مقالات

محنة الروائي وانشغالات الناقد الأدبي/ لطفية الدليمي

صار بمثابة عُرفٍ طقوسي راسخ لديّ منذ سبعينيات القرن الماضي، وبدفعٍ من موجبات اشتغالي الروائي – والسردي بعامة – أن أتابع بالقدر المستطاع ما يُنشرُ في حقل النقد الروائي، الذي طاله خفوت لا يمكن نكرانه، وقد سبق لي أن تناولتُ هذا الخفوت في مقالة حديثة لي عنوانها «خفوت صوت الناقد الأدبي»، لكن رغم هذا الخفوت ثمة أصواتٌ قليلة لا يمكن للمرء سوى متابعتها والتفكّر في طروحاتها النقدية، وأحسبُ أنّ صوت الناقد العراقي حسن سرحان، واحدٌ من هذه الأصوات التي يمكن التفاعل معها، وتحصيل الفائدة من رؤاها النقدية.

دأب سرحان على نشر مقالاته النقدية في صحيفة «القدس العربي» منذ بضع سنوات خلت، وقد نشر فيها حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه المقالة، اثنتين وعشرين مقالة توزّعت على أطياف متباينة من الاهتمامات السردية، والحقّ أن كل مقالة منها تستحقُّ خوض مشاكسة مفاهيمية وعملية، تبدأ من تأصيل نظرية السرد وطرائقه، ولا أظنها، تنتهي بمقاربة الحيثيات الصغيرة في الصنعة الروائية، وقد كنتُ في كلّ قراءاتي لمقالات سرحان عاكفة عن خوض مثل هذه المشاكسات النقدية، ومكتفية بالاستمتاع بما أقرأ، لكن ما قرأته في المقالتين الأخيرتين بشأن «السرد المستحيل» و«السرد المشكوك فيه»، حفّز فيّ مجسّاتي الروائية، ودفعني دفعاً لا سبيل لكبحه لكتابة هذه المقالة.

أظنّ أنّ من المناسب للقارئ الشغوف بأفانين السرد، أن يعود لقراءة مقالتَي حسن سرحان قبل مواصلة قراءة هذه المقالة، ومفادُ المقالتين، أنّ «السرد المشكوك فيه والسرد المبهم – إضافة إلى السرد المستحيل – يعدُّ من المشكلات المتأخرة من ناحية اهتمام البحث السردي بها، إذ لم يبدأ الحديث عنها إلا قبل فترة قريبة جداً، بعد أن شكّلت هذه الظواهر حرجاً وتحدياً لم يعد بالإمكان أن يتجاهلهما الباحثون والدارسون»، وفي الوقت الذي يؤكّد فيه سرحان أنّ لعبة التخييل الروائي خليقة وقادرة على منح الروائي مساحة من المناورة والمراوغة، في نطاق الوقائع الفيزيائية المشخّصة وملاعبتها في إطار لعبة التخييل الروائي، التي تعدُّ الانعطافة الثورية الكبرى، التي ابتدعها العقل الروائي، لكنه يردف قائلاً «بالنسبة للمبدعين، لا غضاضة في أن يتكلم الموتى ولا جُناحَ في أن يسرد الحكاياتِ فاقدو أو ضعيفو الذاكرة والمصابون بالهلوسة والانفصام وغيرها من الأمراض العقلية. المشكلةُ تخص علم السرد أكثر من غيره فهو الملزَمُ بدراسة هذه المظاهر الجمالية «الغريبة» لكي يبتني لها الفضاء التنظيري المناسب. ما درج عليه بحثُنا النقدي العربي هو عدم التوقف أمام هذه «الخروقات» باعتبارها جزءاً من لعبة التخييل، التي لا تسبب ضرراً لأحد. هذا الموقف، برأيي، سلبي، ويجب عدم القبول به والرضوخ إليه، وما محاولاتي اليسيرة سوى جهدٍ أوّلي في سبيل «عقلنة» هذا السرد الروائي».

الأصل في أي فعالية سردية هو تخليق حكاية واقعية أو ميتافيزيقية، يبتغي الكاتب تمريرها للقارئ. الحكاية لوحدها لا تصلح لتشكيل جسم روائي وإلا صارت حدّوتة عادية، شبيهة بتلك المرويات الشفاهية التي تتناقلها الجماعات البدائية، هنا لابدّ من تعزيز الحكاية بجسم معرفي يمثل خبرة الكاتب ورؤاه في ثيمات محدّدة، تتناول الأسئلة الوجودية الكبرى في الحياة (معنى الحياة والوجود البشري، الأخلاقيات، الحب، الموت، المشاركة الوجدانية مع الآخرين)، وما من ضرورة موجبة لكي تظهر هذه الأسئلة بصورة عناوين فاضحة وكأننا أمام أطروحات فلسفية منكشفة، بل يحصل في الغالب أن تتقنّع هذه الأسئلة في حيثيات صغيرة تمثّل بعض قدرة الكاتب المحترف والمتمرّس في خبرته السردية.

عندما يجلس الكاتب ليكتب عملاً جديداً وهو يحدّق في تلك الصفحة البيضاء أمامه (كم هي مرعبة لحظة الشروع تلك) فإنه لا يستحضرُ مفردات علم السرد ونظرياته التي قرأ عنها، بل يتراءى له سؤالان جوهريان: ما الذي أريد قوله للقارئ؟ وأي الوسائل ينبغي عليّ اعتمادها في تمرير هذا الذي أريد لقارئي أن يقرأه؟ وما العمل الختامي لأي كاتب سوى حصيلة جهده المستديم للإجابة عن هذين السؤالين. تقصّدتُ حتى الآن الكتابة عن الروائي وهو منصرف للكتابة في مشغله الروائي، والكاتب وحده هو من يعرفُ مكابدات الصنعة الروائية، لأنه يحترق داخل أتونها الذي يشبه مفاعلاً ذرياً مسيطراً عليه.

أتناول الآن مقالة حسن سرحان بملاحظات مشخّصة، وأبدأ من مفردة (العقلنة): هل نحنُ في حاجة لعقلنة السرد الروائي، مهما غالى وتغوّل في رؤاه الفانتازية؟ لا تجتمع العقلنة والرواية على سطح واحد، بل ينبغي لنا أن لا نعقلن الفعل السردي لأسباب تختصُّ بالحفاظ على حيوية السايكولوجية الجمعية، ومنعها من الانزلاق نحو مهاوي الخمود المهلك. كانت الأسطورة – وكل ما يمت لها بصلة، إضافة للحكايات الشفاهية – ضرورة حاسمة للحفاظ على التوازن الرقيق الهش بين روح الإنسان البدائي وبنيته الذهنية والسايكولوجية، الأمر الذي وفّر لهذا الإنسان الوسيلة والقدرة لتجاوز محدوديات وجوده الفيزيائي، والتفكير بآفاق أبعد من مجرد البحث عن متطلبات أمنه الجسدي، وحاجاته البيولوجية البدائية، وأمسى وجود الأسطورة والملاحم لدى كثير من الشعوب الحية، وسيلة فعالة للترابط الروحي بين أبناء الشعب الواحد، وصار محفزاً فعالاً للنظر في موروث إنساني مشترك، تتأسس عليه فكرة المواطنة والانتماء المحلي والإنساني. غدت الرواية اليوم الوريث الشرعي للأسطورة، لقدرتها على توفير المحفزات اللازمة لإدامة شعلة التخييل البشري، ودفعها نحو آفاق لم تكتشف بعد، ومساعدتنا على تجاوز عوامل الكبح واليأس والإحباط التي يحفل بها عالمنا.

أتساءل في جانب آخر: هل أنّ الموتى وفاقدي أو ضعيفي الذاكرة والمصابين بالهلوسة والانفصام وغيرها من الأمراض العقلية، هم وحدهم الذين تجري على ألسنتهم وقائع تنطوي على مستحيلات سردية أو مبهمات سردية أو وقائع سردية مشكوك بها؟ وهل أنّ القارئ يهتمُّ بمعقولية السرد ومطابقته للمُمكنات الواقعية في المقام الأول، قبل النظر في الخبرة التي يريد الكاتب تمريرها له؟ يسعى معظم الكُتّاب المعاصرين المرموقين إلى ابتداع ما يمكن تسميته (عوالم متوازية) يخلقون فيها حيوات كاملة ليس لنا عهد بها، وينطوي هذا الفعل على قيمة تنبؤية بالمستقبل، فضلاً عن استشراف مآلات الوجود البشري. يتّخذ البحث الاستقصائيّ الروائي هذا شكل محاولة الإجابة عن سؤال افتراضي يبدأ بعبارة (ماذا لو؟): ماذا لو أنّ الروبوتات كسرت قواعد ( أسيموف ) الثلاثة وعُقِد لها لواء الهيمنة على الوضع البشري؟ ماذا لو أنّ الفقر البصريّ الطبيعيّ الملازم لتعاظم السلطة الافتراضية للتقنية الرقمية، بلغ حدوداً تاخمت حالة الاكتئاب الرقميّ الجمعيّ؟ ماذا لو ألغِيت سلطة المرجعيات الحاكمة كافة (أب، أم، منزل، حكومة، مجتمع، كيانات مؤسساتية) وبات الفرد يحتكم لمرجعيته الذاتية المطلقة؟ إنّ كلّ من يقرأ الروايات المعاصرة التي كٌتِبت في العشر سنوات الأخيرة سيشهد مصداقاً حاسماً لهذه الحقيقة ( إيان ماكيوان مثالاً)، وأظنّ أنّ الكثير من هذه الروايات لن تجتذب القرّاء الذين اعتادوا الارتخاء بين أحضان روايات الواقعية التصويرية، وسيتطلّب الأمر منهم جهوداً غير مسبوقة ونوعاً من إعادة تأهيل ذائقتهم وخبراتهم، لكي تتناغم مع الروايات المعاصرة.

أرى من جانبي، أنّ العقل السردي هو عقل ميتافيزيقي بالضرورة، والخصيصة الميتافيزيقية هنا هي إشارة رمزية وإجرائية، إلى أنّ هذا العقل لا يقبل بالمحدوديات الذهنية والفيزيائية المعروضة أمامه، ويسعى دوماً لتجاوزها بطريقة خلاقة، ويرى دوماً أن الثراء الميتافيزيقي غير المنظور لهو أهمّ بكثير من الحقائق (الصلبة) على الأرض، ويوظّف في سعيه هذا عدداً من الوسائل يأتي في مقدمتها: تعزيز رصيد الرؤية الميتافيزيقية لديه، واعتبارها أثمن وأعلى مقاماً من الحقائق والنظريات الراسخة (بما فيها العلمية أيضاً)، والنظر إلى الحياة البشرية على أنها شبه حلم يقظة لذيذ يعمل على شحن طاقات الإنسان الخلاقة، ويدفعها باتجاه تحقيق مفردات الرؤية الميتافيزيقية، أو بعضها في الأقلّ. ثمة في موضع ما من مقالة سرحان بشأن (السرد المشكوك به) تمييز بين السارد الموثوق به والسارد غير الموثوق به، ثم يردف الدكتور سرحان هذا التمييز بمعايير إجرائية، يبدو الأمر معها وكأننا في أزمة ثقة أزلية بين السارد والقارئ، وأنّ إحدى المهمّات الاستراتيجية للسارد هو أن يحوز رضى القارئ وقناعته بالتأصيل الواقعي للوقائع السردية. لستُ أعتقدُ أنّ أياً من الروائيين المعاصرين وضع مسألة (الثقة) هذه في اعتباره، أو حتى فكّر بها، باعتبارها هاجساً مؤرقاً له، كما لا أرى أنّ الأدبيات الخاصة بالنظرية السردية تفردُ مساحة محدّدة تتناول فيها الكيفية العملية التي يمكن بها للسارد حيازة ثقة القارئ، إذ لا معنى إجرائياً لمفردة الثقة هذه. ثمة فكرة (هي خبرة في نهاية المطاف) يسعى الكاتب لتمريرها للقارئ، عبر وسائط سردية محدّدة، والقارئ يتلقّى هذه الخبرة التي ستكون فاعلة فيه، تبعاً لخبراته الوجودية وترسيمته السايكولوجية، التي لا تتقاطع مع خبرة السارد، وبعكس هذا سيحصل التقاطع بالضرورة.

أودّ في الملاحظة الختامية أن أشير إلى أنّ الأنماط السردية، التي أشار لها سرحان في مقالتيه لم تشكّل مادة تتناولها الأدبيات الخاصة بالسرد، ولم يجرِ التعامل معها باعتبارها مثلبة سردية، أو مزية محمودة، تُضافُ للثراء السردي، ويمكن للقارئ الشغوف، وفي واحد من الخيارات الممكنة، مراجعة الكتاب المرجعي المعنون: مقدّمة كامبردج في السرد

Cambridge Introduction to Narrative

الصادر عام 2008، وفيه سيدرك أن نظرية السرد تتعامل مع مفردات ذات طبيعة تقنية خالصة.

العقل الروائي إذ يحدّق في الورقة البيضاء أمامه يعمل بكيفية متمايزة عن العقل الأكاديمي، تلك حقيقة أراها شاخصة أمامي، ولستُ أرى فيها عيباً أو منقصة لكلّ من الروائي والناقد، ولا أظنها ستفسدُ ودّاً مستديماً وراسخاً أحمله لحسن سرحان الذي يجاهد لتكون له مكانة مستحقة في حقل النقد الأدبي.

٭ روائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن

القدس العربي


رداً على الكاتبة لطفية الدليمي: محنةُ الناقد وانشغالاتُ الروائي/ حسن سرحان
نشرت الروائية والمترجمة العراقية لطفية الدليمي، مقالاً في «القدس العربي» ناقشت فيه، باحترام عال والتزام لائق بأدب الحوار، طروحاتي النقدية، التي عبرتُ عنها ضمن دراستين ظهرتا مؤخراً في هذه الجريدة، تخصان السرد المستحيل والسرد المشكوك فيه.
مقالتي هذه ردٌ أناقش فيه أديبتنا على ما تفضلت به من آراء، سواء تلك التي تخص توجهاتي البحثية، أو تلك التي تتعلق بمفاهيمها، حول الرواية وكتابتها والعلاقة الحساسة بين النقد والإبداع. كلُّ رأي صدر عنها أحترمه وأقدره، وإن اختلفت مع متبنياتها النظرية، ومرتكزاتها المفاهيمية. يكفيني منها فضلاً إنها قالت وجهة نظرها بطريقة واضحة ونزيهة وشريفة، بلا حقد ولا لؤم ولا جُبن.
أبدأ ملاحظاتي من حيثُ بدأت الكاتبة، أي من إشارتها إلى «خفوت النقد». أصادق على هذه الإشارة وأقرها وأتبناها، وقد لمّحتُ إلى مثلها في أكثر من مناسبة. لا أستغرب أن يكون هذا حال النقد عندنا ما دام بحثنا النقدي خاملاً، كسولاً، استهلاكياً، اتكالياً، عاجزاً ومشلولاً، بلا طموح كبير، وقد استطاب العيشَ على الهامش، وارتضى التبعية والحياة على الجاهز والمتوفر.
ليس بالإمكان أن نرتجي من البحث النقدي غير أن يكون على ما هو عليه اليوم، حين تغيب عنه الرغبةُ في المبادرة، ويختفي منه التحلي بالعزيمة ويفتقد إلى إدامة الزخم المعرفي، ويتضاءل عند ممارسيه الإحساسُ بالحاجة الفعلية والحقيقية إلى التفكير المستقل، ذي الهوية الواضحة وتموت الإرادةُ في نفوس غالبيتهم لصياغة وتطوير مناهج بحثية لها خصوصية ذاتية، تسترشد بالعلم وتستنير بالنظريات، وتغتني بالمعرفة وتستقوي بالضبط المنهجي. كان المأمول في بداية مرحلة ما بعد الكولونيالية أن ينشغل باحثونا بصياغة مشروع نظرية نقدية، ذات طابع علمي مضاد، وصبغة ثقافية بنكهة خاصة، لكن العجيب أن تلك الفترة جاءت كي تكرس، خلاف كل التوقعات، تبعيتنا الفكرية للآخر، بل زادتها عمقاً. اللافت للنظر أن التبعية كانت هذه المرة، وبحدود تعلق الأمر بالدرس النقدي، اختياريةً، إذ لم يفرضها علينا أحدٌ، بل ذهبنا إلى سجنها طوعاً وكأنها قدرٌ لا مفرَّ منه إلاّ إليه.
آن لنا أن نقرَّ أن نقدنا يتخبط في أزمات لا يريد الخروج منها، وأن نعترف بأن الإفراط في التأليف بلا صرامة علمية، ومن غير تروٍ، لن يعود علينا بالنفع الكبير، وأن ندرك أن الإكثار من الإصدارات بلا انضباط أكاديمي ولا دقة مفهومية، مفسدةٌ يجب أن لا تُغتفر، لم ينتج عنها غيرُ شيوعِ البلبلة وسيادة الاضطراب، واختلاط حابل النقد بنابله. لا مجال لإنكار أن أسماء كبيرة برزت في نقدنا العربي تستحق الاحترام وتستوجب التقدير، لكنها كانت على الدوام مجرد التماعاتٍ فردية تُلام كثيراً على إخفاقها في تأسيس تيارات، وإنشاء مذاهب تفرعت إلى مِلَلٍ ونحل. يعاب على عمل هذه الأسماء الرنانة أنه كان، في الغالب، خالياً من كل تلاقٍ مثمر مع تجارب بعضها، وافتقرَ إلى برنامج موحد يعزز المشتركات ويشجع تلاقح الأفكار وتبادلها وديمومتها وتنميتها. لا أستند، بكلامي هذا، لهويات النقاد، وإنما إلى مشاريعهم التي عرفها تاريخُ النقد الأدبي في بلداننا العربية.
لعلي أحسن صنعاً لو رجعت إلى مقالة الكاتبة الدليمي إذ لا جدوى من الإطالة، فلا الناس يسمعون ولا أنا خيرُ منْ يخبر القوم ماذا يتعين عليهم فعله. أظن أن أستاذتي الروائية، انطلقت من سوء فهم كبير لمجمل مقاصدي الكتابية في المقالين اللذين حظيا باهتمامها أكثر من غيرهما. أنأى بالسيدة الدليمي عن كل مسؤولية في سوء الفهم هذا الذي أنا سببه ومصدره، وأتحمل كافة تبعاته، وما يترتب عليه إذ قد لا أكون وفقت في توضيح غاياتي. حسب نظريات الإرسال والتلقي، فإن أيَّ فشلٍ في استقبال مضمون الرسالة يتحمله، أولاً، الباثُّ لها، الذي يقع على عاتقه تمكين مستلِم الرسالة من فك رموزها واستحضار معانيها. أجل! قد يكون على المستقبل للاتصال اللغوي شيء من المشاركة في إخفاق عملية التواصل في حالات معينة تتعلق بقصور في أصلِ أهليته لتلقي هذا اللون من الرسائل، أو إذا تعمَّدَ حرفَ الرسالةِ عن مقاصدها، بعد أن يكون قد فهمها، لكنه، لغايةٍ في نفسه، يدّعي عدمَ الاستيعاب، ويتظاهر بالتباس المعنى عليه. أربأ بالكاتبة الموقرة عن كل هذا وغيره، وأعيد التأكيدَ على مسؤوليتي في ما ظهر من مشكلات في الفهم، سأخصص السطور الآتية لمحاولة إزالتها وتبديدها.
يبدأ خللُ التلقي من عبارة ذكرتُها في أول المقال، ووضعت كلمةَ «عقلنة» الواردة فيها بين تنصيصين، رغبةً مني بتمييزها وجر الانتباه نحوها كعلامة مفتاحية ورئيسة تكاد تلخص مجملَ ما كنت أريد الوصول إليه. قاد الفهمُ غير الدقيق لتلك العبارة إلى ما جاء بعدها من ملاحظات احتوت عليها مقالةُ الدليمي. تصورتْ أديبتنا – وربما ذهب معها كثيرون من القراء- أنني أدعو إلى أن يحتكم الروائيُّ إلى العقل في سرده للحكايات. بصراحة شديدة، لو لَمْ أكن مؤلفَ المقال، وأعرف ما قبل العبارة المقصودة وما بعدها، لربما رأيتُ ما رأتْ السيدةُ الفاضلة، ومنْ قد يكون تبنى رأيها من المتابعين الكرام، يتوجب عليَّ، والحال هذه، أن أشعر بالفرح والخوف معاً، لأن لديّ قراءً لا يغفلون، يستوقفهم الغموضُ ويستفزهم الإبهامُ، ولا يروق لهم تشوشُ المقصد. مع ما عليَّ من ذنبٍ أقدمه بين يديها، أرجو أن تسمح لي أستاذتي الروائية بعتبٍ صغير، داعيه أنها اقتطعتْ الجملةَ موضع النقاش من سياقها، فبدتْ وكأنها تخص الروائيين، في الوقت الذي هي موجهة إلى المشتغلين بعلم السرد، بلحاظ مدلول القول الذي سبقها والسياق، في عُرف اللغويين وأهل الاستنباط، حجةٌ لما فيه من تقييدٍ للمعنى وتخصيص. غير أن هذا لا يمنع من إعادة تناول الأمر بشكل أوضح فلا أنزهُ نفسي عن اللبس، وصعوبة الطرح أحياناً. عندما قلت إنني أهدف إلى «عقلنة» السرد المستحيل، كذلك الذي يصدر عن الموتى مثلاً، لم أعنِ أن على الروائي المراعاة التامة لأحكام العقل والمنطق عندما يريد أن يكتب روايةً، بل قصدت المشتغلَ في حقل النظرية السردية، الذي يجب عليه، بحكم تخصصه، أن يجد تبريراً معقولاً لهذا السرد «الغريب»، وأن يحاول إحاطته بسياج نظري يتيح له الوجود والنمو داخلَ تصنيفٍ علمي ممكن. يشبه هذا ما قام به تودوروف، مثلاً، عندما اقترح تسمية الغرائبي والعجائبي للنصوص التي تتوفر فيها الشروط المحدَّدة من قبَلِه، بدون أن يمنع الروائيين من الكتابة العجائبية والغرائبية. لا أريد من المقايَسة وضع نفسي في منزلة أنا دونها أكيداً، بل أن أوجه الانتباه إلى أن محاولات غيري التصنيفية، ومحاولاتي اليسيرة، تدخل ضمن مهام الباحث في شؤون السرد التي يجب أن لا تثير حفيظةَ أحد ما دامت مشروعةَ الغايات مبررةَ النوايا وغيرَ منطويةٍ على قهر.
تعلُّقاً بهذا أقول إنه ينبغي الكفُّ عن النظر إلى النص الأدبي الإبداعي على أنه «ابنُ المعجزة» في الوقت الذي هو نشاط دماغي ذو أثر مادي، ينشأ عن العقل ويمكن أن ينتظم، مثَلُه مثَلُ أي ظاهرة للفكر البشري، داخل حيزٍ من أنظمة نوعية، تكوَّن بمجموعها منظومةً يقودها العلمُ السردي، وتسيّرها مناهجُه. ليس من غايات علم السرد ـ وأنا هنا أعلق على فكرة وردت في مقال الكاتبة لطفية – منافسة الإبداع أو مخاصمته والتنازع معه، ولا حتى أن يقدم نفسه بديلاً عن النقد. النقدُ، كما قلتُ مرةً، عملٌ وفق نظرية، أو هكذا الفرضُ، والدرسُ السردي، الذي هو تجسيدٌ رئيس من تجسيدات علم الأدب، تمثيلٌ لمنهج تنضوي تحته نظريات، لذا فعلمُ السرد أوسعُ بكثير من النقد وأشملُ، كممارسة فكرية، من الإبداع. وفق هذا المعنى، ليس من الحق اعتبار جونيت أو تودوروف وقبلهم بروب وغريماس وياكوبسون، مجردَ نقادٍ بل منظرين أدبيين شاغلهم الأساس اجتراحُ القوانين العامة التي تصير بمقتضاها النصوص. أعرف أن كلاماً كهذا لا يروق للمبدعين، وقد يجرح كبرياءهم أو يثير حساسيةَ بعضِهم، لكنه واقع الحال ومنطق التاريخ، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
لا أظن الكاتبة لطفية الدليمي من الكافرين بالعلم، ولا المتعالين عليه وهي القارئة الكبيرة والمترجمة القديرة، لكنَّ جملةً كهذه: «عندما يجلس الكاتب ليكتب عملاً جديداً فإنه لا يستحضرُ مفردات علم السرد ونظرياته، التي قرأ عنها» لا تمر بدون أن تترك انطباعاً، ولو آنيّاً، بتوهين دور العلم والطعن في سبب وجوده، وإضعاف منزلته وعدم توقيره ولا أقول إنها تحوي استخفافاً به صوناً لمشاعر الكاتبة الجليلة. على إنني أميل إلى خلاف هذا الرأي تماماً، إذ أجد أن على مؤلف الرواية وما سواها، أن يتذكر، لحظةَ الكتابة وقبلها وبعدها، قوانينَ علم السرد ونظرياته، ولو على نحو الإجمال وبأضيق الحدود الملامِسة لعمله الإبداعي. لعلَّ إهمال النظريات السردية والتكبر عليها، وهذا الكلام لا علاقة له بأستاذتنا القديرة، وإحجام مجموع المبدعين العرب عن بذل الجهد الكافي في فهمها ومناقشتها علةٌ رئيسة تفسر هزال الرواية العربية على المستوى التقني، وضعف المهارات السردية للكثير من كتّابها الذين يقعون في أخطاء فنية بعضها بدائي، لكنه يعكس قلة اطلاعهم ونقص عدتهم النظرية. يوثِّق هذا الاستخفافَ الأكيد بأهمية النظريات عزوفُ الروائيين العرب، إلاّ النزر اليسير، عن التفكّر في الكتابة الأدبية ومحاولة التأليف فيها وفي تفاصيلها عكس نظرائهم من الروائيين العالميين أمثال بلزاك، زولا، بروست، مورياك، سارتر، روب – غرييه، بوتور، ريكاردو، سوليرس، باموق، يوسا، ماركيز، كونديرا، ساروت، أيكو، وكثير غيرهم ممن قدّموا أفكاراً عميقة تخص صنعة الرواية انطلاقاً من تجاربهم كروائيين وتأسيسا على فهمهم لطبيعة الممارسة السردية.
لو كنت سيئ النية، لوجدت في العبارة الآتية لأستاذتنا تلميحاً آخر يوحي بالترفع على النظرية السردية: «الكاتب وحده هو من يعرفُ مكابدات الصنعة الروائية، لأنه يحترق داخل أتونها، الذي يشبه مفاعلاً ذرياً مسيطراً عليه». فضلاً عن الإيحاء بالتعالي على علم السرد، وهو أمرٌ (أعني الإيحاء) أعزوه إلى فهمي وأجلُّ الكاتبة عن مثله، فإن هذا التعبير الصوفي/الرومانسي الجميل أصبح اليوم أسطورة وفكرة لا واقعية من مخلفات تأثيرات الثقافة المشرقية والعربية القديمة، وبعض تركة السيريالية الفرنسية، التي ترى الكتابة ممارسةً سريةَ الطقوس مجهولةَ المصدر أو ذات طابع سحري ومنبع ما وراء طبيعي. الجملةُ نفسها تعطي إشارة غير مباشرة بأن الكتابةَ، بالنسبة لروائيينا العرب، معركةٌ طاحنة وساحةُ منازلةٍ حامية الوطيس يحرمُ أثناءها الاستسلامُ للاسترخاء ويعزُّ طلبُ الهدوء. لا أفهم لماذا يجب على منْ يؤلف رواية أن «يحترق داخل أتونها الذي يشبه مفاعلاً ذرياً».
لماذا تتحول الكتابة من عملٍ يشبه أي عمل آخر، ومن مغامرة ممتعة، ورحلة استكشاف مشوقة، وفعلِ حبٍ، إلى أزمة نفسية ذات بعد مازوشي؟ ألا تقف مثلُ هذه الأفكار وراء ما نحسه من انعدام أو ندرة استمتاع الروائي العربي بما يكتب؟ أليس غياب الاستمتاع هذا سبباً آخر من أسباب تردي واقع الرواية العربية، التي يأبى كاتبُها إلاّ أن يمنع عن نفسه الشعورَ بنشوة الكتابة، وبالتالي يحرم متلقيه من لذة تذوق جمالها وتلمس عذوبتها؟ ألم يكن من نتائج هذا الشد العصبي والتوتر النفسي البيِّن الذي يحب كاتبُنا العيشَ داخله أن أصبحت نصوصُنا الروائية، على العموم، كالحة، منفِّرة، مليئة بكلِّ العنف اللفظي والجسدي الذي تمارسه شخصياتٌ روائية قاسية لا تجيد أو لا تريد التمتعَ بالحياة ومباهج العالم المباحة في أقل تقدير؟ أين اختفت متعةُ الإحساس بالجمال في روايتنا العربية الراهنة؟ بمَ يُبرَّرُ عجزُها عن جعل المتلقي يتلمس حسنَ الإبداع وبهاءه؟
من الطبيعي أن يؤدي هذا التصور النرجسي لعملية الكتابة، إلى لزومِ أن يكون «العقل السردي ميتافيزيقياً بالضرورة»، حسب تعبير الدليمي. لتسمح لي الكاتبة بمخالفة هذا الرأي، الذي أجد في التشبث به سبباً يجرُّ الرواية العربية إلى الوراء ويعرقل سيرها البطيء أصلاً باتجاه مجاوزة التراث الميتافيزيقي، وأبنيته المعرفية التقليدية. العقلُ الميتافيزيقي، وهذا ما أدركتْهُ بعضُ التجارب الروائية العربية المتأخرة، افتقر دائما إلى الجرأة في تناول المسكوت عنه وعجَزَ عن تفكيك المركزيات الفكرية وفشَلَ في مناقشة السرديات الكبرى، وساهم إلى حد بعيد في تكريس سلطة المرويات التراثية، التي هي ذات طبيعة ماورائية. إذا كانت الرواية الغربية قد تقدمت خطوات سريعة إلى الأمام، فذلك بعد أن تبنّت التفكيرَ الحر واشتغلت بوعي على التحرر من هيمنة الخطاب الميتافيزيقي، وراحت تتأمل العالمَ من خارج أسوار سلطة المقدس.
آخر ما أعلق عليه مما ورد في مقالة الدليمي، هو كلامُها عن تصوري لعلاقة الثقة بين السارد والقارئ. بعيداً عن واقعية ولاواقعية الحدث المنقول، فإن الإقرار بوجوب وجود هذه الثقة بين قطبي التواصل يعدّ من مسلمات نظريات القراءة والتلقي، وشرطاً قبْلياً من شروط عقد القراءة المضمر. بدون هذه الثقة الممنوحة من طرفٍ لطرف لن يكون للعقد وجود وسيتعذر على السارد إنجاز أحد أهم واجباته الإستراتيجية وهو التأثير في متلقي الخطاب. من نافلة القول إن النص الجمالي مكتوبٌ بقصد إيقاع الأثر الذي، إن فُقد، لن يعود لعملية القراءة داع أساساً وستصبح فعلاً مجانياً ما دام بلا غاية تسوغ القيام به. الثقةُ – من أجل أن أستعير فكرةً لريكور- معركةٌ بين مصدَرِ الملفوظ ومستَلِمه عن طريقها، وعن طريقها فقط، يتحقق الهدفُ من القراءة في أن تكون تجربةً تُوقِعُ أثراً. السارد الذي يحوز ثقةَ متلقي ارسالاته يربح المعركة، وينجز ما عليه من تكليف في تحقق الأثر أما السارد الذي يفشل في كسب ثقة مستمعه فإنه يعرِّض مصير العملية القرائية برمتها للنسف والإلغاء. ليس المدارَ في تحصيل الثقة سردُ ما يُصدَّق، بل المدار روايةُ ما يمكن إقناع القارئ به والتفاعل معه والقبول باحتمالية حدوثه داخل العالم السردي وإنْ تجاوز المرويُّ حدَّ الواقع وفي هذا الكلام تطويرٌ لفكرتي السابقة بهذا الخصوص. يبقى السؤال عن لحظة ولادة أزمة الثقة تلك. يتشكل فقدانُ الثقة إما منذ الشروع بالقراءة عندما يمرر السارد، عامداً أو غير عامد، معلومة إلى القارئ تضع موضع الاستنكار أهليتَه لسرد الحكاية كأن يخبرنا، ابتداءً، بأنه مجنون مثلاً، أو فاقد للذاكرة ونحو ذلك. يحدث أن يتخلّقَ زوالُ الثقة رويداً رويداً عندما يبدأ الشكُّ بالتسرب إلى القارئ لما يراه من نقص في قابليات السارد الذهنية على سرد الحكاية كأن يكتشف، مع تقدمه في القراءة، ان محدِّثَه ضعيفُ الذاكرة أو مضطربُ العقل وما شابه. عندئذ تبدأ ثقةُ القارئ بالسارد بالاهتزاز والتزعزع وقد تتلاشى.

٭ كاتب وناقد عراقي
القدس العربي


——————————

السردُ المستحيل: عندما تروي الجثةُ حكايةَ موتها/ حسن سرحان

تشهد الروايةُ المعاصرة مجموعةً من الظواهر السردية المستفزة والمحيِّرة، التي تستدعي التوقف والتأمل وتبعث على التساؤل. في روايته «اسمي أحمر»، يسند أورهان باموق مهمةَ السرد، مرةً، إلى سارد ميت، وأخرى إلى حصان، وثالثة إلى كلب له صورةٌ معلقةٌ على جدار. لا يكتفي بهذا فهو يجعل قطعةَ نقودٍ تتكلم وشجرةً تنطق. يذهب أبعد من ذلك في أحد الفصول عندما يترك اللونَ الأحمر، الذي أخذت منه الروايةُ اسمها، يروي مقاطع كاملة من القصة. إذا كان مفهوماً، بشكل من الأشكال، تركُ الحيوان والجماد يسرد الحكاية من باب كون هذا الأمر مألوفاً نوعاً ما، ويمكن تصنيفه ضمن محاولات مقاومة طغيان أنسنة السرد، وفسحِ المجال لغير الإنسان أن يلعب دور السارد، فإن إسناد السرد إلى شخصية ميتة، يجب أن لا يمر مرور الكرام، ولا أن يُكتفى في تفسيره بأجوبة تقليدية ومستهلكة فقدت كلَّ صلاحية لها. يطرح سردُ الميتين إشكاليات عديدة، وتحديات غير مسبوقة بعضها مشتركة، بينه وبين سرد غير الإنسان، وبعضها خاص به دون غيره.

ليس سرد الموتى ظاهرة خاصة بباموق، ولا هي سنةٌ كان هو أول من سنّها من الروائيين، فقد لجأ إليها قبله آخرون، لكن ليس بالتكثيف نفسه ولا بالشغف ذاته. جرّبها قبل باموق بكثير، الروائي المكسيكي خوان رولفو في روايته «بيدرو برامو» الصادرة سنة 1955 والتي لم تترجم إلى العربية، إلاّ بعد سنوات طويلة، عندما نقلها عن الإسبانية المترجم الراحل صالح علماني.

في روايته تلك، يخلق خوان رولفو عالماً كاملاً يخلو من حضور الأحياء، فالسارد ميت، ولا يلتقي في طريقه غير موتى، بُعثوا من قبورهم أو موتى يشاركونه قبرَه. كما استمال هذا النوعُ الغريب من السرد آسيا جبار في روايتها «امرأة بلا كفن» الصادرة سنة 2002 باللغة الفرنسية. في سردنا العربي، استهوت الحكاياتُ التي يوردها ميتون مؤلفين قليلين من بينهم، لؤي حمزة عباس في قصته «رجلٌ كثيرُ الأسفار»، والقاص العراقي المقل، لكن المُجيد، علي عباس خفيف في قصته «أينوما أيليش»، والقاص حسن بلاسم في بعض نصوص مجموعته «معرض الجثث» والروائي برهان شاوي في روايته «مشرحة بغداد». جعل كل واحد من هؤلاء الكتّاب ومنْ سبق ذكرهم شخصيةً أو أكثر تقص، بعد أن تكون قد فارقت الحياة، حكايةَ موتها.

في هذا التخويل للميتين بالسرد خرقٌ لقوانين العالم، حيث إنه يتضمن إدخالَ عنصرٍ لا يتوافق مع ضوابط الواقع، الذي يستظل بظله النص، ويدعي تمثيله والتشبه به. فالعالمُ المادي الذي نحيا فيه لا يجيز، بالضرورة وحتمية الأسباب، سردَ حكايةٍ من قبل ميت لاستحالة أن يصدر في الواقع كلامٌ عن جثة هامدة. عندما تختلُّ صورته بهذا الشكل أمام القارئ، يتحول الواقع إلى مادة يتعذر فهمها والتعرف عليها، لأن من يقرأ السرد المنسوب إلى ميت، لا بد أن يسأل نفسه: هل هذا العالم الذي يرسمه الموتى حقيقيٌ؟ أم أنه ليس سوى هذايانات؟ ربما يوفر القولُ بانتماء أنماط سردوية كهذه إلى الواقعية السحرية جواباً يرتضيه النقدُ العربي، وقد يستسيغه محبو غابرييل غارسيا ماركيز، أو غيره، لكنه بالتأكيد ليس جواباً يقبله أو يكتفي به علمُ السرد ما بعد الكلاسيكي.

هذا النوع من الحكي «غير الطبيعي» يسميه علمُ السرد ما بعد الكلاسيكي بالسرد المستحيل، وإليه تنتمي كلُّ الحكايات التي يتولى سردها موتى أو مجانين أو مرضى عقليون، أو مغمى عليهم، أو فاقدو القدرة على النطق، أو المصابون بالصمم أو الأميون أو الأطفال الصغار، بل كل من يتعذر عليهم، لعلةٍ ما، الإتيانُ بمطلق السرد، كما في مثال الموتى وفاقدي الوعي، أو الإتيان بسرد متماسك، وبلغة أدبية عالية، كما في حالة الأطفال الصغار أو الأميين ذوي المعرفة اللغوية المحدودة جداً بطبيعة الحال. السرد المستحيل إذن، هو ذلك النوع من السرد الذي يصدر عن سارد غير مؤهل من الأصل، لأن يتصدى لمهمة نقل الحكاية، إما لنقص تكويني/بنيوي فيه يخص قدرته العُرفية على تمرير محتوى القصة إلى متلقيها (كما في حالة الجماد أو الحيوان) أو لاستحالة أن يبث مثلُه حكاية ما لا يصلح هو بالذات لحكيها، كما في حالة الميت أو المغمى عليه، وأضرابهما ممن لا يُحتمل، عقلاً، صدور كلام عنهم في الحياة الواقعية. من جهتي، أضيف الى هذه السرود السردَ بضمير «نحن» فهو سردٌ مستحيلٌ واقعاً، وإشكالي لأنه يفرض أسئلةً لا جواب لها، من قبيل: من يتكلم بالضبط باسم المجموع؟ ومن خوله بالنيابة عن الآخرين؟ وكيف لنا أن نثق أنه مخول؟ ولمن تعود، على وجه الدقة، وجهة النظر المسلطة على العالم السردي؟ ومن خلال أي موشور تُنقل الأحداث إلى المروي له؟ وهل يمكن للضمير «نحن» أن يعود في الوقت نفسه إلى الكاتب، السارد، الشخصية المشاركة؟

يعدُّ السرد المستحيل واحداً من ثلاث ظواهر جمالية، بدأ البحثُ السردي بالاهتمام بها ودراستها مؤخراً. أعني بالظواهر الثلاث: السرد المستحيل، السرد المبهم والسرد المشكوك فيه. تنتمي دراسة هذه المظاهر السيميائية التي ما زالت إلى اليوم، من ناحية التنظير، في مراحلها الأولية، إلى علم السرد ما بعد الكلاسيكي، بمعنى أن منطلقاتها النظرية تستكمل ما انتهى إليه جونيت وتودوروف وبارت وغريماس في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. سأتكلم في ما يأتي عن السرد المستحيل فقط مع وعد ملزِم بالرجوع قريباً جداً إلى الحديث مفصلاً عن السرد المبهم، والسرد المشكوك فيه، وعن الفرق بين علم السرد الكلاسيكي، وما بعد الكلاسيكي. يتعلق الأمر في السرد المستحيل، تماماً كما في حالتي السرد المشكوك به والسرد المبهم، بسرد إشكالي، منشؤه أن هوية السارد تستدعي الشك والريبة والتحفظ، ما يؤدي، في أقل الحالات، إلى طرح أسئلة إشكالية تمس مدى صلاحية السارد للقيام بمهمة السرد. هل أن سارداً ميتاً مؤهلٌ لقص حكاية يفترض انتماؤها إلى الواقعية؟ إذا استحال على الموتى الكلام، وهو محال وفق قوانين عالمنا المادي، فمن يقوم ببث الإرسالات السردية إلى المروي له؟ أهو الساردُ نفسه، الذي يفترض أنه «ميت» وأصبح محالاً عليه الكلام؟ أم هو المؤلف وقد حلَّ محل سارده؟ يتفرع عن السؤال الأخير سؤالٌ أهم: أين تنتهي السلطةُ السردية للمؤلف على نصه؟ هل تتوقف عند مخطط الخيارات التقنية التي تسبق عملية الشروع في الكتابة، أم تتجاوزها إلى التدخل في حيثيات النص وتفاصيله؟ تعدُّ هذه الأسئلة اليوم وما يمكن أن ينشطر عنها، من ضمن التحديات الإشكالية الكبيرة، التي على علم السرد المعاصر مواجهتها، وإيجاد جواب مناسب لها، فالتبويب أو التصنيف ليس كافياً، بل هو مرحلةٌ أولى لا بد أن تتبعها مراحلُ أكثر عمقاً وتحديداً ودقةً.

لا بدّ أن تشمل الاستحالةُ الخاصة بالسارد، التي تحدثتُ عنها في أعلاه المرويَّ له، فالسارد المستحيل يفترض قبالته مرويا له مستحيلا هو الآخر. بوضوح أكبر: لا خيار ثانٍ أمام السارد الميت، وقد عزَّ عليه خلاف ذلك، الاّ أن يتوجه بالكلام إلى مرويٍ له يقع في المستوى الحكائي نفسه، الذي ينتمي إليه السارد، ومن طبيعة عالمه ذاتها، ما دامت قد استحالت عليه مخاطبة الأحياء، من الشخصيات الروائية الذين هم منفصلون عنه وعن زمنه، من حيث إن زمنه هو لانهائي، أو يكاد بينما زمنهم هم ذو حدود ونهايات. بالتالي، يكون وقوع الشخصيات «الحية» في الرواية خارج الحكاية التي يرويها ساردٌ ميت، أمراً يسري مسرى البديهيات. عندئذ ينحصر الحال بفرضية واحدة قد ترفع استشكالنا بخصوص نوعية السارد: ميتٌ يتكلم مع ميت مثله، يشاركه قوانين عالمه التي هي غير قوانين عالم باقي الشخصيات. آنئذ يكون ممكناً قبول صدور حكاية عن سارد ميت، باعتبار أن الحكاية المعنية، تحدث في ظل قوانين خاصــة بها وليس مفروضاً عليها التطابق مع قوانين عالمنا، بمعنى أن الحكاية المستحيلة يرويها ساردٌ مستحيل إلى مروي له، مستحيل في ظرف زماني ومكاني مستحيل.

رفعُ هذا الإشكال لن يحل كلَّ المشكلة إذ يبقى هناك إشكالٌ من نوع آخر يخص صدقية الأحداث المروية عن طريق السارد الميت وكيفية حدوثها، فلا شئ يضمن للقارئ، أن الأحداث حدثت فعلا، أو أنها حدثت بالطريقة التي يرويها السارد. قد يعترض علينا معترض فيقول إن كل سارد كذوب وألاّ وجود لسارد يستحق الثقة، كما قال فلوبير ذات مرة. جوابنا أن الصدقية هنا منحصرة في إمكانية حدوث الحدث المروي، بمعنى أننا لو عرضنا هذا الحدث على الواقع والعقل لَقبِلا به، ورجحا احتمالية حدوثه. فالسارد في النص السردي الواقعي، وإن كان كاذبا أو كذوباً، ينبغي عليه أن يسرد أحداثا على شيء من المطابقة مع الواقع، بحيث يستطيع القارئ تصديقها، عندما يقتنع بقابليتها على أن تحدث في واقعه المعيش. بقيت لي ملاحظةٌ أخيرة بخصوص سرد حكايات الميتين، إن سرد حكاية الموت باستخدام ضمير الشخص الثالث المفرد، كما في قصة «رجل كثير الأسفار» مثلاً لكاتبها لؤي حمزة عباس، يضع أمامنا إشكالات أقل من تلك التي يطرحها السرد بضمير الأنا. إذ يمكن هنا افتراض وجود سارد لا شخصي له منفذ إلى أفكار الشخصية، وقد يكون ساردا عليما. من الممكن أيضاً توقع حضور سارد شهد حدثَ موت الشخصية المعنية، شارك فيه أو لم يشارك وانطلق منه في بناء الحكاية، وأن كل ما تبقى من أحداث (كعودة الميت إلى بيته، ولقائه بعائلته وغيرها) هو تأويل تخييلي لا غير، أو إعادة بناء ذهني لحدث فات تعذر سرده على الشخصية التي عاشته. حتى في هذه الحالة المفترضة، تبقى شخصيةُ الميت، كسارد منسحب أو ممحو، هي من تحرك السرد.

في نهاية الأمر، يمكن للروائي الواقعي أو القاص خلق عوالم روائية مستحيلة منطقيا كما يمكن للقارئ، لو شاء، تخيل العالم الروائي المستحيل عقلاً، لكن يجب على الباحث في شؤون النظرية السردية عدم شرعنة، لا هذا التخيل ولا ذاك الخلْق. ليس واجبنا، كباحثين في أمور السرد، تلقي النصوص كما هي في حدود جمالياتها وبنائها، بل إن نجد الأطرَ التي تمنح النصَّ وتجاربَ كاتبِه المبررَّ العلمي المقبول للوجود والفضاءَ النظري الكافي للتطور والرسوخ.

٭ كاتب وناقد عراقي

—————————

السرد المشكوك فيه: عندما يفقد القارئُ الثقةَ بالسارد/ حسن سرحان

قلتُ في دراستي السابقة إن هناك مظاهر سردية عرفتْها وما تزال تعرفها الروايةُ المعاصرة، تستدعي التفكير وتتطلب المناقشة وتستلزم الدرسَ والتقصي من قبل المختصين. يعدُّ السرد المشكوك فيه والسرد المبهم إضافة إلى السرد المستحيل، الذي تحدثت عنه في مقالتي المنشورة هنا في «القدس العربي» مؤخرا، من هذه المشكلات المتأخرة من ناحية اهتمام البحث السردي بها إذ لم يبدأ الحديث عنها الا قبل فترة قريبة جداً بعد أن شكلت هذه الظواهر حرجاً وتحدياً لم يعد بالإمكان أن يتجاهلهما الباحثون والدارسون.

بالنسبة للمبدعين، لا غضاضة في أن يتكلم الموتى ولا جُناحَ في أن يسرد الحكاياتِ فاقدو أو ضعيفو الذاكرة والمصابون بالهلوسة والانفصام وغيرها من الأمراض العقلية. المشكلةُ تخص علم السرد أكثر من غيره فهو الملزَمُ بدراسة هذه المظاهر الجمالية «الغريبة» لكي يبتني لها الفضاء التنظيري المناسب. ما درج عليه بحثُنا النقدي العربي هو عدم التوقف أمام هذه «الخروقات» باعتبارها جزءاً من لعبة التخييل التي لا تسبب ضرراً لأحد. هذا الموقف، برأيي، سلبي، ويجب عدم القبول به والرضوخ إليه. وما محاولاتي اليسيرة سوى جهدٍ أوّلي في سبيل «عقلنة» هذا السرد الروائي المُشكِل وإمعان النظر بالعلاقة بين الباث له ومتلقيه، وموقف القارئ، بصفته المستقبِل النهائي للنص، من السارد ورسائله.

يعود الفضل في جذب الانتباه الى هذه المسائل التقنية ذات الطبيعة السيميائية الى علم السرد ما بعد الكلاسيكي. أجد من الضروري الكلام، ولو بسرعة قبل مناقشة فكرة المقال الرئيسة، عن الاختلاف بين علم السرد الكلاسيكي، وما بعد الكلاسيكي. ليس الأخير رفضاً للأول ولا نفياً له ولا طلاقاً معه ولا انفصالاً عنه ولا إلغاءً لجهود منظريه، بل هو إعادةُ فحصٍ للمنجز السابق واستمرارية له وتواصل معه وفيه، وتوسعة لحدوده وتطوير لفعالياته الإجرائية، ومحاولة لتجاوز الصعوبات التي اعترضت طريقه مثل الصوت السردي والتناص والعلاقات المتشعبة بين النصوص. تقع مساحةُ درسِ السرد المستحيل والمبهم والمشكوك فيه ضمن منطقة دراسة الصوت السردي. سأعود يوماً إلى البحث في الصلة المعقدة جداً بين الصوت السردي والسارد، لأن الكلام فيها الآن قد يشتت ذهنَ القارئ، وهذا ما لا أتمناه.

أكتفي، هنا، بإشارة واحدة عابرة سأطورها في دراسة مستقبلية: قد يحسب غيرُ المعنيين، وربما كثيرٌ من المعنيين أيضاً الصوتَ السردي تسميةً أخرى للسارد، والحال أن الأمر بعيد عن ذلك، إذ ليست العلاقة بين ذاك وهذا إلا علاقةَ الكلِّ ببعضِه والعامِّ بشئٍ منه والواسعِ بجزءٍ من أجزائه.

تتضح جملةُ المطالب المذكورة أعلاه التي تجعل العِلمَيْن مختلفين، في تجاوز علم السرد ما بعد الكلاسيكي للسؤالين المركزيين لعلم السرد الكلاسيكي: ما هي الحكاية؟ وما هو المشترك بين حكاية وأخرى؟ فهو ينتقل الى طرح أسئلة أكثر تفصيلاً ودقة وأبعد مدىً من قبيل: ما الذي يؤدي بالحكاية لأن تنمو وما هي الأسباب التي تدعوها لأن تضمر أحيانا وتموت؟ ما الذي يؤثر في طبيعة الحكاية؟ ما هي العوامل التي تجعل من حكاية ما قابلةً لان تُروى؟ إضافة الى أسئلة أخرى لا تقل أهميةً تتعلق بديناميكية السرد ودور المتلقي ووظيفة الحكاية، ومعنى هذه الحكاية أو تلك، وليس فقط عن الطريقة التي تنتج بواسطتها كلٌ قصةٍ ما تعنيه. رغم أهمية ما تقدم، يبقى التباين الأكبر بين الاثنين يتمثل في أن علم السرد ما بعد الكلاسيكي يعيد ربطَ النصوص بالمؤثرات الفاعلة في تكوينها، مثل سياقها الثقافي وبُناها التاريخية، الثيماتية والأيديولوجية معتمداً، خصوصاً، مناهجَ نقدٍ تنتمي إلى النسوية وما بعد الكولونيالية.

أغلق القوسين الكبيرين وأرجع الى شاغلي الرئيس في هذا المقال. سأدرس، هنا، السرد المشكوك فيه على أن أخصص مقالي اللاحق لدراسة السرد المبهم، رغبةً مني في إيفاء كل مسألة حقها من البحث. السرد المشكوك به هو الذي يراود القارئَ ترددٌ كبير ومُبرَّر بشأن البتِّ بصحته والتسليم بحدوثه من الأصل، أو التردد في قبول الصيغة المقترحة من قبل السارد لوقوع الأحداث في الحكاية. قد لا تكون بنا حاجة هنا الى التأكيد على ان الكلام مختص، حصراً، بالرواية الواقعية دون سواها من الفنون السردية، التي لا يُستغرب وجودُ غير المعقول فيها. سببُ الشكِّ لدى القارئ هو وصول السرد عن طريق سارد غير جدير بالثقة، تدور الريبةُ حول سلوكه السردي المتعلق باستراتيجيات تمرير الحكاية إلى المروي له. أعني بالاستراتيجيات، الوسائل التي يعتمد عليها السارد في قص حكايته، كالذاكرة الشخصية، مثلاً، التي يؤدي ضعفُها أو عطبُها التام المؤقت أو الدائم، وباقي العوارض المحتمل أن تصيبها، إلى أن يضع القارئُ صدقية السارد وبالتالي صحةَ حكايته موضعَ شك. المعيار هنا هو معيار الصدق والكذب العرفيَّيْن، اللذين يحددان درجةَ المصداقية الممنوحة من قبل القارئ للسارد وحكايته.

قدرَ تعلق الأمر بالسارد، يبدو اختلافُ السرد المشكوك فيه عن السرد المستحيل بيِّناً ولا يحتاج إلى تفصيل، فالسارد في السرد المستحيل ممكن الوجود نصياً، وإن عزَّ عليه الوجود واقعا. أما السارد في السرد المشكوك به، فلا شيء يمنعه من الحضور إن على مستوى الواقع، وإن على مستوى النص، لكنه غير مؤتمن من ناحية المعلومات التي ينقلها إلى مستمِعه وهنا نقطةُ التقائه مع السارد المستحيل. ولأنه ليس أهلاً للثقة، يصبح الساردُ المشكوك به وسيطاً غير صالح لترحيل الرسائل السردية إلى المروي له، وبالتالي إلى القارئ. يبقى هذا الأخير، بحكم عادات القراءة الكلاسيكية التي لم تتمكن كلُّ نظريات التلقي من إلغائها، أو تفتيت سلطتها تماماً، في حاجةإلى «شخصية» يضع فيها كاملا أو جزءاً مهماً من ثقته، تمنحه الطمأنينة اللازمة كي يصدق الحكاية أو، في أقل الحالات، يتظاهر بتصديقها عندما يفطن إلى احتيال السارد عليه. الأكيد أن القارئ النبيه ليس أقل مكراً من السارد، فهو الآخر محتال، لكنه يكون محتالاً يُحتال عليه عندما يستدرجه السارد إلى لعبة القبول بروايته للأحداث، بالصيغة التي يقدمها إليه. في نهاية المطاف، الرواية لعبةُ كذبٍ مركّب، والساردون كلهم محتالون، غشاشون، مخاتلون، مضللون، كذابون من نمط خاص. أفضلهم، أكثرهم دهاءً وقدرةً على خداع القارئ وإسكاته ولجم اعتراضاته المتوقعة ومخاتلته، إلى حد توريطه في قبول الحكاية بالشكل الذي يتبناه السارد. بطبيعة الحال، ليس القارئ من السذاجة، بحيث يصدق كلَّ ما يقال له، إذ يكفيه الشكُّ دليلاً على نباهته وذكائه.

تبعاً لما تقدم من كلام عن المصداقية، نميز في علم السرد بين نوعين من الساردين: السارد الموثوق به والسارد غير الموثوق به. يكون السارد من الفئة الأولى، عندما يروي أحداثاً يمكن لمتلقي الحكاية تصديقها بعد التحقق من قابليتها على الوقوع، وساعةَ عرضها للاختبار على معارفه العامة وتجربته، وما يمكن أن يقبله واقعُه باعتبار هذا الأخير نموذجاً للممكن وغير الممكن من الوقائع. فإنْ قبل بها الواقع، اطمأن القارئ الى السارد وإن لم يقبل، ردَّ إليه بضاعتَه أو شاكسه بتكذيبه وكشف ألاعيبه. أما السارد غير الموثوق به فهو الذي يتقصد سرد مجموعة أحداث غير قابلة للإثبات وممكنة التكذيب بحيث لا يرضاها لا واقعُ القارئ ولا عقلُه عند مواجهتهما بها.

يثير السارد ريبةَ القارئ، ليس فقط عند روايته لما لا يُصدَّق، بل أيضاً عندما يبث، عامداً أو غير عامد، في روع القارئ شكوكاً بصدد قابلياته الذهنية، لاسيما تلك التي تمس الذاكرة، المصدر الذي يروي منه الأغلب الأعم من ساردي القصص. تختلُّ الثقةُ أكثر بين الاثنين، إذا ما اعترف السارد بنفسه، إن ما يسرده قد لا يكون حدث فعلاً أو لعله لم يحدث بالطريقة التي يرويها. في بداية رواية التلال الشاحبة (كذا العنوان في الترجمة العربية) للروائي كازوو ايشيغورو، تقول الساردة ما يأتي: «لعل ذاكرتي عن هذه الأحداث قد تشوشت مع الزمن، ربما لم تجرِ الأمور بالشكل الذي أتذكره اليوم». يشير هذا الاعتراف الصريح إلى أن الحالة السردية للساردة مؤسسةٌ على وهنٍ واضح يخص طاقاتها الذهنية. إن اعترافاً خالصاً كهذا لا بد أن يجعل الشك يأخذ طريقه إلى فكر القارئ بخصوص حقيقة الحكاية، أو دقة تفاصيلها في الأقل. لأن هذه الساردة صاحبةُ ذاكرة بلا موثوقية كبيرة، فإنها تصبح شاهداً غير صالح لا يمكن التعويل على شهادته، في ما يتعلق بالأحداث التاريخية (أحداث إلقاء القنبلة الذرية على اليابان) التي تستعيدها الرواية فشهادتها مشكوك فيها لصدورها عن ذاكرة غير جديرة بالثقة، وفق اعتراف صاحبتها نفسها، خصوصاً أنها تعاود زيارة ماض هو غامض أصلاً أصبح على مبعدة 20 أو 30 عاما من لحظة القص. الشك نفسه يتولد عند القارئ لرواية كامو «الغريب» التي يقول ساردها في أول مفتتحها: «ماتت أمي اليوم، أو لعلها ماتت أمس، لا أدري». كيف يُراد منا أن لا نشك في حكاية سارد لا وعي عنده للزمن؟ ولا إدراك لديه للحاضر والماضي، وقد اختلط عليه يومُه وأمسُه؟ قريب من هذا، الارتيابَ الذي يتركه في نفس القارئ برهانُ الكتبي، الشخصية الرئيسة في رواية «خسوف برهان الكتبي» للكاتبة العراقية لطفية الدليمي. مثل ساردة أيشيغورو، يعاني برهان من خلل في التذكر يقر به بنفسه عندما يقول إنه أصبح بلا ذاكرة.

هناك علامات أخرى توقظ الشك لدى المتلقي وتوهن أكثر مصداقيةَ السارد وموثوقية حكايته، فليس عدم التذكر وحده، أو نقص دقته ما يدعو القارئ للارتياب في ما يقصه السارد من حكايات. حالات الهلوسة والانفصام هي من دواعي سوء الظن القوية بصحة الأحداث المنقولة على لسان سارد مصاب بهذا النوع من الاضطرابات العقلية. في رواية غونتر غراس «طبل الصفيح»، نكون أمام سرد لا سبيل لتجاهل الشك الذي يزرعه فينا ساردُه المودعُ في مستشفى الأمراض العقلية، الذي يفتتح الرواية بجملة لا بدّ لها أن تحرك شكوكاً قد تبدأ ولا تنتهي عند القارئ: «أنا نزيل في مستشفى الأمراض العقلية، المشرف عليّ يراقبني، لا يتركني أغيب عن ناظره أبداً»، شبيه بهذا الشكَّ الذي يبثه فينا الحاجُّ كيان، ساردُ رواية «عرس بغل» للطاهر وطار، المصاب بالانفصام. وكذا الحال بالنسبة لخلف الله البرتاوي، سارد رواية «أيام الجفاف» ليوسف القعيد، الذي يعاني من تشوش عقلي واضطراب سلوكي، تؤكده الجمل التي تعكس وعيا مهتزا تتلاقى فيه وتختلط مشاعر وذكريات وانطباعات. غيرَ ما ذُكر، هناك أسباب أخرى تحفز القارئ على حجب الثقة عن السارد كأن يكون هذا الأخير أحول أو أعمى وشبهَ أمي، كما في رواية «عن لا شيء» يحكي للكاتب العراقي طه الشبيب التي يقول ساردها إن: «كل الأحداث التي مرت بي خلال حياتي أعتبر وجودها غير مؤكد مئة في المئة.. فلا شيء مؤكد في نظر أعمى». مثل هذه الأمثلة وغيرها كثير مما لا يحضر في ذهني الساعة، شواهد بيِّنةٌ على السرد المشكوك فيه يُضعف وجودُها، بل يحطم أحيانا كلَّ موثوقية للسارد ما يؤدي، في النهاية، إلى أن يفقد القارئ الثقةَ بإرسالات الشخصية التي تمرر الحكاية وتنظم مساراتها الدلالية، وترتب قوانينها اللسانية. هذه الخلخلة للعلاقة بين المرسِل والمستلم غير المباشر للرسائل السردية سيعمقها أكثر ويزيدها سعةً السردُ المبهم الذي يلعب دوراً معتداً به في زعزعة ثقة القارئ بالسارد بعد أن يدخله هذا الأخير في متاهات تربكه ودروب تشوش آليات تلقيه للحكاية.

٭ كاتب وناقد عراقي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى