سياسة

في طبقات السوريين وانقساماتهم/ عمر قدور

أتت الأزمة المعيشية الأخيرة في مناطق سيطرة الأسد كفرصة ثمينة لإشعال الانقسامات السورية، فنجد في طرف أقصى من يحيل الأزمة برمتها إلى عقوبات دولية، وفي الطرف الآخر المقابل له من يستبشر بالعقوبات ذاتها شامتاً ومتوعداً. بين الطرفين ثمة مساحة لأصوات أقل ضجيجاً، يرى أصحابها أن المتضرر الأساسي والأول من العقوبات هم الشريحة الأضعف والأفقر، مع الاستدلال بتاريخ غير مبشّر للعقوبات الاقتصادية وآثارها السلبية على الشعوب. عند هذه النقطة أيضاً يظهر انقسام جديد، فالبعض يجيّر التحليل والتعاطف مع البسطاء من أجل خدمة الأسد، ولا يشير من قريب أو بعيد إلى مسؤوليته عن إيصال سوريا إلى ما وصلت إليه، بينما البعض الآخر لا ينسى على الأقل الثروات التي راكمتها عائلة الأسد وشبيحتها، ولن يُستخدم جزء بسيط منها لإغاثة المنكوبين حتى إذا كانوا من مواليها.

في الجدالات ذاتها لن تغيب تقسيمات من نوع سوريي الداخل والخارج، وكأن كلاً من هاتين الفئتين متجانس في مصالحه وتطلعاته. هذه التقسيمات التي تريد إظهار نفسها مسيَّسة بالنظر إلى تضارب المصالح المزعوم بين الجهتين لا يندر أيضاً أن تكون مسيَّسة على نحو مخالف لما تعلنه، فأصحابها يهدفون إلى وصم كل الباقين في الداخل كموالين للأسد، وهو زعم يصدر عن موالين واضحين أو متنكرين مثلما يصدر عن معارضين لا تفوتهم فرصة المزاودة على أقرانهم.

التصنيف الأخير يغيّب “عن عمد وسوء نية” واقع انقسام آلاف العائلات السورية بين داخل وخارج، ما يجعل شريحة ضخمة من لاجئي الخارج معنية مباشرة بالتردي المعيشي لجزء من عائلاتهم خارج الشماتة المفترضة. ولأن “الخارج” السوري ليس متجانساً فسنرى فيه شريحة أصغر من الذين لم تبقَ لهم أواصر شخصية تربطهم بالداخل، ومن بينهم من يحمل جراحاً بليغة تدفعه إلى الشماتة، أو على الأقل عدم الاكتراث المطلق ببلد لن يعود إليه على أية حال. لن يخلو الخارج في المقابل من فئة لم يعد يربطها بسوريا سوى المعركة ضد الأسد، أي أنها أفرادها يخوضونها لا لرغبة في العودة أو طمع في سلطة، وإنما لأن استهلال حياة جديدة متوقف على الانتهاء ممن دمر حياتهم السابقة. وإذا أخذنا شريحة لاجئي المخيمات “في لبنان والأردن وتركيا”، وهي تُعدّ بالملايين، فلعلها تجربتها المريرة تتكفل بتفنيد التصنيف من أصله.

الداخل بدوره ليس منسجماً إلا على سبيل الافتراء، والمعاناة المعيشية لا توحّده، إن لم نجزم على نحو قاطع بأنها تقسّمه أكثر مما هو مشرذم. يعرف كثر ممن تعرضوا لتجربة اللجوء أن قرار الخروج لم يكن سهلاً، فنحن نتحدث عن تجربة اقتلاع فظيعة من الإنساني أن يتحاشاها كل من استطاع ذلك، سواء بسبب تعرضه لضغوط أقل أو طمعاً بحصول معجزة التغيير، ولا يضير البعض بقاءه لانسداد أفق المغادرة. الناس يبقون في بلدانهم لأن هذه هي القاعدة، وقلائل منهم يبقون لأن بقاءهم مقترن بسلطة ما يحوزونها. ربما ينبغي ألا ننسى انقشاع وهم السلطة لدى شريحة ظنت أنها شريكة فيها، والأزمات المتتالية بيّنت الشركاء الحقيقيين من أولئك الذين يُناط بهم دفع التكاليف فحسب.

حتى بنية السلطة الأسدية، أو ما كان يُسمى البنية الصلبة، لم تبقَ متجانسة أو متماسكة. اليوم تتقاسم موسكو وطهران السيطرة على جزء معتبر من القوة العسكرية والمخابراتية، وصارت معلنةً تبعيةُ بعض تلك القطاعات مباشرة لواحدة من قوتي الاحتلال. وإذا بات الحديث يدور اليوم عن بيع أجزاء من الأراضي السوري “بتأجيرها لآجال طويلة”، كما هو حال مرفأي طرطوس واللاذقية ومطار حميميم، فإن تأجير القوة البشرية وتقسيمها للعمل كمرتزقة لدى الروسي والإيراني قد بدأ منذ راحت طهران تنشئ وتدرب ميليشياتها الخاصة من السوريين في العام الأول للثورة. لا يبرر الواقع المذكور، سوى لمن يبحث عن أعذار، المآل اللاحق البائس لفصائل يُفترض أنها نشأت لإسقاط الأسد، ومن ثم تحولت إلى قوات مرتزقة لدى أنقرة أو سواها.

في الأزمة الحالية، الأمر يتعدى أن سلطة الأسد لا تريد تقديم شيء للفئات الأضعف التي دفعت الثمن الأعلى إلى كونها لا تملك مشروعاً معنوياً تجتذبها به، فلا الكذب في موضوع السيادة بات ممكناً، ولا الكذب في موضوع الممانعة أقل انكشافاً وهزلاً. إننا أمام واقع اختلاف المصالح، من دون أن نكون أمام مشروع تعبئة “مهما كان كاذباً” لجمع أولئك المشتتين حوله. قد لا يختلف الأمر من جهة المعارضة، إذ انفض عنها جمهورها شيئاً فشيئاً، إلى أن تقلصت إلى هيئات لا تحمل تطلعات الثورة بقدر ما تمثّل مصالح القوى الداعمة لها.

كلمة “شتات” التي تدل عادة على محنة اللجوء الكبرى ربما يجوز تعميمها على النسبة الساحقة من السوريين في الداخل والخارج، وفوق الانقسامات التي برزت مع انطلاق الثورة صار ممكناً الحديث عن عدد لا ينتهي من الاختلافات والانقسامات، بحكم المصالح وبحكم خصوصيات الأمكنة داخلاً وخارجاً. يصعب الزعم، كما كان يحدث من قبل، بأن الجدالات والاختلافات دلائل حيوية لمجتمع كان يتوق للتخلص من الصوت الواحد الذي أُكره عليه طيلة حكم الأسد. الانقسامات والجدالات اليوم غير قائمة على حيوية سياسية، ولا على وعي بعيد أو متوسط المدى، بل على العكس هي في معظمها تساهم في تفاقم الشتات ولا تبحث عن أفق للملمته.

قد نقول “بأسف” أن لحظة الثورة كانت اللحظة السياسية الأعلى بالانقسام الذي أحدثته، مع حفظ الفوارق الأخلاقية بين من أيد الجريمة ومن كان ضحيتها، إلا أن تلك اللحظة تبددت رويداً رويداً على جانبيها. يُحسب لسلطة الأسد محافظتها على تماسكها لفترة أطول بالمقارنة مع المعارضة التي بدأت منقسمة، ليزداد تشتتها سياسياً وعسكرياً حتى تهترئ، وهذا واحد من أهم عوامل فشلها بالمعنى الوطني، فأولئك الذين لم يقدّموا مثلاً جيداً على حسن التنظيم والإدارة لمن يُفترض أنهم معهم في الخندق نفسه لن يقدّموه لمن هم في جهة الخصم.

بالتأكيد نستطيع تحميل الأسد وشبيحته المسؤولية الأولى والقصوى عن الدمار، بما في ذلك المسؤولية عن الشتات الذي وصل إليه السوريون. وبسبب صحة ما سبق، قدر ومسؤولية الذين يرون أنفسهم خارج الأسدية أن يبحثوا عن طريق للخلاص، إذا لم يكن قد فات “أو لم يحن” أوان البحث عن مصالح مشتركة للخاسرين. 

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى