مقالات

الاكتئاب في الأدب/ ميريام تسيه

كثيراً ما يتم التطرق إلى موضوعة الاكتئاب في النصوص الأدبية، وأحياناً تكون هذه النصوص مُنجزةً من قبل كتّاب يعانون أنفسهم من الاكتئاب، فيدوّنون تجاربهم المرضيّة. وتوصيفاتُهم للحالةِ لا تساهم فحسب في تكوّن فهمٍ جمعي أفضل للمرضِ، إنما أيضاً في إعالة المعالجين النفسيين على فهمِ مرضاهم بشكلٍ أعمق.

الذاتُ المنهكة العاجزة

حزنٌ متواصل، خمول وسأمٌ من الحياة؛ هذه الأعراضُ القديمةُ قدمَ البشريّةِ تبرزُ كمحاور أساسيَّة خلالَ تاريخِ الثقافة. الدلائلُ الكتابيّة الأولى حولَ الاضطرابات الاكتئابية تعودُ إلى زمنِ الأسرة المصرية الثانية عشرة في القرنِ التاسع عشر قبل الميلاد، تحديداً في “حواراتُ رجل متعب مع روحِه”. كما تطرّق الكتاب المقدس إلى نوباتِ الحزن عندَ الملك سليمان في القرن الأول قبل الميلاد، غير أن مصطلح “الاكتئاب” بصورته هذه لا يظهرُ على مدار التاريخ القديم. كلّ ما نفهمه اليوم تحت مسمّى الاكتئاب كان يُدعى في البدءِ ولزمنٍ طويل “ميلانكولية”، ومنذ ظهورِ هذه التسمية، أي الميلانكولية، وهي تشتملُ على مستويين مختلفين من المعنى، في المستوى الطبي تُفهَم الميلانكولية بوصفها عجزاً. واعتبر أبقراط في القرن الخامس ق. م أن كميةً مؤذيةً من الحزن والسوداويةِ تفضي إلى حالاتٍ ميلانكوليّةٍ. علاجاً لذلكَ أوصى أبقراط – ما يبدو تبعاً لمقاييسنا الراهنةِ شديد التقدُّمِ على نحو مفاجئ – بحياةٍ هادئة منظّمةٍ لا تخلو من الحكمةِ والزهد.

بينما في الفلسفة الإغريقيّة انبثقَ فهمٌ مختلف تماماً للميلانكوليّة، إذ عُدّتْ أثاثاً داخليّاً للعبقريّةِ. واعتبر أرسطو كلّ الرجال الأفذاذ ميلانكوليين. ونظر إلى كلٍّ من أفلاطون وسقراط على أنّهما عانيا جنوناً إبداعيّاً منحهما عظمةً وإنتاجاً غير عاديين.

من الميلانكولية إلى الاكتئاب

الميلانكولية ترمزُ منذِ البدايةِ إلى إحساس معيّن تجاه الحياة كما أنها تشيرُ إلى علّةٍ. وبالانتقالِ إلى مرحلةِ الحداثة راحت الكفةُ تميلُ تدريجيّاً لصالح الخطاب الطبي النفساني الذي يدركُ الميلانكولية باعتبارها تمظهراً للعجز. حدّد زيغموند فرويد، مطلع القرن العشرين، الميلانكولية بوصفها إحساساً بفقدانِ للعالم وارتداداً عقابيّاً على الذاتِ إثر حزنٍ مُخفَق.

اليوم بالكاد نجد من يستخدمُ مصطلح “الميلانكولية”، في حين أن التسمية العيادية “الاكتئاب” حاضرةٌ بشدّةٍ في مختلف السياقاتِ وصارت صفةً ملازمةً خصوصاً لمجتمعاتنا الراهنة ما بعد الحداثية. حيث تتمُّ، في العالم بأسره وعلى نطاق واسع، عند الشبان والمسنين، النساء والرجال، ملاحظة ازدياد نسبِ المكتئبين، وتتوقّع منظمة الصحة العالمية ازدياداً إضافياً في هذه النسب.

الاكتئاب هو ميلانكوليةُ مجتمعٍ

في بداية الألفية أخذَ علماء الاجتماع والمحللون النفسيون وأولئك المتخصّصون في الدراسات الثقافية يفسِّرون “مرض الشعب” بدلالاته التشخيصية الاجتماعية. الرغبة بإرضاء الذات واستقلالها غدتْ عبئاً على كاهل الأفراد داخلَ “مجتمع مكتئب”. يتحدّثُ عالم الاجتماع الفرنسي آلان إيرنبيرغ عن “إرهاق أن يكون المرءُ ذاتَه”، ويذكرُ في دراسته الصادرة سنة 1998 والتي تحمل العنوان ذاته: “الاكتئابُ هو ميلانكوليةُ مجتمعٍ يكونُ فيه الجميع أحراراً ومتساوين؛ إنَّه مرضُ الديمقراطية واقتصاد السوق بجدارةٍ. وبهذا المنحى فإن الكآبة ليست سوى الوجه الآخر القهريّ لسيادة واستقلال الإنسان العاجز عن القيام بأيّ شيءٍ، لا ذاك الذي يخطئ”.

الذوات برغباتِها السريّة الدفينة، كما تصوّرها فرويد، مكرهةٌ على الدخول في صراعٍ مع قيم المجتمعِ، ما يفضي بالضرورة إلى تدابير عصابيّة. قبل نحو 40 أو 50 سنة ظهرَ إثر التحول الجذري في عالم العمل نمطٌ جديد من الفردانيّة. هذا النموذجُ الذي سعى إليه الناسُ في مجتمع الحداثة المتأخّرة كان بادئ ذي بدء ذاكَ الذي يحقِّقُ حياة أكثر تحرُّراً وأصالةً، بيد أنه تبدّل مع مضي الوقت وراح يتحوّلُ أكثر فأكثر ليصبحَ صيغةً توائم توقعات المجتمع ورغباته وتعرضُ الأنا الذاتيّة. وهنا يتحمّل الأفراد أنفسهم، وبصورة كاملة، مسؤولية ظهور وتحقق هذه الصيغة من الذوات.

إنَّ الضغط المتواصل على الأفرادِ كي يعرضوا أنفسهم في السوقِ ويقدّموا نسخاً أصلية عن ذواتِهم يُفقِدُ الذاتَ طاقتَها وحماستَها، فتستسلمُ هذه الذاتُ المنهكةُ في نهاية المطاف منهزمةً ومعذّبة. إنها تغدو عاجزةً تماماً.

الشخصياتُ المكتئبةُ في الأدب الألماني المعاصر

ليستْ غريبةً هذه الشخصيات المنهكة العاجزة على الأدب المعاصر. ففي رواية تيريزا مورا “الوحش” الصادرة سنة 2013 يتفجع خبير الحواسيبِ داريوس كوب بزوجته السيّدة فلورا. هذه السيّدةُ المرهفةُ حاذقةُ الذكاءِ تقرّر بعد معاناة طويلةٍ مع اكتئاب حاد أن تنهي حياتَها. لم يتمكّن الزوج من فهم معاناةِ فلورا إلا بعد وفاتِها، إذ يعثرُ على دفتر يومياتها التي سعتْ أن تعبِّر فيه عن اكتئابها بالكلمات: “أحرِّكُ هذا الجسدَ. إنَّه بعيدٌ، وأنا في أغوار نفسي شديدةُ

الضآلةِ. إنني أسكنُ في مكان ما داخل رأسي. وحتى داخل رأسي أنا بالغة الضآلة. لقد تكثَّفتُ في مكان ضئيل، إنني بعيدةٌ عن القشريِّ، روحٌ ضئيلةٌ أراقبُ من بعيد. وبما أني أراقبُ فلن أغدو أكثر ذكاءً. إنني بالنسبة لي مجرّد شخص غريبٍ منعزل”.

تصف فلورا اكتئابها بوصفه اغتراباً عن الذات. كما ينطوي مرضها على إحساس بالتقلُّصِ والتفاهة. تربطُ، فلورا، هذه الشخصية المثقّفةُ عميقةُ التفكيرِ مرضَها بالضغط الهائل الذي يمارسه المجتمع بلا توقف وكذا بصدمات لم تُعالَج في طفولتِها وشبابها الباكرِ. الاكتئاب في رواية مورا لا يتجلَّى بوصفه ظاهرة حياتيّة فحسب، إنما كظاهرة نصيّة أيضاً، فنرى كيف تتحوُّلُ الجملُ والكلمات المتناسقةُ الواردة في يومياتِها مع مرور الوقت إلى كومة حروف فارغةٍ من أي معنى، كيف أن صوتَها يزدادُ غموضاً، وألمَها يغدو عصيّاً على الوصف، هكذا، رويداً رويداً، إلى أن تفقدُ الشخصيةُ قدرتَها على التكلُّم بشكل كامل.

الاغتراب والاستحياء

رغم أن إحصائيات منظمة الصحة العالمية تُبرزُ نسبَ اكتئاب أعلى لدى الإناث، نجدُ في الأدب الألماني المعاصر الكثير من الشخصيّات المكتئبة من الذكور. إحدى هذه الشخصيات بطلُ رواية هانتس شترونك الأولى “اللحومُ خضرواتي” (2004). هذه الشخصية “الخياليذاتيّة”، أي التي تجمع الخيال مع السيرة الذاتية للكاتبِ، تُعفى بعد بضعة أسابيع من الخدمة العسكريّة. إنَّه “اكتئابٌ داخلي المنشأ”، يقولُ مشخّصو حالته، غير صالح للخدمة مدى الحياة. وكان هذا بالنسبة لهانتس الذي كان يعاني مسبقاً من حبِّ الشبابِ وانعدام الثقة بالنفس بداية سنوات عصية. في شقة والدته المصابةِ باكتئاب هوسي حلمَ هانتس بدراسة الموسيقى. وفي البدءِ خوّلته مهاراته ليصبح عازف ساكسوفون في فرقة للموسيقى الراقصة. غير أنَّه هنا أيضاً لا يتمكّن من إنكار مرضِه المجلب للعار:

“كآباتي أصبحت مع الوقت أكثر حدّةً وما عاد إخفاؤها حتى عن البعوضِ ممكناً. كحجرٍ على المنصة وقفتُ محدِّقاً في الفراغ. ومع مرور الوقت راح الناس يشتكون مني:

– ماذا يحدث مع عازف الساكسوفون الذي برفقتكم، أهو هكذا على الدوام؟

– إن قلبه مكسور من الحبّ.

– آها. طيّب، عليه العافية.

رفاقي تستَّروا علي”.

مضادات الاكتئاب تزيحُ المسؤولية

كما في العديد من قصص الاكتئاب يلعبُ العلاجُ الدوائيُّ أيضاً عند هانتس شترونك دوراً بارزاً. تزامناً مع سنين شبابه الكئيبة في حيٍّ هاربورغ في مدينة هامبورغ بدأ التسويقُ العالمي الهائلُ لمنتج “بروزاك” المضادّ للاكتئاب، فحلمَ هانتس بدوره بهذا السلاح الأعجوبة ضدَّ الحزن. ومع بروز إمكانية التعالج بالعقاقير الكيميائية أزيحت المسؤولية نسبياً عن كاهل الشخص المريض، فلم يعد مسؤولاً مباشراً عن كآبته، لكنه في الوقت ذاته صار مطالباً من محيطه الاجتماعيّ بالسيطرةِ على أعراضِها بواسطة هذه العقاقير.

وفي حين أن التاريخ الثقافي للميلانكولية خضعَ لدراساتٍ أدبية مسهبةٍ، فإن هذه الدراسات البحثيةُ بدأت منذ عهدٍ قريبٍ بتناول موضوعة الاكتئاب. في أواخر العام الفائت جرت فعاليات المؤتمر الأول لـ”جماليات الاكتئاب”. بينما ترعى جامعة Ruhr في مدينة بوخوم الألمانية مشروعاً لبحث تمظهرات الكآبة في النثر الفرنسي منذ مطلع الألفية. وقد كُتبَ حتى الآن عددٌ من أطروحات الدكتوراه التي تتناول الاكتئاب من الناحية الأدبية- الاجتماعيّة والأدبيّة الصرفةِ.

الدراسات الأدبية حول الاكتئاب

رداً على السؤال حول المساهمة التي قد يقدّمها الأدبُ أو تقدمها الدراساتُ الأدبية للبحوث الطبيّة فيما يخص الاكتئاب تتمُّ الإشارةُ، في العادة، إلى التجارب والمعارف الحياتية الكامنة في الأدب. فمن خلال تنوّع العمليّة السرديّة يمكن للأدب أن يعبّر عن الفروق الدقيقةِ للاكتئاب ويميطَ اللثامَ عن تناقضاته وإشاراته ولغاته المختلفة بصورة أفضل مما تستطيع المعاينة السريريّةُ. يمكن، مثلاً، للمعالجين النفسيين أن يقرؤوا روايات عن شخصيات مكتئبة أو لكتّابٍ مكتئبين ليتمكنوا من فهم مرضاهم بطريقة أعمق، حيث أن الكتاب أنفسهم إضافةً لشهاداتهم الذاتيّة حول الاكتئاب يصبحون مادةً للبحثِ. في سنة 1990 أصدرَ الكاتب الأميركي وليام ستيرن سيرةَ اكتئابه وأسّسَ بذلك جنساً أدبيّاً جديداً. كتابه “Darkness Visible. A Memoir of Madness”، والذي تُرجم للألمانيّة بعنوان “سقوطٌ في الليل: حكايةُ اكتئاب”، يُعدّ الأوّل من نوعه كمذكّراتٍ حول الاكتئاب. بعدها حذا كثيرٌ من الكتاب والشخصيات العامة حذوه وأصدروا سير كتاباتهم.

الكتاب المكتئبون

بكتابِه “العالمُ خلف ظهركَ”، والذي يعدّ دفتر مذكّراتِه عن “اكتئابِه الهَوَسي”، وصلَ توماس ميليه القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الألمانية. يصف الكاتبُ وقائع معاناته الشخصيّة مع الاضطراب ثنائي القطب. ميليه لا يعاني من اكتئاب بسيط، إنما من اكتئاب هوسيَّ غريب؛ فالفتراتُ الهوسيةُ التي يعيشها قد تستمرّ سنةً كاملةً، والفترات الاكتئابيّة تطولُ، في العادة، وقتاً مضاعفاً. وإلى جانب عرضه لحالاته النفسيّةِ التي تتجاوزُ البارانويا الجنونيّة والهوس العنيف مروراً بنوبات اكتئاب عصيّةٍ بالغة الحدة وصولاً إلى محاولات الانتحار، يتطرّق ميليه أيضاً إلى ظروفه الاقتصادية – الاجتماعية في تلك المرحلةِ. فنجد أن الديون قد تراكمت عليه وأنه فقدَ منزله وكذا معظم أصدقائه، إلى أن يجد نفسه فجأة أمام المحاكم في مواجهة عداواتٍ، عديدها من داخل الوسط الأدبي. يصبحُ السردُ ملاذاً أخيراً عند ميليه بعد أن أضحت كل سبل التعبير دونه قاصرةً؛ غدت الكتابة بالنسبة إليه نوعاً من العلاج الذاتي وطريقة لتخفيف الألم. روايته هذه تُعدّ عزاءً وتحذيراً على حد سواء، كما يذكر ميليه في خاتمتها: “إذا ما عدتُ ذا

هوسٍ مرَّةً أخرى، فليمدَّ إليَّ أحدُكم هذا الكتاب. سبق لي بعد نوبة الهوسِ الثانيةِ أن قلت بأنني لن أنجو من الثالثةِ. لكنّي فعلتُ. وأودّ لو أفعل ثانيةً. أحبُّ أن أتوقَ ثانيةً، في وقت ما، إلى إنهاء حياتي. ومع ذلكَ سأكمل حياتي بعدها، وستغدو هذه السطور مثل صلاةٍ”.

القراءةُ عزاء

لمَ يريدُ الناسُ قراءة رواياتٍ حول الاكتئاب؟ بالنسبة للدراسات البحثيّة الأدبيّة يعد هذا التساؤل بالغ الأهميّة، تماماً كالتساؤل حول المحفّزات التي تدفعُ الكتّاب لتدوين تجاربهم مع أمراضهم. في المواقع الإنترنيتية يُجمَع هذا النوع الروايات والمذكرات في قوائم محددة لتكون إعالةً متاحة للمعنيين وذويهم. وكما يبدو فإن القرّاء يتطلَّعون من خلال القراءة وما تقدمه من إحساس مطمئِن لئن يصبحوا جزءاً من “جماعة ألم” أكبرَ.

لكن القول بأن هذه الدراسات الأدبيّة التي تبحثُ موضوعة الاكتئاب ستصبحُ في النهايةِ عامل إثراء في عملية العلاج النفسي الطبي ليسَ محسوماً بعد. فلننتظر ونرى. لكن، وبأية حال، فإن هذا الفرع البحثي الجديد أصبح اليوم مبعث اهتمام مجتمعي بالغ، حتى خارج الأطر الأكاديميّة والجامعية.

***

ميريام تسيه: ناقدة وباحثة ألمانية تعمل في القسم الأدبي في كلية البحوث الكتابية في جامعة غوته في فرانكفورت، كما تتولى رفقة آخرين قسم التحرير الأدبي في ” إذاعة ألمانيا”. تدير تسيه جلسات قراءة مختلفة وتساهم في إصدار مجلة “البوب، ثقافة ونقد” نصف السنوية. درست تسيه الموسيقى، علوم اللغة الألمانية وآدابها بالإضافة إلى الفلسفة.

المقال منشور في موقع إذاعة ألمانيا “Deutschlandfunk”.

ترجمه عن الألمانية: سوار ملا.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى