إلى لغات أجنبية، وحاولت أن تضع، بشكل ما، شروطاً إبداعية بمستوى مقبول فنياً. لكن في الوقت ذاته، لم تخل تلك الجوائز من سقطات شاعت في الوسط الثقافي، كالمحاباة ومزاجية لجان التحكيم، وتقوقع تلك اللجان على ذائقة نقدية قد تكون غير مؤهلة ثقافيا، وموسوعيا، في أن تقرر المصائر الفنية للنصوص. وهذا ما يلمسه القارئ في بعض الأعمال الفائزة التي لم ترتق إلى سوية فنية مقنعة.

إن فوز عمل ما بجائزة، لا يجعل منه معياراً فنياً لكتّاب الرواية، علماً أن ثمة روايات لم تُهيأ لها الفرصة للوصول إلى طاولة التقييم، في ظل معايير شعبوية، وولاءات آيديولوجية، لا تنتمي، أحياناً، إلى النص الفائز، أو المستثنى من الفوز. لكل ذلك، فمستقبل الرواية لا تقرره الجوائز، إذ أصبحت لسان حال شعوب مقهورة، لا تختلف لديهم الحياة عن الموت. تحولت إلى حاجة روحية تدفعها كي تنظر إلى المرآة، مرآة التاريخ بكل تفاصيله، بكل عثراته ومحرماته، وتنظر في مرآة حاضرها الممزق، المظلم، علها تستطيع الوصول إلى أغنيتها الخاصة.

أغنية المدن المهدمة على رؤوس أبنائها، وأغنية الفرد فاقد البوصلة، وأغنية البارود وهو يغطي السماوات، وأغنية الأسر المشردة بين البلدان، حيث لا ضوء في الأفق.

الرواية هي أغنية البجعة قبل أن تموت واقفة.

تخلي الرواية عن ارستقراطيها/ أسامة العيسة

-ما تسميه طفرة، هو أمر كان متوقعًا، وربما أوّل من “بشّر” به، حسب اطلاعي، الروائي الراحل حنّا مينا، فهو منذ أواسط الثمانينات تحدث عن أن الرواية ستكون (ديوان العرب) بدلاً من الشعر الذي، أعتقد انه ضحية إساءة أهله الشعراء له، فوقع بينهم وبين المتلقين فجوات، صعبة الردم، ولكن هذا قد يكون سببًا فقط، من أسباب عديدة، أدت إلى التراجع المخيف الصادم للشعر لصالح الرواية.

وقد تكون الرواية العربية، وهي تستند إلى تراث نثري مهم، في الواقع، من ألف ليلة وليلة، وكتب المسامرات، والمقامات، وكليلة ودمنة، والقرآن الكريم، وحتّى كتب الجاحظ ورسالة الغفران للمعري، قد كسبت الكثير من الفنون الأخرى، ومنها الشعر، لتحتل مكانه ديوانا للعرب، رغم موقفي المضاد لمحاولة الانتصار لفن على حساب آخر، ولكن هذا ما حدث.

وسبب آخر، في ظهور الطفرة، يتعلق في ما يمكن وصفه تخلي الرواية عن ارستقراطيها، فلم تعد كتابتها حكرًا على أسماء ثقيلة كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم مثلاً، فهي تتسع لسرد خادمة في دولة خليجية لظروف عملها الصعبة، أو لمقاوم فلسطيني، ليقص تجربته مع المحتلين، وغيرها من تجارب، إذا صادفت محررًا جيدًا، أو دار نشر صاحبة رؤية، يمكن أن تحتل قوائم البست سيلر، وهذا يدخلنا إلى عالم النشر الحديث واقتصادياته، حيث أصبح الكتاب أكثر من أي وقت مضى، نتاج صناعة ثقيلة ومهمة.

*

-الجوائز مهمة، لدينا أو لدى الآخرين، وأهميتها على الأقل تتلخص في أمرين؛ ترويج الرواية التي تستحق ذلك، وتقديم مواهب جديدة، ربما ما كان لها أن تصل إلى جمهور عريض لولا هذه الجوائز.

ولكن أيضًا، اعتقد أنه يجب إعادة النظر في سياسات الجوائز، وإخضاعها لتقييم علمي، لمعرفة إذا ما كانت حققت الأمرين، وغيرهما، التي أشرت لهما.

في لقاء مع ناشرين في معارض نشر أخيرة، شكوا من قلة الإقبال على روايات فازت بجوائز عربية مرموقة، ما هو السبب؟ ولماذا؟ مع أننا نعيش زمن الرواية.

أنا شخصيًا لم ترق لي روايات فازت بجوائز، كذلك روايات لكتّاب يحتلون قوائم البست سيلر العربية، وهم بهذا فازوا بجوائز الجمهور، ولكن هذا لا يمنع من الاحتفاء بوجود كل هذا العدد من القراء، حتى لو كانوا لمصلحة كتاب احتار في سر نجاحهم.

 ***

-علينا الإقرار، بان القراءة، في أحد أشكالها، عبارة عن ذوق، وهذا من المحاسن التي تساعد على ترسيخ النشر كصناعة، وأتساءل أحيانا كثيرة لماذا يقرأ الناس؟ أعتقد أنهم يقرأون لأسبابٍ قد لا تكون في حسبان بعض الروائيين (الجادين) مثل أن بعضهم يقرأ للمساعدة على النوم، أو تنشيط الدماغ كما في حالة الروايات البوليسية، والتسلية، والمساعدة في قطع مسافات السفر الطويلة، وغيرها، وعلى الأرجح إذا كان ما توصلتَ إليه من فرضية صحيحا، فان القراء يجدون أسباب القراءة المختلفة في الروايات المترجمة، حتى وإن كان بعضها سيئا، وبعضها الآخر بأقلام مترجمين جيدين أصبحوا نجوما.

مستقبل متخيل للرواية.. الكتابة “الآمنة” تنتصر/ وجدي الكومي

يقول توماس مان في إحدى رواياته، أو في إحدى مقاﻻته، إن الرجل الذي يعيش في عزلة يتمتع بقدرة أكبر من الرجل اﻻجتماعي على نشر اﻻبتكارات، والتوافه.

السطور السابقة ينقلها إرنستو ساباتو عن توماس مان، في كتاب اﻷول المعنون الكاتب وأشباحه الصادر في مصر عن المركز القومي للترجمة، هذه العبارات التي ينقلها ساباتو عن مان، هي بالضبط التي تخبرنا عن أي مستقبل ينتظر الرواية.. الرواية العربية وكُتابها.

منذ سنوات اكتشفت أنني عاجز عن الكتابة وسط محيطي، ووسط أسرتي، وبعد مواعيد عملي، كما اكتشفت إني أخاف مجتمعي أيضا، وجاء نظام منح اﻹقامة اﻷدبية اﻷوروبية ليمكنني من اﻻنفراد بعالمي الروائي، ومواجهة نفسي، ومواجهة ما أكتبه، وأعيد النظر فيه، وفي منتجي اﻷدبي، ساعدني اﻻبتعاد عن محيطي المعتاد، أن أقترب من نفسي، ومن رغبتي في كتابة ما أخشاه، وأن أضع على الورق ربع ما يعتمل داخلي من هواجس ومخاوف وأفكار. حررني البعد عن المجتمع من قيوده، وجعلني أحلق وأحاول وضع أفكاري وسط مجتمع حر، ومختلف، دون خوف، فوضعت ما رغبت في وضعه.

لكن ما وضعته على الورق، وهو ربع ما كنت أتمنى كتابته، لم يلق ترحيبا من بعض الناشرين، ولكي لا تكون هذه السطور أشبه بالشكوى، أو الرثاء على الحال، أخلص منها إلى أنه من المؤكد والواضح أن الرواية العربية تذهب إلى المنطقة اﻵمنة لدى الروائي الاجتماعي، الذي يجس نبض مجتمعه، وقيوده، واشتراطاته، ويكتب وفقا لها، فصارت منطقة الروايات الفانتازية، التي تدور أحداثها في بلدان متخيلة، وفي عوالم غير حقيقية هي المنطقة الأمثل للكتابة، وسيكون هذا على حساب الرواية الواقعية، التي ربما يدير لها الناشرون ظهورهم لتلافي الوقوع في المحظور، وهو التورط في نشر أعمال تنتقد السلطة، أو اﻷنظمة الحاكمة.

والواضح أيضا أن هناك موجة من اﻷعمال الروائية التي ترتد بالزمن إلى الوراء، وأن هناك رواجا لهذه النوعية من اﻷعمال، خاصة بعدما نالت رواية محمد حسن علوان “موت صغير” جائزة البوكر العربية، عن موضوع ابن عربي، وهي منطقة آمنة في الرواية العربية، تتحدث عن اﻹسلام الصوفي الزاهد، وقصص العشق، والحب اﻹلهي، فصارت رواية “موت صغير” قاطرة لعدد من الروايات، انساق مؤلفون إليها، فكتبوا أعماﻻ تتناول الثيمة نفسها، في أعقاب فوز علوان بالبوكر العربية.

وفي الوقت الذي تكافئ فيه جوائز الرواية العربية، أعماﻻ غير جريئة، وﻻ تحض على مناقشة أفكار ثورية، أو محاكمة للأنظمة العربية المتسلطة، أو الديكتاتورية، ينساق بالتبعية الناشرون العرب، إلى نشر روايات مسالمة ﻻ تتطرق لهذه الموضوعات، أو بالكاد، تتناول أفكاراً تدور في فلك غرائبي، أو عوالم خيالية.

وبجانب ما سبق، من تقهقر للموضوعات اﻻجتماعية التي ترصد الواقع اﻻجتماعي المصري، أو الموضوعات التي تنتقد حتى السلطة على استحياء، ويكتبها روائيون منعزلون تماما على طريقة ساباتو، بفضل تحكم الناشرين النافذين في ما ينشر من أعمال – مدفوعين هم أيضا بالخوف من السلطة والمصادرة والمداهمة وكل أشكال البطش- صارت النتيجة جنوح الرواية المصرية إلى طابع الموضوعات التي تتناول اﻹسلام الصوفي، أو سيرة بعض اﻹسلاميين الذين تفصلنا عنهم أزمنة، وهي الروايات التي يكتبها روائيون اجتماعيون، يراعون العلاقات، ويحفظون الود، وينجذبون إلى الأضواء، ويخشون غضب السلطة، وسخطها، فتراجعت الرواية الواقعية، وبات من المنتظر انتهاؤها إلى اﻷبد بحلول بضعة عقود، إذا ما استمرت سيطرة الناشرين على ما ينشر من مطبوعات، ورفضهم اﻷعمال التي تمس المجتمع، أو السلطة، أو رجال الدين.

على نحو آخر تزدهر الرواية السورية، وتقطع خطوات متوثبة أشبه بالقفزات إلى اﻷمام في طريقها إلى نقد التسلط البعثي، ممثلا في بشار اﻷسد، واﻹجرام الذي يشنه ضد شعبه، وبينما يزداد اﻻهتمام في أوروبا بالرواية السورية، والقصة السورية، والروائيين السوريين، وتنشط حركة الترجمة في متابعة أسماء مثل خالد خليفة، وفواز حداد، وغيرهما، يكاد يخبو اﻻهتمام بالرواية المصرية، والمنتج اﻷدبي المصري، حتى بالكاد تظهر بعض اﻷسماء على منصات الجوائز، لكنها ﻻ تصل إلى المربع النهائي.

ويبدو أن الرواية تذهب إلى مستقبل مظلم في ظل ضعف التعليم في مصر، وزيادة إقبال المراهقين على قراءة اﻷعمال السهلة، غير المرهقة فكريا، أو ذهنيا، وربما سيكون كُتاب المستقبل هم قراء اليوم الذين ﻻ يهضمون الروايات المكتوبة كل عامين أو ثلاثة، ويلتهمون بنهم الأعمال التي تصدر كل ستة أشهر لكُتّاب البيست سيلر.

لم تزل خلطة البيست سيلر في مصر قادرة على أن تستحوذ على رضاء الشريحة الكبيرة من القراء الذين يمتلكون القدرة الشرائية، وأصحاب أندية الكتب النافذين، والمتحكمين بمن يستضيفون أو يقصون من الكُتّاب، وكان لكاتب هذه السطور تجربة مع أحد أصحاب أندية الكتب الذي طلب استشارتي في من يستضيفه من كُتاب الجيل الحالي، الذي انتمي إليه، فرشحت عملا روائيا جريئاً، وجميلاً، وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، ويناقش قضية حساسة وشائكة في الواقع المصري، إﻻ أن صاحب نادي الكتاب قرر استبعاده بعدما اطلع على موضوع الرواية، مفضلا عدم الخوض في تفاصيلها وموضوعها الشائك، والذي من المرجح أن يثير حفيظة أعضاء النادي، وخجلهم، واختار روائياً من روائيي البيست سيلر، المشهورين، والمعروفين بوجاهته اﻻجتماعية، ومنصبه وعلاقاته المترامية، وموضوعات رواياته التاريخية، أو الغريبة عن الواقع المصري السفلي، إذ يخاطب في أعماله أو في بعضها، طبقات المجتمع “الهاي كلاس”.

لقد إتضح تماما أن تفضيلات أصحاب أندية الكتب، تميل دائما ﻻختيار قراءة اﻷعمال الروائية اﻵمنة، التي تتناول موضوعات ﻻ تثير حرجاً أو “كسوفا” في القعدة التي تحضرها “هوانم وبهوات”، وعليه ربما صارت تفضيلات بعض لجان القراءة في دور النشر المصرية، تذهب أيضا إلى الموضوعات التي، يمكن أن تُقرأ “بالشوكة والسكينة”، وليست تلك المغموسة في عرق وملح وجهد الروائي وتنقيبه وتقليبه في طبقات مجتمعه، ﻻستخراج قصة جديدة وغير تقليدية، تخالف الخلطة المعروفة الآمنة التي يفضلها الناشرون.

وتبدو فكرة “مكتبة المستقبل” النروجية، التي ابتكرتها كاتي باترسون، (تقوم على حفظ مائة مخطوط لمائة كاتب، ودفنها في غابة نروجية، ثم اﻹفراج عنها بعد مائة سنة، أي في العام 2114)، هي الناجحة والفعالة، لمقاومة خريف متوقع لفن الرواية، إذ يعتمد المشروع على نشر مائة مخطوط روائي لمائة كاتب، لم يتطوع منهم حتى اﻵن، منذ ظهور فكرة المشروع عام 2014، سوى خمسة كُتاب، منهم مارغريت أتوود، والكورية الجنوبية هان كانغ صاحبة رواية “النباتية” الفائزة بجائزة المان بوكر عام 2016.

الروائي لم يعد ينتشل يداً من الغرق/ فرح الدهني

(*) في التقليد القابالي، خلق الله الكلمات أولاً من أجل أن تقوم بالأفعال الأخرى. في العالم العربي تُخلَقُ الكلمات اطراداً، لكن دونما أفعالٍ تُذكر. وإذا كان هنالك، بحسب الروائي الإسباني خافيير مارياس، سبعة أسباب قويّة لعدم كتابة رواية وسبب واحد فقط لكتابتها، ففي لبنان تتعدد دور النشر وتتفاقم حفلات التوقيع حتى أمست أكثر من الهم على القلب…

في الماضي، مَن شاء أن يدخل غابة الأرز، عليه أن يقتل “خمباباً” أولاً. اليوم ما عاد الناقد الأدبي حاميَ الغابة، والروائي لم يعد يكتب لينتشل يداً من الغرق، وإنما باتت كتاباته نفسها “بلون الغرق” (بتعبير سيوران)، تُجاري أهواء دور النشر (خاصّة غير المرخصة) وغاياتها الربحية لا الحسّ الإبداعيّ. وبالتالي، لم يعد الكاتب ذاك اللاعب الذي ينتصب في الشارع، ليقذف بكرات البيسبول على النوافذ المقفلة والصدئة ليلاً، وإنّما أمست البطولة من نصيب الرواية المشبعة بالمشاهد الجنسية المرتكبة (غير الهادفة والمبرّرة) وصور العنف المبتذل، أو تفسير الأحلام والفراسة، والعنوان اللافت..الخ، تماشياً مع أهواء القارئ العربي الهشّ بصورة عامة. أذكر في هذا الصدد رواية بعنوان “خذني بِعاري” التي حققت مبيعاً خيالياً لأنّ العنوان نفسه دفع الناس لشرائها…

ويد القارئ العربيّ ليست بريئة من هذه الذبيحة الأدبية، على عكس ما يظنّ كثيرون، كونه أسقط الروائيين من أبراجهم العاجيّة، حيث ينحتون اللّغة لقرّاء قد لا يفقهون منها إلاّ القليل، إلى بقاع يسهل بلوغها بلا تعاريج لغوية، وهذه ليست بمثلبة طبعاً. فنجيب محفوظ كان يجالس الناس في المقاهي ويرسمهم بكلمات تحاكيهم… إلّا أنّ هذه الظاهرة الإنتقائية التي ترتكز بالدرجة الأولى على عنوان الكتاب، فاللغة المحاكية لمخزون القارئ اللغوي، والفكرة البسيطة والمبسّطة، أزالت الكثير من المعوّقات الأدبية التي كانت لتعترض الروائي لو واجهه قارئ صلف جلّاد، يُحاكم بالسّوط… فكان للقاصي والداني، والثائر والمقلد والطامح للخلود، والطامع بربح مادي، والمتألم، والمبعثر، والمشرّد، والمُغازِل لنفسه أن يخطّ بقلمه نوازع نفسه بحريّة، وغالباً ما يكون نجاح هؤلاء أقصر من عمر حشرة…

هذا فضلاً عن بروز أنواع أدبية كتابية حديثة، تزامناً مع الحركات الثورية والمأسوية في العالم العربي، كأدب البوح، والأدب النسوي المناوئ للممارسات الذكورية، بحيث شكّلا طبقيْن سارع الكثيرون والكثيرات لإعدادهما وفق معاييرهم الفكرية الخاصة والنكهة التي يشتهون تنفيساً عن الرأي، وربما جرياً خلف الجوائز…

الجوائز لا تُسبي الرواية العربية، غير أنه كان بالإمكان أن يُنظَر إليها بمهابة لولا أن فيها شيئًا من سقوط واهتراء. وهي بالتأكيد ساهمت في ذيوع الرواية، إلّا أنّ “الأكثر مبيعاً” أو ذيوعاً ليس معياراً للكاتب الجيد، ربما يكون حامل كأس نبيذ أهمّ من حامل كأس “نوبل” في سرد ما يقرصنا من الداخل.

أما بالنسبة للبطولة الأسطورية، فلكلّ زمن أسطورة ورجال. البطولة الأسطورية في عصرنا اليوم أجدها تقهقرت لصالح البطولة الافتراضية. مارك زوكربرغ هو البطل الاسطوري الافتراضي في القرن الحادي والعشرين مثلاً. في ظل التمزق العربي والأيديولوجيات المتباينة فيه، بات لكل شريحة تصوّرٌ خاص لبطلها الأسطوري، وهي مزايا لم تأتِ عفو الخاطر، بل نتيجة تراكمات ذهنية ألِفتها شريحة وقاعدة شعبية دون أخرى. فكان لكل منها بطل محلي وربما نصف إله، لذا غرق ذاك البطل العربي الأسطوري الذي يشق العباب من المحيط إلى المحيط…

الرواية العربية إلى أين؟!… في ظل اندفاع الفئة الكبرى من القراء إلى مطالعة الرواية الأجنبية أو المترجمة، نجد الرواية العربية في حالة من الإعياء والعجز شكلاً وموضوعاً. وهذا طبيعي، لأن تخلّف الأدب من تخلّف المجتمعات او نتيجة له. والمجتمعات المتخلفة -في الأغلب- لا تنتج أدباً راقياً، لأن الأدب مرآة المجتمعات. القارئ العربي مبعثر بحاجة إلى من يأخذ بيده إلى عوالم إبداعية مثيرة بعيدة من التمزّق والإبتذال والسرقات الأدبية والعنترات والمحرمات والولادة الصناعية للسرد الروائي. بيد أنّ القارئ المنكبّ على مطالعة “الأكثر مبيعاً وذيوعاً” في العالم بحاجة إلى شيء من الوعي الإنتقائي، فليس كل ما يلمع ذهباً!

في الختام، ما نعيشه اليوم يُفسد أكثر مما يأكل مثل الفأر، وقد ضيّع الأمكنة حتى بات رأس المرء هو مكانه الوحيد، هذا الرأس الذي يعيش المخاض أظنّه سيُطلق يوماً الرواية العربية المتوارية إلى النور…

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى