مقالات

ملف موقع الجمهورية عن "الجدات"

فلوكات وغوغل مابس/ علا برقاوي

فيما نُعرّف نحن عن أنفسنا عموماً كـ«فلسطينيين-سوريين»، كانت جدتي لأمي، أم الشريف، تُعرَفُ بأنها «السورية-الفلسطينية». انتقلت أم الشريف بعمر الرابعة مع عائلتها من دمشق إلى يافا، وعاشت فيها طفولتها. تزوجت في الثالثة عشرة، وأنجبت طفلتها الأولى هناك، ثم عادت هاربة في عام النكبة إلى بلدها الأصلي، سوريا. رحلة مرّت فيها  بـ«جبل الدروز»، قبل أن تصل جوبر في دمشق، ثم القزّازين، فمخيم اليرموك، لتصبح فيما بعد «الشامية اللاجئة في الشام».

في صورة عائلية ملتقطة في عيد ميلاد قديم، لم تكن جدتي تنظر إليّ، كانت تجلس على الأريكة ذاتها التي تظهر في صور كثيرة التُقطت على مدار سنوات، بينما أتناول الحلوى، وأرمقها بنظرة غاضبة.

لم تكُن أم الشريف تكنّ ودّاً لي كشقيقَيّ، هي التي أنجبت على مدى اثنين وأربعين عاماً، تسع بنات، وثلاثة أولاد، توفي أصغرهم برصاصة طائشة لم يُعرف من أطلقها خلال احتفال بعودة أحد الحُجَّاج في مخيم اليرموك. ارتابت أم الشريف من الجميع، وشكّت بكل من رأته بأنه قاتِل ابنها، لتصاب بمرض السكر إثر تلك الحادثة. لذا لم تجد نفسها مضطرة لإخفاء مشاعرها بتفضيل أولادها وأحفادها الذكور على الإناث. في الأعياد، تُوزِّع علينا الـ«عيديات» تنازلياً، بدءاً من الذكر ابن الذكر الذي يحصل على أكبر عيدية، ثم الذكر ابن الأنثى مع الأنثى ابنة الذكر، بينما نحن الفتيات، بنات البنات في المرتبة الأخيرة.

كان حبُّنا التلقائي نحو جدتنا يقابله الكثير من الأعطيات التي تفيض على الجميعلم يُغضبنا هذا التفضيل العلني للأولاد، وكان حبُّنا التلقائي نحو جدتنا يقابله الكثير من الأعطيات التي تفيض على الجميع، مثل «العنبر» (التفاح المحلى) ومربَّى اليقطين، وغير ذلك الكثير، فضلاً عن حكاياتها المثيرة التي ترويها: الغولة و«حسّو» و«زيزون وزيزونة».

حافظت جدتي على لهجتها الشامية، لكنها اكتسبت شخصية فلسطينية، بسبب انتماء زوجها وأولادها، وذاكرتها التي تشكَّلَت في سنواتها الأولى، والتي كانت تُبكيها، كلّما ذُكرت يافا.

في دمشق، احتفظت أم الشريف بعاداتها المنزلية كأنها لم تُهجَّر من يافا، فهي تطبخ «المسخَّن» و«الملوخية الناعمة». ومن الطحين الذي توزعه الأونروا كمساعدات ضمن «كرت الإعاشة» على اللاجئين، تعجن وتُعدُّ الخبز الفلسطيني السميك كل يوم. لم تتردد في خلع الملاية، ثم المنديل عن وجهها. وأصرّت على تزويج بناتها التسعة لشبّان فلسطينيين.

بدأت أم الشريف في دمشق من الصفر، غُرفة مستأجرة تنقَّلت بعدها بين بيوت إيجار عدة. تُرتِّب الأمكنة، تنشئ كتبيّة (خزانة حائطية) في جدار كل منزل. وتستعيض عن الحقائب بالبُقَج المكدَّسة في الخزانات وزوايا الغرف. تلفُّ فيها الملابس الصيفية أو الشتوية، وتحتفظ بمستلزمات الخياطة؛ دبابيس وأقمشة ملونة أو بيضاء مطرزة، ومجلات تعرض موديلات مصوَّرة وخطواتٍ تعليمية لها. كانت أم الشريف تترك كل صباح ماءً وطعاماً للقطط التي تزور «أرض الديار»، وتُغني ما حفظَت من أغنيات فريد الأطرش في الساعات الطويلة التي تمضيها في المطبخ أمام بابور الغاز والمجلى والغسالة اليدوية. وقد أوْصت بأن تأخذ إحدى بناتها ماكينة خياطة «سنجر»، وأخرى عربة زرقاء كانت تعينها على شراء حاجياتها من السوق. ونالت اثنتان من بنات ولَديها في هذه الوصية سوارين من الذهب، وخصّتني أنا بوسادة ذات لون أخضر باهت صنعَتها من الريش.

قبل بلوغ حفيداتها، تراقب أم الشريف وتسأل الأمهات عن التطورات البيولوجية التي تطرأ على كل حفيدة. وتُنبِّه بأسلوب يجمع الفخر بالحرص على التعليم، بأنها صارت ربَّة منزل وأمَّاً «جابت أول بطن» عندما كانت في الرابعة عشرة، وتكتفي بهذه الإشارة لحثِّ بناتها على التدريب المبكر والتذكير بالمسؤولية دون أن تتدخل مباشرة في تنشئة الحفيدات، ابتداء من كيفية «ضم الإبرة» وتنظيف أرضية المطبخ، وانتهاء بكيِّ الملابس ومسح الزجاج. لكنها سرعان ما «تغسل يديها» من أي حفيدة عند فشلها في أول مهمة منزلية، كعدم تجفيف بقع الماء المتبقية حول البالوعة أو ترك آثار المنظفات على الصحون. لتكفَّ نهائياً عن تكليفها بأية مهمة بعد ذلك.

في الهوية كان اسمها إسعاف، وهو اسم استخدم لعدد قليل من السنوات، حتى أنجبت مولودها الذكر الأول، لتُعرف بعد ذلك، بل وتُعرِّفَ نفسها بأم الشريف. إذ غابت كلمة إسعاف بمرور الوقت من التداول لدى أفراد المستعمرة الكبيرة من الأبناء والأصهرة والكنَّات والأحفاد الـ44، وصار وقع  هذا الاسم، عندما يرد في الورقيات، غريباً على العائلة. الاقتران باسم الابن البكر مبعث فخر واعتداد بالنفس لدى الأمهات-الجدات. لكن أم الشريف، لم تنادِ بناتها إلا بأسمائهن، ولم تُعرّف بنا، لكثرتنا ربما، إلا بنسبتنا لهنَّ وكأننا من دون أسماء. 

في آخر سنواتها، انتظم يومها حسب مواعيد أدوية السكري والضغط، وتحولت فجيعتها بابنها إلى حزن قاسٍ يندر أن تتحدث عنه أمام أحد. وطوال الأعوام الـ72 التي عاشتها، انتظرت أم الشريف العودة التي لم تتحقق إلى يافا، والمشي بين أفران الكعك التي امتلكها والدها هناك، وركوب«الفلوكات» في نهر جريشة. ظلت تتجاهل الواقع وتأمل العودة كأنها أمنية قابلة للتحقق، حتى وفاتها ودفنها في مقبرة مخيم اليرموك.

إسعاف، دمشقية الأبوين والمولد، صارت فلسطينية بالنشأة، والزواج، ثم بالتهجير والنكبة واللجوء الطويل حتى لو كان في مسقط رأسها. امتلكت جواز سفر سوري، وهوية مركَّبَة بين يافا ودمشق، بين فلسطين وسوريا، حيث التقاطعات في التاريخ تظهر عبر مقارنة سيرتها بسيرة ابنتها «الفلسطينية السورية».

*****

يُقال إن المرء يتحول إلى نسخة عن أحد والديه كلما تقدّم بالعمر. لكن أم عمّار (حنان)، ليست كذلك. تقول أمي إنها اكتسبت القليل من والدتها أم الشريف، فهي مختلفة في الطباع والاهتمامات. نهار جدتي كان عملاً متصلاً من الصباح حتى المساء، بين ماكينة الخياطة والمطبخ ثم اختراع أي شاغل في أوقات الفراغ، فالعمل المنزلي هدف بحدِّ ذاته، تفلت عبرَه من الأحزان المزمنة. لم تمسك أمي إبرة وخيطاً كي ترقِّع الثياب، ولم تعدَّ النجوم أو تخنق الثآليل بالخيوط. هي متفائلة، عقلانية، ولا مكان للندم أو الذكريات السيئة أو التعلق بالأماكن في نفسها. لم تكن أي من الجدَّتين تشبه أم سعد بطلة غسان كنفاني الفلسطينية، وبما أن «خيمة عن خيمة تفرق» بين لجوئين لحنان وأمها، فقد تقاطع الحنين لديهما بطريقة معاكسة، تلك أم الشريف السورية كانت تشتاق إلى يافا، وهذه ابنتها الفلسطينية اللاجئة اليوم في اسطنبول تشتاق إلى دمشق.

منذ أن أصبحت جدة، نشأت علاقات صداقة جمعت أم عمّار بأحفادها، تشوبها بعض الخلافات الطارئة مع الحفيد الذي يعيش معها في المنزل ذاته منذ 9 سنوات. هذا الحفيد، يلقب جدته بـ«الأسطورة». صحيح أنها تستفزّه، ويرى سؤالها المعتاد: «مين بتحب أكتر أنا ولا إمك»، بأنه لا يحمل أي بعد منطقي. قد يتلقى من جدته، التي عملت 20 عاماً كمديرة مدرسة، عشرات الأوامر الواجب تنفيذها في وقت واحد، لكن «تيته» حنان تدلّلـه، أكثر مما دللّت والدته في صغرها. تغني له وتروي الحكايات، وتطعمه إن كان جائعاً أو غير جائع. أحياناً، يدرسان اللغة التركية معاً، ويختلفان على نطق بعض الكلمات. تشاركه حبَّ الحلويات، ويشيدان معاً منازل على شكل مثلثات مصنوعة من ورق اللّعب.

أمي لا تريد من الزمن أن يعيدها إلى دمشق دون أولادها، حيث يقع قبرَا والدتها وزوجها. القبران التي لم تُدرك أن زيارتهما في خريف عام 2012 قد تكون الأخيرة، إلى حين عودة غير مؤكدة.  

في أواخر ذلك العام قصفت قوات النظام جامع عبد القادر الحسيني المجاور لمدرستها في المخيم. كانت الأونروا تعمّم يومياً تعليماتها عن الدوام أو التعطيل في المدارس حسب خطورة الأوضاع الأمنية. ولحسن الحظ لم تداوم في ذلك اليوم، لا هي ولا معلماتها الثلاث والعشرون، ولا «بناتها» الألف، كما اعتادت أن تسمي الطالبات. كان القصف الصاروخي الذي تعرض له المخيم كفيلاً بنزوح معظم السكان. لكن، وبعد أيام، عادت وحدها لتجلب ما استطاعت، وبما يتسع له «الڤان» الذي استأجرته، من ملابس وأغطية وأشياء أخرى غالية على القلب.

أطلقت قوات النظام في نيسان 2018 عملية عسكرية أضافت المزيد من الدمار في عمران المخيم. انشغلت حينها أم عمار بملاحقة الأخبار والصور عبر هاتفها المحمول، تتابع جميع صفحات المخيم المؤيدة والمعارضة في فيسبوك. تمسح الهاتف بطرف كفِّها الجانبي مرات عدة حتى تستطيع التقاط «سكرينشتس»، وتخزّن العشرات من الصور لتتفحَّصها لاحقاً، علّها تتعرف على واجهة منزلها. فحسب ما سمعَت، تعرّض المنزل لثلاث ضربات، لكنها أمِلت أن يظهر سالماً في إحدى الصور. تُعدد الأشياء التي تركتها هناك، وتتذكر أين خبأتها: «الزبادي، والصحون الأزاز التقيلة، كلون كنت مخبيتون بالتخوت والكنبايات… جاكيتي الفرو، الستاير، الغاز صحيح من أيام أبوكي، بس كنت كل يوم عم بنضفو ولساتو جديد». رحلة بحث وتقصٍّ يومية، انتهت بصور حصرية لها، ومؤكَّدة هذه المرة للمنزل. كان مدمراً مثل كل المنازل والمباني حوله، يخلو حتى من حطام الأثاث والأبواب والشبابيك، لم يبق من أثر البيت سوى الركام.

ومثل مئات الآلاف من الجدات والأمهات اللاجئات والنازحات، كان عليها أن تتعلم أشياء جديدة، أن تتغير، وأن تبدأ، إن أرادت أن تبدأ بأي شيء، من الصفرمن المخيم إلى ضاحية قدسيا في دمشق، ثم إلى مدن ودول لجوء مختلفة، لينتهي بها المطاف في اسطنبول، تلك مسيرتها بعد العام 2012. ومثل مئات الآلاف من الجدات والأمهات اللاجئات والنازحات، كان عليها أن تتعلم أشياء جديدة، أن تتغير، وأن تبدأ، إن أرادت أن تبدأ بأي شيء، من الصفر. وكأنها متخرجة للتو، قدمت طلبات توظيف لعشرات المدارس العربية والسورية في اسطنبول، دون جدوى، لتحاول بعد ذلك تعلّم اللغة التركية وببطء شديد، دون دورات تعليمية أو مدرسين، مقاطع اليوتيوب تكفي، وتؤمِّنُ الحدَّ الكافي للتفاوض مع الباعة وتحيَّة الجيران. كيف لها أن تتعلم من أحد، وهي التي أمضت واحداً وثلاثين عاماً من عمرها في تعليم الآخرين. تخلَّت عن الكثير من عاداتها السابقة، لكنها لا تزال تمتلك البراعة ذاتها في عدم الاستماع أو تلقِّي أية معلومة جديدة، حتى لو كانت عن أسعار صرف الدولار أو درجات الحرارة أو قرارات الحكومة التركية بخصوص اللاجئين. هذا الطبع الذي اكتسبته من إدارة المدارس، يكشف عن إحساسها بالمعرفة الكاملة، وعن تجاهلها للمخاطر والمفاجآت التي تُهدد هذا الإحساس.

بوسعها إنشاء علاقات جديدة في اسطنبول، لكن ذلك لن يعوِّضها عن محيطها السابق الذي تناثر في دول لجوء مختلفة، ولا عن ولَديها البعيدين. لكن، بقليل من التآلف مع الواقع الجديد، وكثير من الاتصالات مع الأبناء والأقارب والأصدقاء عبر الموبايل، تحاول مواجهة شعورها الغربة. بل إنها بدأت تعتاد هنا في اسطنبول على التنزه واكتشاف المدينة، بعد أن كانت مشاويرها المشابهة في الشام تقتصر على المناسبات، كولائم الغداء في أعياد المُعلّم، والأعراس والمباركات الجماعية مع المعلمات والمديرات الأخريات.

في اسطنبول ترغب بأن يفهم لغتها جميع من تتحدث إليهم، وأن تمشي دون الاستعانة بـ«غوغل مابس». تعبت من استدعاء ذاكرتها لأسماء الشوارع الجديدة التي تحمل حروفاً لا تجيد ترتيبها بالشكل الصحيح دائماً. ومن حفظ حروف وأرقام الباصات المؤدية إلى محلات السوريين. ومن الشرح لسائقي سيارات الأجرة الأتراك كيف أنها فلسطينية وسورية في آن واحد، وأن الموت والظلم في غزة، ليسا ببعيدَين عن الموت والظلم في مخيم اليرموك. تقلقها شائعات رفض تجديد الإقامات والهواجس باحتمال ألّا دولة قد تسمح لها بالإقامة فيها بعد الآن. وبأن تركيا، البلد الذي لم تتخيل يوماً أن تقيم فيه، هو البلد الوحيد الذي يتقبّل وجودها، ولو إلى حين.

ما تبقى لأم عمّار، هو نحن، البنات والأولاد، وإن لم نكن معها على مائدة واحدة. وخاتم الزواج، وإن كان الزوج راحلاً، وعقد ملكية منزل في مخيم اليرموك، وإن كان مُدمّراً.

في اسطنبول تعرف والدتي أشخاصاً أقل من عدد أصابع اليد، أما في دمشق فكانت تعرف الآلاف ويعرفونها، حفظت شوارع الشام شبراً شبراً، ولم تكن لاجئة هناك إلا في الورقيات الرسمية التي تعتبرها «بحُكم السوريّة». في المخيم الذي لم تحبّه إلا بعد أن خرجت منه،  تصادف إذا مشت في شارع مؤدٍّ إلى مدرستها الكثير من الأحبة والأقارب والجيران والتلميذات اللواتي أصبحنَ نساء ناضجات. في حارة منزلها ذكرى طيبة لزوجها، يُحيّيها الجميع، ويترحم من يسألها عن أخبار الأولاد، على روح أبيهم. في ضاحية قدسيا خبّأت راديو بحجم كفّ اليد يبث أخباراً وأغان بأصوات مشوَّشة، كان رفيقاً لقيلولة زوجها، وفستان طفولة معقود بالدَّانتيل عند الصدر ومطرَّزاً بورود ملونة في أطرافه، صنعَتْه لها أم الشريف من معطف جدي، قبل أن يبدأ يوم العيد بساعات.

———————-

الانتظار الذي يصنع جداتنا/ نائلة منصور

في المنام يجلس حبيبها وزوجها بهدوء قربها على مصطبة أمام بيت غير واضح الملامح، يقف ويتوجه بهدوء أكبر ليقطف لها ثمار الأكدنيا والخوخ المتدلية من أشجار أمام البيت. منذ فترة بات يتساءل كما يتساءل إيغوشي بطل كاوباتا في الجميلات المنوّمات: كيف أمكن لثدي الأنثى البشرية، من بين كل أنواع الثدييات، أن يتطور ليصبح على هذا الجمال والاكتمال وكأنه المجد الأبهى للتطور البشري؟ ويتعجّبُ من مخترع عطر «جوب» الأنثوي الذي فهم بدهاء أن رائحة التفاح هي المرأة. باتت تساؤلاته من هذا القبيل تكثر، وأَخَذَ الكلام الذي كانت تتمناه دائماً، والذي لم يكن يجد له موجباً في حضرة حمىّ مغازلاتهما، يحتلّ مساحةً أكثر. تتأمل صورها في الألبومات القديمة، كانت جميلة على ما يبدو، لحظة التقاط الصورة لم تكن تجد نفسها جميلة. لم تكن يوماً منضبطة في مواعيدها مع خط سير الحياة، متأخرة غالباً، وخاصة في إدراك الأشياء، وبخصوصية أكبر حين يتعلق الأمر بإدراك مكامن جمالها، اللهم إلا عبر الصور الفائتة. إلا أنها على الأقل لا تمزّق صورها مثلما تفعل إحدى صديقاتها، مُبهِرة الجمال التي لم ترَ أو تشعر يوماً بجمالها. أخذ إيقاع مشيتها يتغير حسب هوى ومهوى الفقرات، ولكن كل ذلك لا بأس فيه؛ الكلام الذي بدأ يزيد في محادثاتها مع حبيبها، والبطء في المشية، وفتور وهج رغبات الآخرين الذي شعرت به مع أول كلمة «خالة» وُجِّهَت إليها. في الحقيقة، في هذا الكثير من التخفّف والتقليل من الارتباك والخجل المُعيق الذي لازم حياتها.

*****

لا نعرف إن كانت لوسيّة صبيّة قبل أن تكون جدة. من الحكايات التي سمعناها عن أمّ جدتي، شعرنا وكأنها خُلقت جدة ولم نعرف شيئاً عن سيرورتها كامرأة شابة. كانت هي التي تُستدعى في المصائب مع ارتفاع حرارة الأحفاد، لتحضّر لهم «سيروماً» طبياً مصنوعاً من الدبس والثلج، وهي التي تُحضِّرُ طبق العرسان والولّادات، الزرزورة المثقل بالمكسرات فوق طبقة من العنب المغلي مع النشاء. وهي التي تصنع من اجتياز شهادة البروفيه للبنات والصبيان من الأحفاد حدثاً يتوجب الاحتفاء به، بشراء ساعة يد كعلامة نضوج ودخول في عالم الكبار. في بيتها الصغير على سفح تلة صغيرة، والمستكين لجارٍ شفيعٍ قويٍّ هو مار جرجس، تستجديه في الملمّات كما يجدر بقانون الجيرة وكثرة القديسين الشفعاء، والمظلل بشجرة رمان وشجرة تين، عاشت لوسيّة قرابة القرن دون أن تشتكي من كثير من الأمراض، ودون أن تبرك دون حركة. في عشية إحدى الأفصاح وبعد صيام قارب الخمسين يوماً، قررت لوسيّة أن تُعزّل تعزيلة الفصح، وتستحمّ كما يليق بالعيد الكبير، لوحدها. ثم نامت ولم تستفق، كما يليق بميتات القديسين والأولياء الصالحين. لا نعرف إن كانت تنتظر حقاً ولديها المهاجرين إلى الأرجنتين لتحسين ظروف حياتهما، بعد أن توقف عمل أحدهم على خط الشام طبرية في شحن البرتقال الفلسطيني. في تلك الأيام، كان الحزن، حزن الانتظار، أبرأ وأخفّ، وكان العيش مع الأحفاد يأخذ وقتاً أكبر دون لهاث مسعور حتى نحسب أن الجدّات جدّاتٌ منذ الأزل.

*****

كل ما في الأمر أنها لم تشعر بالوقت يمر. التخفّف جميلٌ بلا شك، التخفّف من الرصانة، التخفّف كما تصفه الشاعرة الإنكليزية جيني جوزيف في قصيدة شهيرة عن الشيخوخة  بعنوان حين أشيخ، تقول فيها:

    حين أشيخ سأجلس على الرصيف حين أتعب،

    حين أشيخ سأسرق الأزهار من حدائق الجيران،

     وسأتعلم البصاق،

     وسأتعلم الخروج بشبشي للمشي تحت المطر،

    حين أشيخ سألبس الأرجواني مع أحمر لا يليق بي وغير مناسب،

     وأشتري صنادل الساتان والكفوف الصيفية،

     وأقول لا مال لدينا لشراء الزبدة

    كل ذلك صحيح، كل ما في الأمر أن كل شيء مرّ بسرعة البرق.

مما بقي في ذهنها أن أمّها كانت تحزن عندما تسمع أصوات زمامير الأعراس في الحارة. وعندما كانت تتلقى بطاقات الدعوة للأعراس، كانت تحزن لحال العروس التي بدأت ماراثونها في اللهاث. في خضمّ لهاث نسائنا كان الأحفاد هم وعد القطاف، أن نخطّ في مبيضات بعد مسودّات خربشناها في تربية أولادنا المباشرين. الأحفاد، وأن تكوني جدّة، هو انتباهٌ أخير، انتصارٌ صغير في المعركة الحادة بين مرور الزمن وإدراكه. إدراك التزامن قبل فوات الأوان، التحاق قبل ثوان بخط النهاية في سباق الماراثون. 

*****

كل شيء في الخالة وديعة كان يُنبئ أنها ستستحقّ مكانتها كجدّة حين تحين اللحظة. هادئة، صبورة، حييّة ومحبة ومن «تم ساكت». بعد تخرجها من كلية الآداب قسم اللغة العربية، انتقلت للعمل من هيئة من الهيئات الفلسطينية في دمشق إلى التدريس. لم تكن من الأشخاص الذين يشعّون بحضورهم، ربما بسبب خجلها، أو بسبب القمع الشديد الذي وقع عليها وجعلها قليلة المبادرة على العموم. لم تكن امرأة سعيدة في زواجها، ولكن حضورها الهادئ آنَسَ طفولتنا. كانت من أكثر حرّاسنا وفاءً في حديقة التجارة، وأكثر المثابرين على وضع الميكروكروم الأحمر على ركابنا التي بقيت حمراء كل سنوات لعبنا. أثناء مراهقة ابنة خالتنا الكبرى، كانت تتغاضى عن شرائها لمجلات لم أعد أراها في دمشق بعد الثمانينات، ليست كوميكس ولكنها مسلسلات ورقية عن علاقات حب تحوي بعض القبل السريعة. اليوم، أفكر كم كان تغاضيها رائداً نظراً لما عاشته من تشدد. في أول مرة اصطحبتنا إلى سينما الكندي لحضور فيلم أحلام المدينة لمحمد ملص في بداية الثمانينات، انبهرتُ يومها بجمال ياسمين خلاط  التي اختفت من عالم التمثيل بعد ذلك وتفرّغت للكتابة، وغُمِرتُ بأجواء السينما وطقوسها. ومن الأحلام التي رافقتني فيما بعد، كان العمل كقاطعة تذاكر يبقى لها كثيرٌ من الوقت لنفسها بعد انتهاء عرض الفيلم وانصراف المتفرجين، وذلك من بين أحلام غريبة عديدة متعلّقة بالأعمال المغمورة حيث لا ثرثرة كثيرة، كأن أعمل في المؤسسة العسكرية الاجتماعية لتوزيع المنتجات، الواقعة في أول شارع الطلياني في تقاطعه مع شارع الحمراء، مقابل مئذنةٍ أنيسةٍ مربّعة لجامع متوارٍ لم أعد أذكر اسمه. وكان طقس السينما مع خالتي يُتبع قطعاً بتناول الـ«شوكولا مو» في محل كان يسمى «ديليس» في إحدى دخلات الصالحية شهداء، يقدم المياه الباردة في كؤوس من الستانلس تُذكّرُ بسبل دمشق ومياهها الطيبة. لم نكن نعير، نحن أطفالها وأطفال أخوتها، مكتبتها العربية كثيراً من الاهتمام، ولكنها كانت تغترف لنا منها بعض المقاطع، وتقترح قراءات وتواسي مللنا بحزوّرات الإعراب التي كنتُ أبدعُ فيها، ما عدا التمييز بين إذ الفجائية وإذا الشرطية، والأعداد التي لم أستوعبها يوماً رغم تكرارها لي «لك سهلة سهلة… احفظيها بقى!». بعد السينما، كانت وديعة هي السبب في تعرّفنا على مفهوم المكتبة العامة، حين رافقتنا أول مرة أنا وابنة خالتي ممسكة بقوة بأيدينا لنخترق الجموع في سوق الحميدية وننعطف يميناً نحو العصرونية، وتبدأ رائحة لحم الجمل المشوي بمباغتتنا من المحلات المحيطة بحمّام الظاهر بيبرس، حيث يتربع رجال بمناشفهم قبالة الباب الرئيسي، لندخل بعدها من البوابة العريضة للمكتبة الظاهرية. في تلك الأيام، لم يكن ذلك البناء المملوكي الجميل قد جُدِّدَ بعد على طريقة وزارة الثقافة بوضع بحرة زرقاء إيرانية في وسط الفسحة السماوية؛ كان البناء قديماً يلفّ الحاضر بغرفه ومقاعده ودروجه الخشبية الصغيرة، بِهالة غريبة، يشتاقها المرء بعيداً عن دمشق؛ أفولٌ أخيرٌ مع اطمئنان أننا هنا. الهنا الآفلة في دمشق غير موحشة. كانت المكتبة الظاهرية لخالتي مثل الغرفة الخاصة بفيرجينا وولف، لم تكن تبدع فيها الكثير، اللهم إلا بحثاً صغيراً عن الكاتبة وداد سكاكيني، ولكنها مساحتها الخاصة. مساحة جعلتني أقرأ في عينيها الحييتين شيئاً من الراحة بعد وفاة زوجها الذي لم تحبه يوماً. كانت اللحظة مواتية لتبدأ الاستمتاع بأول حفيدة بعد ماراثون الحياة وتنشئة أولادها. عاقبتها الأقدار على زفرة الراحة بأسوأ أنواع السرطان، ولم تعرف باقي أحفادها. مع أنها أتمت طقوس الانتظار كما ينبغي، على أحسن وجه. حين بِيعت كل أجزاء كتاب الأغاني للأصفهاني من مكتبتها على عجل بعد موتها، انقبض قلبي وفاض برائحة الدروج الخشبية الصغيرة في المكتبة الظاهريّة الدمشقية.

*****

في طقوس القرابين على الطريقة السورية، ينبغي استحقاق الجدودية بطريقة ما أقساطاً من العذابات، أدت معظمها، وربما حان الوقت لتستمع بأحفاد، ما زالوا باكرين على كل حال. في حضور الرضّع تشعر بالامتلاء الذي لا يحتاج إلى كلام. امتلاء دون ثرثرة. قرأتُ مرةً أن بعض المستشفيات في دولةٍ ما تبحث عن أشخاص يحضنون المواليد الجدد، وخاصة المتروكين منهم. سيكون أنجح عمل قد تقوم به، أنجح من أعمال رعاية المسنين المتوفرة بكثرة في هذه البلاد. في كل الأحوال، لا يمكنها أبداً أن تعمل في رعاية المسنين، سيذكرها كل أخدود في جسد المسنّ الذي ترعاه؛ سيذكرها بأجساد بقيت هناك لا تجد من يرعاها.

*****

صديقتي الجميلة التي تمزق صورها لأنها لا تجد نفسها جميلة وُلدت في مجدل شمس في الجولان، وبسبب تجوال الأسرة في سوريا، لم تكن أمها متفرغة لها كلياً عند ولادتها مع وجود خمسة أخوة أكبر منها. يُروى عنها أنها كانت تبقى مستكينة وهادئة لا تصرخ في مهدها منذ شهورها الأولى بانتظار أمها المرضعة.

انطبعت حياتها بهذا المشهد منذ مجدل شمس، طفلة مطيعة لا تتمرد وتساعد الجميع في العائلة. بمعايير أيامنا هذه، ما كان يُلقى على عاتقها من مهمّات منزلية يعتبر سوء معاملة أطفال وتعذيب. بعد شهادة الثانوية، أُتيح لها أن تبتعث إلى دولة أوروبية للدراسة على حساب وزارة التربية، ولكن بما أن الاغتراب والسفر غير مسموح بهما للبنات في محيطها، التحقت بقسم تفضّله من أقسام كلية الآداب، وقبل أن تنال شهادة الليسانس، دق ماراثون الزواج أبوابها وابتدأت رحلة عذابها. طفلٌ وعملٌ وإكمال دراسة، ومن ثم طفلٌ ثانٍ. ثمان سنوات زواج قضتها مع زوجها قبل أن يُعتقل وتبدأ مستوى ثانياً في صعوبة أداء الحياة، لتكمل تربية أطفالها لوحدها وتحافظ على عملها وعمل زوجها رغم غيابه. أول تعليق خدش أسماعها عند اعتقال زوجها هو أنه «مهما كان طارق بيتك يوماً سيقولون أنه عشيقك في غياب زوجك». لم تفهم صديقتي ما ذنبها كي تسمع كل ذلك العنف، حتى أنهم قالوا لها «انتبهي لأولادك حتى لا يُوسموا يوماً بأنهم ترباية مرا». قضت عقداً ونصفاً من عمرها على إيقاع الانتظار وزيارات السجن. انتظار الزيارة الأولى، انتظار نهاية أحداث حماة ومجزرة سجن تدمر، ومعاودة الزيارات التي انقطعت للتأكد من أن الزوج لم يقضِ في إحدى تلك المجازر. انتظار الأحداث الكبرى في العالم التي قد تغير شيئاً ما من حياتها، سقوط الديكتاتوريات في أوروبا الشرقية، موت تشاوتشيسكو، لقاءات الرؤساء فيما بينهم، إرهاصات انهيار الاتحاد السوفياتي، حرب الخليج الأولى ثم اتفاقات أوسلو. في سوريا العجيبة التي نصنع فيها حلويات بأسماء سماوية رقيقة مثل «المنّ والسلوى»، تُعاش الحيوات الصغيرة على وقع الأحداث الكبرى والحروب. لا مدهشَ في أن أحد نزلاء واحد من السجون السورية في ثمانينات القرن الماضي كان متأكداً بأن غورباتشوف متآمرٌ ضده، وكان يرسل له مكاتيب وينتظر جواباً منه لاستهجاناته المتكررة.

حين خرج زوج صديقتي من السجن، لم تستطع أن تحمل بولد جديد، توقف جسدها فوراً عن قابليته للأمومة. أُرهقت من عنف المجتمع ومن الانتظار. بعدها مباشرة، سافر أولادها تباعاً للدراسة في الخارج، وبقيت تنتظر عودتهم لتبدأ العيش حقاً، دون انتظار شيء ودون انتظار أحد، وكانت الأمراض قد بدأت تتغلغل في جسدها المتعب، ولكن لا بأس، فهناك بضع بقية للأحفاد، المكافأة الأخيرة.

بعد سنوات تُعدّ على كف اليد الواحدة، اندلعت الثورة السورية، وطار صوابها وكأنها لم تكن تنتظر شيئاً إلا الثورة رغم خوفها على أولادها، ولكن حماسها لم يداخله شيء سوى الخوف الشديد من البطش القادم. بقيت مقتنعة حتى بعد 2014، وبِدء تبيّن ممارسات الجماعات المتطرفة المتأسلمة وداعش في سوريا، ظلت مقتنعة دون نقاش ممكن بأنهم آل الأسد، آل الاسد الذين سرقوا شبابها. في عام 2014، خرج أولادها وأحفادها الذين كانت تأمل أن تبدأ بالعيش معهم حقاً، خرجوا من سوريا. ولم تعد تنتظر شيئاً، لقد أتمت كل ما عليها من تأدية قرابين ولم تعد تنتظر شيئاً، بقيت تمارس هوايتها في مرافقة المرضى من أفراد العائلة في آخر حياتهم، وفي إعدادهم للدفن حين يموتون.

*****

حين وُلدت ولادة عسيرة عانت منها أمها الأمرين، امتعضت إحدى نساء الدائرة المقربة من كونها بنتاً وقالت ممازحة لأمها «بدي أقبرها». من يومها وهي تهرب من أي شبح للموت، وتحاول إثبات أنها تستحق الحياة بتقريب أنواع عديدة من القرابين قرَّبَت مثلها الجدّات السابقات، وتحاول أن تقترب أكثر من نعمة الاستمتاع بالأحفاد دون أمراض وانتظار. انتظار الولادات، وأن يشبّ الأولاد، وأن يرجع فلان من خدمته العسكرية بخير في زمن الحروب وأن يُشفى المرضى وأن ينهي فلان شهاداته الجامعية وأن يرجع فلان من السفر، انتظار أن يتزوج الأولاد وأن يلدوا. انتظار السعادة المفقودة معظم العمر المسحوق يقترب كمفارقة من الموت الذي تهرب منه باستمرار. تلك هي المعضلة.

—————————-

دروب الطين والأنفاس اللاهثة/ مصعب النميري

هناك شعور بالمهابة لدى الشروع في الحديث عن ذلك العالم. العالم البعيد، الذي نبدو فيه ملطخين بالطين ومشدوخين بالحجارة. تلك اللطخات الباهتة من الصور والأماكن التي عبرناها حفاة بين شتائل الورد. نتراكض في الأحراش مملوئين بالحماسة لشيء مبهم، فيما يقف في الركن الأقصى ظل امرأة تدير الماء على الأحواض. عالم الجدات الذي يسلخ نفسه عن العالم الحقيقي بما يحمله من الشعرية والرهافة والبطء. العالم الذي يظل ومضات بالأبيض والأسود، رغم اللون الحارق للحنّة وشجر البرتقال والقطط المرقّطة. هو عالم يعود الشخص لدخوله وهو يخوض في عواصف الحياة، لاستدراك الأنفاس وتحديد نقطة التمركز الأولى، في فوضى تبدّل العوالم والوجوه والبيوت.

كان ثمة قطبان لحياتي في الطفولة. بكرة خيطان تمتد في اتجاهين: الأول ينتهي في يد عَليا الوحش، أم أبي، والآخر ينتهي في يد عائشة عليّان، أم أمي. عَليا وعائشة تتقاسمان خصالاً مشتركة في مسيرتي حياتيهما. هما فلسطينيتان، نزحتا من فلسطين، وكانتا وحيدتين لدى تربية أطفالهما بعد الزواج الأول. في قصّتيهما تتقاطع سوريا وفلسطين، هذان البلدان اللذان ضاقا بأهلهما، وكُتب تاريخهما الحديث بالقهر والدموع والهجران القاسي. أتخيلهما تسيران في درب طيني، بأنفاس متقطّعة وعيون تحاول قراءة المصير المبهم، غير أنهما كانتا أمّيتين، ولا تستطيعان القراءة. لقد حصّنتهما هذه الأمية من معرفة مرارة المخبوء في الطالع، حيث ستتكرر هذه الحكاية أكثر من مرة وبأكثر من شكل، وستمرّ مدية الأقدار المسنونة على الحبال التي شدتاها إلى الأوتاد، وستتراكم الخسارات كندف الثلج وتصبح جبلاً، وستقضيان خريف العمر وحيدتين وناظرتين إلى التاريخ بمرارة من لا بأس له. 

عائشة عليان

أتذكر عن عائشة عليان، التي توفيت عام 2006، بيتها في الحارة الشرقية في حي جوبر. خريطة هذا الحي في ذهني كانت تنتهي عند بيتها، وكان كل شيء بعد هذا البيت يُعتبر هامشاً، حتى الأحلام التي أراها في تلك الحارة، لا يتجرأ شخوصها على اجتياز الشادر الذي سدّت عائشة به الحارة. لم يكن مسموحاً لأحد بعبور هذا الشادر، سوى نحن، الأحفاد، والقطط والعصافير. كان لعائشة موقف حادّ وهجومي ضد كل الناس، خلقته المرارة والظروف القاسية التي تنُشب الأظافر وتسن الأنياب، ترجمةً لقول المتنبي: «كيف الرجاء من الخطوب تخلصاً.. من بعد ما أنشبن فيّ مخالبا».

كان الناس يخشون كلام عائشة اللاذع. حتى الجيران القريبون، أصحاب البيت الذي تسكن به، كانوا يهابونها ولم يحصلوا على البيت الذي كانوا يريدون الاستحواذ عليه، إلا بعد أن توفيت. كان غضب عائشة الدفين يتجلى في التمرد على كل شيء: على زوجها الثاني سليم الذي حرمته من رؤية الأولاد، وجيرانها الذين ترميهم بحمم الكلام، وبناتها فريال ووفيقة وشفيقة وكوثر، اللواتي ورثن هذا التمرد عنها. كان هذا الغضب وليد حياة، هُجِّرت فيها من بلادها، بعد أن تزوجت وهي في الثالثة عشرة. حياةٌ كانت فيها أمّاً لثلاث بنات قبل أن تبلغ السن القانوني، وحُرمت خلالها من رؤية ابنها إلى الأبد، بعد أن قرر الذهاب إلى مصر، بسبب التروما، التي دفعته إلى رفض القدوم لرؤيتها حتى وهي تموت، لأنه اعتُقل في سوريا شهوراً في السابق، بسبب تشابه الأسماء مع شخص آخر. بين «نخلة» و«نحلة» كان الفرق نقطة واحدة في الكنية، حرمت أم زياد من رؤية ابنها البكر، زياد، لمدة ثلاثين عاماً. كانت تحاول تخيّل شكل وجهه وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، دون أن تفلح ذلك… كان حاجباها معقودان كأنها تحاول التذكّر.

كان غضب الجدة يتلاشى أمام الأحفاد.. كنا التعويذة السرية لتهدئة البراكين في عينيهاهذا الغضب الذي راكمته عائشة، الملقّبة بـ«أم هرّو» في حارتها، كان ينقلب رأساً على عقب حين أطرق بابها أنا وأخواتي، ويتحول إلى ملبّس لوز وسكاكر تناولنا إياها من خزانة الملابس، مع ابتسامة حب وطمأنينة، وهي سكاكر تأتيها من قافلة الإعاشة التي توزع المعونات على اللاجئين الفلسطينيين. كان غضب الجدة يتلاشى أمام الأحفاد.. كنا التعويذة السرية لتهدئة البراكين في عينيها.

ما بقي من سيرة عائشة، اعتماداً على الذكريات المفككة التي تحاول أمي ربطها ونفض الغبار عنها، هو أنها تزوجت بسليم «الدرزي»، الذي «حلف لها الأيمان المغلّظة بأنه مسلم». والذي كان، بحسب بنات عائشة، صديقاً قريباً لفهد بلّان، ويحفر معه الآبار: «كان أبي يحفر وفهد بلان يحمّل»، تقول أمي، مشيرة إلى أن آخر مرة رأت فيها والدها، سليم المسكين، كانت حين جاء ملثماً إلى حي جوبر لرؤية أبنائه، حيث ستصرخ عائشة، ببديهتها الحاضرة للأذى، دافعة أهالي جوبر لمطاردته، بعد أن ادعت أنه «اسرائيلي»، مستغلة زرقة عينية البادية من اللثام.

نتذكر عن عائشة أيضاً أنها رفعت سريرها على قطع خشبية، اضطرتها لتسلقه بواسطة كرسي عند الصعود والنزول، لأنها «تريد رؤية الله من النافذة». الله الذي كانت تستيقظ لتحدثه في جوف الليل، وتأخذ منه الجبروت مقايضةً بالدمع. تقول أمي إن عائشة «ما كانت تعرف تحبّ حدا»، مشيرة إلى أنهم ورثوا عنها هذه الخصلة، التي جعلت التعبير عن الحبّ شبيهاً بإزاحة الجبال. إلا أنني أحار في أمر هذا العطف الذي كُنّا نتلقاه منها. الحصون والجدران تنهار في علاقة الجدة بأحفادها، فعائشة لم تُقبّل أحداً سواهم في حياتها. هناك سرّ ما يمنع سهام النار والغضب من التوجه إلى صدور الأحفاد. سرّ يعاكس حركة المنطق والتاريخ ومحاولات الفهم.

لا نعرف بالضبط ما الذي كانت ستفعله عائشة إذا كانت على قيد الحياة في ظل البراميل المنهالة على حي جوبر. أكتبُ هذا ويداي ترتجفان من المشهد: عائشة تتشبث بشجرة الأكادنيا، وتلعن هذا العالم بلسانها السليط، فيما تنهال شظايا البيوت الطينية المُذنّبة بالدخان الأبيض على باحة دارها. إلا أن الأقدار وفّرت عليها مسيرة نزوح جديدة ومواجهة أسئلة المصائر مرة أخرى، وجعلتها تغادر هذه الحياة، بعد أن تقلص وزنها إلى ثلاثين كيلو غراماً في مواجهة السرطان. لم يبق في المشهد العريض من بعد عائشة إلا سِيَرُ النزوح، وأسئلة المصير، والخوض في الدروب الطينية، والمنظمات التي تقدّم السكاكر لضحايا الحروب، إضافة إلى كيس من الصور، جمعوه لدى وفاتها، وظنّ أحدهم أنه كيس قمامة، فتناوله بيمناه وحمله إلى المكبّ.

عَليا الوحش

خلقت عليا، دون أن تدري، عالماً سحرياً سيظل معنا طيلة الحياة. صور ومشاهد لا تحتاج إلى رمنسة لتصبح فيلماً شاعرياً بطيء الوقع، تظهر فيه بجدائلها المُحنّاة في شبوب الفجر أمام المرآة، أو في الحوش بين الأشجار في ساعة المغيب الحمراء، التي تُشعل الأفق من جبال «الباردة» إلى حي «الإذاعة».

بعد النزوح الأول من فلسطين، والاتجاه إلى الجولان، والنزوح الثاني نحو دروشة في ريف دمشق، سارت عليا بأبنائها اليتامى إلى حي جوبر. كبر الأبناء، غازي وغازية وعبد الله وأحمد، يتذكرون نهراً جارياً في دروشة، وسيراً طويلاً من جوبر إلى المدارس الداخلية في حي الميدان. دفع البؤس المادي غازي، الذي هو والدي، إلى السفر نحو السعودية، حيث سيرسل القصائد إلى أمي، والتحايا والأخبار إلى بقية أفراد العائلة، من خلال الكاسيتات المسجّلة. بعض الكاسيتات لا زال موجوداً في سوريا اليوم، يتحدث فيها غازي عن  آخر المستجدات، ويؤكد أن هذا الفِراق القاسي مؤقتٌ ولن يطول كثيراً. إلا أن دوامته التي ستطول لتصل إلى 35 عاماً، لا زالت مستمرة، وستبتلع أحمد أيضاً، آخر عنقود عليا. ليظل عبد الله، الذي درس الطبّ في حلب، هو الوحيد القريب منها، إضافة إلى غازية التي تزوجت مصطفى العيق وذهبت إلى عين ترما.

انتقلت عليا إلى مخيم سبينة، أواخر الثمانينات، ظانة أن هذا سيكون الانتقال الأخير بالأحمال والهموم إلى طرف قصي، بعيد عن غضب العواصم وتقلبات التاريخ النزقة. في سبينة، خلقت عَليا مجالاً حيوياً جديداً، وهي في الستين، لم تلبث أن غزته القطط والأشجار والورود وحكايا الدواوين مع الفاكهة المقشرة ورائحة القهوة المرّة.

تحوَّلَ بيت الجدة في سبينة، كما هو الحال في جميع العائلات، إلى وجهة أفراد العائلة في عطلة الأسبوع. ولن أدرك غزارة الحمولة الشعرية التي سأرثها من هذا المكان، إلا بعد أن تنقطع سبل الوصول إليه.

في محاولاتي الفضولية العديدة لتقصي الحكايات من بداياتها، كنت أواجه ضبابية في سرد أبي أو أمي لقصص حدثت قبل أربعين أو خمسين عاماً. آلاف الأيام والأحداث لا يرشح منها إلا رؤوس أقلام وجمل خاطفة، وهو ما يفتح الباب واسعاً لإطلاق عنان المخيلة، ولكنه، في الوقت ذاته، يثير القلق من تحول حاضرنا الرهيب إلى ومضات في أذهاننا، بعد أن يرميه الوقت من النافذة كمنديل مُدمّى.

كانت هذه العباءة موطن اللجوء الأول من البطش، الذي يخفض العصيّ ويعيد الأحزمة إلى الخصوركانت عليا، على خلاف عائشة، تحب الناس وتودّهم وتشاركهم الحديث. ويبدو أن نصيباً من الحكمة كان لها في هذه الحياة، وكانت أقدر على فرض سلطتها على أبنائها وجيرانها بالمودّة لا بالتعنيف. ولطالما صمت الجميع وهي تتحدث، وانهارت سطوة الآباء الصارمين لدى التجاء أبنائهم إليها والاحتماء في كنفها، والتشبث بعباءتها السوداء. كانت هذه العباءة موطن اللجوء الأول من البطش، الذي يخفض العصيّ ويعيد الأحزمة إلى الخصور. سوف نتذكر هذا الشعور بالأمان طويلاً، بعد أن توازعتنا القارات وافتقدنا الشعور بالحصانة من الأذى.

كنت، في مرحلة من المراحل، أظن أن عليا تمثل السقف الأقصى للقدرة على تحمل الآلام. قيل كثيراً إن أحداً لم يرها وهي تبكي في الجنائز أو لحظات الوداع. سيظهر هذا جلياً وهي تتوسط الناس في أوقات كهذه، فيما تتجه العيون إليها، وهي تتحدث عن القدر وقلة الحيلة في مواجهته، فالظروف عوّدتها على ترك الأشياء تسير في مجراها دون تدخل واعتراض، توخياً للدخول في معارك خاسرة. ولكنني كنت شاهداً على لحظة استثنائية، رأيت فيها الدموع تنهال من عينيها بغتة، وهي لحظة كان فيها تدفق العاطفة أسرع من القدرة على السيطرة عليه ومعالجته نظرياً. تلك اللحظة التي جاء فيها غازي بشكل مفاجئ بعد أعوام طويلة من الغياب، ودخل عليها إلى الديوان وهي تقشر تفاحة. شهقت باسمه وبكت دون أن تشعر. كانت هذه دموع الظفر بما سبق أن تصالحت مع خسارته. كان هذا خرقاً مباغتاً للاتفاق المبرم بالتراضي مع الحياة بأخذ الأشياء. بإمكاننا القول إن لمسة الحياة الحانية على الكتف، في تلك اللحظة، أحدثت اختراقاً عجزت عن فعله الصفعات.

انتظمت أيام عليا في سبينة على إيقاع الصلوات الخمس ونوافلها، والاهتمام بأشجار الحوش، وإطعام القطط، وانتظار أيام العطل لاستقبال الأحفاد. كان في جوارها عبد الله، طبيب الحيّ، وابنه أحمد، الذي يعرف من أين يشتري الدخان المهرّب الذي تفضله، إذا نفذ من السوق، ويقرأ لها لافتات السرافيس، والأخبار العاجلة بالخط العريض، ويحضر طعام القطط من عند اللحام.. كان يدها اليُمنى وعكّازها البشري. 

كانت عليا تستيقظ قبل أن ترسل الشمس أشعتها الأولى من وراء «جبال الباردة»، وتتوضأ، وتمشط شعرها المحنّى أمام المرآة، ثم تعقد ضفيرتين، وترتدي زيها الجولاني، وتلف العصبة المنقّشة بالورد على رأسها،  بيديها المنقّشتين بالوشوم والمُزدانتين بالذهب، ثم تتناول فاكهة أسقطتها أشجار الحوش وتدخن سيجارة الصباح، بعد أداء واجب الرب في الظلمة الخافتة. فوق المرآة التي تنظر إليها ، هناك صورة لعلي الوحش، شقيقها، ممتطياً فرساً أبيض، وحاملاً بندقية. هو في الأصل علي النميري، ولكنه لُقّب بالوحش بسبب ضراوته في القتال ضد جنود الاحتلال الاسرائيلي، حيث عاد فرسه وحيداً ذات يوم، بعد أن تحول فارسه الفلسطيني إلى أشلاء، وصار بطلاً أسطورياً، سُمي شارعٌ باسمه في حي السيدة زينب في دمشق. «شارع علي الوحش» هذا، صار الأشهر في المنطقة.

لدى البحث عن شارع علي الوحش على غوغل، ستظهر معلومات جديدة عنه، تُحيل إلى الامتزاج المثير للأسى مرة أخرى، بين تاريخي سوريا وفلسطين. فبعد أن أصبح «فرع فلسطين» قريناً لنزع الأظافر، سيقترن اسم علي الوحش بكلمة جديدة إلى الأبد. ستكون «مجزرة شارع علي الوحش»، هي الأكثر رسوخاً بعد تاريخ 5-1-2014، حيث أعدمت ميليشيات عراقية وإيرانية أكثر من 250 مدنياً رمياً بالرصاص لدى محاولتهم الخروج من المناطق المحاصرة جنوبي دمشق، بعد إعطائهم الأمان، إضافة لاعتقال نحو 1500 مدني، كثيرون منهم لا زالوا مجهولي المصير حتى اللحظة.

12-12

في تاريخ 12-12-2012 تحققت لدى عليا نبوء المايا بالقيامة، ذلك أنها ستتلقى خبر اعتقال ابنها عبد الله، الوحيد الذي بقي قربها، وحفيديها، أحمد (عكّازها البشري) وربيع (ابن ابنتها)، على حاجز للنظام السوري، لتختفي أخبارهم وترد أسماءهم منذ ذلك الحين، بين المفقودين ومجهولي المصير والمغيبين قسراً. كان هذا بعد نزوح عليا الأخير من سبينة إلى صحنايا، الذي تركت فيه الديوان للعسكر، والقطط للمجنزرات، والأشجار للعطش والرصاص الطائش، والصور للحريق، والخراب للمرايا.

بعد اعتقالهم ونزوحها، بدأ الانكسار بالتسرب إلى نبرة عليا أثناء الحديث على الهاتف، وهي نبرة تكابر عليها، وتحاول، متجاهلة النيران التي تأكل أيامها، سؤالي بلهفة عن أحوالي، والاطمئنان عليّ، وإن كنت قد تزوجت أو وجدت «بنت الحلال». سيُضاف إلى هذه الخسارات المتراكمة أمام عليا، وفاة زوجها، أبو هاني، بعد أن كُسر حوضه وبقي وحيداً لأيام في بيت سبينة، الذي حاول زيارته أثناء الحصار. ثم انقطاع أخبار زوج حفيدتها أثناء محاولته السفر عبر البحر إلى أوروبا. إضافة إلى وفاة أبو ربيع، زوج عمتي، قبل أيام، الذي كان فدائياً  فلسطينياً جميل المُحيا وضخم الجثة، والذي كُسر قلبه على ابنه المُعتقل والمجهول المصير، ربيع، مع عبد  الله وابنه أحمد.

لم تحمل معها الكثير لدى مغادرتها المنزل آخر مرةتجاوزت عليا الثمانين عاماً، وأجرت عملاً جراحياً في حوضها مؤخراً، أقعدها عن الحراك. وبدأ يتضح من كلماتها، للمرة الأولى في حياتها، أن الألم أكبر من القدرة على احتماله، وأن البلوى أقوى من الصبر، وأن الأقدار أوخم من الطالع.لم تحمل معها الكثير لدى مغادرتها المنزل آخر مرة. تُدلّك يديها بقشر الليمون، وتظهر عروقها من تحت الوشوم. تتناول المسبحة وتهمس بلسان صابر، بعد حياة مليئة بالنزوح والهرب وجور التاريخ، وقد انقطعت الآمال برؤية جميع أولادها ومعظم أحفادها، رغم حاجتها الشديدة ليد تسندها للوقوف. تحاول عليا قراءة وجه هذا العمر العابس، الذي حوّلها، هي وجميع نساء العائلة في محيطها، إلى ثكالى وأرامل، وخطف أغلى ما يملكن، بضربة واحدة، لتنعكس الأيام في عيونهن حطاماً، ويكنّ، مثل ملايين السوريات والفلسطينيات واليمنيّات والمصريات، اليوم، مادّة الفصول الأكثر فداحة في تاريخ البشرية الحديث، والشاهدات عليها. هذا التاريخ الذي ترسمه القسوة وتحطيم الأضلاع والضرب على النواصي، وتحاول محوه الأيدي الملوِّحة للراحلين. التاريخ الحافل بالخسارات، والذي تُقتنص فيه لحظات المسرّة اقتناصاً، كما هو الحال لدى عليا، التي تحاول الرضا بما تبقى بين يديها اليوم، مثل سجائر الـ«كِنت» التي تتغزل بها، وأبناء أحفادها الذين يشبّون ويتعلمون الركض والكلام، وتمدّها وجوههم، التي تحمل ملامح آبائهم، بما يلزم من الصلابة والأمل للبقاء على قيد الحياة دون تذمر.

تطلب عليا اليوم من محدثيها -أبناؤها المغتربون أو أحفادها الراحلون- تكرار ما يقولونه أكثر من مرة. ولا نعرف إن كان هذا سببه ضعف سمعها هذه الأيام، أو رغبتها في تفادي الأخبار السيئة، أو أنها، بحيلة لا تحمل خُبثاً، تريد سماع أصواتهم قدر المُستطاع، وترسيخ العبارات التي يكررونها دون أن يعنوها كثيراً، لتتحول إلى حقيقة لديها، تعيش معها وتربّيها كما كانت تربّي شتائل الورد: «نحن بخير يا جديدة. نحنا مناح».

————————-

نانا حسنة/ سلام الحاج حسن

    يا هالعريس وين بلادك ما قريناها

    يا بدلتك من جبل عجلون قطعناها

    و تفصلت بحلب واهتزت بالشام

أستمع لهذه الأغنية في رحلة بين عمّان وإربد خلال إقامتي البحثية المؤقتة في الأردن قبل أشهر. حرف السين، هسيس السين أسمعه وكأن جدتي حسنة تغني، وكأن السين تصفر من بين أسنانها. ينمحي انقطاع الزمان والمكان، وأرى تفاصيل ملامح وجهها الحنون، وابتسامتها الحزينة. تغني وهي تعرف أن زمانها قد ولّى، تلك البلاد بعيدةٌ حتى عندما كنا معاً في غرفة البلكون المطلة على ما أعتقد أنها أجمل وأنعم حديقة في بستان الباشا في حلب.

عنوان النص «نانا حسنة» لأن جدتي لم تكن جدتي وحدي، أو جدة أبناء وبنات أعمامي وعماتي فقط. هي «نانة» الجميع، جميع أهل قرية مريمين ومن مرّ فيها ومن جاور أبناءها الذين استقروا في حلب. «نانا» تعني جدة، وهي أول كلمة نطقتُ بها، ربما لأنّ الكلمة سهلة على لسان طفل. الـ «نان» هو الخبز في الفارسية كما أخبرتني صديقة. جدتي هي خبز حياتي بمعنى ما: أساسية، ودافئة، وطازجةُ ومُفرِحة.

معروفةً بحكاياتها. حفظت الكثير من الحكايات ورَوتها باتساق وبراعة. حكاياتي المفضلة تضمنت الشاطر حسن، وعلاء الدين، وبنت الفيل، والبيضة، وبعضٌ من نوادر  جحا. بعض الحكايات كان شديد القسوة، روتها جدتي بالصوت نفسه، وكأنّما هي الحياة فيها القاسي وفيها البهيج. ما شاركتنا به عن حياتها كان بالنسبة لي حكايةً أخرى، اختلفَت بأن زمنها معلوم أكثر بقليل من لا-زمن الحكاية.

*****

قرية مريمين، التي قضت فيها جدتي معظم حياتها، قرية من قرى شمال حلب أُتبعت لقضاء عفرين بعد تأسيسه في العشرينات. بدءاً من مريمين تمتد قرىً عربية نحو الشرق، وتحدّها غرباً وشمالاً وجنوباً قرى كردية، بالإضافة إلى قرية المزرعة شمالاً، التي استقرّ فيها البدو بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي وتعديلاته سنة 1958. شكلّت الزراعة المصدر الأساسي للعيش حتى الستينات والسبعينات، حين لم تعد الأرض تكفي سكان القرية الآخذة أعدادهم بالتزايد، وبدأت بعض العائلات بالعمل في حلب، وخصوصاً في مجال ميكانيك السيارات في الراموسة، وفي أعمال البناء. قسم كبير من الجيل اللاحق تطوّع في الجيش والشرطة، ودرج القول بين الصبايا المقبلات على الزواج: «إذا مو ملازم ما هو لازم». دخلت الكهرباء القرية في أوائل الثمانينات. وقبل الكهرباء وبوبورات الغاز، كانت جدتي وبقية نساء القرية يطبخن ويخبزن باستخدام «الدفاية»، وهي عبارة عن فرن حطب يُبنى داخل الغرف وتمتد منه مدخنة إلى السطح.

*****

تيتّمت جدتي وهي بعدُ طفلة. توفي والدها وتزوجت أمّها بعد فترة وجيزة. انتقلت حسنة لتعيش في بيت عمّها. تعتبر نفسها يتيمة الوالدين بسبب حرمانها من أمّها. ولأمّها حكاية -ومَن ليس له حكاية؟-. أمّ جدتي نجت من مذابح الأرمن، وفرّت جنوباً لينتهي بها المطاف في قرية بيانون، قرية من قرى شمال حلب. تقول المروية أنّ ‘ويسي’ من مريمين رأى جدتي مع بدوي ورآه يضربها فاشتراها منها بليرة ذهبية أو أكثر، و’العمّ محمد’ من بيانون أخذها من صديقه ليربيها وتعيش بينهم. ما أعرفه من اسمها الأرمني أنه كان ينتهي بحرف الشين، فكان أنّ سموّها «عيوش». 

لم تتكلم جدتي عن أمّها إلاّ بمزيج من فخر وإعجاب وحرمانتقول المروية أيضاً إنّ عيوش ذهبت في زيارة مع مربيّها، العمّ محمد، إلى حلب. وصادف أن لفتت أنظار امرأة أرمنية فاقتربت منها وجربت أن تحادث عيوش باللغة الأرمنية فأجابت. بعد حين، خُطفت عيوش وأودعت في دير للأرمن بحلب، وقضت بعض الوقت ويبدو أنها لم تكن سعيدةً هناك، فاستطاعت أنّ تبعث برسالة للعمّ محمد تطلب منه أن يعيدها إلى بيانون، وعادت فعلاً. لم تحدّثنا حسنة عن والدها الذي فقدته في عمر السنتين، ولم تكترث وتخبرنا عن زوج أمّها أي شيء. لم تتكلم جدتي عن أمّها إلاّ بمزيج من فخر وإعجاب وحرمان. تلك القصة هي الوحيدة التي كان لها طعم المرارة.

 ما أذكره عن عيوش صوتها العميق، وتجاعيد وجهها، وقامتها النحيلة المحنية قليلاً وعيناها الزرقاوين. تجلس في صدر الغرفة، وتشاور بيدها سائلةً جدتي: «أبو حرب (أبي) عنده هَو التنين بس؟- تقصدنا أنا وأخي-». روت أمي لي لاحقاً أنني قابلت عيوش أول مرة وعمري ستة أشهر، واختلط عليَّ الأمر ولم أميّز بينها وبين جدتي، وصرتُ أزحف من نانا لأخرى. واستغلت عيوش الفرصة وعلمتني الحبو. دفعتني للاستناد على يدي وركبتي بدل الزحف. لعيوش طقوس، كما سمعت من أهل القرية، فهي لا تأكل إذا دخلت بيتاً وكانت سفرة الطعام ممدودة إلاّ إذا كانت مدعوة قبلاً. لها ذوقها الخاص بالطعام، وعلِمتُ لاحقاً أن لعيوش أقرباء في فرنسا، لكنني لا أعرف إن تواصَلَت معهم أم لا. بقيت في قرية بيانون حتى مماتها عن عمر ناهز الخامسة والتسعين. واحتفظت بملكاتها العقلية حتى النهاية، ما طمّأَنَ جدتي نوعاً ما، فقد كانت تخشى الخرف أكثر من أي شيء آخر.

*****

تزوجت جدتي في الرابعة عشر من عمرها. طلبها ابن عمها الذي تربّت معه أولاً فلم ترغب به. «متل أخوي»، أتذكر أنها أخبرتني يوماً. وهكذا كان أن تزوجت جدي أحمد من مريمين. جدي كان مصاباً بالصرع، ورغم معرفة بعض أبناء بيانون بوضعه إلا أنّ جدتي يبدو أنها لم تعرف بذلك «التفصيل» إلاّ لاحقاً. لم تشعر بفارق كبير في البداية، لكن مع الوقت وتدهور المرض صارت تعاني مع جدي، فكان يشتمها عندما يغضب: «يا يهودية يا بنت الأرمنية». تخبرنا بذلك وتضحك. أنجبت منه ثلاثة أبناء وابنة، ولم تفكر ولو للحظة بتركهم، خشية أن يصبحوا أيتاماً مثلها.

جدتي خبزي وزيتيتلك «الغريبة» -والغريبة كلّ من تزوجت من خارج قريتها- ساعدت جميع أبناء القرية، تطهو في الأعراس والمناسبات. أذكر جيداً طعم السليقة التي كانت تُعدّها، والتي تُوزَّع عندما تبدأ أسنان الأطفال بالظهور. تعالج آلام المغص بالتدليك (تُعيد الصرة «الواقعة» إلى مكانها)، وتبشر النساء بالحمل، و«ترفع اللوزات». أتلمّس رقبتي كلما تذكرت تلك الأمسية من أيلول، كنت في المطبخ أشرب الماء وأشتكي من صعوبة بلعه. جدتي الواقفة وراء الغاز تطهو أتت بصحن الزيت بسرعة وأمسكتني من رقبتي ودلكت لوزتيَّ و«رفعتهم»، يا للألم! ولكن، للأمانة، شعرت بأن لوزتي تحركت من مكانها صعوداً، ربما خوفاً من تكرار التجربة. حسنة حصدت القمح وقطفت الزيتون معظم حياتها، واعتنت بأرض جدي التي أصبحت أرضها، تحصدها فتأكل منها وتُطعمنا. كنت أنتظر تنكات الزيت الثلاث كل سنة بترقب، بلونه الأخضر البديع ساعة سكبه من التنكة في قوارير أصغر ثم رفع التنكات غير المفتوحة إلى السقيفة. زيت جدتي له نكهة يمكن تفريقها عن زيت الأرض المجاورة حتى. جدتي خبزي وزيتي.

*****

زودتني جدتي بمفاهيم مغايرة عن المفاهيم التي استقيتها من أمي وأبي. ومن أوائل الأشياء التي علمتني إياها، مثلاً، مفهوم المُلكية. علمتني كيف أقول «هذا لي». تروي أمي كيف كانت جدتي تمسك اللحاف وتضمّه إلى صدرها بقوة وتصرّ: «قولي ‘ها إلي’». ربما كانت تحاول أن «تصلح» طريقة والديَّ الشيوعية في التربية. لم يهتمّا بالملكية كفاية، ولا بالدين. عبّرت نانا دوماً عن حبها لأبي، وكانت تضيف «بس لو ما هالشرب»، «هال ليلين -تقصد لينين- خرب عقله». رغم ذلك، كانت تطبخ لأبي وأصدقائه في رمضان. كانت ملاذاً لهم حتى لو لم توافقهم.

لا معنى لرمضان بدون نانا حسنة. كانت تبذل جهداً لكي تكون معنا بالذات في هذا الشهر. إن كانت معنا صمنا أنا وأخي، ومتى ذهبت أفطرنا. معادلة بسيطة واضحة للجميع، وبدون زعل. وهكذا، تكفّلت النانا بكل شيء: السحور، والإفطار، والمعروك، و«الإفطارية» -أي عشر ليرات لكل صائم- ومزيد من الحكايات في المساء. لا عجب أننا كنا ننتظر «الشهر الفضيل» ونفرح بقدومه. تعلّمتُ من جدتي كيف يمكن لنا أنّ ننذر صيامنا في بداية رمضان: هي تنذر صيامها لعيوش، وأنا أنذر صيامي لها. فكرت حينها أنه إن كان ثمّة جنة فمن أحق بها من جدتي؟

*****

آمنت حسنة بقيمة التعليم، ودافعت عن حق ابنتها في الالتحاق بمدرسة في مريمين، لكن الكلمة الفصل كانت للإخوة فلم تتعلم عمتي. علّمها أبي القراءة بعد سنين طويلة عندما استقرت في حلب. جدتي أخذت موقفاً مماثلاً عندما أرادت شابة من أقربائي أن تدرس الصحافة في دمشق. اقترحت جدتي «أي ويعني إش فيها؟ خلّها تروح». كانت جدتي قد أجرت عمليةً لعينها في وقت سابق وغطّتها بقطعة شاش، فردّت عليها أمّ الشابة بضحكة: «على مين طمشلك عينك التانية! خلّها تروح؟». تغيّرت الأزمنة، جدتي رقصت في أعراس مختلطة في القرية، ورعت الأطفال في أعراس النساء في حلب.

رغم معرفتي بتقدير جدتي للتعليم، استغربتُ موقفها عندما أخبرتُها أنني سأسافر إلى ألمانيا لأكمل تعليمي عام 2010. كانت مشجعةً جداً وقالت: «إش بدك بالعريس، ركزي بتعليمك». تحدثت عن الاهتمام بالتعليم وكأنه مضاد للغرام، وكأن الزواج دَنس. واخترتُ أن أحتفي بمباركتها، المشروطة ضمنياً بالعذرية.

جدتي لم تعرف القراءة وأسِفت لذلك. ودّت لو قرأت القرآن متى أرادت. أمها كانت تعرف كيف تقرأ وتكتب عندما قدمت للقرية، تخبرني جدتي؛ وكانت لعيوش مهارات كثيرة، مثل التطريز، مهارات لم تستطع توريثها لابنتها. حاولنا أنا وأخي أن نعلّمها الأرقام، وبعض الحروف في حال لزم أن تجري مكالمة هاتفية. في الواقع، لم تحتج حسنة للهاتف. تتنقل مشياً حيث تريد، تستيقظ فجراً في بيت ‘س’، تتوضأ، تصلي، تجلي الصحون، تكنس، وربما تطبخ؛ ثم تنتقل إلى بيت ‘ع’ لتعيد الكرة.

كنت أريد أن أقول لها إن حلب أكبر قليلاً من مريمينللترتيب قيمة كبرى عند جدتي. «بدي ياكي ‘سبعة’ (مؤنث السبع) بكل شي»- تخبرني كلما ساعدتها بالتنظيف- «بريدك تكوني أحسن الخلق». أفكر الآن أن توقعاتها كانت عالية. عندما كنت طفلة، أردت أن أكون كل ما قالته وأكثر: مضرب مثل في الأخلاق والفهم والنظافة. أذكر عصر أحد أيام آذار 2000، وكنت أُحضّر لامتحان الشهادة الإعدادية، حين أنهت جدتي صلاتها وقالت لي وهي تلّم السجادة: «شفتك بنومي طالعة الأولى على حلب». غطست في مقعدي على الأريكة. كنت أريد أن أقول لها إن حلب أكبر قليلاً من مريمين. لكني صمّت وابتلعت معرفتي بأنني سأخيب أملها قريباً. في زيارتي الأولى إلى حلب بعد سفري إلى ألمانيا، أخبرتني جدتي كم هي فخورة بي، وكيف تخبر الناس أني أتعلم في الخارج وأتقن أربع لغات (بالكاد أتقن لغتين ونصف). أخبرتني كم افتقدتني. ضممتها وقبلت يدها. أخبرتها أني سآخذها إلى تركيا السنة المقبلة. أغطس الآن في كرسيي. لم أفِ بوعدي.

*****

أبي طفلها المدّلل، لم يغير من ذلك شيء. أخي احتل مكانه بالدلال. بينهما صداقةٌ حسدتُهم عليها مراراً، فكانا يتضاحكان ويتوشوشان، ولقباني بـ «الدودة»، لأني «مدوّدة» من الغيرة. بينهما تدور محادثات من نوع أن يسألها غيث أخي: نون (تدليع نانا) الأرض مدورة؟ فتجيب: إيه. طيب، بتدور؟ تجيب: إيه. طيب، الله فوقها ولا تحتها؟ ترد: فوقها. طيب، وإذا دارت ما بصير تحتها؟ فترد بنفاذ صبر: يلعن هبالك مفكرها بتدور بالطول مشان توقع العالم من فسطها (منتصفها\عليها) بتدور بالعرض!

أحاديثنا ملأت ليالي الشتاء الطويلة. جدتي سكنت معنا معظم فصول الشتاء، ونامت بجانبنا أيضاً عندما كنا صغاراً، وكانت تدفئ أقدامنا الباردة بين قدميها بـ «القنونة». متى ما برد أحدنا يستجير بـ «قنونة نانا». شاركتنا الكثير، حتى تدريباتنا الرياضية. ارتدنا أخي وأنا صالة المأمون لنلعب الجمباز، ونعود ونستعرض ما تعلمناه في ذاك اليوم، لتتبعنا جدتي وتعيد الحركات بخفة. استطاعت أن تفسخ رغم صعوبة الحركة، ولطالما استمتعت بمصارعة أخي.

*****

لم يكن لجدتي مكان خاص بها. لها بيت (غرفة) في الدار في مريمين. تقضي معظم الشتاء في حلب، وتذهب إلى بيتها في موسم الحصاد والصيف. لبيتها أقسام لا تشبه أقسام بيتنا في حلب. يبدأ البيت بالعتبة، وهي أخفض من مستوى بقية الغرفة بقليل، تتسع لفتح الباب فقط وفيها مصرف للماء. إلى يسار الباب وفي صدر الغرفة عنبرٌ هو أيضاً محملٌ للفرش. والسقف عبارة عن أخشاب مرصوفة. أمام الباب نملية ومرآة نصفية كبيرة مائلة على الحائط، على إطارها صور قديمة للأولاد ولجدي أحمد، الذي تعرفت على شكل وجهه بفضل الصور تلك، فقد توفي منذ وقت طويل ولم أعرفه أبداً. نستحم في العتبة، بماء نُسخّنه على الغاز. الاستحمام في بيت النانا طقس أكثر منه روتين يومي. وإن تحممت هي يكتمل الطقس، إذ أمشط شعرها الأحمر المحنى الطويل، وأضفره أولاً بضفيرتين، ثم أجمعهما بضفرة في النهاية. تلفّ شعرها بمنشفة في واحدة من لحظات قليلة تستغني فيها عن الغطاء الأسود. إن اضطررنا في الليل للذهاب إلى الحمام، نحتاج أن نعبر أرض الديار ومسافة ثلاث أشجار إلى «الخارج» الذي أضافوه للدار في الثمانينات. بعد كل حكايا الجن والغيلان والـ«زبدلا» (وحش اسمه الزبدلا، يشق الحائط ويتدلى) كان من الصعب للغاية قطع تلك المسافة المعتمة في الليل.

لم أجرؤ على ذكر خوفي لجدتي، فهي لا تعرف الخوف. حين كانت شابة، وفي سهرة، تحدّت مسامريها بأنها تستطيع الذهاب إلى مزار الولي بدر الدين. المزار في مقبرة، والمقبرة بعيدة. وفعلاً ذهبت وحدها في العتم وعقدت شالاً على رأس الولي. جمع الرجال بعضهم وذهبوا مع فوانيسهم في فريق للتأكد. جدتي خارقة القوى، كانت تحمل برميل عصير حصرم على رأسها وتمشي به من بيتنا إلى بيت عمي في الهلُّك. تُعينها قطعة قماش تدوّرها وتضعها على رأسها تحت البرميل. سعة البرميل عشرين ليتراً. ينفل القول أنّ عصير الحصرم كان هدايا، تجمع الحصرم من الدوالي في الدار وتأتي به إلى حلب، بِطولها الذي لا يتعدى المائة وخمسين سنتيمتراً. كنتُ أُحمّلها البرميل وأتعجب لقوتها، وأركض إلى البلكون لأرى إن نزلت السلم بسلام. تمشي بغطائها وتحتانيتها وحذائها البلاستيكي الذي لم ترضَ أن تغيّره، والبرميل على رأسها. خطوات قصيرة رشيقة.

*****

غادرتنا نانا منذ خمس سنوات إلاّ عشرين يوماً. توفيت في مريمين بين أولادها. أبي كان لايزال في مريمين، وعمتي اعتنت بها في آخر أيامها التي لا أعرف تفاصيل كثيرة عنها. صُدمت بالخبر. حزنت ولكني لم أسمح لنفسي بالحزن طويلاً. لا أعرف متى فقدت القدرة على التعامل مع الحزن. لا أعرف كيف أحزن. لا أعرف كيف أتعامل مع تغييب البشر، وقتلهم واستباحة دمائهم، سواء كانوا أصدقائي أو شباباً وشابات لا أعرف عنهم إلا صورهم وسطرين شارك بهما أب أو أم أو شريك. لا عزاء. بلدٌ ينزف خساراته بلا عزاء. كيف أعزل حزني بفقدها إذن عن هذا الفقد الأساسي.

لا أعرف كيف أصف ما فقدته برحيل النانا. لا أعرف أبعاده. أهو الماضي برمته؟ أهو تمام الحضور إذ تدخل نسمة خريفية من باب البلكون الموارب عند الساعة الرابعة من بعد الظهر بينما النانا تطبخ حساء العدس وتحضّر الفتوش لنفطر عند ضرب الطوب؟ هل ما يؤلمني هو الموت بذاته كمُغيِّبٍ لجسد جدتي؟ أم الانقطاع في كل شيء، في الرائحة، في الزمن، في هسيس السين، في المكان؟ لم يبدأ الانقطاع بالموت. تركتُ ألبوم الصور في بستان الباشا. تركت الكاسيتات التي سجّلتُ عليها حكاياتها كما رَوتها. لم أعرف أني لن أعود، لم أعرف أن البيت لن يبقى بيتاً. ظننتُ أنه سيمكن لي تتبع ظلالها في زوايا المنزل لأزمنة قادمة. لا أعرف كيف أحكي عن قسوة الحاضر بالنَفَس ذاته الذي يحكي عن كرم الحاضر وجماله، مثلما فعلت يا نانا. عندما أعرف، سأكتب، بأربع لغات، أغنيةً من وحي حكاية وحركة خطوتك. قربانك.

———————–

الجدّة: الثابت والمتحوّل/ نبيل محمد

«نعم، نحب القرآن لأننا كلما سمعناه استحضرناه بأصوات جداتنا»؛ لم أعد أذكر من قال هذه الجملة، ربما لا أحد، ولكي لا يكون الحديث عن الجدة منطلقاً تماماً من هذا القول، ومؤطراً بجداتنا… لنتحدث عن جدات الآخرين أيضاً.

الجدة لا تموت

حقيقة واحدة لا تتغير في كل التفاصيل المتغيرة في قصة ليلى والذئب، والتي لا يمكن تحديد ما إذا كانت بالفعل تسهم في إطلاق مخيلة الطفل، أو إصابتها بمقتل، أو تحريضها على اتخاذ الطرق اللامنطقية في التحليل والتركيب. تلك الحقيقة هي أن الجدة لا تموت، يمكن التعميم هنا والقول «الجدات لا يمتن». ولا يمكن بناء هذه القصة دون خلود الجدة، أنّى كانت طرق تعامل الذئب معها، ففي سيناريو قيام الذئب بوضع الجدة في الخزانة وتهديدها بالأكل إن أصدرت صوتاً ريثما يأكل ليلى، ستأتي ليلى وتكتشف الحيلة، وتنادي للصياد الذي سيقتل الذئب ويُخرِج الجدة من الخزانة، وتبقى الجدة حية. في هذا السيناريو الذي لا تعتمده كل الجدات، الجدة ترضى، أي تفضّل حماية حياتها المتبقية -وهي مريضة هنا- على حماية حياة حفيدتها. تروي الجدات هذا السيناريو دون أي قلق على قيمتهنّ في نفوس الأحفاد.

وفي السيناريو الآخر القائم على أن الذئب يأكل الجدة بالفعل، وينام مكانها بعد ارتداء ثيابها، تتغلب ليلى على الذئب بمساعدة الصياد، فيقتلان الذئب، ويبقران بطنه ويُخرجان الجدة حية سليمة، بل وتتعافى بسرعة وتأكل الطعام الذي أحضرته لها ليلى، هذا في السيناريو القائم أصلاً على أن زيارة ليلى لجدتها «كانت بهدف نقل الطعام لها».

في إيران تَجري تعديلات جذرية على القصة فتصبح ليلى ذكراً، على اعتبار أن الفتيات لا يمشين وحدهن في الشارع، فكيف في الغابة. في بعض دول إفريقيا الذئب هو ضبع، وفي شرق آسيا أسد أو نمر. جدتك، والدة أمك، ترى خطأ ليلى في أنها لم تتّبع نصائح أمها… ووالدة والدك ترى أنها اتّبعت نصيحة أمها.

الجدة نمط

الجدة نمط أكثر مما تتخيل، بكل صفات جدتك الاستثنائية والمختلفة عن جدة زميلك في المقعد الدراسي الذي لا يشبهك بشيء، وربِّ عملك المتكبّر، وجارك تاجر الحشيش. إلا أن هذا الاختلاف بين الأحفاد لا يُحصّن الجدة من النمطية. هل تعتقد أن قدرتها على خرق قانون قطع المصروف عنك، الذي أصدره والدك بسبب اكتشافه تدخينك، أو كثرة مراهناتك في لعبة الفيشة، هو استثناء؟ لقد خرقت ملايين الجدات قرار الآباء بقطع المصروف عن أبنائهم.

كل الجدات قادرات على أن يقنعن الأحفاد بجمال حكاياتهنبالتأكيد، تعرف أن كل الجدات قادرات على أن يقنعن الأحفاد بجمال حكاياتهن، رغم تكرارها، ونطق بعض الكلمات بشكل خاطئ فيها. ولا بد أنك مقتنع بأن تقديم جدتك لساعة الحائط يدوياً مدة ربع ساعة، لتوهم الجميع أن أمك -أو أي شخص آخر تستهدفه- تتأخر دائماً وتتسبب في التهام الطعام بارداً عند دعوتها لكم إلى الغداء، هو تصرف استثنائي أيضاً ينم عن ذكاء بالقدر الذي ينم فيه عن احتيال. لكن لا، لقد أخَّرت أكثر من نصف جدات الكوكب ساعات الحائط لهذا السبب ولغيره، بل إن أكثر من يستطيع اللعب بعقارب الساعات لأهداف استراتيجية ولتغيير معادلات وخرائط السيطرة الأسرية، بطريقة تخلد حتى بعد وفاة الجدات، هُنّ الجدات… ربما يدعم ذلك الحقيقة الأولى؛ أنهنَّ «لا يمتن».

نمطية الجدة لا تشبه بمكان نمطية الأب، أو الأم، أو الأخ الأكبر. فالأب ليس بنمط، هناك الكثير مِن الآباء لا يعطون الأمهات مصروف البيت أمام أعين الأولاد، ليُظهروا مدى تضحيتهم لأجل بناء أسرة سليمة، وهناك أيضاً آباء لا ينشغلون يوم العطلة، بل على العكس يوم العطلة لديهم وقت فارغ للنوم والأكل فقط. وهناك سواهم لا يجرون إصلاحات في البنية اللوجستية للمنزل باستخدام مفك صالح لكل الأجهزة الكهربائية، وهناك آباء لا يكتشف الأبناء كذبهم. وكذلك الأمهات ليسوا نمطاً، فهناك أمهات لا يذكّرنَ أبنائهنّ بطريقتهم المضحكة في نطق الأحرف والكلمات عندما كانوا صغاراً، أو على الأقل يذكّرنهم بها مرة واحدة أسبوعياً لا أكثر.

لا يمكن للأب أن يكون جدةً فيحكي حكاية ويستعجل في إنهائها، أو يدخن أثناء روايتها لك، أو يغمز والدتك. لا يمكنه التركيز بسهولة على القيمة الحقيقية من هذه الحكاية، هل هي الخير والشر، أو الكرم، أو الإيثار. القيم بالنسبة له تُتلى تلاوة، هذا هو الخير وهذا هو الشر، لا داع لأن تكون للقيمة شخصيات خيالية تقدمها. الواقع يُقال كما هو على لسان والدك.

كل ما قالته الجدة يمكن تأويله

«لو كان العمر لحظة كنا منقول عنه طويل» هذا ليس مَثَلاً شعبياً، ولا جملة مقتصة من أدبيات عربية أو أعجمية، هذا قول جدة أحدٍ ما. لا يدري هو تماماً إن كانت ابتكرته أو نقلته عن سواها، لكن هذه الجملة تحضر على لسانه مع عدة جمل أخرى، تماماً بعد أن يقول «ستي كانت تقول:..»، إلا أن المشكلة الحقيقية أنه لا يعرف بالضبط مكان استخدام مقولة جدته، كونها مرنة ويمكن تأويلها، فهل يمكن استخدام المقولة السابقة «لو كان العمر لحظة…» عند وفاة أحدهم؟ عند وجود مشكلة أسرية بين الأخ الأكبر والأب؟ عند حدوث كارثة طبيعية؟ عند زواج الفتاة الأصغر في البيت؟ عند ارتفاع الأسعار؟ لا أحد تماماً يدرك المكان الأنسب لمقولات الجدات، خاصةً الحصرية منها، تلك التي لم يقلها أحد سوى جدتك. أما تلك التي «قالها المَثَل»، قد لا تكون مرنة إلى هذه الدرجة.

الأم والتحوّل إلى نمط

ليس تراجعاً عن المبدأ السابق الذي يقول بأن الجدة نمط، بينما الأم ليست نمطاً، إنما هو اعتراف بمسيرة الحياة الطبيعية التي تؤدي إلى تحوّل الأم إلى جدة، عند تحول أبنائها إلى آباء وأمهات، وتلبُّسها النمط رويداً رويداً، لتكون جدة بكل معنى الكلمة مع تعدد الأحفاد. وتلبُّسِ النمط ليس بالأمر الهيّن، بمعنى أنه ليس نتيجة نمو طبيعي وتقدم في السن، وظهور علائم الجدة شكلاً على وجه وقوام الأم، إنما هو نتيجة مجهود ذاتي تقوم به الأم في إطار التحوّل إلى جدة، من استعادة تفاصيل لسلوكيات كانت تمارسها أمها التي كانت جدة لأبنائها، ولسلوكيات جدتها أيضاً، مع بدء التميز بين دور الأم ودور الجدة في حياة الطفل، حيث تتخلى بحرفية عن دور الأم تاركةً إياه للأم الحقيقية، وتأخذ أول نمطية للجدة وهي «المعلم» للأم والأب بطريقة التربية. ومن ثم وبعد تعدد الأحفاد، أو على الأقل بلوغ أحد منهم عمراً يقدر فيه على التحليل والمحاكمة العقلية بشكل فردي، تكون الجدة قد أصبحت نمطاً كاملاً، فتبدأ القدرة على وضع الأمثال والقيم تتبدى، وكذلك اللعب بسيناريوهات الحكايات، واللعب بعقارب الساعة، وما إلى ذلك من تفاصيل سبق ذكرها… نعم والخلود أيضاً.

الجدة .. التاريخ بوجهيه

الجدة ليست شاهدة على التاريخ، بقدر ما هي التاريخ ذاته، بمعنى أنك لا بدَّ شعرتَ أن جدتك ليست مجرد شخص يروي قصصاً مرَّ بها في حياته، وأخرى لم يمر بها، وإنما هي ذاتها تاريخ كامل موازٍ للتاريخ الذي تعرفه أو تدرسه، يلتقي معه بنظريات وحقائق، ويختلف معه كلياً بأخرى.

يروي عماد، الذي يعيش مع جدته منذ 19 عاماً، أن جدته في إحدى ليالي كانون الثاني الباردة جداً، وعند عدم توفر وقود للمدفأة في منزلهم بسبب سوء في التنسيق مع تاجر الوقود، وحين قال أمام جدته إنه يشعر أن البيت بارد جداً، قالت له إنه في شتاء 1920، فقدت قريتها ربع سكانها نتيجة عاصفة ثلجية ألمّت بها. وعندما سألها ما هي وسائل التدفئة التي كان سكان القرية يستخدمونها في ذلك العصر، قالت إنهم كانوا يحرقون ما لا يستخدمونه من أدوات المنزل ضمن أوعية معدنية كبيرة تشبه البراميل ويحاولون تلقف الدفء منها، وأنها قضت وأسرتها ليالٍ طويلةً دون أي وسيلة تدفئة، ولم يكن أحد منهم يصاب بنزلة برد جراء ذلك، «لقد كانت لدى الناس مناعة مختلفة عن مناعات العصر الحالي»، بحسب الجدة.

الجدة ليست شاهداً على التاريخ، إنما هي تاريخبعد يوم واحد اشترى عماد الوقود، واستطاع تشغيل التدفئة في المنزل وجلس إلى جانب جدته متمتعين بالدفء. تحدثت عن قَصر جدها الذي سكنت فيه حتى زواجها من جده متعدد المهن، في القصر تفاصيل كان يصعب على عماد ذاته تخيلها، لعدم وجود أمثلة مشابهة في الحاضر لها، بألوانه المتضادة، وعدد غرفه التي لا تحصى، وعدد العاملين فيه، وأساليب التدفئة، وطبيعة العلاقات ضمنه.

لم يكن ما واجهه عماد تناقضاً، بل هو دلالة علمية على أن الجدة ليست شاهداً على التاريخ، إنما هي تاريخ، بتناقضاته، واختلاف أوجه رؤيته، وصدقه وكذبه، وإمكانية تفسيره وفق مدارس تختلف في أبجديات قراءة التاريخ.

الجدة لا تنام

كلهم يستسلمون للنوم إلا الجدة، ولعل المتعة التي كثيراً ما يتحدث عنها أفراد العائلة عن وجود الجدة معهم في كل سهراتهم، هي متعة مزيفة، إذ لطالما اشتهى الأحفاد والآباء نومها باكراً، فحضورها الجميل في سهرة اليوم، لا يعني حضورها الجميل في سهرة كل يوم. إن قنوات التلفزة التي تحترم ذوق المشاهد كانت تقدم فيلماً واحداً في الأسبوع. بكل الأحوال وبغض النظر عن استمتاع الأسرة بذلك أو عدمه، فإن الجدة آخر المستسلمين للنوم، ولعلها تقوم بنشاطات عديدة قبل النوم، قد تؤدي إلى استيقاظ أحدهم، على الرغم من الحذر الشديد الذي تتوخاه عند إغلاق علبة السكّر خوفاً من النمل، ومسح الزجاج الرطب تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ووضع المتبقي من الطعام في الأوعية بأوعية أصغر منها، وترتيب الأحذية عند الباب، وما إلى ذلك من الأنشطة التي من الصعب تمييزها دون أن نتذكر الجدة.

في الصباح الباكر، الجدة أيضاً هي أول المستيقظين، ولعلها تستيقظ قبل أول المستيقظين بساعة أو ساعات طوال، فقد أدت الكثير من النشاطات الصباحية، بعضها نسيت أن تؤديها ليلاً قبل النوم، وبعضها يتناسب مع الصباح، كإعداد شاي أو قهوة لمن سيستيقظ لاحقاً، وإعادة تعبئة الطعام في أوعية أصغر من أوعية الليل، ففي الليل قد لا تساعد الإضاءة على معرفة مساحة الصحن المناسبة للغذاء المتبقي.

من رأى الجدة نائمة؟ما بين نوم متأخر بعد كل أفراد العائلة، وبين استيقاظ مبكر قبلهم جميعاً، من رأى الجدة نائمة؟ سيقول الجميع «لا أحد»، بالتالي ليس هناك شاهدٌ أصلاً على نومها، فهي ربما لم تنم، وهو ما يبدو منطقياً، إذ يستغل الإنسان آخر سني عمره بالاستيقاظ لا النوم، ما يضاعف فترة الحياة المتبقية بين يديه.

رحمها الله

الجدة هي مشروع موت، كل ما حولك كحفيد يقنعك بذلك، كلمات أمك وأبيك التي تتضمن جملة «بعد عمر طويل»، وفاة جدات أصدقائك، كلمات جدتك ذاتها «بعد ما موت»، والتي أغلبها تصب في أن عدم اقتناعك فيما تقوله اليوم، ستتذكره مقتنعاً به بعد موتها. هذه الرميات التمهيدية، ستجعل موت جدتك شأناً لا يفاجئ أحداً، ولا يفاجئها هي، كونها تعيش ترقباً له، واقتناعاً بأمراضها وعُلب أدويتها المتزايدة يوماً بعد يوم.

في موت الجدة، قد تكون أنت أكثر من يبكيها، كونها تجربتك الأولى مع حدث الموت. أما سواك، فسيؤدي واجباته بمحض قناعة والتزام بضرورة تأدية الواجبات تجاه الميت، سيصمت في الساعات الأولى، وسيكمل حديثه ذاتَه الذي بدأ قبل وفاتها بطريقة عادية. سيرمي أحدهم ضحكة ثم يقتنع بأنها غير متناسبة مع الحدث، في اليوم الثاني للوفاة سيطلقها بشكل عادي، فقد مضى يوم على الوفاة وبإمكانه الضحك بسبب شأن يومي بسيط، أو بسبب نكتة. بعد يومين وأكثر سيكون ذلك طبيعياً للجميع، حتى بالنسبة لك. بعد ذلك ستبدأ أنت باستحضار الذاكرة، وترقُّبِ الرائحة، والالتفات للتفاصيل التي ستغيب يوماً بعد يوم. سيجمع أحدهم الأدوية ليعطيها لمحتاج أو ليرميها، هي والملابس. سيأكل الذئب جدة ليلى في سيناريو القصة الخاص بك. سيتلاشى النمط، ولن يمسح أحد رطوبة النافذة، ولن ينتقل الطعام المتبقي في صحون كبيرة إلى صحون أصغر… ستدرك حينها أنك بلا جدة.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى