يوميات وكتابات العزلة أدباء، فنانين، مثقفين -مختارات الموقع- متجدد يوميا
================================
الأدباء أبناء العزلة: بهذه الكتب والأفلام نملأ قوقعة كورونا/ وجدي الكومي
يوميات الثبات..
أن يتحول كل منا إلى جزيرة. أن ننفصل كما انفصلت البرتغال في الطوف الحجري.
أن يصبح كل ما حولنا خطراً وشيكاً. ونصبح ممسوسين خائفين من الاقتراب من بعضنا بعضا. أن نتحول إلى كائنات فزعة، خائفة، ثابتة في أماكنها. صارت هذه أبرز سمات هذه الأيام التي نقطعها في ترقب خائف، معركة البشرية الأخيرة مع الشبح. بينما هو يسجل يومياً انتصاراته بأعداد الوفيات التي تسقط من صفوفنا. نسجل في دفاترنا يوميات الثبات والسكون في الموضع. صمت الشوارع الخالية. نسجل يومياتنا عن أيام باتت كلها نسخة واحدة.. فلم تعد أسماء الأيام تشكل فارقاً. الآن صار لدينا يوم واحد. وبتنا لا نحتاج باقي أيام الأسبوع. كل الخطط ألغيت. لم تعد هناك حاجة لضبط الوقت. ولم تعد هناك حاجة لانتظار ساعة تمضي، وقدوم ساعة أخرى. فلا شيء سيحدث. نحن هنا الآن في اللحظة الساكنة الوحيدة. لحظة بلا مواعيد. لحظة بلا خطط منتظر تحقيقها. لحظة مماثلة للماضي. لحظة ميتة تماماً كالمستقبل الذي بتنا نتحدث عنه بسخرية مريرة.
نفدت المطهرات من الصيدليات. نفدت الكمامات. مواقع التسوق الإلكترونية تعرض أقنعة بأسعار فلكية، عُلقت الصلوات، الشرطة تنتشر لغلق الشوارع، والمحال، العالم كله صار قرية واحدة كما كانوا يقولون دائماً، لكنه قرية متقطعة الأوصال. تتشابه إجراءات مواجهة الكورونا في مصر، مع أوروبا، كما في أميركا. تدرك الإنسانية في النهاية أنه بات عليها التوحد للنجاة، يقاتل ابناؤها في جماعات منعزلة باستخدام الإجراءات نفسها للحفاظ على بقائهم وهم يحاذرون لمس الأشياء.
ماذا يفعل الأدباء؟ أبناء العزلة. الذين لا ينتجون إلا في ظلالها. ماذا يقرأون، وماذا يشاهدون؟ هل يسيطر الهلع على نفوسهم، ككاتب هذه السطور. أم اخترعوا وسائل لترويض الخوف ومواجهته.
خاطبتُ بعض زملائي الكتّاب في شتى أنحاء الأرض. في مصر وأميركا وألمانيا.. واقترحتُ عليهم أن يدونوا لـ”المدن” ما يفعلونه، وما يقرأونه في يوميات السكون.
الروائي المصري طلال فيصل المقيم بألمانيا: حياتي العادية.. كابوس الآخرين
لم يكن جديداً بالنسبة إلي أن أعرف أني شخص منطوٍ، هذه حقيقة قيلت حتى صار تكرارها بلا معنى، أن الكتّاب أو الفنانين – في الغالب ومن دون تعميم – أشخاص انطوائيون، أنشطتهم المفضلة أنشطة يقوم بها المرء منفرداً، مثل القراءة أو مشاهدة الأفلام أو سماع الموسيقى أو المشي، ثم الكتابة، في حالة الكتاب، أو عموما إنتاج الفن الذي اختاره كل لنفسه. لا جديد في ذلك، وهو يبدو منطقياً، فالشخص الذي يقرر أن يترك المشاركة الفعلية في الحياة، مفضلاً مراقبتها وتدوين مراقبته تلك، يبدأ من انطوائيته وعزلته ليصل وينتهي إلى الخلق الفني والإبداع. الجديد بالنسبة إلي أن هذه الحياة التي أحياها، مثل كثير من الفنانين، هي بالنسبة للآخرين كابوس لا يحتمل.
الأحاديث اليومية الدائرة هي ماذا سنفعل بالوقت؟ ماذا سيفعل بنا؟ كيف نتعامل مع حبسة البيت؟ هل ستطول؟ وإن طالت كيف نتفادى الجنون! تساؤلات مطروحة تثير مشاعر السخرية أو الأسى وأحياناً تدفعك لمحاولة التفهم، التساؤل الذي طرحه الكاتب مارسيل بروست قبل ذلك – وهو شخص قضى نصف حياته تقريباً منفرداً في سريره “لماذا يخشى الإنسان قضاء الوقت مع نفسه؟” رغم ذلك، حتى وإن لم يتغير نمط حياتي بشكل عام، إلا أن تغييراً ما طرأ على اختيارات القراءة الآن: كنت بدأت من أول العام مشروع قراءة شكسبير كاملاً وبشكل أكثر جدية، لأدرك بشكل أعمق سر بقاء الرجل كل هذه القرون مقروءاً ومشاهداً، ثم انفجرت أزمة الكورونا فابتلعت كل شيء وكل اهتمام وكل حوار. وضعت لائحة بأعمال عديدة متعلقة بالأوبئة، بادئا بـطاعون ألبير كامو، والذي تقرأه الآن في ضوء العزلة المفروضة بعين جديدة، كذلك ديكاميرون بوكاشيو، حيث يفرض الوباء على عشرة أشخاص العزلة، فيتبادلون الحكايات في ما بينهم تزجية للوقت. وجدت كذلك حالة الهلع العامة مناسبة تماماً لمزيد من القراءة عن الخوف واضطراباته، وعن الكلمة التي نحتها فرويد في اللغة الألمانية نحتاً جديداً، Angst لتصير عنوانا على القلق في صورته المرَضية. وأخيراً، كتاب لا علاقة له بعزلة ولا خوف ولا أوبئة، لكن لأنه الكتاب الجديد لأحد كتّابي المفضلين؛ جوليان بارنز، الرجل ذو المعطف الأحمر، وهو كتاب يزعم غلافه أنه عن جراح فرنسي يدعى صامويل بوتسي، من آباء جراحة النساء والتوليد، لكنه في حقيقة الأمر كتاب ساحر الأسلوب عن كل شيء وعن لا شيء، يترك فيه الكاتب والروائي بارنز لقلمه الحرية فيستطرد كيفما اتفق بلا موضوع محدد، وهو ناثر لا مثيل له، يحتفظ باهتمامك حتى وإن كنت لا تعرف عم يتحدث بالضبط.
المترجم المصري سمير جريس المقيم في ألمانيا: الترجمة في زمن الكورونا
“نفعل ما يفعل السجناء / و ما يفعل العاطلون عن العمل: / نربي الأمل”.
هذه الكلمات لمحمود درويش تلخص حالتي الآن بعد الانتشار المقلق للفيروس في البلد الذي أعيش فيه، ألمانيا، وبعد أرقام الموتى المفزعة التي تطالعنا بها الأنباء في كل يوم من دول الجوار، لا سيما من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا.
أحاول ألا أسمح للهلع والخوف، وأحياناً الهيستيريا، أن تصيبني بحالة من الشلل. نعم، آخذ احتياطاتي قدر الإمكان، لكني لا أريد أن أعيش سجين خوفي من الفيروس. الآن، وبعد شبه حظر التجول الذي فُرض في كل ألمانيا، لا يتبقى لنا غير أن “نربي الأمل”.
توقفتُ عن الذهاب إلى عملي بعد السماح لنا بإنجاز الأشغال من البيت. وما بين متابعة أخبار انتشار الفيروس، وبين إنجاز ما عليّ من أعمال، لا يتبقى سوى وقت قليل للقراءة. أطالع حالياً مسودة ترجمة قام بها الصديق أحمد فاروق لنوفيلا أخرى، للكاتب النمساوي أرتور شنيتسلر، الذي ترجمتُ له نوفيلا “حلم”. النوفيلا الجديدة بعنوان “مجد متأخر”، وتدور حول شاعر هَرِم اكتشفته فجأة مجموعة أدبية شابة، فظن أنه سيحصل في خريف عمره على المجد الذي لم يعرفه شاباً. كما أقرأ رواية “الأعراف” للروائي محمد علاء الدين والصادرة حديثا عن دار نوفل.
وأواصل العمل على مشروعي الجديد، وهو ترجمة رواية “شتيلر” للكاتب السويسري ماكس فريش. هذه الرواية مؤسِّسة في الأدب الألماني، وتعتبر من أهم أعمال الكاتب ومن أبرز الروايات الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. ولعلها المرة الأولى التي أسأل فيها نفسي خلال الترجمة: هل سأعيش حتى أتمّ ترجمة هذه الرواية الضخمة؟ وهل سأراها بعد صدورها؟
ورغم تشتت الذهن، ورغم الأخبار المقلقة، أربي الأمل، وأواصل العمل.
الروائية المصرية منصورة عز الدين: العودة إلى “الفتوحات المكّية” وأفلام الأربعينيات
ما نشهده حاليًا لم يحدث أن مررت بما يشبهه، كأننا نعيش على حافة الوجود حرفيًا. لا يتغلغل الفيروس في الأجساد فقط ليدمرها، لكنه يدمر معها مسلّماتنا وعالمنا كما ألفناه. هو مرآة تعكس أمراضنا وسَوْءاتنا، لكن في مقدوره أن يدلنا بالمثل على أفضل ما فينا في حالة إعلاء قيم مثل التكافل والتضامن والوعي بأن نجاتنا مرتبطة بنجاة الآخرين.
ما يحدث، مع كل ما يحمله من تهديدات ومخاطر، فرصة للنظر إلى العالم من وجهة نظر الطبيعة، التي كثيرًا ما نؤذيها ونخل بتوازنها، كما لو كنا نحن الفيروس الضار. أتمنى أن تنكشف هذه الغُمَّة عن العالم، وأن نستوعب دروسها المفيدة فنعيد ترتيب أولوياتنا ونتعلم الامتنان على نِعم كثيرة اعتدنا التعامل معها بلا اكتراث أو انتباه.
منذ شهر تقريبًا لم أفعل شيئًا باستثناء متابعة مجريات انتشار كورونا في العالم والقراءة عنه. ألغيت ارتباطات كثيرة كانت مجدولة منذ أشهر وامتنعت عن الخروج من المنزل، وأحاول أن أعيش اليوم بيومه بعيدًا من التوتر أو القلق، لكن بما أن المسألة قد تطول وفقًا لتوقعات الخبراء، فسوف أسعى للعودة إلى برنامجي المعتاد في ما يخص القراءة والكتابة، مع التركيز على القراءات الممنهجة إما في موضوعات بعينها أو لأعمال ضخمة تتطلب متسعًا من الوقت.
لاحظت أن كثيرين يقترحون قراءة كتب خاصة بالأوبئة أو روايات ديستوبيا أو مشاهدة أفلام عن نهاية العالم وما إلى ذلك، بالنسبة إلي أفضّل البعد عن هذه النوعية من الكتب والأفلام في الفترة الحالية، فالعالم أصبح ديستوبيًا بما لا يُقارَن. اختياراتي في الأفلام حاليًا تركز على الكوميديا أو الأفلام الاستعراضية من الأربعينيات والخمسينيات، وفي الكتب ربما أعيد قراءة “لعبة الحجلة” لكورتاثار أو “الجبل السحري” لتوماس مان، أو أبدأ بقراءة “الفتوحات المكية” لابن عربي.
الروائية اللبنانية جنى الحسن المقيمة في أميركا: أرتب أفكاري وأقرأ “روث”
أحاول أن أستغل هذه الفترة لإعادة ترتيب أفكاري وما يشغلني عن العمل هو ترجمتي حاليًا لرواية مميزة لكاتبة من كينيا.
يمكنني التركيز أكثر في الترجمة الآن، إذ لم أقرأ كثيراً في الفترة الأخيرة بسبب انشغالي في العمل لكنني أنوي قراءة أعمال زملاء عديدين صدرت كتبهم حديثاً، وأنوي كذلك إعادة قراءة بعض أعمال الكاتب الأميركي فيليب روث. الأفلام التي أشاهدها متنوعة وليست مرتبطة بلائحة أعددتها، على قدر ما هي مرتبطة بمزاجي. أحيانًا أبحث عن أفلام معقدة، وأحيانًا كل ما أريده هو أن أشاهد فيلمًا خفيفًا أو كوميديًا كي لا أفكر بأي شيء.
الروائي اليمَني وجدي الأهدل: إعادة قراءة شكسبير
هذا البقاء الاضطراري في البيت جعلني أُعيد النظر في مشاريعي المؤجلة، ومنها إعادة قراءة مسرحيات وليم شكسبير. قرأت أعمال هذا المؤلف المسرحي العبقري في المرحلة الجامعية، وانطباعي عنه في تلك السنوات المبكرة أنه مؤلف عادي، ولا يستحق ذرة من ألقاب العظمة التي تُكال له! لكن قراءتي له الآن هي اكتشاف لجماليات لم أكن واعياً لها في سنوات الشباب، ولأنني خضتُ تجربة التأليف المسرحي، فإنني أُقدِّر المهارة غير العادية التي تميز بها شكسبير في رسم الشخصيات، والقدرة الفذة على المناورة الدرامية في منطقة محدودة جداً هي خشبة المسرح.
لدي أسبابي الخاصة التي تدفعني لإعادة قراءة مسرحيات شكسبير: ثمة حكاية شعبية يمنية من التراث الشفوي تتطابق أحداثها مع أحداث مسرحية “تاجر البندقية”! المفاجأة أن الحبكة الدرامية في القصة الشعبية اليمنية أكثر إحكاماً من حبكة مسرحية “تاجر البندقية”.. ففي الحكاية الشعبية اليمنية بطلة القصة (فتنة) هي التي تنقذ بذكائها حبيبها الذي صار زوجها من شرط التاجر اليهودي، بينما في المسرحية الشكسبيرية لا تنقذ البطلة (بورشيا) حبيبها، بل صديق حبيبها، من “اليهودي” الجشع. والسؤال المهم هنا هو أيهما أقدم: الحكاية الشعبية اليمنية أم مسرحية شكسبير؟ وهذه ملاحظات لا تُقلل من شأن وليم شكسبير، فهو واحد من مبدعي السرديات الكبرى المتجاوزة للحدود الجغرافية والأزمنة، وهذا الاهتمام بكل صغيرة وكبيرة عنه هو جزء بسيط من التقدير العالمي الذي يحظى به. كما أن إبداعه المسرحي ما زال مصدراً خصباً للسجال بين النقاد ودارسي الأدب في بريطانيا وأميركا وسائر الدول ذات الثقافة الإنغلوفونية.
في مسرحية “العبرة بالنهاية” لاحظ العديد من نقاد الأدب أن حبكتها شرقية، وشبه مستنسخة من حبكات كتاب “ألف ليلة وليلة”. لكن هذا الكتاب الشرقي النفيس، لم يترجم للغة الإنكليزية إلا في العام 1706، أيّ بعد وفاة وليم شكسبير بتسعين عاماً، فكيف يمكن اتهامه بالتأثر بكتاب لم يكن في متناوله الاطلاع عليه؟ التفسير المنطقي هو أن تأثير ألف ليلة وليلة، وصل إليه عبر وسيط، هو الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو(1313- 1375) مؤلف قصص الديكاميرون، وهي القصص التي تحمل تأثراً أوضح بألف ليلة وليلة. هذه متاهة، لكنها جيدة في ليالي الحجر الصحي
المدن
———————————————–
مَنفيّ إلى غرفتي أجرُّ أنا كسيحة/ عباس بيضون
منفِيّ إلى غرفتي
أجرّ أنا كسيحة
من أمام التلفزيون
أسحبها إلى السرير
حيث يبدأ عذابها مع الوقت
الذي يتقلب معها
لا يكفي أن اغلق الباب
لقد مر( ) غالبا
وترك على المقبض
نظرته الماحية
البارحة ترابط في الخلف
انها عدد يكبر ببطء
نهار واحد يقفز من تحت النافذة
يرتمي على المنضدة
التي ماتت أمس
حيث هناك موتى آخرون
على المنصات، كانوا أمس كتباً
كانوا قناني انتحرت، حين
الحياة توقفت وسطها
كانوا أيضاً قامتي التي منحتها للشتاء
وشبحي الذي لم ينهض من السرير
اتكلم معه
ليفسح لي جنبه
لأكون رسالته الى الحياة
التي هي الآن
باب البراد
وصمت التلفزيون
الاشياء تنام على منصاتها
لا نعرف متى تحجرت
ومتى أمرت بذلك
لا نعرف متى وجدنا القرن
يغط في الزاوية
نافثا عشرين عاما نافقا
نحن المحاطون باشباه ذلك الامس
الذي يتكرر عدداً بعد عدد
هرير صامت يستعد لمواكبتنا
حين يأتينا نحن أيضا
الأمر نفسه
لقد جاء الوقت
علينا أن نستعد لمغادرة أشباحنا
التي لا نستطيع ان نخرج منها
بدون ان نقص مجالا لأنفسنا
في داخلها
اننا فقط في البعيد
حتى في اسرتنا
في البعيد، ودائما اشباح انفسنا
الموت يلبسنا
لقد رمونا للاخرين
وتكوم علينا اشباهنا
المعتقلون في اجسادهم
إننا نتكرر على طول هذا اليوم
وأحيانا، أحيانا فقط
نحصل على عطلة
امام التلفزيون
احيانا نحمل هذه الحياة المعارة
إلى المطبخ حيث نقليها
ونرمي قشورها
ولا نعرف كيف تنقلب في الطبق
إلى كمامة تنظر الينا
لا نعرف ما الذي وراءها
عقود سنين فقط
عجزت عن أن تكون ماضياً
عقود سنين سقطتْ منا
كوجبة اسنان بصقناها
أمام قرن لم يزل قاعداً
وأن انقصف في سنه العشرين
منفي إلى غرفتي
أجرُّ أنا كسيحة
من أمام التلفزيون
انسحبُ الى السرير
واعدّ خمسة وسبعين عاماَ
قبل أن انام
(*) قصيدة نشرها الشاعر اللبناني عباس بيضون في صفحته الفايسبوكية.
————————————-
روما في الحجر الصحي/ سيسيليا دالّا نيغرا
كارانتينا، اليوم الأول
نحفظ عن ظهر قلب النوافذ.
نجلس في الهدوء الحذِر لمنازلنا، ونحفظ عن ظهر قلب النوافذ.
ننتظر حتى يمرّ، فالأمر ليس واضحاً.
الحياة اليومية، وكل شيء كنّا نعرفه لبضعة أيام خلت، انقلب رأساً على عقب في غضون
بضع ساعات.
قبل لحظات كنّا جالسين على طاولة في المقهى، مع أصدقائنا المعتادين، نقرأ الأخبار عن
عدوى بدت لنا بعيدة.
“لا تحدث عندنا”، كنا نقول لبعضنا البعض.
“إنها ليست أكثر من إنفلونزا”، كنا نكرّر.
“لا نحسب حقاً أننا سنتوقف عن معانقة بعضنا البعض؟”، كنا نمزح.
فبالنسبة لنا، أناس البحر الأبيض المتوسط، أن نحيّي من بعيد، ألّا نلمس بعضنا البعض، أن نتجنّب إقحام أنفسنا في
مقارباتنا المتبادلة، هي إدانة.
ماذا يحدث عندما يبدأ الآخر في إخافتك؟
ماذا يحدث عندما تكون أنت الآخر الذي يخيف؟
كارانتينا، اليوم الثاني
“لا تحدث عندنا”، كرّرنا كل يوم من هذه الأيام التي لا تنتهي من الأزمة، متطلعين نحو الشمال.
ثم أدركنا لأول مرة كم هو صغير، بلدنا الصغير هذا.
لقد اتخذ الوقت سرعة جديدة.
السرعة التي يمكن أن يتغيّر بها كل شيء تعرفه في حيّز لحظة، باتت تخيف.
هل من نهاية لكل هذا؟ ومتى؟ وماذا سيبقى من كلّ ممّا كنا عليه؟
لقد تشظى الوقت. هناك، وسوف يكون هنالك دائماً، “قبل” و”بعد”.
ما زلنا نتذكر تماماً ماذا كان من “قبل”. ليس لدينا فكرة عمّا سيكون عليه في ما “بعد”.
“علينا أن نبقى في المنزل حتى الثالث من نيسان”، نعيد لأنفسنا.
نعلم جميعاً أن الأمر لن يكون هكذا، ولكن لا أحد يجرؤ على البوح بذلك.
لأول مرة، نحن، هنا، ينتابنا الخوف.
كارانتينا، اليوم الثالث
يقولون إنهم أعادوا إلينا الوقت
لكننا، خلال لحظة، اكتشفنا أننا لا نعرف ماذا نفعل بكل هذا الوقت.
إنه وقت معلّق، وقتنا. وقت ممتدٌّ إلى ما لا نهاية.
لقد تغيّر معياره: لم نعد نحصي الأيام والأسابيع والأشهر. ولكن بالملّي-ثانية، بالثواني وبالدقائق.
كم من الوقت طول الدقيقة؟
كارانتينا، اليوم الرابع
نحصي الموتى. نحصي الأحياء ومن تعافوا.
“سيكون الأمر على ما يرام”، يكتب الأطفال على ملاءات معلّقة على النوافذ مع أقواس قزح.
هم يصدقون ذلك. نحن، لعلّنا أقل منهم.
كارانتينا، اليوم الخامس
في الساعة الثانية عشرة وفي الثامنة عشرة تَصِيتُ الشرفات: يجتثوننا من الشاشات التي هي النافذة الوحيدة المفتوحة على عالم لم يعد موجوداً، نخرج إلى الشرفات ونبدأ الإصاتة. نتبادل التحيات. نتعرف إلى بعضنا البعض من جديد.
العالم من الداخل والعالم من الخارج يتحدان للحظة.
نحن ما زلنا هناك، لقد مضت ثماني ساعات أخرى، ومضى يوم آخر.
كارانتينا، اليوم السادس
يقولون لنا: “إذا كنت ترغب في منع العدوى، فيجب عليك ألّا تتفاعل مع الآخرين”.
لنا، نحن شعب العناق والطوابير غير المنتظمة.
لكي نخرج من المنزل، لدينا تصريح يقول: من أين أتيت، أين تذهب، ولماذا تذهب إلى هناك.
بدأت شمس آذار تتألق في الخارج، لكنها حادّة. لقد حُظر علينا الاستحواذ على حرارتها.
الأرض بدأت تتنفس منذ أن توقفنا نحن عن التنفس.
أولئك الذين يموتون اليوم، يفعلون ذلك بلا نَفَس.
لعلهم أعادوا للأرض أنفاسها.
أخرج، لأنني أفتقد ذاك النَفَس. أنتهك أحكام القانون. أمشي في مدينة قاحلة.
أحيّي امرأة تطل من شرفتها.
“صباح الخير، يا سيدتي”، أبتسم.
“صباح الخير”، تردّ التحية وتبتسم بدورها.
تلوّح يدها مثل طفلة.
أشعر برغبة في البكاء لهذا الشيء الصغير، الجميل للغاية.
كارانتينا، اليوم السابع
ثمة صمت يصمّ الآذان.
إنه صمت لم نسمعه البتّة في روما. كثيف لدرجة أنه يُبدي جلياً كل نبضة من القلب.
الرئتان لا تزالان تعملان.
هل نحن أكثر إنسانية في كل هذا؟
أم أقل إنسانية؟
الآن، بعد أن تم منعنا من الملامسة، هل سنتعرف إلى بعضنا البعض مرة أخرى، أم سيستمر في إخافتنا؟
مغلقون، محظورون، مرفوضون، مطرودون، مرتهنون للتضامن. لقد أصبحنا نحن الآخر.
حتى الأطفال في الشارع تعلموا اللعب عن بعد.
هل يمكن للنظرات أن تلامس الأجساد البعيدة؟
لم أنس رائحة صديقاتي، وعندما أراهنّ على الشاشة، أشعر بها.
كارانتينا، اليوم الثامن
شرفة تضمن قطعة من السماء.
الشجرة التي أزهرت في المقابل.
القطّ الذي يقفز من السطح القريب.
ابتسامة السيدة، على الشرفة المجاورة.
طفل في الشارع يضحك بصوت عالٍ جداً.
شذرات جمال لم نكن نعبأ بها سابقاً، علينا أن نكتفي بها اليوم.
كارانتينا، اليوم التاسع
تصل رسائل التضامن من العديد من الأمكنة الأخرى في العالم.
فلسطين تلوّح بالعلم الإيطالي.
“كيف حالك؟ هل يمكننا أن نفعل شيئاً من أجلك؟ خذي حذرك، من فضلك”، يكتبون لي من غزة.
لكن هنا في الخارج، لا يوجد سوى صمت لم نألفه قطّ، ليس صوت القنابل.
يمكننا أن نموت. ولكن يمكننا ألا نفعل ذلك أيضاً.
لأول مرة يتم التشكيك بامتيازنا.
للمرة الأولى، الحرية ليست أمراً مفروغاً منه.
لقد أصبحنا الآخرين.
ربما هذا هو قصاصنا.
كارانتينا، اليوم العاشر
السرعة التي تعلمنا فيها أن نتجنب بعضنا البعض في الشارع لا تصدّق.
يبدو لي أنني أحاول أن أبتسم بقوة أكثر.
هل سنعود إلى تقليص المسافة؟ هل سيكون العناق المتوقع كافياً لمحوه؟
هل ستكون النظرات قادرة على أن تصبح لغة جديدة وعابرة؟
بأي كلمات سنستمر في ملء هذا الوقت؟
* Cecilia Dalla Negra باحثة وكاتبة إيطالية من مواليد 1984، متخصّصة في شؤون المنطقة العربية وخصوصاً الحركات النسائية في فلسطين. أصدرت السنة الماضية كتاباً بعنوان “كانت تسمى فلسطين: تاريخ شعب من النكبة حتى الوقت الحاضر”، وأشرفت على إعداد كتاب “الثورات المنتهكة بعد خمس سنوات” (2016)، كما شاركت في تأليف كتابين، هما: “سجلات ثورة مضادة (2011)، و”المرأة في الإعلام العربي (2014).
** الترجمة عن الإيطالية: يوسف وقاص
االعربي الجديد
—————————————-
أكتب إليكم من إيطاليا: هذا ما نعرفه عن مستقبلكم/ فرانشيسكا ميلاندري
أكتب إليكم من إيطاليا، أعني أنني أكتب إليكم من مستقبلكم. نحن الآن حيثما ستكونون في غضون أيام قليلة. فمخططات الجائحة تبيِّن أننا جميعا متضافرون في رقصة متوازية.
كل ما في الأمر أننا متقدمون عليكم بخطوات قلائل على طريق الزمن، تماما كما أن ووهان متقدمة علينا ببضعة أسابيع. نشاهدكم إذ تتصرفون مثلما سبق أن تصرفنا تماما. تتمسكون بالحجج التي تمسكنا بمثلها حتى وقت قريب، منقسمين بين من يقولون “ما هي إلا إنفلونزا عادية ففيم كل هذه الجلبة؟”، ومن فهموا بالفعل.
فيما نشاهدكم من هنا، من مستقبلكم، نعرف أن كثيرا منكم، استشهدوا، وقد قيل لكم الزموا بيوتكم، بمقولات لأورويل [صاحب 1984] وبهوبز [صاحب اللفياثان]. ولكنكم عما قريبا ستنشغلون عن ذلك كله.
بادئ ذي بدء، ستأكلون. وليس ذلك فقط لأن الأكل من الأشياء القليلة التي سيبقى بوسعكم ممارستها.
ستجدون عشرات من مجموعات شبكات التواصل الاجتماعي تعلمكم كيف تنفقون أوقات فراغكم في ما هو مثمر. ستنضمون إليها جميعا، ثم تتجاهلونها تماما بعد أيام قليلة.
ستتناولون أدب نهاية العالم من أرفف مكتباتكم، ولكن سرعان ما ستشعرون أنكم لا ترغبون حقا في قراءة أي منه.
ستأكلون من جديد. لن يطيب لكم النوم. ستسألون أنفسكم عما يجري للديمقراطية.
ستعيشون، على الإنترنت، حياة اجتماعية لا تتوقف ـ على ماسنجر، وواتساب، وسكايب، وزوم…
ستشتاقون إلى أبنائكم الكبار كما لم تشتاقوا إليهم من قبل، وإدراككم أنكم قد لا ترونهم مرة أخرى سيكون أشد عليكم من لكمة في الصدر.
ستبدو المشاحنات والعداوات القديمة تافهة. ستتصلون بمن سبق وأقسمتم ألا تكلموهم ما حييتم لتسألوهم “ما الأخبار؟”. وكثير من النساء سيتعرضن للضرب في بيوتهن.
ستفكرون ماذا يجري لمن لا يستطيعون البقاء في البيوت لأنهم بلا بيوت. ستشعرون بالخوف وأنتم خارجون للتسوق في الشوارع المهجورة، خاصة لو أنكم نساء. ستسألون أنفسكم أهكذا تنهار المجتمعات؟ بهذه السرعة؟ ستقطعون الطريق على هذه الأفكار وحينما ترجعون إلى البيوت ستأكلون من جديد.
ستزدادون وزنا. ستبحثون عن تدريبات للياقة البدنية على الإنترنت.
ستضحكون. ستضحكون كثيرا. ستستعرضون قدرات كوميدية سوداء لم تعرفوها في أنفسكم من قبل. حتى الذين عرفتموهم دائما جادين في كل كبيرة وصغيرة سوف يتأملون عبثية الحياة، والكون، وكل شيء.
ستضربون لأصدقائكم وأحبابكم مواعيد في طوابير السوق، لكي تروهم رأي العين ولو في لقاءات سريعة، منصاعين تمام الانصياع لقواعد التباعد الاجتماعي.
ستحصون كل الأشياء التي لستم بحاجة إليها.
سوف تنكشف لكم طبائع جميع المحيطين بكم في وضوح ليس مثله وضوح. فتتأكد قناعات وتكون مفاجآت.
المثقفون الذين لم تكن تخلو الأخبار منهم سيختفون، وتفقد آراؤهم بغتة أي قيمة، بعضهم سيلوذ بمنطق سيأتي مفتقرا تماما إلى الإحساس بالناس فيتوقف الناس عن الإنصات إليهم. والذين كنتم تتجاهلونهم هم الذين سيتبين أنهم يبثون الطمأنينة والسماحة وأنهم أهل للثقة، وعمليون، وقادرون على قراءة المستقبل.
الذين يدعونكم إلى رؤية كل هذه الفوضى باعتبارها فرصة لأن يجدد الكوكب نفسه سيساعدونكم على وضع الأمور في سياق أكبر. ولكن هؤلاء أيضا سوف تجدونهم مزعجين أشد الإزعاج: لطيف جدا، الكوكب الآن يتنفس على نحو أفضل بسبب تناقص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، لكن كيف ستدفع فواتيرك الشهر القادم؟
لن تفهم هل حضورك ميلاد عالم جديد أمر يغلب جلاله بؤسه أم العكس.
ستشغلون الموسيقى في شبابيبكم وأفنية بيوتكم. لقد قلتم حينما رأيتمونا نغني الأوبرا في الشرفات “آه، طبعا، هؤلاء إيطاليون”. لكننا نعلم أنكم سوف تغنون مثلنا لبعضكم بعضا أغنيات ترفع من أرواحكم المعنوية. ونحن حينما نسمعكم تهدرون بأغنية “سوف أتجاوزك” سنطرق متفهمين، تماما مثل أهل ووهان الذين غنوا في شبابيكهم في فبراير ثم أطرقوا متفهمين وهم يشاهدوننا.
كثيرون منكم سوف يغلبهم النوم وهم يتعهدون بأن يكون أول ما يفعلونه بعد انتهاء فترة الحظر هو البدء في إجراءات الطلاق.
أطفال كثيرون سيتكونون في أرحام النساء.
سيدرس أبناؤكم عبر الإنترنت. سيتسببون لكم في إزعاج لا يطاق، وسيكونون بهجة لكم.
كبار السن سوف يعصونكم عصيان مراهقين مشاكسين: سيكون عليكم أن تحاربوا لكي تمنعوهم من الخروج والتقاط العدوى والموت.
ستحاولون ألا تفكروا في اجتماع الموت والوحدة داخل وحدات العناية المركزة.
ستريدون أن تنثروا بتلات الورد على عتبات جميع العاملين في المجال الطبي.
سيقال لكم إن المجتمع متحد على جهد جماعي، وإنكم جميعا في قارب واحد. سيكون هذا صدقا. ستغير هذه التجربة إلى الأبد من نظرة أحدكم إلى نفسه بوصفه جزءا منفردا من كل أكبر.
غير أن الطبقة سوف تمثل فارقا. فالحظر في بيت ذي حديقة جميلة ليس كالحظر في مشروع إسكاني مكدس بالسكان. والقدرة على أن تواصل العمل من البيت ليست كأن ترى بعينيك وظيفتك وهي تختفي . ذلك القارب الذي ستبحرون فيه للانتصار على الوباء لن يبدو الشي نفسه للجميع، وهو فعلا ليس الشيء نفسه للجميع، ولم يكن كذلك في يوم من الأيام.
عند مرحلة معينة، ستدركون أن الأمر صعب. ستشعرون بالخوف. ستكشفون عن خوفكم للأعزاء عندكم، أو ستكتمونه في أنفسكم لكي لا تثقلوا عليهم به أيضا.
ستأكلون من جديد.
نحن في إيطاليا. وهذا ما نعرفه عن مستقبلكم. وليس هذا إلا تنبؤ بسيط للغاية. فما أضألنا من عرافين.
لو مددنا أبصارنا إلى المستقبل الأبعد، إلى المستقبل المجهول لكم، والمجهول لنا مثلكم، فليس بوسعنا أن نقول إلا هذا: حينما ينتهي هذا كله، لن يكون العالم مثلما عهدناه.
فرانشيسكا ميلاندري روائية إيطالية شهيرة تعيش الحظر منذ ثلاثة أسابيع بسبب تفشي كوفيد 19، وقد نشرت رسالتها هذه في جارديان بتاريخ 27 مارس 2020
نشرت الترجمة في جريدة عمان اليوم
——————————————
رسالة من تحت الوباء: هدنة مؤقّتة مع صديقٍ لَدود/ هوشنك اوسي
كثيرونَ أوسعوكَ شتماً وذمّاً ولعناً. لكنكَ تشبهني في خصلة، أو ربما تشبهُ أناساً كثيرينَ أيضاً. واسعُ الخُلُقِ دائماً، وتضيقُ نفسكَ وتنفعل بشدّةٍ لأتفهِ الأسباب. قلَّةٌ قليلةٌ، لاذت بالصّمت والتأمُّل فيكَ، ابتغاءَ معرفتك، وما زالت تجهلكَ.
قرأتُ عنكَ الكثير. سمعتُ عنك أكثر. شاهدتُكَ قليلاً؛ حينَ كنتُ في الرابعة من عمري، وفي مراحل الشّباب أيضاً. شاهدتُكَ باسمكَ الصريّح، وفي أسماء أخرى. آخرَ مرّةٍ التقينا فيها كانت قبل أشهر. تحديداً؛ ليلة 18 آب 2019. كنتَ أنيقاً، هادئاً، صامتاً، وقوراً، وقارَ رجلٍ يحترمُ نفسهُ كثيراً. حدّقتُ في عينيكَ، تحديقَ الضَّحيّة في عينيّ قاتلهِ. كنتَ تحدِّقُ في عينيّ أخي. لم تكنْ ضيفاً ثقيلَ الظلِّ والدّم. ولم تكن مرحاً، ظريفاً، صاحبَ نهفةٍ ونكتة. لم أسعدْ بوجودكَ، ولم أحزنْ. أتيتَ لتنقذَ شخصاً من آلامهِ. وأنجزتَ مهمّتكَ بسرعة. أخذتهُ إلى حيثُ تريدُ المشيئةُ. تركتَ إرثهُ من الآلام لي. لحظتئذ، قرَّرتُ أن أحاولَ إقناعكَ بأنني صديق، ولستُ عدوّك. ليسَ تجنُّباً غضبَكَ. أعلمُ أنكَ حين تقرّرُ زيارةَ شخص، تكون الزيارةُ يتيمة. وتأخذهُ معكَ. ظَننتُ أنني عرفتكَ عن قُرب. لكن، اتضحَ لي بأنني ما زالتُ أجهلكَ. ويلزمني المزيدُ ثمّ المزيد في السعي نحو التعرّف عليكَ. ربما أدفع عمري ثمناً لذلك.
كثيرونَ أوسعوكَ شتماً وذمّاً ولعناً. لكنكَ تشبهني في خصلة، أو ربما تشبهُ أناساً كثيرينَ أيضاً. واسعُ الخُلُقِ دائماً، وتضيقُ نفسكَ وتنفعل بشدّةٍ لأتفهِ الأسباب. قلَّةٌ قليلةٌ، لاذت بالصّمت والتأمُّل فيكَ، ابتغاءَ معرفتك، وما زالت تجهلكَ. شديدُ الوضوحِ في غموضكَ. جزيلُ الغموضِ في وضوحكَ. ذكيٌّ، ماكرٌ ولئيم. داهية، نذلٌ وخسيسٌ أحياناً. طبائعكَ من طبائعنا، أو العكس. قلّةٌ قليلةٌ أخرى، أغدقت عليكَ مديحاً وإعجاباً، ابتغاءً إنصافكَ، مرضاتكَ والنّهلَ من حكمتكَ. لكن، مرضاتكَ غايةٌ لا تُدرك. والنُّهلُ من حكمكَ صعبٌ وعسيرٌ وعويص، وليسَ مُحالاً. قريبٌ بُعدكَ مِنّي. منكَ الرّجيمُ، ومنكَ الرّحيم، أيّها المُكلَّفُ المُحلَّفُ، الصّادقُ الذي لم يُخلِف موعداً.
عبقريٌّ في عبورِ الأزمنة. عبقريٌّ في إحداث الفوضى والتّداخلِ والاشتباكِ بين الأمكنةِ والأزمنةِ. مُهندسٌ مُبدع، لا قبلهُ ولا بعدهُ، في بناءِ الاختلالِ والارتباكِ وبثِّ الاضطرابِ في الحيوات. فنانٌ عظيمٌ في صناعة الذعرِ والهلع ودفع النّاس إلى التشبّثِ بالحياة وعشقها عشقاً مازوشيّاً. تحبُّ مِهنتكَ. تبدعُ فيها. حُلفاؤكَ كُثُر. يعتبرون أنفسهم أسباباً لك. واهمون. حلفاؤكُ كُثُر، ولا شريكَ لك. أعداؤكَ كُثُر، ولا ندَّ لك. تُشبهُ ما تريدهُ، ولا شبيهَ لك. أبديٌّ وأزليّ. ولدتَ في نفسِ اللحظة التي أطلقت الحياةُ صرختها الأولى وهي تخرجُ من رحمِ الغيب. من غير المعروف لي، وللكثيرين من أحَبابكَ وأصدقائكَ، مما خُلِقت؟ وأين؟ مَن هي أمُّكَ، مَن أبوك؟ منذُ أمدٍ، أودُّ الاحتفال بعيد ميلادكَ. ولا أعرفُ إلى ذلك تاريخاً!؟ أيمكنكَ إسعافي بذلك؟
الذين يناصبوك العداءَ والكراهية، لا غنى لهم عنكَ. لا تشيخ. دائمُ التجدد، كأنَّكَ تشربُ من ماء الحياة، كل لحظة. حتّى لو شِختَ، أو أصابكَ الوهنُ والتعبُ من مهنتكَ، أو أصِبتَ بالملل والكآبة، وقدّمت استقالتكَ، طلباً للراحة والنقاهة، شخصيّاً، أرفضُ ذلك. لا بديل لكَ. كي تطلب الاستقالة أو تُحالَ على التقاعد.
في ما مضى، آلمتني كثيراً. الجراح التي فتحتها، اندملت، ولم أبرأ منها. الجرحُ ليسَ بنزيفهِ. وليسَ بعمق الوشم الذي يتركهُ، حين يقرِّرُ المغادرة. الجرحُ بألمهِ الذي يبقيهِ مواصلاً حفرهُ في الذاكرة. صحيحٌ أنني كائنٌ هشّ وضعيفٌ للغاية. لكنكَ عاجزٌ عن اتخاذي عبداً. لا أزعمُ أنني شجاعٌ وقادرٌ على مواجهتكَ. لا أهابكَ، لا أخافكَ. وأنتَ مَن أنت؛ هيبتُكَ من هيبة الحياة. لن أكون عبداً لك. أحترمُكَ. أحترمُ مهنتكَ، مسؤوليّاتكَ، طبائعكَ. لستُ مُجبراً على احترامِ كلّ وسائلكَ. غايتُك واحدة ويتيمة، ووسائلكَ لا حصر لها. فيها ما لا يعجبني. وفيها ما يعجبني. ومنها ما هو في مقامِ “منزلة بين منزلتين”.
في آخر لقاءٍ جمعنا، يوم 18 أغسطس 2019، رغم أننا لم نكن في صراع أو خصام، إلاّ أننا اتفقنا على إبرام هدنة مؤقّتة. اتفقنا دون أن نتكلّم، أو نصافح بعض، أو نوقّع على وثيقة. والهدنُ عادةً تُبرمُ بين متحاربين. غادرنا الغرفة. تركنا الضحيّة وحدها، كقطعةِ من الخشب البارد المطلي بالشّمع الأصفر. قلبهُ متوقّف، وينصت لما دار بيني وبينكَ من صمتٍ مترعٍ بالكلام. كان يناجيكَ. يناشدكَ. واستجبتَ بسرعة. تركتَ كلَّ مشاغلكَ وأتيت. احترمُ فيك هذا الإخلاص وتلك الشّهامة، أيُّها المُنقذ.
أبرمنا الهدنة وخرجنا. أبرمناها دون تفاوض. أصلاً، ماذا لدي، يمكنني أن أفاوضكَ عليهِ؟! الآن، تلك الهدنة على وشكِ الانتهاء. وها أنا أراكَ، تلوّحُ لي بيدكَ اليمنى. أنت تريدني، ولستُ مَن يريدُكَ، فتتالَ. لا بأسَ أن تزحف نحوي. وحدكَ جيشٌ لا نهاية له، يا صديقي العزيز الذي أجهلهُ، رغم التقائي بهِ، وقراءتي عنه، ومشاهداتي له، وهو يجوب البلدان والأمصار. أيّها الرحّالة المرعبُ المثيرُ للهلاك. والشّاعرُ الذي حوّلهُ حبّهُ للحياة إلى قاتل.
إن شئت، يمكن أن نفتح جولة تفاوض. وإن لم يكن لديكَ وقتُ، فافعل ما شئت، أو ما أمِرتَ به. أنتَ محضُ عبدٍ مأمور. عليكَ أن تفهم بأنني لن أكون لك عبداً. فشلتُ في أن أكون لك ندّاً. ما أنا واثقٌ منهُ؛ إن قلائلاً يزيّنونَ الحياة. هم نفسهم الذين يزيّنون الموت أيضاً. يزيّنونكَ. أحبابُ الحياة وصُنّاعها، يطمعُ فيهم الموت. صُنّاعُ الموتِ لا يطمع فيهم الموت. الحياة حقّ. الموت حقّ. وبين هذين الحقّين، الذي يرثي اليوم، سيُرثى غدا. الجميلون والجميلات من أحباب الحياة، لأنهم هكذا، يحبّون الحياةَ والحياةُ تحبّهم. نراهم لا يتشبّثون بها، ولا الحياةُ تتشبّث بهم. يغادرونها، قبل أن تغادرهم. يستقبلون الموتَ، قبل أن يستقبلهم. هكذا هم دائماً؛ المُبادرون في الرّحيل عن الحياة ووداعها، والمبادرون في الترحيب بالموتِ ومعانقتهِ. الجميلون والجميلات، يضيفون إلى الموتِ قيماً جماليّةً كالتي أضافوها للحياة. هؤلاء هم رسل الحياةِ إلى الموت، ليس كي يحيى أكثر، أو يموتَ أكثر. بل كي يحاول أن يكون قنوعاً، لا ينزلقُ بهِ طمعهُ أكثر. أحسبُ نفسي من طينة هؤلاء.
ما مِن امرئ إلاّ وكان غيباً؛ طيَّ المجهول، ودخلَ الحياةَ، رغماً عنهُ. وغادرَ الحياةَ أيضاً، طوعاً أو كرهاً، أو في منزلة بين منزلة الإكراهِ والطواعية. لكن، ما مِن امرئ غادرَ الحياةَ إلى الموت، وأضحى غيباً، طيّ المجهول، ثمّ عادَ إلى الحياة. لذا، أنتَ أيُّها الموتُ، أكثر طمعاً وبخلاً من الحياة. تأخذُ مِن الحياة ما لها. وتعطيها ما ليس لها. ومع ذلك، الجميلون والجميلات من البشر، وحدهم الذين يزيّنونَ الموت. يزيّنونكَ. حين يغدو أغلبُ أحبابي الجميلين في حوزتكَ. وتهددني بأخذِ البقيّة. أفلا تغدو بعد ذلك، وحشاً جميلاً!؟
لا تستبعدني من حساباتكَ. لستُ جاهزاً لاستقبالك. ومع ذلك، أهلاً بك. ما مَن أحدٍ دخلَ معك في معركة، إلاَّ وخسرها، ولو بعد حين. يمكنك أن تشربَ فنجان قهوةٍ معي. أو كأس نبيذ. يمكن أن تستريح قليلاً. حسناً تفعل، إذا أخذتني إلى حيثُ أخذت وتأخذُ أحبابي. سيكون في استقبالي الكثير. حسناً تفعل إن أمهلتني أكثر، ومددت الهدنة قليلاً، حتّى يشتدّ عود طفليّ. لن أتوسَّلَ إليكَ. لم أفاوض الحياةَ على كرامتي، فكيف أتفاوضُ عليها معك، يا صديقيَ اللدود.
درج
————————————-
هل يكتب الشعر في أوقات الخطر/ نوري الجراح
هل يكتب الشعر في أوقات الخطر؟ في الحروب، والزلازل، والجوائح الكبرى؟ أم أن واقعة الشعر أرهف من أن تتخلق في كلمات بينما العالم يضج بالمخاطر الكبرى والوقائع الفاجعة؟ وهل يكتب الشعر بالكلمات وحدها، أم يمكن له أن يتخلق بصيغ أخرى؟ وعندما لا يكتب الشعر بالكلمات كيف لنا أن نتعرف عليه؟ أسئلة قد تبدو مترفة، بينما العالم يشهد ما يشهد، لكن أكثرها حدة هو: هل الشعر ترف أم هو ضرورة؟
بين هذا السؤال وذاك، أمضي مع الفكرة الشاغلة: متى يكتب الشعر بالكلمات ومتى يخلي المجال لصيغ أخرى يتخلق من خلالها متحديا الكلمات؟
ذات مرة أتيح لمحمود درويش، بإذن من زعماء إسرائيل، أن يرجع إلى حيفا زائرا بيته الأول لساعات. بدت رحلة استثنائية ومدهشة، له ولمحبيه. بعدها بأيام سألته، في اتصال هاتفي، أيهما أجمل، البيت أم الطريق إلى البيت؟ صمت قليلا.. ثم علّق: هذا سؤال لعين. وأجاب على الفور «الطريق إلى البيت أجمل من البيت». في ما بعد تحولت هذه الجملة إلى أيقونة في حوار مع شاعر.
والآن أتساءل: هل فكرة البيت هي نفسها بالنسبة إلينا نحن الذين فجأة وجدنا أنفسنا حبيسي البيوت من بعد أن كانت ساعة البيت فضاء شخصيا حرا، ومساحة للراحة، ووقتا للتواصل مع أفراد العائلة؟
وما البيت؟ هل هو نفسه للجميع؟
أسأل هذا السؤال، وفي رأسي أفكار وأسئلة وصور تتصل بالشعر عبر الأوقات، وفي الأوقات الحرجة أيضا.
عشت في السنوات القريبة والبعيدة أوقاتا رائعة تخللتها أوقات عصيبة: خصام مع صديق مصحوب بانفجارات شعورية متلاطمة، حرب داهمة، مصحوبة بخبرة العيش في مدينة محاصرة، قلق كبير بفعل ترقب حدث منتظر وقد لا يحدث. وخلال هذه الوقائع وآثارها في النفس، ظل الشعر في المركز من وجودي الشخصي، يرجح الرؤية والتطلع والموقف من كل شيء، ما دام يجري مجرى الانفعال الوجودي العميق ليكسب اللحظة الشخصية طبيعتها الجوهرية، ويمنح وجود شاعر في العالم، عبر اللغة، أفقه ومعناه. فاللغة الصانعة الشعر هي الحديقة السرية في بيت الشاعر، واللغة كيانه المتأهب ليخطو في تلك الحديقة خطوات أبعد تتوارى معها الصور التي ألف رؤيتها هناك، وينفتح مع كل خطوة ذلك الباب اللامرئي الذي يبحث عنه كل شاعر لتتحول حديقته الشعرية إلى غابة.
**
اللحظة الراهنة للمقيم في البيت اليوم على سطح الكوكب المعذب، تجد تجسيدا لها في صورة كائن يجلس في جوار نافذة، تطل على حديقة صغيرة، ترتجف في فضائها شجرة تتأهب لتكتسي بأوراق خضراء، لكن عاصفة صامتة جعلتها شجرة مخطوفة اللون خائفة، كالجيران الذين هرعوا في الضباب إلى النوافذ وصفقوا طويلا لجيش من الإنسانيين العاملين في المستشفيات الميدانية للمدينة.
أحاول في وقت استثنائي، من حياة هذا الكوكب المتألم، أن أحرس بكلماتي صوت الشاعر ووصفته السريعة للأمل.
في وقت يسود فيه اعتقاد بأن الشعر لم يعد ضروريا للإنسان، وقد اخترع هذا الكائن الماكر ألعابا كثيرة غير لعبة الشعر، راجت في الثقافة العربية، وفي ثقافات أخرى أيضا، فلسفة بائسة رأت أن الشعر مات، وروّجت لموت الشعر.
***
ابنتي المراهقة لا تقرأ الشعر أبعد من كتاب الدرس، قرأت شيكسبير، وميلتون وجون كيتس ووردورث، وألكسندر بوب، وأوسكار وايلد وغيرهم من شعراء الإنجليزية على مقعد الدرس. لم يكن الشعر بين هواياتها.
قد لا يقرأ البعض الشعر، لكنه يكتبه بالموقف والفعل. سألتها عما حدث مساء أمس، لما فجأة، ضجت المدينة بفعل راحات الأيدي المصفقة: ماذا يشبه هذا الذي حدث في تمام الثامنة من مساء أمس في لندن ومدن أوروبية أخرى؟
يشبه الشعر، قالت.
نعم، إنه الشعر، فبالأمس في ساعة محددة في المساء، فجأة وقف سكان المدينة، كل المدينة، بالأبواب وعند الشبابيك وراحوا يصفقون تحية لأصحاب الأردية البيضاء والأقنعة الزرقاء منقذي أرواح الآلاف من الناس في الجائحة التي ضربت الكوكب. وبالأبواب، تبادلوا الابتسامات، وتبادلوا نظرات الرجاء، فقد كانوا يصفقون للحياة على الأرض.
إنها لحظة فارقة، مشاركة مفتوحة بين من يعرف الآخر ومن لا يعرفه.. أعادت إلى ذاكرتي البصرية صورا من أوقات فارقة مضت في بيروت.
كانت لحظة فارقة، لحظة كاسرة للمألوف، وجودية وشعرية بامتياز، كتبها معا سكان المدينة والمدن الأخرى، نساء ورجالا صغارا وكبارا، فقراء وأغنياء، فهم الآن شركاء في مصير كوني.
فجأة تحول جميع السكان إلى شعراء يكتبون بأكفهم المصفقة بحرارة المشاركة الاعتزاز الجماعي بالمنقذين، والتوق الجماعي إلى الخلاص. تلك كانت قصيدة الأمل في عالم منكوب.
من يقرأ الشعر ومن لا يقرأه، من يهتم بالقصيدة وبالأفكار الشعرية ومن لا يهتم بهما، معا وفي اللحظة نفسها لجؤوا جميعا إلى الشعر، صنعوه بأيديهم بوصفه العاطفة القصوى، وبوصفه صوت الرجاء، صنعوا لحظته وسكنوا في أفقه، فالشعر ليس أفق الشاعر وحسب، فهو لا يكتب باللغة وحدها. إنه أفق الإنسان.
***
لا أريد هنا أن أكرر الكلمة/ الاسم الأكثر تداولا اليوم في نشرات الأخبار المتلاحقة دقيقة بدقيقة وفي مقالات المفكرين والعلماء، وتقارير الأطباء والمسعفين، عبر لغات الأرض، في وصف الوحش المرعب الذي فاجأ البشرية بأنياب لا مرئية، وقلب حياة البشر رأسا على عقب.
لا حاجة بي إلى الأخذ بالشائعات الفالتة من كل عقال، ولا إلى نظريات المؤامرة، ولا إلى كلمات الاستخفاف الصادرة عن شخصيات ما تزال غير متأكّدة من أننا في منعطف وجودي كئيب. لا حاجة بي أنا أيضا إلى العبور عن كل هذه الانفعالات والتصورات كما لو أنها لم تحدث، ولم تصدر عن بشر، ولم تترَ أمام ناظري.
لكن هذه الصور والتعبيرات وردّات الفعل، كلها تقع في حيز المعقول الصادر عن بشر فاجأتهم البداهة في إهاب اللامعقول.
فلأتكلم، إذن، كحائر، ما دمت أنا أيضا لا أملك لحيرتي مخرجا، ولشعوري بأن الفاجعة تنذر بأسوأ مما هو في تصور البشر. فلننتظر ونر، إذن، كيف سيتصرف البشر والدول في العالم. وحتى ذلك الحين، لعلي أجد أنا أيضا المخرج مع من سيجدونه، ويعتبرونه مكافأة العابرين إلى آخر النفق.
***
حدث ذات مرة أن كنت في مدينة حاصرها من البر والبحر والجو عدو شرس، وكان هذا العدو بالنسبة لي ولغيري عدوا لامرئيا أيضا. كنت فتيا، وكانت القنابل تتساقط في كل جهة وطرف من المدينة. في اليوم الأول ومع الضربات الأولى التي تلقتها المدينة فوجئت كالآخرين، ونزلت إلى قبو وكان مطبعة للكتب. كانت العتمة مخيفة أكثر مما كانت أصوات القنابل المنهمرة خارجا، والبناء يهتز. تميزت لفائف الورق الضخمة المتأرجحة لكل ضربة في الأعلى، وفكرت أنني سأموت هنا، في الظلام، منسحقا تحت لفائف الورق.
فلأخرج إذن، فلأخرج، هتفت الروح التي يستضيفها جسدي، ووجدتني أسارع إلى الصعود على الدرج الذي أخذ يستقبل مزيدا من اللائذين بالقبو هربا من القنابل.
لثلاثة أشهر بعد تلك الحادثة، وهي أشهر الحصار الذي شهدته بيروت صيف 1982، لم تُلجئني القنابل ولا الضربات الصاروخية المريعة، ولا مشاهد الأجساد الممزقة هنا وهناك في تلك المدينة إلى قبو ألوذ به. والخلاصة أنني لم أسقط قتيلا في تلك التجربة الفارقة في حياتي رغم المجازفات الجنونية التي قمت بها طوال أشهر الحصار لما كنا نعتبره يومذاك أروع المدن العربية. ولأعترف اليوم، أنني لطالما رددت بشيء من شاعرية الممتن للقدر. لم أمت في بيروت لذلك كل حياتي الباقية هدية غالية لن أضحي بها أبدا.
ذاكرة الشاعر قدمت لي الحل، لا تجعل القلق مصدرا للخطر بينما أنت في قلب الخطر، فعلا.
هذه تداعيات شخص في جوار نافذة، يتأمل ويقارن. انطلاقا من السؤال عن الشعر وقيمته ومعناه بالنسبة إلى البشر في أوقات الخطر. إن ما يقوم به البعض في هذه الأيام يتفوق بشعريته على ما يمكن أن يكتب بالكلمات.
***
في التجربة البيروتية، في فصلها الدامي ما بين يوليو 1981 وسبتمبر 1982، وكان الأبرز بين وقائعها حصار مخيمي صبرا وشاتيلا، وارتكاب مذبحة مروعة في مكان طالما زرته ولي مع أهله من اللاجئين الفلسطينيين ذكريات شخصية. في تلك التجربة التي استمرت ثلاثة أشهر كانت لحظة المقاومة الخلاقة في مواجهة الآلة المدمرة لأحد أعتى جيوش العالم هي الملحمة، أما القصيدة المكتوبة فكانت تمرينا على الشعر.
لم تكن أفضل قصائدي ما كتبت إبان الحصار، ولكن تلك التي جاءت بعده. كانت اللحظات الإنسانية العنيفة تستأثر بطاقة الشعر ووحشيته، وتستحوذ على كل شيء، فتتراجع الكلمات لتتقدم اللحظات بقوتها المدهشة وأبطالها الإنسانيين مصحوبين بقدراتهم الأسطورية على البذل والعطاء لأجل الآخر وصولا إلى التضحية بالنفس لأجله. باتت اللفتات الإنسانية هي الشعر.
***
في صحيفة “المعركة” التي أسسها الشعراء المقاومون في بيروت نشرت قصائدي التي كتبت يوما بيوم خلال المواجهة. كانت هناك في الصحيفة نفسها قصائد لكوكبة من الشعراء من تيارات شعرية مختلفة، كان بينهم معين بسيسو، عزالدين المناصرة، محمود درويش، أمجد ناصر وغيرهم. اليوم أستطيع أن أجزم أن أيا من أولئك الشعراء لم يكتب في أيام الحصار قصائد ذات قيمة فنية عالية.
لكن القصيدة كان لها شرف المواجهة في معركة شرسة، باتت سلاحا في خندق الدفاع عن الحياة، أكثر منها شعرا في قصيدة تريد أن تنتصر للكلمات لتعيش وتُقرأ في المستقبل.
شيء من هذا القبيل حدث مجددا في الأشهر الأولى للانتفاضات العربية، شعراء كتبوا نصوصا حماسية في الميدان، في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، ومؤخرا في العراق. نصوص توسلت الشعر، لتطلق هتاف الحنجرة في مقاومة الطغيان، كان لا بد أن تكتب تلك النصوص، وكان لا بد، من ثم، أن تمحو نفسها وتفسح الطريق لشعر سيكتب في ما بعد. لحظة الانفجار أقوى بشعريتها من الشعر في الكلمات الشعر، فهي الخروج الكامل على المألوف في ذروة عاصفة.
اللحظة الشعرية هي ذلك الشيء البارق الخارج على المألوف في اللغة وكذلك في الموقف من العالم. وهي لحظة تتخلق في أقصى الخطر.
أما الاعتقاد الدارج اليوم، لدى ضيقي الافق، بأن الشعر لم يعد ديوان العرب، ولا الكتاب الأول لقارىء في العالم، فمصدره ولا شك منطق الربح والخسارة، ومن الطبيعي لهذا المنطق أن يرى الشعر عملا خاسراً والشاعر سيد الخاسرين.
يكتب الشعر بالكلمات ويكتب بأكثر من الكلمات. والشعر في قصيدة هو ذلك العمل الفني الدقيق إلى درجة الحذاقة والمبتكر المفاجيء. إنه الرائع كالفتنة والخلاب كالسّحر. نضر كالصحة، وآسر كالفتوّة. وهو في تشكيلاته وصوره الفنية ذلك الحدث المدهش كقوس قزح على أوتستراد معاصر.
شاعر سوري مقيم في لندن
العرب،
—————————————
ما يخبرنا الفيروس عن أنفسنا..وما يذكرنا بالايدز/ أسامة فاروق
كل شخصٍ ولد وهو يحمل جنسيةً مزدوجةً، في مملكة الصحة، وفى مملكة المرض. على الرغم من أننا جميعًا نفضل استخدام جواز السفر الطيب. عاجلًا أو آجلًا، كلٌ منا مجبر ولو لمرةٍ واحدةٍ على الأقل أن يعرّف نفسه كمواطنٍ في الجانب الآخر.
سوزان سونتاغ
تقول أوليفيا لاينغ في الصفحات الأولى من كتابها “المدينة الوحيدة”* إن المدن يمكن أن تتحول إلى أماكن للعزلة والوحدة، وأننا في تلك الحالة سنكتشف أن الشعور بالوحدة لا يقتضي بالضرورة الانعزال الجسدي فقط، بل غياب أو ندرة العلاقات، القرب، والتواصل.
لكن أوليفيا بالتأكيد لم تكن تتخيّل في أسوأ كوابيسها أن تصل بنا العزلة والوحدة إلى هذا الحد. فكرت في الاستعانة بكتابها للحديث عن العزلة الإجبارية التي نعيشها، ثم وجدتُ نفسي مضطراً إلى تجاهل موضوعه الأساسي، فرغم أهميته إلا أنه يبدو بسيطا الآن أمام فكرة مذهلة كالفناء. وجدت أن الأجدر بالاستعادة من كتابها ليس فصول العزلة والوحدة، لكن فصولاً أخرى أكثر قسوة عن الألم والمرض والوداع، حقيقة ما تخبرنا به الأمراض عن أنفسنا، عن ضعفنا وهشاشتنا، أنانيتنا وفسادنا، عن المحن والتجارب السابقة التي لم نستفد منها. بالتحديد فصل “بداية نهاية العالم” الذي تحدثت فيه عن طاعون آخر ضرب العالم في وقت ما.
تنقل لاينغ عن سوزان سونتاغ قولها إن الأعوام التي تفشى فيها الإيدز كشفت حقائق خطيرة عن العالم –تمام كما يفعل كورونا الآن- العالم الذي يتم إعادة استخدام كل شيء فيه بشكل دائم، البضائع والنفايات، البلاستيك الذي يتم التخلّص منه في لندن لينتهي به الأمر على رأس سلحفاة في البحر، المعلومات، البشر، الأمراض: كل شيء يتحرك. لا أحد بإمكانه الانفصال، سلسلة متصلة كل عنصر فيها يندمج بعنصر آخر. لن تحميك الجدران ولن تعزلك، أقل حركة في أكثر البقاع النائية تولد تيارات تغرق بلاداً أخرى.
تكتب سونتاغ في نهاية كتابها “المرض كإستعارة” الذي نشر سنة 1989: “يسلط هذا الضوء على الترابط الحديث في الفضاء، والذي لا يعتبر شخصياً فقط بل اجتماعيا أيضا وتركيبياً، ويحمل تهديداً صحياً أحياناً يوصف بأنه خطر يهدد الجنس البشري، والخوف من الإيدز ومن الكوارث القادمة التي تعتبر منتجات للمجتمع المتقدم، خاصة ذلك الذي يقاوم التراجع في بيئته على مستوى العالم. الإيدز أحد النذر المشؤومة للقرية العالمية، لمستقبل قد حلّ وسيكون دائما أمامنا، ولا أحد يعرف كيف يمكن رفضه”.
تربط بين المرض وبين عالم الآلات، والطريقة التي تعقّد بها العالم وأصبحت فيها الاستعارات مترابطة ومتشابكة “استخدام كلمة فيروس، في البداية، أتى لوصف كائن حي يهاجم الجسد البشري، ثم أصبح يستخدم لوصف ما يهاجم برامج الكمبيوتر”. كلها صيحات تحذيرية من الحالة التي وصل إليها العالم المادي لم تلق الاهتمام الملائم، ربما كنا تمكنا من السيطرة على الخسارة والموت.
تحكي أوليفيا في كتابها قصة الفنان كلاوس نومي، الذي ترك ألمانيا موطنه الأصلي مهاجرا إلى نيويورك ليصبح نجم المدينة، ثم يلمع اسمه في العالم في الفترة بين نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، ثم يصبح أول شخص مشهور يموت بسبب الإيدز، انهار نظامه المناعي، وأصبح مظهره كأنه وحش بحسب تعبير أصدقائه، وتعرض لوحشة قاتله، وبات يخشى التعامل معه حتى أقرب الناس إليه، مواقف رأتها لاينغ طبيعية جدا، فالخوف الشديد كان نتيجة متوقعه لمرض مهلك كهذا، خاصة في السنوات الأولى لظهوره. وأصبح الجميع يتساءل وقتها: ما الطريقة التي ينتشر بها؟ ماذا عن المواصلات والنقل العام؟ هل يمكن أن أحتضن صديقي؟ هل يمكنني أن أتنفس الهواء ذاته الذي يتنفسه زميلي؟ كانت هناك العديد من الأسئلة المنطقية المطروحة، والخوف من انتقال العدوى استمر في التضخم مع مرور الوقت.
المصابون يطردون
بين سنة 1981 وسنة 1996 حين توفرت وسائل العلاج أخيرا، كان أكثر من 66 ألف شخص قد توفوا بسبب الإيدز في نيويورك فقط، وأغلبهم كانوا من الرجال، في حالات من العزلة التامة كما تقول المؤلفة “كان المصابون بالمرض يطردون من أعمالهم، ومن عائلاتهم، وكانوا يتركون في ممرات المستشفيات، هذا إن كانوا محظوظين وتم إدخالهم إلى المستشفى، كانت الممرضات يرفضن التعامل معهم، وحتى المدافن كانت ترفض قبول جثثهم بعد وفاتهم، بينما كان السياسيون ورجال الدين يحجبون عنهم الدعم والتعليم”.
كان المرض في سنواته الأولى محصوراً بين ثلاث مجموعات: الرجال المثليون، القادمون من هايتي، ومدمنو المخدرات، وولد ذلك بدوره أمراضاً أخرى حيث تم تضخيم فكرة الوصمة، ليشتعل الفتيل في فكرة موجودة مسبقا ضد المثليين، وفكرة عنصرية ضد القادمين من دولة هايتي، وفكرة ازدراء مدمني المخدرات. وعندما بدأت هذه الأقليات بالظهور في المجتمع، كان من اللازم إلحاق ويلات الإيدز وعدواه بها، ووصمت هذه الأقليات بهذا المرض وكان من اللازم تجنبها والابتعاد عنها بدلا من حمايتها ومحاولة علاجها. وهي الأمراض نفسها التي تواجهنا الآن حين نتجاهل الكارثة ونتبادل التعليقات العنصرية حول مصدر المرض ومسمياته، بدلا من التكاتف للبحث عن مخرج وعلاج.
تعود المؤلفة مجدداً إلى سونتاغ لتنقل قولها بأن الوصمة أو التصورات المصاحبة للمرض تميل لأن تلحق بالظروف التي تصاحب المظهر الخارجي، خاصة الوجه مثلاً، الدال على الهوية. وإذا كان ذلك يحدث في الأمراض العادية، فإنه بالتأكيد يلتصق بالأمراض التي تنتقل بممارسة الجنس، خاصة تلك التي تنتقل عبر الاتصال الجنسي المحرم، الذي يدفع بالمجتمعات للتأكيد على الفكرة الأسهل والأكثر راحة بأن المرض ليس محض صدفة أو خطأ، بل نتيجة حتمية يستحقها صاحبها بسبب فشله الأخلاقي، ولأننا الأفضل والأكثر التزاما فإننا بمنأى عن دائرة المرض القاتلة.
مشؤوم
في النص الذي ترجمه أحمد زغلول الشيطي **من كتاب سونتاغ نفسه، تتضح أكثر فكرة المرض القاتل، والتصورات المصاحبة له، تقول: “لا أحد يفكر في إخفاء الحقيقة عن مريض القلب: لا يوجد شيء مخجل في الأزمة القلبية. مرضى السرطان يُكذب عليهم، ليس لأن المرض كما يعتقد هو حكم بالإعدام ولكن لأن المرض يستشعر على أنه فاحش بالمعنى الأصلي للكلمة: مشؤوم، ملعون، قبيح المنظر. مرض القلب يعنى الضعف، المتاعب، الفشل الوظيفي. لا يوجد شيء مخزٍ، لا شيء يتعلق بالمحرمات التي أحاطت مرة واحدة المرضى المبتلين بالسل، واستمرت لتحيط بهؤلاء المصابين بالسرطان. الاستعارات المرتبطة بالسل والسرطان تنطوي على عمليات حية من رنين خاص ذي طبيعة بغيضة”.
كوكي مولر
كان كلاوس نومي أول شخص مشهور يموت بالإيدز لكن بعد ذلك أصبح الأمر شائعا، كان موتا واحدا ضمن سلسلة خسائر طويلة تعددها المؤلفة “لم تكن هذه تجربة فردية؛ لقد كان مجتمعا بأكمله ذلك الذى تعرض للهجوم، وأوشك على النهاية دون أن يلحظ ذلك أحد من الخارج” حيث رحل وقتها 194476 شخصا بسبب عدوى متعلقة بالإيدز في ذلك العام في أميركا، منهم: الموسيقي والملحن آرثر رسل، الفنان كيث هارينغ، الممثلة والكاتبة كوكي مولر، الفنان الأدائي إثيل إيشلبرغر، الفنان والكاتب جوي براينارد، صانع الأفلام جاك سميث، المصور روبرت مايلثورب، الفنان فيليكس غونزاليز توريس.
منهم أيضا المصور بيتر هوجار، وصديقه ديفيد ووننارفيتش الذي تتّبع قصته عبر عدة فصول، تقول لاينغ إن فكرة الموت كانت قد أصابت بيتر بالذعر، وجعله خوفه شديد الغضب. بعد تشخيصه أصبح ديفيد يراه تقريبا كل يوم، ذهب معه إلى كل الأطباء الذين وعدوه بمعجزات العلاج، كان ديفيد معه عندما مرض وكان معه عندما مات أيضا في السادس والعشرين من نوفمبر سنة 1987 في عمر الثالثة والخمسين، بعد تسعة أشهر فقط من تعرفه على تشخيص مرضه.
وبعد أسابيع من رحيل بيتر، اكتشف ديفيد أنه مصاب بالمرض نفسه. لكنه لم يستسلم للكآبة والوحدة، بل حارب من أجل تغيير الصورة النمطية للمرض ولتغيير طريقة معاملة المرضى أيضا، استخدم في ذلك كل الوسائل المتاحة، التصوير والكتابة والرسم. وفي إبريل سنة 1989 ظهر في فيلم وثائقي اسمه “صمت =موت”، يدور حول النشاط السياسي والاجتماعي في نيويورك خلال السنوات الأولى للوباء.
المدهش في الفيلم، ليس فقط غضب ديفيد الواضح كما تقول لاينغ ولكن عمق تحليله، ففي عصر كان فيه المصابون بالإيدز يوصفون بأنهم عاجزون ومعزولون، محتضرون ووحيدون، رفض ديفيد قبول دور الضحية، وبدلا من هذا قام بشرح كيف يمكن لهذا الفيروس أن يكشف عن أنواع أخرى من المرض في عمق الأنظمة. لم يكن يريد لأحد أن يصنع له نصبا تذكاريا بعد موته، لم يكن يريد لأصدقائه حتى أن يبكوا عليه، لم يكن يريد لموته أو لموت غيره أن يكون تجريديا، لم يكن يريد لهذا الحدث أن يمر دون انتباه من العالم “في حضوره المستمر خلال السنوات التي سبقت وفاته لتدشين النصب التذكارية المختلفة للعديد من ضحايا تلك الفترة، كان يشعر بحاجة ملحه للجري في الشوارع والصراخ، ليجبر كل من يعبر الشارع على التوقف وملاحظة الدمار الحاصل” كان يريد أخذ كل جثه تسقط بسبب المرض ووضعها أمام البيت الأبيض.
أحد أهم أعماله السياسية أيضا فيلم “يوما ما هذا الطفل”، انتجه عام 1990 ويعتبر تجسيدا لقصته، قصة العالم “قوة هذا العمل الفني تأتي من الطريقة التي يتخلص بها من تراكمات الوصمة، الفوضى السامة التي صنعتها الحضارة”.
لا تفكر لاينغ في الراحلين وحدهم لكن أيضا في الناجين الذين عايشوا تلك الفترات المرعبة و”حملوا داخلهم عقدا كاملا من الأسى” تقول إنها تبكي ليس حزنا وشفقة فقط لكن غضبا أيضا لأنها عاشت في عالم يسمح ويشرف على موت جماعي كهذا، وتشعر بالعجز لأنه لا أحد بإمكانه أن يوقف القطار.
*كتاب “المدينة الوحيدة .. مغامرات في فن البقاء وحيدا” تأليف أوليفيا لاينغ، وترجمة: محمد الضبع، وصدر عن دار كلمات.
** أحمد زغلول الشيطي كاتب وروائي.
المدن
—————————————-
مصائرنا تُرسم الآن.. نحتفل باليوتوبيا وتخنقنا الديستوبيا/ نزار آغري
نشر فيروس الكورونا الذعر والعزلة والحيرة والتيه، فضلاً بالطبع عن الموت والمرض، بين الناس في أرجاء الأرض، لكنه هيج، في الوقت نفسه، أشجان المشتغلين بالكلمات. لقد أيقظ حنينهم إلى النصوص التي قاربت أحوال البشر حين يجدون أنفسهم في قبضة مصير مرعب مثل الذي يجاهد الكورونا في رسمه الآن. تلك النصوص تتأرجح بين الإحتفال باليوتوبيا، الحلم، والديستوبيا، الكابوس.
الأمران معاً من صنع يد الإنسان. فهو، في شهوته للحرية القصوة والمتعة الدائمة يضع نصب عينيه أمنية جميلة ويفبرك الحيل للوصول إليها. لكنه سرعان ما يكتشف أنها، أي تلك الأمنية، هي مصيدة، فيكافح للتخلص منها.
في العام 1944، أثار أحد أساتذة الأدب الروسي، انتباه جورج أورويل إلى رواية بعنوان “نحن”، للكاتب الروسي يفغيني زامياتين، نشرها العام 1920. هي رواية أنتي ـ طوباوية تصف عالماً خانقاً يتحول فيه الفرد إلى كائن ذليل لا قدرة له على تحديد مصيره.
تجري أحداث الرواية خلال القرن السادس والعشرين، أي في العام 2600. كان الناس قبل قرون عديدة هبوا ركضاً وراء يوتوبيا فاتنة تتمثل في مجتمع سعيد وحر. وها هم الآن وقد صاروا أرقاماً. بيوتهم من زجاج (كتبت الرواية قبل ظهور التلفزيون)، الأمر الذي يجعل مهمة البوليس السياسي، المعروف بإسم “الحراس” سهلة، في مراقبة الشعب.
يرتدي الناس زياً موحداً، ويشار إليهم بأرقامهم، وهم يعتاشون على طعام صناعي مركب، والتسلية الوحيدة التي يتمتعون بها هي السير في صفوف منتظمة على أنغام النشيد الوطني لـ”دولة الفرد”.
يسمح لهم في أوقات محددة بإسدال الستائر في مساكنهم الزجاجية. هذه الفرصة هي “ساعة ممارسة الجنس”. لا زواج في هذه الدولة. يمكن للمواطن ممارسة الجنس مقابل كوبونات تضم قسائم وردية اللون، ويجب أن يوقع الشريكان على الكوبون حين الانتهاء من العملية الجنسية.
رئيس الدولة يدعى “ولي النعمة”. يعيد الشعب بالإجماع انتخابه كل عام. القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الدولة هي أن السعادة تناقض الحرية. (لنتذكر على سبيل الدعابة، لكن الدعابة المرعبة، ما كان شبيحة الحكومة السورية يرددونه لمن كانوا يقعون في أيديهم: بدكن حرية؟ هاي هي الحرية، ثم يبدأون التنكيل الفظيع).
وهكذا فإن الحرية التي ركض إليها الناس وضعتهم، بمحض “حريتهم”، في سجن رهيب.
الرواية، بعد أن ترجمت إلى اللغات الأوروبية، أصبحت بمثابة المعطف الذي خرجت منه النصوص اللاحقة التي تصور اليوتوبيات التي تتحول إلى ديستوبيات مرعبة.
حين كتب ألدوس هكسلي روايته الشهيرة “عالم جديد شجاع” العام 1932، اتهمه جورج أورويل بسرقة فكرة رواية زامياتين. نفى هكسلي ذلك بحدة بل أنه أقسم أنه لم يطلع على الرواية الروسية قط. لكن الطريف أن أورويل شرب من الكأس نفسه. فقد اتهمه العديد من النقاد بأنه، هو وليس هكسلي، من سرق رواية زامياتين. المؤرخ إسحق دويتشر كتب أن أورويل سرق كل شيء، الفكرة والمناخ العام والشخصيات والحبكة، من زامياتين.
في العام 1937، كتبت الروائية والفيلسوفة الروسية آين راند، التي هربت إلى الولايات المتحدة العام 1926، أي في بداية تسلط الطغيان الستاليني، رواية “النشيد الوطني” ونشرتها في المملكة المتحدة العام 1938. تجري أحداث الرواية في مستقبل بعيد غير محدد بعدما وصل البشر إلى نسخة جديدة من “عصر الظلام”. التكنولوجيا تسيطر على كل شيء وفقد الإنسان كامل شخصيته. لم تعد له شخصية فردية. إنه رقم ضمن قطيع من الأرقام.
يتمرد شاب يدعى 7 ـ 2521 ويقوم بإجراء أبحاث سرية. لكنهم يكتشفون أمره فيهرب إلى الغابات مصطحباًُ معه صديقته. هناك يصمم الإثنان على البدء بإنشاء مجتمع جديد قائم على الفردية ويخططان لتهريب الناس، الأرقام، من الدولة الشمولية التي هربا منها.
كتب أرثر كوستلر رواية “ظلام في منتصف النهار”، العام 1940 وتجري أحداثها داخل معتقل. هو نفسه كان اعتُقل العام 1937 على أيدي الفاشيين في إسبانيا حين كان مراسلاً حربياً لصحيفة نيوز كرونيكل. وهو كان عضواً في الحزب الشيوعي الألماني وفي الكومنتيرن. وضعه الفاشيون في سجن انفرادي 49 يوماً. كانوا قرروا إعدامه. في تلك الأيام الطويلة كان كل يوم جديد بمثابة انتظار جديد للموت. تذوق كوستلر الموت في كل لحظة.
أثرت رواية كوستلر في أورويل لدرجة أنه أراد الدخول إلى السجن كي يعيش التجربة بنفسه. وهو عمد بالفعل إلى افتعال مشكلة (شرب الكحول بشكل مفرط إلى حد السكر) فاعتقله البوليس. لكنهم سرعان ما أطلقوا سراحه، يا للخيبة. الشيء الوحيد الذي أمدته به هذه التجربة الصغيرة من أجل روايته هو الرائحة النتنة لدورة المياه.
كان كوستلر حاول أن يجد تفسيراً لمحاكمات موسكو. حاول أن يجد جواباً على السؤال الذي شغله وشغل الآخرين: لماذا وقّع ذلك العدد الكبير من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي على وثيقة الاعتراف بالجرائم المنسوبة إليهم، وبالتالي تأكيد تعرضهم للإعدام؟
جواب كوستلر هو: إما أنهم كانوا مذنبين بالفعل (وهذا مستحيل)، أو أن التعذيب وتهديد -عائلاتهم قد حطمهم (وهذا غير مقنع). الإستناج الذي توصل إليه هو التالي: السنوات الطويلة لإخلاصهم الكلي للحزب قد وضع على أذهانهم وأوراحهم غشاوة تمنعهم من التمسك بالحقيقة الموضوعية. إذا كان الحزب هو الذي يقول أنهم مذنبون فلا بد أنهم مذنبون بالفعل.
في رواية جورج أورويل 1984 يصرخ بارسون: بالطبع أنا مذنب. هل تعتقد أن الحزب يمكن أن يعتقل شخصاً بريئاً؟
في العام 1953 كتب راي برادبوري روايته الشهيرة “فهرناهايت 451″، وفيها وضع تصوره عن نظام ديكتاتوري يصدر قراراً بتحريم الكتب ويحظر التعامل بالكلمات المكتوبة. يعاقب كل من يمتلك الكتب بالسجن وتحرق كتبه علانية في الساحات العامة. وكما في رواية أورويل، حيث ينقلب الشيء إلى نقيضه (الحقيقة تصير كذباً والحرية تصبح قمعاً والحب يتحول إلى كراهية)، تقوم فرقة إطفاء، التي تكمن وظيفتها في إطفاء الحرائق، بإضرام النار في الكتب.
يقول رئيس الفرقة: نريد إشغال الناس بمسابقات الأغاني وحشو أدمغتهم بمعلومات لا قيمة لها حتى يشعروا بأنهم بارعون وراضون عن أنفسهم بينما هم في حقيقة الأمر لا يفكرون في شيء ذي قيمة.
تنبأ برادبوري بما سيؤول اليه مستقبل الإنسان عندما تسقط المعرفة وتهيمن سلطة الجهل ويتحكم التلفزيون في حياة البشر محولاً الجموع إلى قطعان مدجنة، تلتهم برامج المنوعات والأغاني والمسلسلات، وتدمن عليها فلا تعود معنية بما يحدث، ولا تأبه بأي شأن من شؤون الحياة والمخاطر التي تفترس المجتمع “ماذا كان سيقول لو أنه عاش الآن ورآى الهيمنة المطلقة لوسائل التواصل الإجتماعي: الفيسبوك والتويتر واليوتيوب..الخ؟”.
في أوسانيا، في رواية جورج أورويل، لا قوانين، بل جرائم فقط، ولا فصل بين الفكر والعمل. لهذا لا يجد وينستون سبباً يدعوه لئلا يعترف بأنه قام بالتجسس والتخريب والإختلاس والانحراف الجنسي. هو متيقن من أنه مذنب بالفعل، رغم أنه لم يرتكب أي شيء على أرض الواقع.
لم يكن كافياً لستالين أن ينهي حياة خصومه برصاصة في مؤخرة الرأس. كان هاجسه، أولاً وقبل كل شيء، أن يركعهم وينتزع منهم الإعتراف بأنهم مذنبون والصراخ بأنهم نادمون وأن يسجل بالتالي انتصاره عليهم وعلى الواقع. انتصار إرادته الذاتية على الحقيقة الموضوعية.
قال المسؤول السوفياتي غيورغي بياتاكوف، الذي أُعدم العام 1973، أن البلشفي الحقيقي مستعد لأن يؤمن بأن الأسود أبيض والأبيض أسود إذا قرر الحزب ذلك. في الرواية تقوم إبنة بارسون بالوشاية بأبيها لدى بوليس الفكر. هذه الفكرة استمدها أورويل من الواقعة الفعلية التي حدثت في روسيا العام 1932 حين قام ولد يبلغ الثالثة عشرة من عمره بإبلاغ البوليس السري لستالين عن والده. وقد وصفته الدعاية السوفياتية بالولد البطل.
الغاية النهائية للحزب هي الإستحواذ على ذهن وفكر وعمل العنصر الحزبي وصهره كلياً، مثلما يصهر المعدن، داخل الجهز الحزبي.
لا يهم إن كان الأخ الأكبر يراقبنا بالفعل أم لا، وإن كان البوليس السري يتعقبنا، المهم أن نقتنع نحن، في أعماقنا، بأن الأمر على هذه النحو. أقوى الأكاذيب هي تلك التي نتمسك بها بأنفسنا ولا نريد التخلي عنها. لم تكن تشغل بال أورويل شخصية هتلر أو ستالين بل السؤال: لماذا يتبعهم هذا القدر الهائل من الناس؟ العجز عن فهم ما يجري على أرض الواقع ورؤية الأشياء بوضوح، بعيداً من عدسة الحزب أو الأخ الأكبر، يسهل إمكانية تعلق الناس بأفكار معتوهة.
“أي تصور عن العالم خال من الطوبى لا يستحق أن ينظر إليه بجدية”.
هكذا كتب أوسكار وايلد في مقال بعنوان “روح الإنسان في ظل الإشتراكية”. قال إن التطور البشري ممكن في تحقيق الطوبى.
رأى جورج أورويل أن وايلد يبالغ في تفاؤله، ذلك أن الحقيقة العيانية تقول أنه لا طوباويات بريئة في واقع الأمر. جميل أن يتعلق المرء بالأمل ويسعى في أثر الأحلام، لكن أي محاولة لتحقيق طوبى نهائية محكوم عليها ليس فقط بالفشل بل بالكارثة.
المدن
——————————-
في الفردوس المعقّم/ سومر شحادة
انتبه، هي الكلمة التي ترنّ في العالم الضيّق. انتبه عندما تخرج من المنزل، لا تقترب من الآخرين، وإذا كنت مضطراً للاقتراب، انتبه، واترك بينك وبينهم مسافة متر أو مترين. انتبه عندما تشتري من السوبرماركت، إذا كنت تدفع نقداً، لا تنس تعقيم يديك ما إن تستعيد النقود، انتبه من يديك. وعندما تجلس في التاكسي – إذا وجدت تاكسي، لا تلتفت إلى السائق، أبق أنفاسك بالقرب من النافذة. انتبه وأنت في عملك، ألا يصدر عنك وهنٌ، أو أي أعراض مرضية، حتى لا ينظر إليك كمصدر للموت، ينبغي التخلّص منه، أو الابتعاد عنه.
لا مصافحات، لا عناق، لا قُبل، لا ملامسة، لا ربتات على الكتف. باختصار، تجنّب الشكل القديم للأُلفة، حاذر الألفة نفسها حتى تحاذر سلوكها. انتبه من أجل صحتك، دعك هذه الأيام من الآخرين. انتبه بعد أن تستخدم الكيبورد في العمل- إذا بقي لديك عمل تذهب إليه، أن تعقّم يديك، لا لأنك تكتب عن القتل وإنّما كي لا تُقتَل. انتبه، إذا لم تُقتَل لأنّك لم تنصت لآلة التعقيم التي دخلت حياتك الجديدة. سَتُقتَل من الهواجس.
انتبه، وأنت تتصفّح الكتاب الورقي، إنّ الكتب موبوءة، خصوصاً إن كانت في مكتبة عامة. انتبه إلى أنّك تمتلك رفاهية الانتباه، ولم تقصرك الحياة على ممارسة ما لا تحبّ، لم تقصرك الحياة على أن تعيش وسط الحاجة التي تنفي الانتباه بالمبدأ. لديك الرفاهية كي تعود إلى المنزل، ثمّ قبل أن تدخل المنزل. انتبه، وأخبرهم كي يعقموك مثل جرثومة. لن تموت. لا لأنّك لست جرثومة، بل لأنّ عليك كتابة هذه السطور.
أليست الكتابة تلك التميمة التي حمتك في زمن القتل الأعمى. لتطلق الآن من منصتك نداء الانتباه؛ انتبهوا إلى رحابة البيت المعقم، زوجات معقمات، أطفال معقمون، آراؤك معقمة، كلاب وقطط معقمة، الريموت كونترول معقم، اللابتوب في المنزل معقم، الكتب تخصك وحدك، تنقل إليها أمراضك، مثلما نقلت هي أمراضها، المنزل هو الفردوس المعقم. في الخارج الكتب والناس موبوؤون، الخضار والملابس، الجدائل والرخام والأجنحة. انتبه إلى ما انزاح من مفردات الشعر إلى مفردات العيش، وانتبه، قد يحملون لك وباءً من نوعٍ قاتل آخر.
إذا كنت تعيش وحيداً فقد اختصرت سيرة الجميع الآن بأن يعودوا وحيدين. أنتَ إنسان متفوق، لو لديك كلب، لو أنّك أحضرت إلى حياتك كلباً، كم ستكون حياتك لطيفة. لكن انتبه، ما حاجتك للوفاء في هذه الأزمنة، يلزمك قطة، كي تشعرك بالدراما، كي تزعل منك إذا أهملتها وكي تسعى إلى إرضائها، دع عنك فكرة إحضار كلب، وأحضر حيواناً آخر، كي يأتلف مع حياتك المعقمة الخالية. الكلب فكرة رائعة لكنها فكرة نوستالجيّة عن كائنات لا تفارقك. انتبه، هذا لم يعد ممكناً. أنت في عرضة للفراق في كلّ لحظة تتقدم. هل حقاً فاجأتك هذه الحقيقة؟ يا لك من كائن قديم يحتاج إلى الآخرين دائماً.
انتبه، الأزمنة تتغير، لكلّ زمان وباؤه، إذا أردت الحقيقة، لكلّ بلاد وباؤها. استمتع بهذا الوباء الذي يبدو عالمياً، لربما هذه المرة الأولى التي تدخل فيها بلادك الألفية الثالثة، لا تكترث للفقر وانقطاع الكهرباء، لا تكترث لما لا يمكن وصفه. انتبه إلى الوحدة، تأمل هذه الأرض الوحيدة، هذه اللحظة النادرة، قبل أن تعود البشرية، وتسيطر على الزمن. لكن، ألا يداخلك الخوف هذه المرة؟
* كاتب من سورية
العربي الجديد
———————————
يوميات شابة وحيدة.. النبطية في زمن كورونا/ زينب كنعان
قبل إعلان حال التعبئة العامة في البلاد، رحت أمكث في المنزل مخافة تعريض نفسي للعدوى بكورونا. واليوم وبعد مضي ما يقارب شهر بدأت تظهر عليّ أعراض الحجر المنزلي وآثاره.
صرت أوبخّ قطتي كثيرًا وأحدّث نفسي!
فأنا أقيم وحدي. وبات لقائي – وأحياناً إبصاري – بشراً، ليس بالأمر أو بالحدث العادي، بل حدث عظيم عندي.
أصوات أولاد الجيران صارت تسليني، بعدما كانت تزعجني.
منزلي بلا شرفة. في طريقي إلى سطح المبنى لأعرض جسمي وروحي لنور الشمس ودفئها، أردد كلمات من أغنية لفرقة أدونيس: “تعا نقعد ع الروف/ مش لحدا هالروف”. وهي منحولة عن أغنية رائعة بصوت الراحل جوزف صقر النحيل والحنون: تعا تقعد بالفي/مش لحدا هالفي.
كنت أكره الجلوس في نور الشمس والتعرض لأشعة الشمس. اليوم باتت الشمس ملاذي للتفريج عن نفسي، للتخلص من الضغط النفسي الذي يعيشه الناس جميعاً في هذه الأوقات العصيبة، بسبب الحجر المنزلي.
محظوظة أنا بحرش زفتا قبالة منزلي. أنظر إليه من خلف الزجاج، ويزوغ بصري على أخضره النباتي.
على سطح المبنى المقابل أشاهد مجموعة من الأولاد
يتقافزون ويلهون قرب من حبل غسيل.
حتى الثياب المغسولة المنشورة على السطح أشعر أنها وحيدة. لا أعلم إن كان بصرنا ومشاعرنا تغيرت أم الأشياء هي التي تغيرت.
يخطر في بالي أطفال المدن. ليس في أوقات الحجر، بل قبلها، في ما مضى من أوقات عادية. عندما كنا نتحدث أو كانوا يتحدثون عن غياب المساحات الخضراء في بيروت.
محظوظون نحن في الجنوب.
أجهّز “ورق الشام”. أحشوه بالتبغ. تبغ أهل الجنوب. أطيل وقت لفّ سيجارتي. أشعلها. وتسقط عيني على النادي الرياضي في الشارع المقابل. ماذا يفعل رواد هذا النادي في الحجر؟
أعرف بعضًا من مدمني الرياضة الذين أُجبروا على المكوث في المنزل، والجري على آلات الركض.
بعضهم أصابه الإحباط.
محمد شعيب مالك النادي الرياضي – في حديثي معه – أخبرني كيف يقضي وقته في لعب الورق.
بات يأتي إلى ناديه ليلاً. يسترق وقتاً ليلياً ويأتي وحيداً ليقوم ببعض التمارين الرياضية وحيداً وخفيةً.
كأن زيارة النادي صارت تشبه بيع المخدرات.
للحجر آثاره على برنامج محمد الغذائي: لا مأكولات صحيّة. نعم للنرجيلة وللعب البوبجي.
أما أنا فلا أحب الألعاب الالكترونية.
مشاهدة الأفلام والمسلسلات، محادثات الواتس آب،
مكالمات الفيديو مع صديقاتي، وقد تطول لساعات، أصبحت من عاداتي الجديدة بسبب هذا الحجر.
يهاتفني صديقي. يعرض عليّ مغامرة لكسر الحجز: جولة في السيّارة في شوارع النبطيّة الضيّقة.
أرى النبطية بعد طول غياب. نمر في شوارعها. كأنني أشاهدها للمرّة الأولى. كأنني الآن عدت من بلاد الاغتراب.
سوق الخضر القديم خفّت ضوضاؤه. بعض كبار السنّ من الباعة هنا، قرب صناديق الفاكهة. بعض الشبّان الذين كانوا يتجولون على الدراجات النارية يقفون قربها.
يلفت نظري رجل سبعيني يجول في الشارع. يرتدي طقماً رمادياً من موضة عتيقة، لكنه جديد. كأنه هجره سنين كثيرة، وتذكره اليوم، فارتداه وجاء إلى السوق، كما كان رجال النبطية يفعلون من زمان نهارات الأحد.
يغطّي الرجل وجهه بكفه لاتقاء فيروسات كورونا.
قرب البنك السويسري اجتمع أربعة من كبار السنّ. أقول في نفسي: ربّما هو وقت الفسحة من كورونا.
الشوارع شبه خالية. ربّما أجمل ما في الأمر أنّه لن نتكبّد هم البحث عن مكان لإيقاف السيارة في شارع محمود فقيه.
أعود إلى منزلي. أشاهد جيراني في المبنى المجاور. يجتمعن عصر كل يوم في جلسة نرجيلة تحت شجرة الكينا. أصبحت هذه الفسحة متنفسًا لهم. خصوصاً الأمهات.
أتذكر صديقتي، وهي أم لثلاثة أطفال. زوجة طبيب. وأصبح موعد عودته من عيادته وزيارته مرضاه في المستشفيات هاجسها الأسوأ على الإطلاق.
في القرى المجاورة للنبطية لم يتغير المشهد كثيرًا.
مهدي الديراني من يحمر الشقيف يخبرنا أن بلدته لم تكن تشهد اكتظاظًا قبل كورونا. لذا لم يختلف المشهد كثيرًا. يحاول مهدي تذكير الناس – على الدوام – بأهمية الحجر والمكوث في المنازل. يفعل ذلك من منطلق أنّه طالب صحافة، وعليه أن يمارس دوره في التوعية.
على الرغم من افتقاده لقاء أصدقائه، لا يزال مهدي يحتفظ بطاقته الإيجابية.
أما أنا فبدأت أفقد إيجابيتي.
أقوم بجولة على صفحات التواصل الاجتماعي. يلفتني فيديو من الأردن للمواطنين يغنّون من على الشرفات ليلًا. تجتاحني رغبة لإخراج رأسي من النافذة، لأصرخ عاليًا بأغنية “بنت الجيران”.
أعود لرشدي. أحدّث نفسي: لا تتهوري، ستنتهي هذه الأزمة. لكن لن ينسى الجيران أنكِ أقمتِ حفلة من خلف نافذتك في الثالثة فجرًا!
المدن
—————————————-
كيف ستواجه السينما زمن الوباء؟/ أمير العمري
السؤال الذي يطرحه الكثير من المهتمين بالسينما هذه الأيام هو: كيف ستصبح علاقتنا بالسينما في زمن كورونا وما بعده؟ أي في هذه الأوقات الصعبة التي أرغمنا ذلك الانتشار الهائل للفايروس القاتل على البقاء في بيوتنا لا نغادرها سوى للضرورة القصوى؟ هل ستظل علاقتنا بدور السينما، أي بمشاهدة الأفلام على الشاشة الكبيرة، قائمة، أو بالأحرى هل ستكون قابلة للاستمرار؟
لا شك أن الرابح الأكبر في معركة كورونا هو شبكات البث الرقمي مثل نتفليكس وأمازون وديزني وغيرها، فقد أصبحت مشاهدة الأفلام عبر هذه الشبكات على شاشة التلفزيون، هي البديل المريح أو الوحيد، السهل والمأمون حاليا. خاصة في ظل المنافسة الشرسة التي اندلعت بين هذه الشبكات التي تتبارى في الاستئثار بعرض المسلسلات والأفلام الجديدة الجذّابة، التي تحصل على تمويل كبير من جانب تلك الشبكات العملاقة التي يشترك فيها عشرات الملايين في العالم، وهو تمويل تعجز عن تقديمه شركات الإنتاج السينمائي التقليدية، داخل هوليوود أو خارجها.
سيخسر الجمهور دون شك متعة التواجد معا داخل صالات السينما، والإحساس الجمعي المشترك بروح الفيلم السينمائي، وهو شكل التواصل الذي اعتاد عليه الجمهور منذ ظهور السينما حتى اليوم.
خسائر بالجملة
ما العمل في حالة انتشار الوباء مُجدّدا في مهرجان مثل كان أو البندقية أو برلين، بسبب الزحام الكبير داخل قاعات العرض؟ما العمل في حالة انتشار الوباء مُجدّدا في مهرجان مثل كان أو البندقية أو برلين، بسبب الزحام الكبير داخل قاعات العرض؟
ستخسر دور السينما وشبكات العرض المنتشرة في العالم التي تمكنّت من الصمود طويلا أمام كل التحديات التي واجهتها منذ ظهور منافسها الشرس، التلفزيون في الخمسينات وانتشــاره الكبيــر في السبعينات وما بعدها، ثم ظهور الفيديو ثم الاسطوانات المدمجة وأقراص البلو راي مع تعدّد الشبكات التي تبثّ بواسطة الكابلات وغير ذلك. إلاّ أن التحديات التي فرضها ظهور شبكات البثّ الرقمي ربما لن تقدر عليها دور العرض التقليدية في زمن كورونا وما بعده.
مهرجانات السينما التي تعتبر البوابة الرئيسية التي تطرح من خلالها الأفلام الجديدة في أسواق السينما العالمية، أصبحت تعاني من عدم وضوح الرؤية. فما هو مصيرها؟
أميل شخصيا إلى الاعتقاد أن جميع المهرجانات الكبرى المعروفة في العالم مثل كان وفينيسيا وكارلو فيفاري ولوكارنو ولندن ونيويورك وموسكو، لن تقام هذا العام. فقد أصبح 2020 عام كورونا، وأصبح التواجد جنبا إلى جنب مع جمهور غريب وأفراد قادمين من كل مكان في العالم، داخل قاعات العرض في المهرجانات السينمائية الدولية يضيف رعبا مضاعفا. خاصة مع التلامس الجسدي الذي لا مفرّ منه بسبب الزحام الكبير، ولم يكن غريبا أن يصف ناقد مخضرم من نقاد مجلة “فاريتي” الشهيرة مهرجانات السينما مؤخرا بأنها “صناديق ساخنة للجراثيم”.
تقديرات العلماء، وليس السياسيين أو الإعلاميين، تقول إن التوصّل إلى لقاح للفايروس القاتل ثم عقار فعّال يقضي عليه، لن يصبح متوفرا قبل 18 شهرا. وحتى بافتراض أنه قد أصبح متوفرا فعملية إنتاج مئات الملايين من العبوات والجرعات الضرورية منه التي تكفي سكان الكرة الأرضية، ستستغرق زمنا طويلا حتى في حال اشتراك عشرات من شركات إنتاج الأدوية في إنتاجه بنفس المواصفات.
وبالتالي سيظل الشك قائما، والسؤال الوجودي مطروحا: هل نغامر ونقيم المهرجان أم نؤجل إقامته مرة أخرى؟ وهل نغامر ونذهب إلى المهرجان أم من الأفضل أن نجلس في بيوتنا ونشاهد الأفلام عبر نتفليكس التي أظن أنها ستقبل على التلويح بإغراءات مالية كبيرة مقابل شراء أحدث الأفلام؟
هناك أيضا شك كبير في أن يقبل نجوم السينما، والمخرجون والمنتجون وغيرهم ممّن يحضرون المهرجانات السينمائية وعددهم بالآلاف، خاصة إذا أضفنا إليهم الصحافيين والنقاد، السفر بالطائرات من الولايات المتحدة ودول جنوب شرق آسيا بل ومن دول أوروبية عريقة في صناعة السينما مثل إسبانيا وإيطاليا، لحضور المهرجانات السينمائية والتواجد وسط الزحام الكبير، علما بأن الطائرات في حد ذاتها، تعتبر من المصادر الأساسية للعدوى. وقد يكون المرض غير واضح على شخص ما يجلس بجوارك، لكنه يظل ناقلا للعدوى. فما العمل في حالة انتشار الوباء مُجدّدا في مهرجان مثل كان أو فينيسيا أو برلين، بسبب الزحام الكبير داخل قاعات العرض؟ وهل سيقدر المسؤولون عن هذه المهرجانات على تحمل المسؤولية خاصة في حالة إذا ما عاد الفيروس للانتشار نتيجة وجود ضيف قادم من إحدى الدول الموبوءة التي لم تبرأ، تماما، بعد؟
الحل في البث الرقمي
جميع المهرجانات الكبرى المعروفة في العالم لن تقام هذا العامجميع المهرجانات الكبرى المعروفة في العالم لن تقام هذا العام
لم يعُد هناك مفرّ في رأيي من أن تتحوّل مهرجانات السينما التي تودّ البقاء في دائرة الاهتمام، إلى شبكة الإنترنت، تعرض من خلالها أفلامها على الجمهور الراغب في المشاهدة مقابل دفع مبلغ ما أو قيمة الاشتراك في المهرجان، مع دعوة الصحافيين والنقاد إلى مشاهدات مُحدّدة التوقيت والتاريخ في العروض الصحافية الخاصة حتى يتسنّى لهم الكتابة عن الأفلام. كما يمكن تخصيص بثّ مباشر لأحداث وفعاليات المهرجان مثل المؤتمرات الصحافية مع صنّاع الأفلام والندوات التي تناقش العديد من القضايا، وغير ذلك.
على أن يشاهد أعضاء لجان التحكيم الأفلام من منازلهم دون حاجة إلى السفر والتواجد معا في اجتماعات مغلقة، بل يمكن أن ترتّب تلك الاجتماعات أيضا عبر الشبكة الرقمية، ومن ثم إعلان النتائج.
دور السينما مغلقة في معظم الدول حاليا باستثناء الصين التي ظهر فيها الفايروس ومنها انتقل إلى العالم، بعد أن استطاعت أن تكبح جماحه، كما تقول. وقد عادت إلى افتتاح مئات من دور العرض التي كانت قد أغلقتها (يا للشجاعة!).. لكنني على أي حال، من أنصار التشكّك في كل ما يصدر عن الصين “الرسمية” كدولة شمولية مغلقة محكومة بسلطة الحزب الواحد وقمع الأمن والجيش.
ومن لا يعرف عليه فقط أن يراجع ما جرى قبل أكثر من ثلاثين عاما في ميدان تيانامن في قلب بكين حينما قمعت الدبابات ثورة الطلاّب وداست على أجسادهم بكل وحشية. ولكن السؤال هو: هل ستستعيد السينما حضورها في حياة الناس مجددا بعد أن تنقشع أزمة وباء كورونا العالمية؟
يراودني شك كبير في عودة الأمور إلى سابق عهدها على كافة الأصعدة، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، فلماذا تصبح السينما استثناء من التغيّر المحتوم؟ أظن أن الأشكال الجديدة للمُشاهدة عبر شاشة الهاتف المحول وأجهزة التابليت والكمبيوتر المحمول وأمثالها، ستصبح البديل الفردي لدى ملايين البشر، وستغلق بالتالي آلاف من دور العرض وقاعات السينما الموجودة في المدن، ويبحث صنّاع السينما عن وسائل أخرى للوصول إلى المُشاهدين في بيوتهم، ستكون بالضرورة وسائل أكثر فردية وانعزالا.
ولو حدث هذا بالطبع وأرجو وأتمنى ألاّ يحدث، لأصبحت تلك هي النهاية التعيسة لشكل عظيم من أشكال التخاطب الإنساني عبر ثقافة وفن الفيلم. وسيكون أسوأ وداع لعصر السينما.
كاتب وناقد سينمائي مصري
العرب
——————————————-
===========================
تحديث 03 نيسان 2020
————————————-
بشير البكر: كورونا الربيع.. خطّ رجعة للفرح
نحن في أول أيام الربيع. هناك شمس حميمة رغم أن دفأها لم يكتمل بعد، هي تشبه حبة لوز حليبية ذات زغب. الطيور مسرعة جداً نحو الشمال، وتطير على ارتفاع منخفض من سطح البحر. طيور عائدة من الجنوب بعدما أمضت الشتاء هناك. هي أشكال ألوان وأحجام مختلفة، ولكل منها سربه الخاص. أقرأ في سرعة طيرانها أنها متلهفة جداً للعودة الى الربيع الوشيك هناك في أوروبا البعيدة ما وراء البحار. هذه الطيور تأتي في الخريف من أقاصي الكرة الأرضية، الطرف الشمالي، وتذهب نحو الجنوب، إلى بلدان الخليج وشط العرب في العراق، هرباً من البرد والصقيع الأوروبي. لكن ما أن تصلها إشارات الربيع، تبدأ رحلة العودة من أجل الاحتفالات الكبرى. أعراس الطيور في أول الربيع، وبناء الأعشاش بانتظار التفريخ والزغب والريش.
أول الربيع، وها هي الأشجار في محيط البيت بدأت تزهر وكأنها في سباق. كل واحدة تريد أن تزهو أمام جارتها بحسن الثوب الجديد، كما يتباهي الأطفال بثياب العيد. وهناك بعض الأشجار تتبجح بألوانها التي تحمل فائضاً من الجمال لا طاقة للعين به. اللوز غير كل الأشجار، ويسبقها جميعها حين يبدأ الزهر الأبيض في عز برد شباط/فبراير. زهر الرمان لا يشبه زهر الخوخ والليمون والمشمش. تشكيلة من الأبيض والزهري والوردي تجعل من شمس هذا النهار هدية لي، أنا الذي ينتظر عاماً كاملاً، ليترك لمزاجه أن يسترخي وسط هذه الكائنات اللونية ذات الإشراق الذي لا حدود له.
أول أيام الربيع، صفحة البحر ملساء هادئة، لا رياح ولا أمواج. سكون تام، كما في لوحة لهنري ماتيس، يزيد منه أن السماء خالية من الطيران، ما خلا طائرتين، واحدة تستعد للهبوط في مطار اسطنبول، والثانية أقلعت منه. وكلاهما لا تثير ضجة اعتادها سكان حي فلوريا الذي يمر فوقه الطيران الهابط إلى اسطنبول. هدوء يكسر إيقاعه متنزهون يخرجون في الصباح الباكر للقيام بتمرين المسير اليومي في كل فصول العام. وحين يحل الربيع، تتزايد أعداد رواد الكورنيش، ليس حباً بالرياضة، بل من أجل متعة المشي بجوار هذا الأزرق الساحر. لكن رواد الكورنيش هذا الصباح يسيرون والشاطئ على غير عادته. ثمة ما هو ناقص في المشهد العام. المقاهي البحرية التي تكون عامرة بزبائن الافطار الصباحي المتميز الذي يبدأ باكراً، ويستمر حتى ما بعد الظهيرة، كلها مغلقة بسبب إجراءات مواجهة كورونا، وسفن الصيد الصغيرة التي تبحر ليلاً وتعود في الصباح لا أثر لها.
أول أيام الربيع، ولا تبدو وجوه رواد المسير الصباحي على ما كانت عليه قبل أيام. الملامح تتغير يوماً بعد آخر. هناك قلق لا يرقى إلى الهلع. هو توجس الخائف غير المذعور الذي يترك خط الرجعة إلى لحظة الفرح. حسرات في العيون التي تكتظ بالأسئلة والحيرة. وما يجعل الأمر مؤلماً هو أن أحداً لا يمكنه أن يشفي الغليل ويقدم وصفة تجعل الناس تتنفس الصعداء. يسير المتنزهون بسرعة وببطء، يحيّون بعضهم، أو يعرضون. سيان. لا شيء في الملامح يوحي براحة البال. انهم ينتظرون، كما هو حال المريض الذي يتمتع بصحة جيدة، ومن ثم اكتشف أنه على طريق مرض عضال، نسبة الشفاء منه ليست مضمونة.
أول أيام الربيع، حزن يطفو فوق الأرواح، وكأن هذه الجموع في اللحظات الأخيرة من الحياة تنتظر عدواً، لا تعرف كيف تتعامل معه. عدو قد يباغت في أي لحظة. غير مرئي، وموجود في كل مكان. يشبه اللغم المدفون في الرمل. يتربص بكل منا في لحظات الضعف والقلق، في أول أيام الربيع التي لا يليق بها سوى الاحتفالات والأعراس.
(*) شهادة كتبها الشاعر السوري بشير البكر لـ”المدن” عن يوميات كورونا
——————————–
للعمل من أجل ماضٍٍ أفضل/ منال خضر
تخلصنا مرغمين من الكثير من “الحركة بلا بركة”، حتى استسغنا الأمر، واكتشفنا بعد اسابيع قليلة أن البركة ربما تتأتى عن قلة الحركة. اكتشفنا أننا لا نكون نحب أهلنا وأصدقاءنا أقل إذا رأيناهم أقل.
واكتشفنا أيضاً أننا لم نخسر الكثير مع تضاؤل نسبة استهلاكنا إلى حد كبير. قد نكون اكتشفنا أن الحياة أقل، هي ربما الحياة أكثر.
غير أن قلة الحركة أتت علينا ببعض الأعراض الجانبية مثل التنميل، وهو، بحسب ويكيبيديا، ذلك الاحساس الذي يشبه زحف الحشرات الصغيرة على الجِلد، وهو شكل واحد من مجموعة الأحاسيس المعرّفة باسم مذل. وفي حالات نادرة، يقتنع الافراد بأن الإحساس يعود إلى وجود حشرات حقيقية على الجِلد أو تحته، رغم التطمينات المتكررة من الأطباء وخبراء مكافحة الآفات وعلم الحشرات.
وهناك الترنّح، وهو من الأعراض الأخرى الناجمة عن قلة الحركة ـ التنقل من السرير إلى الكرسي، ومنه إلى الكنبة، ومنها إلى كرسي الحمّام، ومنه إلى السرير، وهكذا دواليك. والترنح، بحسب القاموس، عبارة عن إشارة عصبية تتضمن انعدام التنسيق الإرادي للعضلات.
فما فائدة التفكير في الغد، كي لا نقول في المستقبل؟ فهو مليء بالأسئلة الكبرى الوجودية والحياتية والمادية وغيرها، يشوّش واحدُها الآخر بحيث يضيع أي جواب محتمل في الغبش. والغبش، بحسب قاموس المعاني، هو اختلاط آخر الليل ببياض الفجر.
في ظل غياب نموذج قيمي وأخلاقي وسياسي واقتصادي، أو بكلمات أخرى، في ظل غياب نظام إنساني مقنع على الأصعدة المختلفة، يصعب الأمل في مستقبل أفضل ـ خصوصاً إذا لم نكن من جماعة “المحكومين بالأمل”. لكن، ألسنا جميعاً بحاجة إلى ما يحفّزنا على العمل، وعلى الإنتاج والإبداع؟
الديموقراطيات السياسية تغنّت بحقوق الفرد، قبل أن ينتهي الأمر بها (بمعظمها) إلى الانقضاض على الفرد وحقوقه، وبات تعريف حقوق الإنسان في ديارها شيئاً نسبياً ومجرداً، فيما قامت الديكتاتوريات بتحرير اقتصادها، بحيث يقضي على ما أبقته السياسة من هواء قابل للتنشق. أما الدول المتقدمة تكنولوجياً، فباتت حكوماتها قادرة على معرفة درجة حرارة أجسامنا فيما نحن مستلقون على أسرّتنا نحاول زيارة بعض المتاحف ودور الأوبرا، التي بادرت، في زمن الكورونا، إلى خطوات “إنسانية” وفتحت أبوابها افتراضياً للمتعطشين إلى الثقافة.
أما المعادلة الحسابية في هذه الحالة، فتصبح كالتالي: التنميل زائد الترنّح يساوي: لا للأمل، نعم للعمل من أجل ماضٍ أفضل.
فنحن نعيش اليوم مرحلة استثنائية، البعض يعتبرها حرباً عالمية ثالثة، وعادة ما تنطوي مراحل ما بعد الحرب على إعادة إعمار وعودة مهجرين ومصالحات يحدد شروطها المنتصر. لا نعلم في حالنا اليوم من سيكون المنتصر، فإذا كان فيروس كورونا هو صاحب الحظ، سيحتاج الناجون إلى وقت طويل قبل التفكير في المستقبل. أما إذا انتصرت الحياة، فلا بد من العمل على ماضٍ أفضل.
لنعتبر هذه اللحظة التاريخية، وهي بالفعل كذلك، أقله بالنسبة لجيلنا: لحظة الصفر. ستمر هذه العاصفة لا محالة، وسيبقى معظمنا على وجه الأرض، لكن أين الوجهة؟ العودة إلى “حياتنا الطبيعية” هي أسوأ الخيارات. ففيروس “كوفيد 19” وطقوسه، ليست مستحدثة بقدر ما هي استكمال لشعائر وأخلاقيات وسياسات حرص عالمنا بمختلف مكوناته البشرية، وإن بدرجات متفاوتة، على ازدهارها. لا بدائل، ولا حتى وعود ببدائل مقنعة على خط الزمن، من بعد نقطة الصفر، وبالتالي قد يكون خيارنا الوحيد هو السير في الاتجاه المعاكس لخط التاريخ، والعمل على تفكيك إنجازات البشرية السابقة على هذه اللحظة، والتي ليست أزمة كورونا برمزيتها غير وجه واحد من وجوهها الكثيرة. وبدلاً من الانتقال الطوعي، من الرأسماليات المتوحشة والديكتاتوريات العسكرية، إلى مرحلة الديكتاتوريات الرقمية وتبعاتها على إنسانيتنا، خوفاً منا على وجودنا الهش، دعونا نقوم بتمارين رياضية نتحدى بها التنميل والترنّح. دعونا نحتفل بالماضي إذ ربما نجد في استنطاقه ما يقلل من… الغبش.
———————————————–
البيت بوصفه اختبارًا للهوية/ رائد وحش
لم تمض أيام قليلة على الحجر المنزليّ حتى تعالت الأصوات رافضة لهذا المصير، أو على الأقلّ رحنا نسمع الناس يندبون الحظّ العاثر من ضجر مبارحة البيت.
هذا الإجبار جعل المحجورين يشعرون بالتعاطف مع بعضهم البعض بادئ الأمر، فراحوا يبادرون إلى تبادل أشياء (كتب وأفلام وموسيقى..) من شأنها المساعدة على البقاء في البيت، لكنّ الحالة، في كلّيتها، فتحت أمام عيوننا أسئلة كثيرة حول شكل الهوية الفردية كما تتجلّى في أشخاص نعرفهم، وأضاءت على أفكارهم المعطوبة حول المكان الذي يعيشون فيه.
العجيب أنه في وقت مثاليّ يأخذ التحصّن بالبيوت لاتقاء المرض شكل الدفاع عن الحياة، فيما يريد المتحصّن الاحتماء بمتع قائمة أساسًا على استباحة الحياة.
إلى جوار ذلك، فُتح مجال المساءلة لمعنى المتع التي خسرناها بعد انغلاق الأبواب علينا، إذ بدا التذمّر وغيره من المشاعر بعيدًا عن المنطق، كون تلك المتع التي يعرفها زماننا في أغلبها ترفيهًا استهلاكيًّا أكثر من كونها أنشطة حقيقية.
صار الجميع يشعر بالحاجة إلى الجميع، لكن الحاجة هنا غريبة نوعًا ما، الجميع يحتاج الجميع ليُخفي ضياعه الخاص في احتشادهم. الحشد غطاء لتمزّقات الذات، وتأجيل نفعيّ لمواجهة قلق الوجود، بما يسمح للإنسان أن يعود إلى منزله لكي يلتقي بنفسه لقاء سريعًا، يخبرها فيه قناعته البسيطة والمريحة أنه ليس الوحيد على هذه الحال. وذلك يكفي ليكون جوابًا على كل الأسئلة الوجودية.
أن تكون وحدك في البيت مع هذا الوقت كله ففي ذلك إجابات دقيقة، منك لك، عمن تكون، وما هي إمكانياتك، وما الركائز التي يقوم عليها كيانك. البيت والوحدة أول عتبات تشكيل الهوية. ليأتي بعدها الخروج إلى المجتمع ذاتًا كاملة، ذات ملامح واضحة، قابلة لتأخذ وتعطي، فتؤثر وتتأثر. في حين أن النقصان الذي يكشفه البيت لن يكون في مُكنة الخارج ترميمه. هذا لم إذا نقل إن تصدير البيوت لكل هذا النقصان يخلق مجتمعًا مختلًا مليئًا بالثقوب.
على هذا، ليس المجتمع الصغير الذي بناه كلٌّ منا إطارًا للعيش، بمقدار ما يمثّل مرآةً تعطينا تعريفًا لأنفسنا. صحيح أن المجتمع الصغير الذي نعيش فيه هو الذي يمنح الواحد منا هوية، لكنها هوية مزيفة، لأنها تقوم على نظرة أحادية، فأنت سيد الرقص في السهرات كما يرونك، أو خفيف الدم الساخر، أو طيب القلب الذي لا تساعده ظروفه. لكن للكورونا والحجر المرافق له رأيًّا آخر يقول إن هذا لا يكفي، فلن يكون لك أن تكون أنت ما لم تبتكر هوية خاصة في مساحتك الجوانية، وهذه لا يمكن أن تحدث إلا في المراجعات التي تجريها مع نفسك وحيدَين. أما ما دمت تحتاج إلى الآخرين لكي يعطوك مرآةً تكون تمثيلًا لما تريده من هذا الوجود، وستأتي وتزيّف معنى تلك المرآة وتسميها تجاوزًا هويةً، فها أنت حين حُبست في البيت، من دون أولئك الآخرين، لا تجد من تكون، ولا تدري ما تريد.
حين نقول إنك لا تعرف من أنت دون الآخرين لا ننفي أهمية الآخرين على الإطلاق، لكنّ على الآخرين ألا يكونوا نفيًّا لذاتك. أليس كذلك؟
المشكلة التي تقود إلى هذه الأسئلة أنّ هذا هو الوقت المناسب لكلّ الأشياء التي طالما أجلّناها تحت ادعاء عدم توفر الوقت، وحين يتوفّر الوقت بما يكفي للشخص ليقوم بما يحبّ ولا يفعل فلا دلالة في ذلك أكثر من غياب الرؤية وعطب الهوية.
بكلماتٍ أخرى أخيرة، إذا كنت تريد من الآخرين أن يقولوا لك من أنت، فمن أنت بالنسبة لك قبل ذلك؟
—————————————–
==========================
==================================
============================
——————————
غرفة تسكنها الجدران/ نوري الجراح
سؤال هو مظلة لأسئلة جمة تبادرت إلى الذهن بينما العالم يعبر أفواجاً عزلاء هذا البرزخ المسمّى كورونا، في محاولة للعثور على صيغة من نوع ما للجواب عن سؤال وجودي عابث: ما العمل؟ مصحوباً بصيغ شتى لقضاء الوقت بين أربعة جدران.
“غرفة بملايين الجدران”.. تستعيد ذاكرتي، الآن، هذا العنوان لشاعر عربي لم يعد بيننا، شاعر كتب يوميات حياته في النصف الثاني من القرن العشرين شعراً أقرب من الشفاهة، في لغة لم تطلب الإدهاش بمقدار ما أرادت إعادة تعريف البداهة، واستنكار غرابة الواقع عن طريق لعبة المفارقة، على الرغم من خروجه الكامل على التقاليد الفنية التي عرفها الشعر العربي حتى قيام ثورة الشعر الحر في أواسط القرن الماضي. لكن هل يمكن تطوير هذا العنوان، اليوم، ليحمل معنى مستجدا مع ما استجد في العالم من كوارث بعد عقد على رحيل هذا الشاعر.
والسؤال الآن، هل قصد محمد الماغوط أن العالم غرفة بملايين الجدران عندما أطلق على مجموعه الشعري هذا العنوان.
***
إنه هو إذن، العالم، بكل ما يصخب ويعتمل ويضجّ فيه، محض غرفة كبيرة تسكنها الجدران وفي ما بين الجدران بشر في حشر قيامي. (اكتب يومياتك، أفكارك، تصوراتك، بصدد اللحظة وما سيليها). هذا ما طلبه محرر “الجديد” من كتابها المنتشرين على خارطة الآلام العربية مشرقا ومغرباً ومنفى انتشر على أربع جهات الأرض.
***
ماذا تفعل في البيت، حاجرا نفسك، ومحجورا عليك؟ كيف تقضي وقتك؟ في القراءة؟ في النوم؟ في سماع الموسيقى؟ في المشي في الغرفة؟ هل تشعر أنك سجين؟
هل تفكر بأنك مهدد، وأنك ضعيف ولا حول لك؟ أم أنك تشعر بأنك قويّ، وتدّخر قوتك لفصل آخر، في منازلة وجودية مع عدوّ لا قبل لك به ولا سابق له في تجاربك؟
ماذا تعنيه لك هذه التجربة، أن تكون مهدداً بالمعنى الوجودي للكلمة..؟
هل تقوم بجلسات مراجعة صامتة مع نفسك؟ مراجعة لحياتك؟ لمسيرتك الشخصية؟ لما فعلت وما لم تفعل؟ لما كنت تحلم به وما صرت إليه؟
هل أنت خائف من يوم غد؟
هل تشعر أنك في واقعة غريبة مدبرة من قوة كبرى؟ أم تشعر بأن ما يجري هو ضرب من تمرد الطبيعة ولحظة من لحظات معاقبتها للإنسان لسبب ما؟
هل حملت الجائحة الكونية مخيلتك على استدعاء أفكار وخواطر قيامية كنهاية العالم وما شابه؟ هل ذكّرتك بكتب ما من مؤلفات الخيال العلمي أو فيلم سينمائي أو لوحة تشكيلية أو فصل من فصول الكوارث في كتب التاريخ؟
كيف تتخيل نهاية هذا الكابوس الإنساني؟ هل تظن أن قوة الدول والعلم والتطور الطبي ستكون كافية لابتكار علاج ينجي البشر من هذا الفايروس القاتل. هل أنت متفائل؟ هل لديك توقّع لما يمكن أن يحدث للبشر حتى ذلك الوقت؟
هل تظن أن شيئاً أساسيا سيتغير فيك وفي من حولك، في حياتك وتفكيرك وفي حياة وتفكير الناس ومستقبل العلاقات في ما بينك وبين من حولك وبينهم وبين العالم، بفعل هذه التجربة؟
***
ما سلف أسئلة لها أجوبة، ولكن ماذا عن الأسئلة التي أرجأت أجوبتها؟ الأسئلة التي مكرت بها أجوبتها؟ الأسئلة التي حارت بها أجوبتها.. في عالم فقد مرحه فجأة، واكتشف أن الأرض ليست كروية وحسب، وأن أشكالها الأخرى ما تزال لم تجد أسماءها بعد.
أهي نهاية شوط مرح في الماراثون الإنساني، أم مجرد مرحلة في سفر عبثي؟
مرة في المتحف المصري، بعد رحلة شاقة في جوار هرم خوفو، وبعد ساعة في تأمل هذا الكائن الغريب المسمّى أبا الهول بجسمه الضخم ونظرته المتعالية. إذا بي مرة واحدة أمام لجام زجاجي وأبي الهول بحجم حبة الفاصولياء. أهي الإحاطة بكل شيء مهما كبر ومهما صغر، أم هو إدراك مبكر لقيمة المتناهي في الصغر، يبدو أن العبرة لم تبلغ مداها، ولم تستولِ على مخيلة الإنسان، ليكون أكثر احتراما للمتناهي في الصغر.
***
والآن، بات لزاما على الإنسان أن يحترم القدرة اللامحدودة لما صغر حتى بات لا يُرى بالعين المجردة.
***
ماذا تفعل أيها العالم في غرفتك المسكونة بملايين الجدران؟ وأنت أيها المقيم في الحقيقة وفي مجازها؟ هل تفتح النافذة لتستقبل الهواء، أم أن يدك ترتجف وتتردد؟ فلعل شعيرات الموت تطيش هي الأخرى قرب النوافذ، وقد حملت ذراتها اللامرئية رماد الأرض إلى رئات الهاربين من غموض الطبيعة إلى غموض الكلام، ومن التباس الفكرة إلى التباس اللغة.
ماذا تفعل أيها العالم بيديك اللتين صنعتا الجمال وأفسدتا هواء الرئتين؟
اكتب يومياتك، أفكارك، تصوراتك، بصدد اللحظة وما سيليها. ثم اكتب قصة متخيلة من 10 سطور أو أكثر أو أقل، عن أسوأ شيء ممكن أن تتخيله أو تتوقعه؟ أو أطرف شيء؟ أو أسعد شيء يتعلق بما أنت فيه الآن؟
هل يعقل أن يطلب شخص مثل هذا الطلب المترف من حملة أقلام ضجوا في غرف لم يتخيلوا أن يجدوا أنفسهم سجناء بين جدرانها، وقد حاروا ماذا يفعلون بأيديهم، في برهة من الزمن لم يتخيل أيّ منهم، لا في أطرف القصص ولا في أكثرها سوداوية أن يكونوا أبطال هذه الواقعة؟
إذا لم تشعر أن هذه النقاط هي ما يقبض على حالتك أو يفتح لها باباً وأنك في منطقة تفكير أخرى مختلفة، وأنك منشغل بشيء آخر. أرجو أن تمسح هذه السطور.
وتنسى أنك قرأت..
ولكن هاتِ سطرك أنت أيها الكاتب.
شاعر سوري مقيم في لندن
العرب
==================================
=============================
تحديث 07 نيسان 2020
————————————–
حياتنا المؤجَّلة/ عمر قدور
ها هي حيواتنا مؤجلة، أو معلّقة، مرة أخرى. أن نكون جزءاً من مليارات من البشر يعيشون ظرفاً مشابهاً، هذا لا يقدّم العزاء، وقد لا يجعل انتماءنا إلى البشرية متضمناً ذلك المعنى المشتهى، المعنى الذي ينسحب على المستقبل، وعلى الإحساس المشترك بوحدة المصير. في الحجْر، ثمة من يعيشون الاستثناء بأبعاده المدهشة والصادمة كاستثناء، وثمة من عاشوا حيواتهم في الاستثناء وهذا لا يهوّن عليهم إحساسهم بالاستثناء الحالي.
ربما هذه مناسبة إضافية للتأكيد على الاستثناء الذي نكاد نكون قد عشناه طوال حياتنا، أو ذلك الاستثناء الذي جعل حياتنا مؤجلة لسبب أو آخر طوال ما انقضى من أعمارنا. نحن الذين قُدّر لهم أن نكون أبناء بلدان في حالة طوارئ دائمة، الحالة المفروضة كي تبقى حياتنا مؤجلة، وكي تبقى مشاكلنا مستعصية فنقبع خلفها؛ لا نحن قادرون على تجاوزها، أو من غير المسموح لنا بذلك.
أجيال متعاقبة عاشت ذلك الانتظار، انتظار الحياة الطبيعية ليس إلا. وبينما تُناقش اليوم في مجتمعات أخرى سبل إقامة التوازن بين الحجر والديموقراطية نتذكر أننا كنا دائماً فيما يشبه الحجر العام، المعلن أو غير المعلن. أعمار وأجيال تعاقبت في انتظار مجيء “الحياة التي هي في مكان آخر”، الحياة الطبيعية التي نسمع بها، ونعرف أن آخرين يتنعمون بها، وأنها ممنوعة علينا وأقصى ما هو متاح أن نختلف في أسباب المنع وأحقيته، وعندما يُتاح لنا الاختلاف خارج جدراننا وحلقاتنا الضيقة فتلك حرية مسروقة قد لا تبقى بلا ثمن.
هنا وهناك في مشرقنا، توجب انتظار ما لا يأتي، وعلينا الاقتناع بانتظاره وبأنه لن يأتي أيضاً. وراء هذا التناقض، تربض قناعة راسخة بلعنةٍ ما تجعل ما هو طبيعي بعيدَ المنال، وخلال عقود انبرى كثر في السلطة وخارجها لتفسير اللعنة بموقعنا الثمين من عالم يتآمر على إبقائنا في قعر البؤس. مرت نكبات ونكسات وحروب أهلية، ولم تنحسر تلك اللعنة ولا انتظار الحياة التي تحدث خارج محجرنا.
في غضون ذلك كله، تواتر مراراً الاتفاق بين “نخب” و”عوام” على أن الحياة عندنا ممكنة بشرط الابتعاد عن السياسة وعدم استفزاز السلطة المتشبثة بها. هكذا تبدو الحياة متاحة، ما لم يتعمد هواة مشاغبة سياسية تعكيرها، وكأن السلطة يحتلها أناس مهووسون بالكرسي لأجله فحسب، فلا منافع ولا مكاسب تؤخذ من فرص عموم الناس في الحياة. في تلك الأثناء، لم يندر أيضاً التحسر على زمن ذهبي انقضى، لا لشيء سوى لأن الحاضر الذي تلاه كان أكثر توحشاً.
لم تكن معيشتنا خالية من المتع على الإطلاق، لكنها غير آتية من طبيعة الحياة. هي متع مُقتَنصة، متع عزيزة في مناخ من قلة الفرص، ومتع يغلب عليها أن تكون منبتة عن فضاء عام، أو حتى عن السياق المعتاد لعيشنا. هي بهذا المعنى كأنما آتية من خارج الحجْر الذي يُسمى حياةً عامة، في حين يغلب على الفضاء العام تجهّمٌ في الأفكار وفي الممارسات، وتخوّفٌ من أن يتفشى اشتهاء المتع وأن يرى فيها الجميع حقاً طبيعياً.
على وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر كثر من أبناء منطقتنا عن استهانتهم بالوباء الجديد، فهو بالنسبة لهم لا يعدو كونه ابتلاء أصغر من سلسلة كوارث غير طبيعية توالت على حيواتهم. آخرون عبّروا عن اشتهائهم ذلك الحجْر الأوروبي، الحجر الذي لا يتخلله عوز إلى لقمة عيش، ولا تُحاصره خشية من انعدام أدنى درجات الوقاية مع التدني الفاحش في الخدمات الصحية. من المرجح أن نسبة كبيرة خارج هؤلاء ستشعر بالمرارة، إذا أتيح لها قراءة تلك النصائح المتكررة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي عن أفضل الطرق لقتل الوقت والوحشة في زمن الحجْر، نصائح من قبيل: اقرأْ، استمع إلى الموسيقا، ارقصْ، حافظ على معنوياتك مرتفعة لتقوّي مناعتك.
الوباء غير عادل، وأن تُصاب به شخصيات عالمية معروفة فهذا ليس دليل العدالة التي يروّج لها البعض. وغير عادل على الهيئة التي يصوّرها آخرون كإقتصاص من أخطاء البشرية، أو انتقاماً لمظلوميات بعينها. وهو غير عادل إذ يهدد حياة من كانت حياتهم مؤجلة طوال أعمارهم، فيجعل ما انقضى منها استهلالاً بائساً لانتظار جديد لا يلوح خلفه سوى البقاء. فوق هذا، هو بالنسبة للبعض منهم على الأقل خطر تافه، خطر لا يُحتمل من أجل قضية ما، ولا يُحتمل الموت فيه من أجل الحياة نفسها؛ هو خطر مجاني عابر ضمن أخطار قد يتضمن بعضها قليلاً من السلوى.
بخلاف التوقعات السوداوية قد ينحسر الرعب العالمي من الوباء مع انحسار قريب له، لتستأنف البشرية حياتها المعتادة، والحياة المعتادة لقسم ممن هم الآن في الحجر العالمي لا تعني سوى العودة إلى الحجر الخاص الأقدم وانتظار تلك الحياة المؤجلة التي لا تأتي. قد لا يخلو هذا من البهجة، بهجة العودة إلى ما ألفناه واعتدنا على قسوته، أو ما اكتسبنا مهارة التحايل عليه.
المدن
————————
إعادة تشكيل الروتين… كيف كان يمضي الكتاب أوقاتهم؟/ سليم البيك
قد لا ينتبه أحدنا إلى روتينه اليومي ما لم يضطر إلى تغييره، فيجلب هذا التغيير معه انتباهاً إلى ما تغير، إلى الحالة التي لم تعد موجودة، بإحلال غيرها محلها، فيها من الغرابة والجدة ما يحملنا، ولو للحظات، على إعادة التفكير بحالاتنا السابقة، بالروتين اليومي، الذي كنا فيه، مقابل الحالة الراهنة والروتين المجبورين على اتباعه، ضمن إمكانات محدودة بجدران المنزل، كأي حبس منزلي أو حجر صحي، كالذي يعيشه معظم سكان هذا العالم اليوم، الطريقة الأوحد للحد من انتشار فيروس كورونا.
أعادني هذا الروتين الجديد الذي أعيشه (مُجبراً) في البيت، والذي أجد به وقتاً أكثر للكتابة، إلى تفحص روتين كتابٍ في هذا العالم في أزمنة متفاوتة، وغير خاضعة لحجرٍ ما. أعادني بالتالي إلى كتاب «Daily Rituals» «روتين يومي» لمايسون كوري، ولا أعتقد أن ترجمة عربية صدرت له، وهو عبارة عن مقتطفات منتقاة من حوارات ونصوص لمبدعين عالميين كتّاب وسينمائيين وموسيقيين وفنانين، يحكون فيها عن روتينهم الذي يصنعون فيه إبداعهم. سأختار في هذه الأسطر ما يهمني منهم، وهم الروائيون الحديثون نوعاً ما، فلن أرجع إلى القرن الثامن عشر مثلاً، لن أحكي عن دوستويفسكي وفلوبير وبلزاك وديكنز وملفيل وآخرين، حالَ أزيدُ من قرن من الزمان بين روتينهم وروتيننا الكوروني في 2020.
قد يكون أكثرهم التزاماً بروتينه هو الألماني توماس مان «الجبل السحري» و«دكتور فاوستوس»، الذي كان يستيقظ في الثامنة، يشرب قهوته ويستحم، ويفطر مع زوجته. في التاسعة يدخل إلى مكتبه ويغلق الباب، لا زوار ولا عائلة ولا تليفونات حتى الظهيرة. كانت هذه الساعات الثلاث هي وقت الكتابة، ما لم يكتبه فيها يؤجله إلى ساعات اليوم التالي. بعد الغداء يقرأ قليلاً، ثم قيلولة. في المساء يكتب رسائل ومقالات.
كان الأمريكي هنري ميلر «مدار الجدي» و«مدار السرطان» أكثر تسامحاً، إذ كان يكتب نهاراً، وكان في شبابه يكتب ليلاً إلى أن اكتشف أنه كائن صباحي. في باريس تحول للكتابة صباحاً حتى ما بعد الظهر، وبعد القيلولة يستعيد نشاطه الكتابي حتى آخر المساء. مع تقدمه في العمر اكتشف، أن ساعات ما بعد الظهر ليست منتجة، فاكتفى بساعات الصباح للكتابة، فهو لا يعتقد بضرورة «إفراغ الخزان» كما قال، بل بضرورة التوقف عن الكتابة، حين يكون مايزال لديه ما يريد قوله. وهذا ما سنجده لدى مواطنه همنغواي.
إرنست همغواي «الشيخ والبحر» و«لمن تُقرع الأجراس» أقرب لمراسل حربي، أو صياد، إذ يستيقظ في السادسة، مهما سهر أو شرب. يكتب مع طلوع الصباح، فليس هنالك من يزعجه. يتوقف حين يعرف ما سيحصل لاحقاً. يعيش ما كتبه خلال النهار إلى صباح اليوم التالي، حين سيستأنف الكتابة. كان يكتب واقفاً، على آلة طابعة بمستوى صدره، مع لوح فوقها، معلق عليها مسوداته المكتوبة بقلم رصاص، وحين تعصى عليه الكتابة الأدبية يبدأ –كغيره – بكتابة الرسائل التي تعطيه استراحة من «المسؤولية الفظيعة للكتابة» أو كما كان يقول «مسؤولية الكتابة الفظيعة».
كان للأمريكي سكوت فيتزجيرالد «غاتسبي العظيم» و«والليل رقيق»، في باريس كهمنغواي وميلر ولكن بخلافهم وقتياً، روتين كتابة غير صباحي، إذ كان يستيقظ في الحادية عشرة، يبدأ الكتابة في الخامسة عصراً، يكتب بانقطاعات حتى الثالثة فجراً، وكان يمضي العديد من لياليه في الخارج، في المقاهي. كانت الكتابة تأتيه في نوبات متقطعة، وكان الكحول عنصراً أساسياً في العملية الإبداعية عنده. مواطنه ويليام فوكنر «الصخب والعنف» و«بينما أرقد محتضرة»، كتب في أوقات متفاوتة حسب الضرورة، لكن معظمها كان صباحياً. في فترة عمله الليلي كان ينام صباحاً ويكتب بعد الظهر، إلى أن يذهب إلى عمله، ماراً، قبله، بوالدته ليشرب القهوة. تغيرت ظروفه، اشتروا بيتاً وأوقف عمله ليتفرغ لتصليحات البيت، فكان يستيقظ باكراً ويكتب طوال الصباح. بعد الغداء ظهراً، يكمل تصليحات البيت، ثم يتمشى أو يركب الخيل.
الفرنسي مارسيل بروست «البحث عن الزمن المفقود»، بخلافهم جميعاً، كان، باختياره، يكتب ليلاً، وكان لديه امتياز أن يكرس وقته كله لذلك، فانسحب من الحياة الاجتماعية وتقوقع في غرفته في باريس، وكرّس حياته لكتابة مشروعه الروائي المكون من أكثر من مليون ونصف المليون كلمة. يكتب ليلاً وينام نهاراً، ويخرج متى احتاج لأجل كتابته. يستيقظ بين الرابعة والسادسة مساءً، يدخن وتُدخل له الخادمة القهوة والحليب والكرواسان. وكان يكتب مستلقياً على سريره. الروسي فلاديمير نابوكوف «لوليتا» و«بْنين» يستيقظ في السابعة، يبقى في سريره حتى الثامنة، حيث يتناول فطوره ويحلق ذقنه ويستحم. يكتب حتى وقت الغداء، في الواحدة. يعود سريعاً إلى الكتابة التي ستستمر حتى السادسة والنصف. يتعشى مع زوجته في السابعة. ولا يكتب بعدها. يذهب إلى سريره في التاسعة، يقرأ لساعتين ثم يأتيه الأرق ليتركه ينام في الواحدة.
هذا الدلال لبروست ونابوكوف، لم يكن يعيشه التشيكي فرانتز كافكا «المحاكمة» و«المسخ» الذي كان يكتب ليلاً كذلك، لكنه أقل حظاً من غيره، إذ كان عليه أن يعمل كموظف من التاسعة صباحاً حتى الثالثة، وكان يعيش مع أهله، فلم يكن يستطيع الكتابة، إلا ليلاً حيث الجميع نائم. إثر عودته من العمل، ينام حتى السابعة مساء، بعدها تمارين رياضية، ثم مشيٌ، ثم عشاء. أخيراً، عند الحادية عشرة يبدأ بالكتابة حتى الواحدة أو الثالثة صباحاً، وأحياناً السادسة «حسب قوته وحظه ورغبته» كما قال. بعدها يحاول جاهداً أن ينام.
الإيرلندي سامويل بيكيت «مالون يموت» و«في انتظار جودو»، وضع نفسه في حجرٍ سماه «الحصار في الغرفة» وكتب خلاله أفضل كتبه. كان يستيقظ بعد الظهر، يتناول فطوراً، بيضاً مخفوقاً، ثم ينسحب إلى غرفته ويكتب إلى أن يتعب، حتى المساء، حيث يخرج للتجول في باريس، ويعود متأخراً لينام. أما الإنكليزي جورج أورويل «مزرعة الحيوان» و«1984»، فكان عليه أن يعمل، وكان من حسن حظه أنه عمل في مكتبة لبيع الكتب المستعملة في لندن، وبساعات دوام ملائمة. كان يستيقظ في السابعة، يذهب لفتح المكتبة، ويبقى لساعة. بعدها يكتب في وقت فراغه حتى الثانية، حينها يعود إلى عمله ويبقى حتى السادسة والنصف، ما منحه فرصة للكتابة تكون بين الصباح والظهيرة.
الإيرلندي جيمس جويس «يوليسس» و«صورة الفنان في شبابه»، كان يستيقظ في العاشرة، فنجان قهوة وتأملات أو أحاديث حتى الحادية عشرة. الغداء في الواحدة، وبين الثانية والسابعة يعطي دروساً في البيانو، ويذهب مع زوجته إلى عرض أوبرا أو مسرحية. لاحقاً صار يكتب في فترة ما بعد الظهر، ويخرج مساء إلى مطاعم ومقاه ليشرب مع أصدقائه، كانت له حياة اجتماعية أكثر من الآخرين، حتى في مرحلة كتابة «يوليسس» لاحقاً.
إلى زمن أقرب إلينا، وكتاب مازالوا ينتجون كالياباني هاروكي موراكامي «كافكا على الشاطئ» و«الغابة النرويجية»، أو رحلوا عن عالمنا في السنوات الأخيرة كمن سأذكرهم. أما موراكامي فروتينه أكثر رفاهية ونظامية وعصرية من غيره. يستيقظ في الرابعة، يكتب بشكل متواصل لست ساعات، بعد الظهر يمارس الركض والسباحة، يقرأ ويستمع لموسيقى، ينام باكراً في التاسعة. يكرر هذا الروتين بلا تنويعات عليه، التكرار بالنسبة له هو المهم هنا. والصحة الجسدية كذلك. لا يدخن، يشرب قليلاً. يتبع نظاماً غذائياً صحياً، يعيش في الريف، معزولاً عن أي حياة اجتماعية. بشكل نقيض له، لم تستطع الأمريكية توني موريسون «الفردوس» و«رحمة»، أن تكتب بشكل منتظم للأشغال التي كانت تلتزم بها، كمحررة في دار نشر، ومحاضِرة في جامعة، وأم وحيدة لولدين، وهذه حياة معاصرة كذلك بانشغالاتها. وموريسون تلغي من حياتها المناسبات الاجتماعية، فلا تذهب مساء إلى حفلات أو أمسيات لكونه الوقت الأساسي لها كي تكتب. في سنوات لاحقة، ستستطيع أن تجد وقتاً صباحياً للكتابة، وهو ما تفضله، لتصحى في الخامسة.
الألماني غونتر غراس «طبل الصفيح» و«مئويتي»، كان يفضل كذلك الكتابة النهارية، فلم يكن يكتب ليلاً، أبداً. يحتاج إلى ضوء النهار كي يكتب. بين التاسعة والعاشرة صباحاً يتناول إفطاره مع موسيقى وقراءة، بعدها يكتب، ثم استراحة قهوة بعد الظهر، فيعود للكتابة حتى السابعة مساء. أقل التزاماً بروتين معين، كان للإيطالي أمبرتو إيكو «اسم الوردة» و«بندول فوكو» أسلوب حياة كتابي يشبه زماننا، فإن كان في بيته الريفي، يستيقظ، يفتح كمبيوتره يتفقد إيميلاته ويقرأ ويكتب شيئاً إلى ما بعد الظهر. بعدها يذهب إلى القرية ليشرب كأساً في البار، يعود ويشاهد التلفزيون، أو فيلماً حتى الحادية عشرة، بعدها يستأنف العمل والكتابة حتى الثانية صباحاً. في ميلانو حيث يعمل في الجامعـــة، لا يكون وقته ملكه فيكتب بدون روتين ثابت.
بشكل مماثل له، لم يكن الأمريكي فيليب روث «حكاية أمريكية» و«الوصمة البشرية»، كاتباً صباحياً، إذ يكتب بعد الفطور والتمارين الرياضية، بين العاشرة والسادسة، تتخللها ساعة غداء وقراءة الصحيفة. بعدها، مساءً، يقرأ. وذلك بشكل يومي. ونظام يومه يعود إليه تماماً، فقد يعود بعد العشاء للكتابة لساعات، وقد يصحى في منتصف الليل ليكتب إن أراد. فهو حاضر للكتابة طوال اليوم.
٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا
القدس الغربي
—————————-
في الفردوس المعقّم/ سومر شحادة
انتبه، هي الكلمة التي ترنّ في العالم الضيّق. انتبه عندما تخرج من المنزل، لا تقترب من الآخرين، وإذا كنت مضطراً للاقتراب، انتبه، واترك بينك وبينهم مسافة متر أو مترين. انتبه عندما تشتري من السوبرماركت، إذا كنت تدفع نقداً، لا تنس تعقيم يديك ما إن تستعيد النقود، انتبه من يديك. وعندما تجلس في التاكسي – إذا وجدت تاكسي، لا تلتفت إلى السائق، أبق أنفاسك بالقرب من النافذة. انتبه وأنت في عملك، ألا يصدر عنك وهنٌ، أو أي أعراض مرضية، حتى لا ينظر إليك كمصدر للموت، ينبغي التخلّص منه، أو الابتعاد عنه.
لا مصافحات، لا عناق، لا قُبل، لا ملامسة، لا ربتات على الكتف. باختصار، تجنّب الشكل القديم للأُلفة، حاذر الألفة نفسها حتى تحاذر سلوكها. انتبه من أجل صحتك، دعك هذه الأيام من الآخرين. انتبه بعد أن تستخدم الكيبورد في العمل- إذا بقي لديك عمل تذهب إليه، أن تعقّم يديك، لا لأنك تكتب عن القتل وإنّما كي لا تُقتَل. انتبه، إذا لم تُقتَل لأنّك لم تنصت لآلة التعقيم التي دخلت حياتك الجديدة. سَتُقتَل من الهواجس.
انتبه، وأنت تتصفّح الكتاب الورقي، إنّ الكتب موبوءة، خصوصاً إن كانت في مكتبة عامة. انتبه إلى أنّك تمتلك رفاهية الانتباه، ولم تقصرك الحياة على ممارسة ما لا تحبّ، لم تقصرك الحياة على أن تعيش وسط الحاجة التي تنفي الانتباه بالمبدأ. لديك الرفاهية كي تعود إلى المنزل، ثمّ قبل أن تدخل المنزل. انتبه، وأخبرهم كي يعقموك مثل جرثومة. لن تموت. لا لأنّك لست جرثومة، بل لأنّ عليك كتابة هذه السطور.
أليست الكتابة تلك التميمة التي حمتك في زمن القتل الأعمى. لتطلق الآن من منصتك نداء الانتباه؛ انتبهوا إلى رحابة البيت المعقم، زوجات معقمات، أطفال معقمون، آراؤك معقمة، كلاب وقطط معقمة، الريموت كونترول معقم، اللابتوب في المنزل معقم، الكتب تخصك وحدك، تنقل إليها أمراضك، مثلما نقلت هي أمراضها، المنزل هو الفردوس المعقم. في الخارج الكتب والناس موبوؤون، الخضار والملابس، الجدائل والرخام والأجنحة. انتبه إلى ما انزاح من مفردات الشعر إلى مفردات العيش، وانتبه، قد يحملون لك وباءً من نوعٍ قاتل آخر.
إذا كنت تعيش وحيداً فقد اختصرت سيرة الجميع الآن بأن يعودوا وحيدين. أنتَ إنسان متفوق، لو لديك كلب، لو أنّك أحضرت إلى حياتك كلباً، كم ستكون حياتك لطيفة. لكن انتبه، ما حاجتك للوفاء في هذه الأزمنة، يلزمك قطة، كي تشعرك بالدراما، كي تزعل منك إذا أهملتها وكي تسعى إلى إرضائها، دع عنك فكرة إحضار كلب، وأحضر حيواناً آخر، كي يأتلف مع حياتك المعقمة الخالية. الكلب فكرة رائعة لكنها فكرة نوستالجيّة عن كائنات لا تفارقك. انتبه، هذا لم يعد ممكناً. أنت في عرضة للفراق في كلّ لحظة تتقدم. هل حقاً فاجأتك هذه الحقيقة؟ يا لك من كائن قديم يحتاج إلى الآخرين دائماً.
انتبه، الأزمنة تتغير، لكلّ زمان وباؤه، إذا أردت الحقيقة، لكلّ بلاد وباؤها. استمتع بهذا الوباء الذي يبدو عالمياً، لربما هذه المرة الأولى التي تدخل فيها بلادك الألفية الثالثة، لا تكترث للفقر وانقطاع الكهرباء، لا تكترث لما لا يمكن وصفه. انتبه إلى الوحدة، تأمل هذه الأرض الوحيدة، هذه اللحظة النادرة، قبل أن تعود البشرية، وتسيطر على الزمن. لكن، ألا يداخلك الخوف هذه المرة؟
* كاتب من سورية
العربي الجديد
——————————–
المشهد واضح/ عثمان مشاورة
أنا الآن في مشفى المدينة الرئيسي، في قسم العناية الحثيثة. أُحيي وأُميت. تماماً هذا ما أفعله الآن. الحالات الطارئة تصل إلينا بالعشرات. قال المرسوم بأن المرجعية الأخلاقية هي الفيصل الآن. الأمرٌ متروك لنا نحن الأطباء. علينا أن ننقل الأكسجين والأجهزة الأُخرى من فمٍ لآخر، بناء على المفاضلة. كل ما علينا فعله هو أن نفاضل. نهب الحياة لأحدهم، وننزعها من أحدهم. إنه أسوأ ما في الأمر. القيام بأعمال الإله، بقلبٍ بشري. أيّ أخلاق هنا، لا أدري.
بالأمس، نزعت الأنابيب عن طفلةٍ في العاشرة من عمرها، لصالح شاب في الأربعين، إنه أب لثلاثة أطفال ولديه زوجة. الطفلة تُعوّض، وعلى الأب أن يعود لرعاية أسرته ومدّهم بالرعاية اللازمة. هكذا فكّرت على وجه السّرعة. كانت عيناها خضراوين، وطافحتين بالدموع. توسّلتا إليَّ بصوتٍ هامس. صوت برغم ضآلته، إلّا أنه اخترق صدري. لكن العواطف يجب أن تُترَك جانباً في هكذا ظروف. قال المرسوم أيضاً.
لا أدري كيف سيؤول بي الحال بعد أن ينتهي كلُ شيء. لا بد أن أصبح عود ثقابٍ مُكربن. عشرات العيون المترقرقة تُحدّق بي الآن. إنها ملتصقة على الجدران من حولي. مثل بندول تتبعني أينما اتجهت. تسألني، بحسرة، لماذا نزعت ذلك الأنبوب؟ إنني متهالك، وأذوي.
أسوأ شيء، أنّ الأمر لا بدّ أن يتمّ في ظرف ثلاثين ثانية. في ثلاثين ثانية، فقط، عليك أن تُحيي وتميت. أُفكّر الآن، بأن عمل الإله في غاية الصعوبة. إنه عمل يفوق مقدرتنا كبشر. إننا واهنون أمام هذه القدرات. الجبّارة. المحطِّمة للنفس. القدرات الأخلاقية!
صفّارات الإسعاف تُدوّي بلا توقّف. الحالات الطارئة تصل تباعاً. مِن هذه الفتاة إلى هذا الشّاب. مِنْ هذا الرجل إلى تلك المرأة. مِنْ هذا إلى ذاك. في ظرف ثوان أقوم بعملياتٍ فلسفية عميقة، مستنبطات وجودية، لأصل منها، أخيراً، إلى القرار الأخلاقي. في كثير من الأحيان كنت أكتفي بالإشارة بيدي فقط. لا أقوى على الكلام. إنني مرهق يا الله. أصبحتُ روبوتاً مبرمَجاً. الآن فقط أدركت وجود العشرات من الروبوتات في مشافي المدينة. لا عواطف. ثلاثين ثانية. المدينة مقلوبة رأساً على عقب. الفيروس يفتك بها، له صوت مثل الهسهسة، بينما يأكل الجثث. على الأقل هكذا أسمعه أنا الآن.
اعتدت أن أستشير الطبيب المناوب معي. هكذا أشعر أنني أتخلّص من نصف العبء. في ظرف عشر ثوان يقدّم لي المشورة. الحزمٌ مطلوب جدّاً الآن. وأنا أفكر لعشرِ ثوان أخرى. وفي العشرة الباقية، نتّخذ القرار. ننزع ونثبّت من جديد. ثم نطوي الصفحة.
لم أنم منذ عدة أيام بشكلٍ جيد. الإضاءة الصغيرة الملونة تُومئ لي كما لو أنني في حلمٍ مستمر. طنين الأجهزة يدور في رأسي، بشكل لا يتوقّف. إززززززززز. أشعر أن ملايين النحلات في رأسي. نحلات على هيئة عيون.
فركت عينَيًّ وخبطت رأسي بيدي عدّة مرات. أردت فقط أن أتبيّن إن كنت أرى بشكلٍ جيّد أم لا، لأنني الآن في ظرفٍ ملائم جدّاً للهواجس والتخيّلات. حتى أنني أشعر أن الأمر برمته ما هو إلا كابوس. إضافة إلى أن أسراب النحلات لا تتوقّف عن ذبذبة أجنحتها في رأسي. طنين حاد متقطع، يترافق مع ومضات الإضاءات الصغيرة. إنها أمي. العجوز التي ترقد أمامي خلف قناع الأكسجين. عيناها، من خلف غلالة الدموع، تُحدقان بي بصمتٍ رهيب. إنني أسمعها الآن وهي تحاول أن تُبرّر الأمر، تحاول أن تقول بأنها لا تدري كيف جاء إليها الفيروس، إنها تلوم نفسها لأنها ربما لم تأخذ نصائحي، على ما يبدو، على وجه الدقّة. وفي الأثناء، تريد أن تقول أيضاً، بتلك الابتسامة في عينيها، إنها فخورة جدّاً بي على هذا الحال.
الممرّضة التي لا تدرك أي شيء عنها، تقول بأن عليّ أن أتّخذ القرار الآن. ثلاثين ثانية. وهي تقف متأهّبة للنزع والتركيب. إنها روبوت آخر. الطبيب المناوب، مقدّم الاستشارات يأتي من هناك على عجل، بضع خطوات ويكون إلى جانبي. لا أدري لماذا يُسرع هذه المرّة. شعرت أن الضباب بدأ يملأ الأرجاء من حولي. ضباب أو دخان لم أجزم. كل ما داهمني تلك اللحظة هو شعور مباغت بالإعياء ونفاد الهواء. أردت أن أشير بيدي إليه لكي لا يأتي. أن أقول له لا عليك، ابقَ هناك. ثم أجلس إلى حافةِ السرير. إلى جوارها قليلاً. أن أشدّ على يدها المُجعّدة الناعمة أو أقبّلها على جبينها برفق. ردعتني الممرّضة، لا يجوز دكتور. ثم نبهتني، مرّةً أُخرى، بصوتها الجاف والحازم، إلى ضرورة اتخاذ القرار، لأن المريض الآخر ينتظر، إنها أنثى، تسعل بشكلٍ مستمر. وتختنق. اتكأتُ على حافة السّرير، إنني مرهق جدّاً. الإنارة فوق رأسي كما لو أنها شمس الظهيرة اللاهبة. إنني أختنق وأشعر بالحرارة. شابة في الثلاثين. تقول الممرضة، وهي تقرأ في ملفها، إنها أمّ لطفلتين. أمّ لطفلتين، تُكرّر ذلك على مسمعي. الجملة تدور في رأسي مثل ناعورة. ومثل مسنّنات المفرمة الحادة، تُمزّق أحشائي. الطبيب الآخر، يصل إلي. يُلقي نظرة سريعة. لما التّردد، المشهد واضح. يقول ويربت على ظهري.
العربي الجديد
—————————————
رسالة مفتوحة إلى الفيروس المتوَّج/ عبد المنعم المحجوب
عزيزي كورونا،
أنت ما زلت تبدو هادئاً حتى بعد مرور شهرين على خروجك إلى الشوارع والإعلان عن نفسك بكل ثقة. كنتَ تعمل بسرعة وصمت قبل أن يكتشفك البشر ويبدأوا التصرّف بحزم مع أنفسهم.
إن شيئاً ما سيّئاً يحدث دائماً، لكن البشر لا يتقبّلون حدوث الأشياء بسرعة، هم يحتاجون إلى بعض الوقت، وعندما ينتبهون في نهاية المطاف يجدون أنهم قد خسروا الكثير، فيحاولون وهم يُحصون خسائرهم أن يجدوا حلّاً بأسرع ما يمكن.
أنا شخصياً لا أعتقد أنك سوف تموت أيها الفيروس المتوّج، ولكن بعد أن ترحل، أو بعد أن تختبئ استعداداً لدورة جديدة، سوف يعيد البشر فتح الأبواب والنوافذ، ويشعرون بالحياة تحت ضوء الشمس التي تشع من أجل الجميع، ثم سوف ينسونك قليلاً، وبعد ذلك تعود لتعلن عن نفسك في شكل جينيّ جديد متطوّر قادر على التكيّف مع جميع اللقاحات الموجودة، آنذاك سوف تثير الرعب مرة أخرى في انتظار لقاح جديد، هكذا دواليك، طبعاً أنا أتمنى أن يصبح البشر بعد كل هذه التجارب قادرين مثلك على التكيّف الحيوي وأن تصبح أجسامهم قابلة لتوليد مناعة فورية ضد نوعك الذكي؛ وعلى كل حال، فإن البشر والفيروسات نوعان لا يختلفان إلى ذلك الحد إذا اعتبرناهما من الكائنات الحيّة التي تعيش في مجال واحد وتحاول السيطرة عليه.
أنت فعلاً سبب أنطولوجي بارع، ولكن الوقت الذي يكتسب فيه البشر صفة التكيّف التلقائي مع مستجدّات الطبيعة الحيوية لم يحن بعد، وما زال بإمكانك أن تلعب على المسرح وحدك فالإنسان بالرغم من كل التكنولوجيات الفائقة التي تحيط به ما زال في عمق مشاعره وانفعالاته كائناً بدائيّاً يرقص حول النار.
لقد كان أسلافك القدامى: الطاعون، ذلك الموت الأسود، والكوليرا والجدري والتيفوئيد، بطيئين تماماً وكانوا يستغرقون عدة أشهر للانتقال من بلد إلى بلد، وإلى بضع سنوات للانتقال من قارّة إلى قارّة، ولكن نوعكَ تعلّم بمرور الوقت وبدأت الوتيرة تتسارع، حتى شهدنا فصولاً متتالية من سلالتك: أيدز وسارس وإنفلونزا خنازير وإنفلونزا طيور وإيبولا، في زمن قياسي، والآن ها نحن البشر نواجهك وحدنا أيها الكوفيد 19.
أقول وحدنا لأن البشر في الحرب مع أسلافك كانوا يستعينون بالآلهة والأنبياء والقديسين، وأحياناً بالسحرة، أما أحفاد البشر في حربهم الحالية فإنهم يقفون وحدهم. يبدو أن الآلهة قالت لهم بعبارة صريحة لا لبس فيها: هذه حربكم وحدكم، اذهبوا أنتم وعلماؤكم فقاتلوا.
هل تعرف؟ هذه نقطة تهمك كثيراً، لم يؤرخ أحد لأول وباء ظهر على سطح الكرة الأرضية وأدى إلى موت الآلاف من البشر، ولكن حرب أسلافك على العالم تركت على كل حال أثراً في النصوص التي قدّسها البشر، وعرفنا أن العالم قد تداولت عليه أجناس من البدائيين. ذاكرتنا المشتركة تقول لنا إن حروبكم على العالم قد ساهمت في تطوّر البشر حيوياً وجعلتهم أكثر تحمّلاً وقدرة على التكيّف مع النّوازل. أنا شخصياً أشكر نوعكم على هذا التفعيل الجيني.
إنني أبحث عن جانب إيجابي في تاريخ البشر الطويل مع الفيروسات. لقد هدّدت البشرية أوبئة وكوارث طبيعية كثيرة شوّشت استقرار الحياة على الأرض، علماً أن الإنسان لم يكن مستقرّاً قط فتاريخه سرديّات متواصلة من الكوارث، لكن مثلما كانت الكوارث الطبيعية تفيد نظام الطبيعة وتجدّده، فإن الأوبئة أفادت النظام الحيوي، وخاصةً بنية الإنسان الذي لا يبدو أنه قادر على التطوّر بنفسه بل يتعرّض للطفرات ويتكيّف معها بمرور الوقت.
هل تصدّق لقد كان الرجل يتميّز بشعر يغطّي جسمه بالكامل، وفكّين أكبر وأطول، وشفتين غليظتين، وقدمين ضخمتين، ويدين كبيرتين مفلطحتين، وكانت المرأة بثديين طويلين، وعجيزة ضخمة، وأظافر طويلة (حسناً هذه الأخيرة ما زالت حتى الآن ويمكنكَ أن تسقطها من الحساب). ثم ماذا حدث؟ بفضل أسلافكَ أيها الفيروس، بالتحالف مع الكوارث الطبيعية، صار الإنسان مشذّباً بعض الشيء، وهذا ما نسميه الآن أناقةً وجمالاً. هل ترى؟ أنت لست شراً في كل الأزمنة.
لكنني أعاتبك قليلاً، فلو كنتَ طوفاناً مثل طوفان نوح، أو بركاناً مثل بركان “مازاما” لكان البشر قد اعتبروك جزءاً من جند الرب، وصرت أيقونة تجسّد الصراع بين الخير والشر، وتنتصر للخير فيزيد تمجيد إله السماء والتهليل باسمه وتنال مرتبة رفيعة في معابدهم. حسناً ولكنك لم تتكلّم بعد بالرغم من أن الآلاف من البشر يموتون وبالرغم من أن حكومات البشر جميعاً تؤمن بإله السماء الذي قد يكون أرسلك في مهمة عاجلة للمزيد من تهذيب صورة الإنسان وجعلها أقل همجيةً.
إن الشوارع الخالية والمدن المهجورة التي لم يرها العالم منذ الحرب العالمية الثانية أصبحت مشهداً يومياً معتاداً، والكثير من الدول نشرت جيوشها في الشوارع والساحات، كأنك قمت بانقلاب عسكري ضد حكوماتها، ليس هذا فقط، أنت سيطرت أيضاُ على أموال وثروات المصانع والشركات التي أغلقت أبوابها في وجهك، عموماً كان الجميع سيغلقون أبوابهم سواء استقبلوك أم رفضوك، أليس كذلك؟ هذا ينبّهنا إلى أن تجارب البشر مع الأوبئة لم تعلمهم بعد ضرورة ابتكار آلية كونيّة جديدة بعيدة عن “رأسمالية المرض” وتجعلهم يتوصّلون إلى نظام صحّي غير خطّي يعتمد على التوزيع الأسّي –أي بالاستفادة من آلية انتشارك أنت بالذات– وأن ينسوا لبعض الوقت غريزتهم الدنيئة للاستثمار في أمراض العالم وكوارثه.
إن البشر الذين يموتون يتحولون في نشرات الأخبار إلى مجرد أرقام تخلو من الدلالة الإنسانية، إنه نوع من الترميز البارد القاسي، وهذا أمر يثير الأسى والحزن، ولكنني أعرف أن شراهة البشر الوحشية للاستثمار في المصائب حوّلتك إلى فيروس سياسي بامتياز، لا، لا تسألني عن التشبّث بالحدود السياسية، فتلك بالطبع مسألة عملية يجب التغاضي عنها لأنها جزء من إدارة الصراع مع الأسطول الكوني المفاجئ الذي تقوده.
لن أتحدّث معك عن “فلسفة النازلة” في التفكير البشري، فأنت لست مرئياً، ونحن البشر لا نتحدث إلا مع من نراهم، ثم إنك لم تتكلّم بعد، ولكن مهلاً أنت مرئيّ بدرجة ما، ولكنني لا أملك مجهراً ضوئياً لكي أتحدث معك، ولهذا السبب أكتب هذه الرسالة التي أرجو أن تقرأها.
أنت حيّ، وأنا كذلك، كما أننا جميعاً –أعني الفيروسات والبشر– مجرّد سكان عاديين لهذا الكوكب الذي لم يوجد من أجل أحد منّا، حسناً هذه نقطة جيدة لمواصلة النقاش.
عندما ظهرتَ للمرة الأولى كنت أعتقد أنك العولمة في صورتها المطلقة، ولكنك في الواقع جعلت الأمور تختلط، فأنت بعد أن اجتحت الحدود في كل مكان، جعلت البشر يميلون إلى التقوقع في جحور كبيرة تسمى دولاً، فرضوا العزلة على أنفسهم، فصلوا بين القارات، ثم بين البلدان في كل قارة، ثم بين المدن في كل بلد، ثم بين الأحياء في كل مدينة، ثم بين البيوت في كل حي، وها هم البشر يعودون إلى الأسرة النووية التي كنا نتحدث عن زوالها القريب فإذا بنا نكتشف أنها الملجأ الوحيد.
والآن: هل قمتَ بذلك لأنك تريد أن تجدّد مشاعرنا وانفعالاتنا البدائية وتحييها من جديد؟ أم أنك ستقضي علينا تماماً لأنك قرّرت أن تعيد تشكيل القارات، ثم تحيل العالم الباريوني إلى فضاء مفتوح يناسبك؟ لكن هل ستكون قادراً على الحياة من دون خلية كبيرة لا تعثر عليها إلا في أجسام البشر والكائنات الحيّة الأخرى (مثل الحيوانات التي “نأكلها”، نعم)؟ ماذا تفضّل تحديداً؟ هل يمكن أن نتفاوض؟
في الفترة الماضية انخفضت نسبة تلوّث الهواء، وصار الماء أكثر نقاءً، واختفى الضجيج، هذه أشياء كنّا نتمنى حدوثها، ولكن في نفس الوقت فُرِض حظر التجوّل، زاد الذعر، انهارت الثقة، انتشر الحجر الصحي، انهارت أسواق المال، تم إغلاق المدارس ودور العبادة والمتاحف والمسارح، وتوقفت الأنشطة الرياضية، وصار اللمس والتقبيل والعناق محرّمات جديدة، وتحولت ممارسة الحبّ إلى علامات سبرانيّة… باختصار: اختلّ روتين الحياة.
أعرف مثل جميع البشر أنك تضاعف الخير، مثلما تضاعف الشر، لكنك لا تأبه للخير أو الشر كما أعتقد، لأنك لست مجرّد فكرة أخلاقية، أنت احتلال، فهل يمكن أن تتوصّلوا معاً – أنتم والبشر – إلى دستور يكفل الحياة بالنسبة للطرفين، أي أن يترك لك البشر خلاياهم فتدخلها وتغادرها كما تشاء وتبقى حيّاً، ويبقوا هم أحياء في الوقت نفسه ويستفيدوا من مزاياك الجينية؟ ماذا عن بروتوكول تعايش محايد بين الطرفين؟ أليست هذه منفعة تبادلية جديرة بالاهتمام؟
ختاماً… مثل رسالتي، فإن خلايا جسمي الضعيف مفتوحة لاستقبالك أيها الفيروس الذي تعبر الأزمنة والقارات، وها أنا الآن أطوف شوارع بروكسل الخالية بحثاً عنك لأنني أعتقد أننا نستطيع الحديث باسم نوعيْنا، النوع البشري والنوع الفيروسي، فهل يمكن للبشر أن يوطّنوك في خلاياهم كما وطّنوا آلاف الفيروسات من عائلتك عبر تاريخهم الطويل، ويجعلوا من هذه الخلايا سطحاً لألعابك التي لا تزعجهم أو تصيبهم بالإنفلونزا القاتلة؟
أتمنّى لك الاستجابة لهذا النداء الذي سينقذ البشر، وينقذ سلالتك الآتية، وداعاً.
* كاتب وباحث ليبي من مواليد 1963 متخصّص في التاريخ والنظريات اللغوية. من إصداراته: “ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية” (2008)، و”رحلة حنّون” (2012)، و”معجم تانيت” (2013)، و”أصوات بابل، قراءة جديدة في اللغات العاربة” (2014)، وصدرت نهاية السنة الماضية ترجمته لكتاب “أيام إيمانويل كانط الأخيرة” لـ توماس دي كوينسي. يُصدر منذ 2012 مجلة “لسان العرب” المتخصصة في الدراسات اللغوية.
العربي الجديد
——————————-
علي المقري: حتى أحلامنا ترتبط بهذا الوباء
كل لحظات حياتنا صارت مليئة بفيروس كورونا، وإن كان الوباء لم يداهمنا وجهاً لوجه؛ فقد صارت آثاره الجانبية، كما أظن، أكثر فتكاً من الوباء نفسه.
نفتح عيوننا بعد أحلام كابوسية، فنجد في الوسائط الاجتماعية عشرات الرسائل المحذرة من الوباء، الحاملة لنصاح الوقاية المكررة ونوادرها، ثم نشاهد في التلفزيونات آخر أرقام الضحايا واكتشافات العلماء وتحليلات الخبراء؛ وبالتالي لم يعد في استطاعتنا ممارسة الحياة المعتادة من عمل وقراءة وكتابة بشكل هادئ أو مستقر.
بالنسبة إلي، أمضي معظم الوقت في القراءة ومشاهدة الأفلام هرباً من هذه الأجواء الموبوءة، ومع هذا لا أستطيع أن أنجو، فهذا صديق أو قريب يتصل لك ليطمئن عليك ويسألك عن طريقة مواجهتك للفيروس، كما أتلقى رسائل اعتذار عن مواعيد سابقة أو إلغاء مهرجانات وندوات كانت مقررة سابقاً ووافقت على المشاركة فيها قبل اجتياح الوباء.
هكذا، كل شيء صار مرتبطاً بهذا الوباء حتى أحلامنا.
(*) شهادة كتبها الروائي اليَمَني المقيم في فرنسا، علي المقري، لـ”المدن” عن يوميات كورونا… والجدير ذكره ان رواية “بلاد القائد” لعلي المقري، صدرت بالفرنسية قبل أسابيع.
——————————-
من “بزنس” الجسد إلى مناعة الجسم/ بشير البكر
في زمن ما قبل كورونا، كانت تتردد على ألسنة الأوروبيين جملة “لدينا الكثير”. هناك تخمة في كل شيء معروض في الأسواق. واليوم تحفل النقاشات في وسائل التواصل والاعلام بانتقادات صريحة للنزعة الاستهلاكية، والنرجسية العالية التي عزلت الغرب إلى كوكب بعيد عن بقية العوالم التي تعيش على مسافة بعيدة، رغم العولمة التي باتت أمراً مبتذلاً في ظل السباق على مراكمة الأرباح. وهناك من يعتبر أن الغرب بالغ في توظيف التقدم التقني واستثمار رؤوس الأموال في حاجات تبين أنها كمالية، ويمكن الاستغناء عنها اليوم وغداً. وجاءت حرب الكمامات، الأسبوع الماضي، لتسقط نظريات كثيرة حول حروب المستقبل، ومنها حرب الفضاء. وتبين أن امتلاك جهاز تنفس اليوم، أفضل من امتلاك طائرة خاصة أو يخت، رغم أن ثمن الجهاز لا يتعدى 25 ألف دولار.
المفكر الفرنسي ادغار موران، له السبق في قراءة تداعيات وباء كورونا. وفي حديث أدلى به إلى المجلّة الفرنسيّة، L’Obs، عدد 18 مارس/آذار 2020. اجتهد في استشراف النظام الذي ينتظر العالم ما بعد كورونا، وركز في صورة خاصة على نمط حياة المجتمعات الأوروبية بقوله “ستتأثّر إمكانات الاستهلاك بالنّسبة إلينا جميعاً. وعلينا أن نُحسِنَ توظيفَ هذه الحالة حتّى نُعيدَ النّظر في النّزعة الاستهلاكيّة، ونعني: الإدمانَ و”الاستهلاكَ المُخدِّر”، وتسمُّمَنا النّاجمَ عن سلع غير نافعة حقّاً، وحتّى نتخلّصَ من الكمّ لفائدة الكيف”.
رأيُ موران يساهم في الإجابة عن أسئلة أخذ يطرحها كثير من الناس: هل ستتغير علاقتنا بالأشياء، والزمن، وبعضنا البعض، بعد أن ينتهي هذا الكابوس؟ وغير بعيد من الجواب، يأتي خبر “خمس شركات للسيارات تتحول لإنتاج أجهزة تنفس وكمامات”، وجاء فيه “استجاب عدد من مصنعي السيارات حول العالم إلى دعوات تطالبهم بالانخراط في جهود مواجهة الفيروس، وتحويل جزء من إنتاجهم لدعم تلك الجهود”، وأبرز تلك الشركات فورد، فولكس فاغن، تويوتا، جنرال موتورز، فيات. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد مارس الضغط على كل من جنرال موتورز وفورد، من أجل الانخراط في المشروع بسرعة، ما يشكل نقلة في عمل الشركتين العملاقتين المتخصصتين في تصنيع السيارات منذ أكثر من قرن. والملاحظ أن المبادرة تعممت في أكثر من بلد، مثل شركة بيجو في فرنسا، إذ قررت هي الأخرى انتاج أجهزة التنفس التي باتت العملة النادرة والمعيار، وعددها يشكل الحكم على تقدم النظام الصحي في أي بلد.
صحيح ان ترامب استخدم صلاحياته في إعمال قوانين الطوارئ (قانون الإنتاج الدفاعي) للضغط على الشركتين، لكن العملية ليست منفصلة عن مسار يبدو أنه سيشق مجراه تدريجياً على شكل صدمة لما بعد كورونا، بدأنا نلمس تجلياتها في بلدان كثيرة، بدءاً من ميلانو- أحد المراكز الأساسية في عالم الموضة. وتقول الحكاية أن أحد رواد الموضة بدأ بخياطة كمامات له ولعائلته ثم جيرانه وبعدها اصدقائه ومعارفه، ومن ثم للمشافي، مستخدماً تلك الاقمشة التي كانت يخصصها لثياب زبائن الفخامة والأبهة، ولم يطل الوقت حتى لحقت به بيوتات موضة كبيرة من ايطاليا وفرنسا مثل “كيرنج” و”سان لوران” و”بالانسياجا”. وهذه الالتفاتة من طرف قطاع محسوب على بزنس الرفاهية والموضة والجسد، ذات مفعول رمزي في هذا الوقت، لأن هدفها ليس الربح التجاري، بل المساهمة في المجهود الطبي لمواجهة الوباء، ولا تعني بكل الأحوال ان هذا القطاع سيكرس نفسه في المستقبل لصناعة احتياجات طبية، مثل الكمامات التي ظهر أن مخزون المشافي والصيدليات الأوروبية منها، لم يكن في حسابات الطوارئ، وهذا يشكل أحد أسباب تفشي المرض بسرعة. وانما يعني بوضوح ان ما هو ضروري ومهم لحياة الناس لم يكن في حساب أحد، وإن قدراً كبيراً من رؤوس الأموال جرى توظيفه من أجل رفاهية فئات محدودة، لكنه يحتمل في الوقت ذاته أن هذا القطاع الاستهلاكي لن يبقى على حاله، وسيلحق به الضرر مثله مثل صناعة التجميل بشكل عام.
ولن يلبث أن يحتل كل ما هو صحي، مكان ما كان يلهث وراءه قطاع واسع من المجتمع. ستطغى صناعة الفيتامينات وأدوية المناعة، على المجوهرات والملابس والسيارات، وسيهجر الناس الصالونات الفارهة والواسعة إلى بيوت متواضعة مزودة بأنظمة صحية للطوارئ. ستتراجع مهن الرفاهية لصالح ابتكارات جديدة تأخذ العالم من صناعة بزنس الجسد، إلى مناعة الجسم. ومن غير المستبعد أن تصبح أجمل هدية في المستقبل القريب أسطوانة تنفس صغيرة. وربما يأخذ “لوي فيتون” هذا الفكرة ويزود كل حقيبة يد نسائية بجهاز تنفس صغير حتى تناسب سعرها الحالي الذي يبلغ في أدنى حد خمسة آلاف يورو.
المدن
——————————-
أصابع “كورونا” المخيفة/ ناز حمي
أحاول أن أعدّ أصابعي الآن، أن أشعر بها أكثر، جفافها نتيجة كثرة الغسل والمعقمات، اختناقها في الكفوف، حرمانها دورها الطبيعي في التحسس والملامسة. صرتُ أتعامل معها وكأنها عدو محتمل،
سابقاً، قبل أن يبدأ الدمار نهش بلادنا، علمني صديق قديم وأبدي لعبة الأصابع، أن نُغلق أعيننا، ثم نحاول البحث عن الأشياء في الفراغ المحيط بنا، برؤوس أصابعنا الوحيدة، نتحسس الأشياء، مُحاولين إعادة تعريف تفاصيلها.
كانت لعبة متخيلة وحياة مُعاشة، تختصرك كلك في أصابعك، تعيد تكوين الضجر المحيط بك كما تشاء، وكأنك للحظة ملك الوقت والقدر والإرادة، تترك أصابعك الخمس في حوار لا ينتهي، عقيم وأخرس.
كان ذلك قبل الحرب، كانت أصابعنا غضة، هشة، ولم تعرف من قسوة الفقدان شيئاً، كانت تشبه أحلامنا في بلاد. أدركنا في ما بعد أن لا مجال للحلم فيها. في ما بعد، خلال أيام الظلام الطويلة في سنوات الحرب، صارت أصابعنا، بمعنى ما، أعيننا وحواسنا، أداتنا، وذاكرتنا، محاولتنا لتجاوز التوتر والفوضى والألم. سعينا لاكتشاف ذواتنا العمياء، بوصلة أجسادنا، مرشدها في غياب النور.
لاحقاً، وحيدة كانت أصابعي ملكة المشهد، كما هي اليوم، في زمن “كورونا”، أفتقد أصابعي في الفزع المحيط، أخشى أن تمحى بصماتي، وأخسر معها ذاكرتها، بكل حواسها وحساسياتها، أخشى منها على نفسي وعلى من أحب.
أحاول أن أعدّ أصابعي الآن، أن أشعر بها أكثر، جفافها نتيجة كثرة الغسل والمعقمات، اختناقها في الكفوف، حرمانها دورها الطبيعي في التحسس والملامسة، عزلتها المضاعفة في هذا الحظر المفروض. صرتُ أتعامل معها وكأنها عدو محتمل، الجاني الأعظم، وسم العار الذي يمكن أن يُعدي جسداً كاملاً.
أداري أصابعي عن عيوني وأنفي وفمي، محاولات غير مجدية في غالبيتها، محاولات التحكم في حركات لا إرادية اعتدتها خلال 29 سنة فائتة. يبدو أمراً متعباً وقاسياً، محاولة لترويض ما هو غريزي ووجداني وسلوكي، وأولاً بدهي.
أعدّ أصابعي مجدداً، وأتفهم حرمانها المتزايد، أخفف عنها من حين إلى آخر، بممارسة لعبتي ( لعبة الأصابع)، أشغل الأغاني وأترك لها حرية الرقص، وكأنها قدماي. لا أراقبها وأضبطها وأقمعها، أنفصل عنها وأترك لها حرية شرودها.
الأصابع هي نحن، هي خوفنا الأبكم، سبيلنا الوحيد للنجاة، في بلاد تصيبك مشافيها بالمرض والغثيان حالما تفكر بها أو تتخيلها. أقرأ تعليقاً مكتوباً فوق صورة مقارنة على “فايسبوك”، بين غرفة في أحد مستشفيات الدول المتقدمة، وغرفة في مستشفيات البلاد: “الزموا بيوتكم، فالفارق آلاف السنين من التطور”. أعقم يديّ ذعراً، وأتابع عملي وأنا أفكر في ما بعد “كورونا”، عندما تنهار عتبة خوفنا الحالية، وتغدو سلاماتنا الباردة عناقا أقل هلعاً.
في أيام حظر التجوال المفروضة علينا حالياً، في بلاد مخنوقة من الحرب، بات الوقت رفاهيتنا، ملكنا، والملل سمتنا، نتلهى عن الوقت والخوف باصطناع الوقاية، نلزم بيوتنا ونهلك أصابعنا بقيود النظافة والانضباط، نعقم كل قشة تدخل منازلنا، بمعقمات ندرك تماماً إنها مغشوشة. شخصياً، أستغرب هذا الخوف المستحدث في حياتنا، من كائن لا مرئي، نحن من رتبنا للخوف عتباته بوحشية مفرطة، وقدمنا للعالم “كاتلوكاً” مبدعاً للقتل. إذ ما الذي قد يعنيه أن نموت بفايروس ما، ونتجاهل حديث وزير صحتنا وهو يطمئن الشعب قائلاً: “الجيش طهر البلاد من الجراثيم والفايروسات، على مدار السنوات العشر الفائتة!”، هل من عدمية أكثر من ذلك؟
أراقب عن كثب انهماك والدتي في التعقيم، ساعاتها الطويلة في غسل الخضروات، مداراتها لأصابعها – كأحد أطفالها- عن ارتكاب خطأ ما، وملامسة المحظور من وجهها. أراقب المرأة الستينية التي أمضت العقد الأول من عمرها في أعمال القرية، من زراعة وتربية للحيوانات، الأعمال التي تركت آثاراً واضحة على تضاريس يديها، جعلتها بأصابع متجهمة وكأنها تصرخ في وجهك دوماً، وندبات جروح قديمة كعمرها، أسمع همهمة ضجرها من الحالة الجديدة المفروضة عليها “شو هالكورونا إلي طلعتلنا بآخر هالعمر!”.
أسأل صديقي العطار عبر “واتسآب” – صديقي الذي راهنت عليه سابقاً بأنه الشخص الوحيد في هذا الكوكب الذي سيخشاه “كورونا”- عما تعني له الأصابع في هذا الوقت من عمرنا، يجيبني بصعوبة في التعبير، الأصابع هويتنا الفاضحة، تسرد تفاصيل حياتنا من دون حياء، من دون إذن، حاستنا المهمشة في بلاد تتطلب منا الشقاء دوماً، لم تؤثر حالة التعقيم الكوروني في أصابعي التي اعتادت الكحول ورائحة العطور خلال 10 سنوات فائتة، ولكنه – أي “كورونا”- علمني أن أحب روتين حياتي الممل.
ترسل لي صديقتي رابطاً لمقال يتحدث عن المواعدة في زمن “كورونا”، يتحدث عن الـ”blind date” وكيف تكيفت المواعدات الغرامية مع حالة “كورونا” والعزلة الاجتماعية المفروضة، لتجرى هذه المواعدات افتراضياً، عبر شبكة الإنترنت. أعود لأفكر بحالة الأصابع في تقديم المتعة المجهدة وغير المشروطة، وأمتن لـ”كورونا” لأنه أبقى للأصابع وظيفة حيوية تخفف عنها وطأة الحجر المفروض عليها.
الأصابع عكازة الأعمى، العكازة الذي باتت عمياء أيضاً، العكازة الذي نخرها “كورونا”.
خلال أيام الخوف المكثفة الماضية، أعدت محاولة ملامسة الفراغ بالأصابع ذاتها التي كانت أداة بهجتي أيام الطفولة. أغلق عيناً، وكأن حفرة ترابية باردة تحتويني لليلة أخيرة، وأمضي لأحلامي مسرعة، ألتهم بأصابعي كل الأشياء الحسية المحيطة بي، الوقت الحب الوجود الأماني، وأولاً الخوف. أصابعي التي لا تكل ولا تتعب، التي بقيت تحرسني في لحظات القسوة، وتدللني في أحيان الحب.
أصابعي الوفية، لن تتخلى عني بسهولة، أنا المذعورة في مواجهة وحش “كورونا” المخيف. مرة، أخبرني صديق، بعد أشهر من فقدانه يده نتيجة الحرب، بأنه ما زال يشعر بحكة في أصابعه.
سابقاً، قبل أن يبدأ الدمار نهش بلادنا، كانت أصابعي رشيقة، لم تكن مجهدة من ساعات العمل الطويلة على الموبايل والكمبيوتر، كانت أصابعي ذات ذاكرة أخف وحساسية ألطف، أكثر حرية وأقل حرماناً وخضوعاً للقمع. كانت تسرح في رقص غير مرصود، تلامس وتكتشف كل تفصيل محيط بي وتتعرّف إليه.
الجو في الخارج ربيعي ماطر، أمسك بيد سيجارتي، في حين تراقص يدي الثانية أمطار آذار/ مارس، تشرد أصابعي ببهاء حبات المطر المنهمرة من السماء. بالتقادم، يأخذها مزيج من الإغواء والطمأنينة الطافحة، تركض يميناً وشمالاً، محاولة غور تفاصيل الفروق بين حبات المطر، أشكالها وثقلها، حرارتها وسرعة هبوطها.
أنظر إليها مبللة بحبات المطر، أراها تناظرني، تقول شيئاً من مثل: “ما أجمل الحرية!”.
درج
————————-
وحيدة في غرفة أتأمل الغبار/ أمل السعيدي
تغمرني سحابة الضوء الخارج من مصباح صغير في طرف الغرفة، موجهٍ نحو الأريكة التي أجلس عليها الآن، كل أنوع هذا السحر اللامرئي، مثل الغبار الذي يطير في الهواء كلما حدقتُ مليًّا في الغرفة، كيف تبدو أفكارك بعدما تدخن الحشيش؟ هل تنسى كل شيء، فما يعود الماضي مستحقًا؟ أم تنظرُ للمستقبل كأنه لحظتك التي تعيشها الآن، وعندما أكون مثل الرائحة داخل الرأس، كيف أبدو، عاريةً أم أرتدي فستاناً؟ أفتحُ ذراعيّ لك أو أدير ظهري وأمشي بعيدًا بلا عودة. لا أحب الآخرين، ويمكنني أن أتملى كثيرًا في كل حبة تطيرُ الآن داخل الضوء، أسميها عثة الضوء، وأكتبُ عنها كما أفعلُ الآن، وفي بعض الأحيان أفكرُ كيف تبدو كل هذه الحبيبات من الرمل صغيرةً جدًّا، تدخلُ من أطراف النوافذ المغلقة بإحكام، أو تعلقُ بملابسي كلما خرجتُ أو أنها في أصل هذه الغرفة، جزءٌ أزليٌ منها. أنت الآن تحت تأثير المخدر، هل تكون حياتك كل الشؤون الصغيرة؟
أتخيل مشاهد عديدة، كأن تجري على الشاطئ، أو نلقي نكتة معًا عن كورونا، أو نتمغط كثيرًا كلما صحونا دون أن نتأخر عن هلع العالم في الخارج، لكنني أتباطأ لا بسبب تأخرك، لكنني أحسُ في لحظة واحدة أنني لا أملكُ الوقت الكافي لأن أفعل شيئًا من هذا، ذلك أنني أبكي في الحجرة وحدي، لدي عشرات الكتب المغبرة، والتي أتوارى خلفها، كنتُ أبكي إذًا، مثلما يفعلُ شخص يظن أن طريقه في الحب مقطوع السبل، أن كل الآخرين سيخوضون ذلك العنف الأبدي دونه، أنه وحده سيظل يراقب الكرة الأرضية وهي تدور، أنه لن يصاب بكورونا، ليس الآن، بينما الناس يعيشون ويتعبون ويتمرغون في الوحل، ويتعافون، هو المعفي دونهم من دورة حياته. كنتُ أبكي إذًا، تلفني حبات طلعٍ من غبار، كلما تقدم الوقت تكاثرت، والأريكة صغيرة جيدًا وضيقة، ولا تكفي لأي موعد، فالقاعدة تقول توقف عن الانتظار لكي تحصل على ما تريده في الحال، وأنا تطرفتُ، إذ لم أتوقف عن الانتظار فحسب، بل أعدمتُ كل إيحاء له، كأن لا شيء بعد.
تركضُ على الشاطئ، تضعُ سماعة صغيرة في أذنيك، تسمع موسيقى أندرجرواند، وتفكر في الليلة عندما تدور السيجارة لكي تصل بين أصابعك، فيغدو العالم ممحوًا أو ممنوحًا لا أحد يعرف سواك. وأنا إن كنتُ رائحةً، أو غبارًا، أو فكرة ذهنية تروح وتموت أو ضوءًا كاشفًا، أو إيحاءً، أو سكونًا، فهل أبدو موحشة في ذلك الجوار النشوان أيضًا؟
العنوان تنويعة على قصيدة الشاعرة الأمريكية الشهيرة دوريان لوكس: وحيدة في غرفة وأمسح الغبار.
الترا صوت
———————————————
===============================
===============================
تحديث 09 نيسان2020
———————————–
تحت وطأة كورونا.. الكاتب وعزلة “الكرنتينا”/ نجيب مبارك
بعد تفشي الوباء العالمي كورونا، طلبت الكثير من المنابر الإعلامية والصحافية الفرنسية من بعض الكتّاب والمثقفين أن يكتبوا عن حياتهم خلال فترة العزل الصحي (أو ما يسمّى “الكرنتينا”)، ليعبروا عن مشاعرهم ومواقفهم وتأملاتهم بخصوص الوضعية الحرجة التي يعيشها العالم، أو يقدموا نصائح للقراء بخصوص الكتب التي يرون أنها مناسبة لهذه الفترة. في ما يلي إطلالة على ما قاله بعض مشاهير الكتّاب:
يوميات الكرنتينا: ما الفائدة؟
قبل أيّام، اقترحت جريدة “لوموند” على بعض الكتّاب المعروفين أن يكتبوا عن يوميات العزل خلال هذه الفترة، واختارت من بين هؤلاء الكاتبة ذات الأصول المغربية ليلى سليماني، الفائزة بجائزة غونكور عام 2016، والتي أصدرت مؤخراً رواية جديدة بعنوان “أرض الآخرين” تحكي فيها عن الاستعمار الفرنسي للمغرب. وقد أثار نشر الحلقة الأولى من يومياتها في العزل على صفحات “لوموند” الكثير من ردود الفعل، سواء في فرنسا أو حتّى هنا في المغرب. فهذه الكاتبة المعروفة بانحيازها المطلق لرؤية الرئيس ماكرون للفرانكفونية، وتتقلّد مهمّة رسمية للدفاع عنها، بينما تصرّف مواقفها المثيرة للجدل بخصوص التطرّف والهجرة والجنس في الاتّجاه الذي يخدم اليمين الفرنسي، كتبت في يومياتها أنّها تقيم في منزل ريفي بعيد عن العاصمة باريس، وتقضي أيّامها بهدوء وطمأنينة تحسد عليها، تقرأ وتعلّم أطفالها وتتأمّل ما يحدث بكثير من اللّامبالاة، لأنّها لا تخشى، كما تقول، من استمرار العزل الذي تراه من صميم حياة الكاتب.
ليلى سليماني: “العزل” من صميم حياة الكاتب
ومن جملة ما كتبت في هذه اليوميات: “أولئك الّذين يملكون القليل، أو لا يملكون شيئاً، الّذين يبدو لهم المستقبل غير مضمون مثل سائر الأيّام، هؤلاء لا يملكون من الحظّ ما أملك”. وقد كانت مثل هذه النظرة المستفزّة كافية لأن تفتح عليها نيران الانتقادات من كلّ جانب، سواء في وسائل الإعلام الفرنسية أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث هاجمها كثيرون ورأى البعض أنّ المرحلة تتطلّب الإنصات لأصحاب المهن الصّعبة في هذه الظروف، مثل الأطبّاء والممرضين ورجال النظافة، أفضل من قراءة ما يخطّه بعض الكتّاب النرجسيين الغارقين في الاستيهامات المترفة.
سيلفان تيسون: مصاحبة الزمن
تيسون: لا يجب أن نقف مكتوفي الأيدي في وجه حركة الزمن، بل على العكس يجب أن نحاول مصاحبته بأقل الأضرار
من جهة أخرى، لا تبدو تجربة العزلة غريبة عن حياة الكاتب والمغامر الفرنسي سيلفان تيسون، فهو سبق له أن روى يوميات ستّة أشهر من الانعزال في سيبيريا عام 2010، حيث أقام في كوخ صغير على شاطئ بحيرة بايكال لم يكن يبعد سوى 120 كلم عن أقرب قرية، كما أنّه انعزل في برج حَمام لشهور طويلة، بعد أن تعرّض لإصابات بليغة في أحد أسفاره الكثيرة، وكرّس هذه الفترة لتأليف كتاب عن العهد القديم. ومن آخر مغامراته ما سجّله من انطباعات عن رحلته إلى سهل شانغ تانغ في إقليم التيبت بين عامي 2018 و2019، وهي رحلة تعقّب فيها آثار “فهد الثلوج”، رفقة المصوّر الفوتوغرافي فانسان مونييه، ومن اسم هذا الحيوان استلهم عنوان كتابه الأخير، الفائز بجائزة رينودو المرموقة في نسختها الماضية 2019.
يقول سيلفان تيسون في ردّه عن أسئلة إذاعة “فرانس أنتر”: إنّ الطريقة الوحيدة لصمود الإنسان حتّى لا ينهار تماماً، والوسيلة الوحيدة التي بإمكانه التحكّم فيها، هي أن لا يدخل في صراع ضدّ الزمن”، وهذا الصراع يتمثّل في السعي الدائم نحو قياس وحساب وإحصاء كلّ شيء، والاستسلام لحرب ضدّ إيقاع الثواني المتسارعة. فإذا بدأ المرء في القيام بذلك، سوف يسحق نفسه، لأنّه ما تزال في انتظاره ثلاثة أشهر ستتكرّر فيها الأيام إلى ما لا نهاية، في رتابة وملل وكآبة، وهذا شيء مرعب. لهذا ينصح الكاتب بالاستلهام من فنون الدفاع عن النفس، بأن نتحكّم في قوّة الخصم ونقلبها ضدّه. إذ لا يجب أن نقف مكتوفي الأيدي في وجه حركة الزمن، بل يجب على العكس أن نحاول مصاحبته بأقل الأضرار. يقول: “قد يبدو الأمر تافهاً، لكنّني اختبرته في العديد من التجارب القاسية وحتى في الأفراح الكبرى. يجب أن نتعامل مع الزمن كما نتعامل مع صديق ننحتُه بإرادتنا، لأنّ الزمن مادّة يمكننا عجنها والتحكّم فيها. أمّا إذا سمحنا للنفس بالانجراف مع إيقاع الزمن، وعدم إجبارها على شغل هذه الساعات، وتخصيصها لشيء محدّد للغاية، فإنّ ما سيحدث هو التفكّك، كما لا يجب أن نجعل من هذه الأزمة الخارجية أزمة داخلية أيضاً. ثم، أخيراً، يرى سيلفان تيسون أنّ هذا الحبس المفروض يمكن أن يكون فرصة ذهبية لتغيير حياتنا المتسارعة تحت الضغط والركض المتعجّل لمسافات طويلة. بحيث تسمح لنا أزمة اليوم أن نعكس هذا الوضع تماماً، فهناك أشياء كثيرة تتغيّر من حولنا، ونحن نعيش في لحظة تلهم الكتّاب كثيراً. إنّها لحظة التحوّل المطلق. وفي هذه الحالات تصير القراءة فضيلة، لأنّها تجعل من الكتاب عكّاز طريق رائع. لهذا، ينصح الجميع بقراءة كتابين يعالجان مسألة الحبس: رواية “لاعب الشطرنج” لستيفان زفايج، و”مذكرات رجل لا لزوم له” لإيفان تورجنيف.
إرّي دي لوكا: الاقتصاد لم يعد ملكاً
لوكا: المطلوب الآن من كلّ واحد منّا أن يعتبر نفسه ناجياً
من جهة أخرى، في إيطاليا هذه المرّة، لا تختلف حياة الشاعر والروائي الإيطالي إرّي دي لوك عن حياة زميله الفرنسي سيلفان تيسون، فهو بدوره تعوّد على حياة العزلة والانعزال لفترة طويلة، ويشاركه الإحساس أيضاً بأننا نشهد تحوّلاً عميقاً، “كما لو أنّ الأمر يتعلّق بالدخول إلى دين جديد، بالمعنى المادّي والروحي للكلمة”، كما قال في حوار مع مجلة “لوبس” الفرنسية، مضيفاً: “لقد تمّ خلع صاحب الجلالة “الاقتصاد” ولم يعد ملكاً، لم يعد الاقتصاد هوَساً يحظى بالأولوية”، لأنّ ما يتصدّر المشهد اليوم هو “الدّفاع عن الحياة البشرية، الخالصة والبسيطة، التي تضع جميع المواطنين على قدم المساواة، لأنّنا جميعاً معرّضون للخطر بنفس القدر” ، كما يرى أنّ “الالتهاب الرئويّ الذي يخنق المرضى حالياً هو “براديغم” للأرض التي يخنقها التوسُّع البشري”.
لقد عمل دي لوكا سابقاً في الكثير من المصانع، في جميع أنحاء إيطاليا، خلال ما يقرب من 20 عاماً، وكان زعيماً سابقاً للحزب الإيطالي المتطرّف “الكفاح المستمرّ”، إلى جانب آخرين على مدى سنوات، وهو يشير إلى أنّنا اليوم ندرك “قيمة الكفاف والإمدادات” وهي أمور تعتمد بالأساس على العمّال وعلى “كلّ هؤلاء الّذين لا يمكننا الآن مصافحتهم، بينما هم الذين يسمحون للمجتمع بالبقاء حيّاً”.
ويخلص الكاتب إلى أنّ المطلوب الآن من كلّ واحد منّا أن يعتبر نفسه ناجياً، ولا بدّ أن يعبر عن امتنانه لهذا الوضع. وحين سئل عمّا ينصح بقراءته في هذه الفترة الحرجة، أجاب: “إنّه من باب التهوّر اقتراح كتاب ما للقراءة، فالأمر شبيه بتقديم مشورة للقاء شخص ما أو دعوته للدخول في خصوصية الآخرين”، غير أنه ختم قوله بالثناء على كتاب “الحياة والمصير” للروسي فاسيلي غروسمان، الذي اعتبره “رفيقاً جيّداً للمتقاعد” ويصلح لمثل هذه الأوقات الفاصلة في التاريخ.
دانيال بيناك: التكيّف مع الوضع
بيناك: الفرنسيون لم يشهدوا “حدثاً جماعياً” من هذا النوع منذ الحرب العالمية الثانية
يؤكّد الروائي الفرنسي دانيال بيناك، الّذي صدرت له مؤخّراً رواية “قانون الحالم” (غاليمار)، أنّ “كثيراً من الناس أنقذوا أنفسهم خلال فترات الحبس بواسطة القراءة”، ويقدّم مثالاً على ذلك ما قام به الكاتب السجين جان بول كوفمان، الّذي حُبس لأشهر كثيرة، حين أنقذ روحه بإعادة قراءة المجلّد الثاني من رواية “الحرب والسلام” لتولستوي مرّة تلو أخرى بلا توقف، وأيضاً الكاتب الروسي سولجنتسين الذي نجا من جحيم “الكولاج” بالقراءة فقط. ويتذكّر دانيال بيناك أنّ الفرنسيين لم يشهدوا “حدثاً جماعياً” من هذا النوع منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ 80 عاماً، مضيفاً أنّه “من الطبيعي أن يشعر الناس بالضّغط وأنّ هذا يثير الكثير من الذّعر وردود الفعل المرتبطة بغريزة البقاء مثل الاعتداءات في المتاجر”، ثمّ يقول: “يجب علينا التكيّف مع الوضع”، ويوصي في هذه الحالة بقراءة أو إعادة قراءة الرسالة الثانية عشرة من “الرسائل الفارسية” لمونتسيكو، وهو نصّ صغير لكنّه دالّ ومناسب، خصوصاً في إشارته إلى “ضرورة التضامن المطلقة في أوقات الأزمة”.
إدغار موران: لا مفرّ من عدم اليقين
موران يحاول أن يبعث القليل من الدفء في زوايا البيوت المغلقة والمعزولة
نختم هذه الجولة مع المفكّر والسوسيولوجي إدغار موران، الذي منذ بداية هذا الوباء لم يتوقّف عن طرح تأمّلاته وشذراته الملهمة عبر موقع تويتر، محاولاً أن يبعث القليل من الدفء في زوايا البيوت المغلقة والمعزولة.
فهو يرى أنّه سيكون من المحزن جداً أن لا تتمخّض هذه الأزمة العظمى عن فكرٍ سياسيّ يشقّ طريقاً جديداً نحو المستقبل، ويقول أيضاً: “أحد الدروس الكبرى للأزمة أنّه لا مفرّ من عدم اليقين، فما نزال نشكّ في إمكانية العثور على دواء للفيروس، مثلما نخشى من تطوّراته ونتائجه الكارثية. نحن لسنا واثقين من مآل هذه المغامرة الإنسانية”.
ضفة ثالثة
——————————–
دنى غالي.. روبيرتو إيسبوسيتو وبينما هو خاضع للحجر الصحي!
(*) الجائحة والمغالاة في التحصّن ضدها! متى يتضاعف الشعور القومي ومن يقف وراء تكريسه خلال الأزمات! حين يتهدّد أمان الفرد هل يختار الديموقراطية أم يسلّم أمره إلى السلطة التي تظهر بمظهر الحامي! أوروبا الديموقراطية، أوروبا المفتوحة تحت الاختبار! هل تتجلى العلاقة وتتلخّص في “حاكم وتابع” عبر السياسة التي تتخذها الدول الديموقراطية مع مواطنيها في ظل أزمة الوباء! ما علاقة ما نمرّ به بمصطلح السياسة البيولوجية والسلطة البيولوجية لدى صاحب القاعات السبع ميشيل فوكو (هي السياسة التي تخصّ الجسد بكل ما يرتبط وقوة الدولة وسيطرتها وقد اختلفت الترجمة العربية بين البيولوجيا السياسية والسياسة البيولوجية). مصطلح المناعة واستغلاله بالاتجاهات المختلفة من قبل السلطة. مرض المناعة الذاتي الذي يتردّد ذكره من ضمن الطروحات الفلسفية وتأثيره في جسد المجتمع أو الجماعة community!
جملة من الأسئلة الحية تُثار جراء مقال نشرته جريدة “الانفورميشيون” الدنماركية اليوم بقلم مارتن غوتسكه، يعرّف من خلاله بفِكْر الفيلسوف الإيطالي روبيرتو إيسبوسيتو، 70 عاماً، أستاذ الفلسفة التنظيرية الذي وظّف فكره في دراسة هذا المجال عبر نصف قرن، وله مؤلفات مهمة تمت ترجمتها وتداولها عالمياً، ما جعله يحتل مكانة رصينة في الفلسفة الحديثة. وقد قمتُ بترجمة أهم ما طرحه غوتسكه في المقال، من الدنماركية، تحت عنوان “حين تهدأ عاصفة الكورونا قد تخلّف أوروبا ضعيفة”. وإن كان تناولاً صحافياً سريعاً، لكنه برأيي يفتح الشهية لمتابعة التساؤلات والبحث بتوسع في مصادرها.
من مكتبه في بيته الكائن في نابولي، خاضعاً للحجر الصحي، يحذّر هذا الفيلسوف من أن الديموقراطية التي نتمتع بها قد لا تدوم طويلاً في ظل نقص الحرية والتفاعل الاجتماعي. ما الذي يمكن أن يحدث للديموقراطية إن تم تعليق حرياتنا لزمن طويل؟ لفترة يتم من خلالها إدخال أجهزة مراقبة جديدة من قبل الدولة، وحيث لا يعود لنا الحق في التجمع والاعتراض وقد تمّ عزلنا؟ لفترة يحصل فيها أصحاب السلطة تحت الأزمة على دعم ضخم للغاية، حين يرى جزءٌ أكبر من المعتاد من الشعب، أن ليس من الواجب انتقاد الحكومة بل العكس، على الجميع التعاضد في وقت الأزمات. كيف ستكون عليه التوازنات ما بين الشعب وأصحاب السلطة، ما بين الحكومة والبرلمان؟
ما طرحه يتكشّف جلياً في الواقع الدرامي لإيطاليا وفي كل القارة: كيف يحاول أصحاب السلطة تحصين مجتمعاتهم ضد أي عدو خارجي بطريقة عدوانية تشير إلى مدى الخطورة فيما لو قوّض المواطنون الركائز الأساسية في المجتمع، والتي يحاول أصحاب السلطة ذاتها الدفاع عنها.
“عندما نذهب بعيداً في محاولة حماية أنفسنا يحدث الشيء ذاته لمجتمعنا، كما في جسم الانسان الذي يعاني من مرض مناعي ذاتي: autoimmune disease، رد الفعل العنيف للجهاز المناعي يضر بوظيفة أعضاء الجسم الحيوية وبالتالي قد يتسبب في قتله”، يقول إيسبوسيتو.
تتخذ الدول اجراءات غاية في الصرامة لحماية نفسها من فيروس الكورونا، لكن هذه الإجراءات التي تفرض الضغوط على الحريات الفردية يمكن أن تكون في حد ذاتها على الدرجة نفسها من التدمير للمجتمع. ما نراه حالياً من إجراءات سياسية تتخذها الدول الديموقراطية، يقترب من إجراءات الانظمة الاستبدادية، ولهذا يصبح من الضرورة القصوى ألا تطول هذه الفترة قدر الإمكان لئلا يكون الضرر كبيراً.
في معظم كتاباته على مدى نصف قرن، ركّز إسبوسيتو على الكيفية التي تحاول بها المجتمعات تحصين نفسها ضد الظواهر التي تقتحم حدودها، التي لا يمكن السيطرة عليها والقادمة من الخارج – سواء كانت تسمى موجات اللاجئين، ظلال الاقتصاد المعولم أو الأوبئة. لكن أيضًا كيف يمكن أن تؤدي الحماية الذاتية المفرطة إلى التدمير الذاتي، وكيف تقع المجتمعات التي تحاول حماية نفسها تحت إغراء استبعاد كل ما هو مجهول وغريب وشيطنته.
تبحث اعمال إيسبوسيتو في فهم العلاقة ما بين المجتمع والسياسة البيولوجية والسلطة البيولوجية.
وهو مصطلح عرّفه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في السبعينيات على انه القوة أو السلطة التي تمكّن أصحاب السلطة من التحكم في حياة تابعيهم وصحتهم. تتميز تلك القوة بكيفية استخدامها من قبل السلطات أو أصحاب السلطة للسيطرة على الحياة البيولوجية والهيمنة عليها- لكن حمايتها أيضاً – من خلال كافة جوانب الحياة، كل شيء بدءًا من تحديد النسل وبرامج الصحة الحكومية، والتطعيم القسري وحظر التدخين العام إلى التدابير السياسية الصارمة لتحصين السكان ضد وباء مميت.
يرى إيسبوسيتو إن الفيروس يوسّع ويركّز أو يكثّف المشاكل التي كانت موجودة أصلاً، كما يقول. أن وباء الكورونا هو عدسة مكبرة عملاقة، يسلّط الضوء على النزعات الموجودة مسبقاً في المجتمعات الأوروبية. الوباء يعمل على تنامي الحس القومي وكذلك الخوف بشكل أكبر. تكون فيه صور العدو مطلية بفرشاة أكبر. تزداد رغبة أصحاب السلطة والحكام في السيطرة ومضاعفة صلاحياتهم السياسية، تصبح أكبر، وكذلك رغبة المواطنين بالخضوع لهذه السيطرة.
يشير إيسبوسيتو على وجه الخصوص إلى أن الوباء أصبح مربوطاً بعربة القوميين والشعبويين اليمينيين. في الماضي كانوا يودون تحصين المجتمع ضد الهجرة. الآن الكورونا والهجرة مضفورتان معاً، حيث يحاول سياسيو الجناح اليميني في كل أوروبا، استغلال الوباء لتقوية مبررات سياساتهم من حيث غلق الحدود بوجه الاجانب بتصويرهم للعلاقة التي لا وجود لها ما بين الفيروس والمهاجرين من الشرق الاوسط وأفريقيا. وفي الوقت نفسه، ان أوروبا المفتوحة قد انهارت، فلقد أغلقت الدولة القومية حدودها!
…
رغم ان كتابه في أصل الجماعة ومصيرها، كان قد صدر في العام 1998، يستشرف الفيلسوف إيسبوسيتو، موقف العالم اليوم أمام الجائحة التي تقتضي أن يقف العالم جنباً إلأى جنب في محاربتها.
كتاب الفيلسوف الإيطالي روبيرتو إيسبوسيتو يؤكد على أنه “لا يمكن للجماعة أو المجتمع أن يوجد من دون شكل من أشكال نظام مناعة. لكن لا يقتضي للجماعات أو المجتمعات أن تتكون من أشخاص لديهم خصائص مشتركة، معتقدات مشتركة أو ثقافة متماثلة. الأساس المشترك للمجتمعات هو أن مؤسسي الجماعات أو المجتمعات يشتركون في شيء ما يمكّنهم في نهاية المطاف من استقبال وضمّ أناس آخرين إلى مجموعاتهم أو مجتمعاتهم من دون تحصّنهم ضد هؤلاء”.
Roberto Esposito, Communitas,The Origin and Destiny of Community
(*) مدونة نشرتها الشاعرة والروائية العراقية، دنى غالي، في صفحتها الفايسبوكية.
المدن
—————————-
العزلة عافية متوحشة/ ماري طوق
(*) أحبّ العزلات كلّها، أعرفها وتعرفني، عزلة ظلال الشتاء، الجبال، الموسيقى، الكتب، الأغاني، الذكريات. عزلات تكرارية وارفة أدخلها وأظلّ أعيدها كأغنية يصعب عليّ الارتواء منها، إلى أن تتعب مني وأتعب منها، إلى أن أحظى بعزلة جديدة تطهّرني من سابقتها.
لكنّ هذه العزلة بالذات، رغم وجوه شبهها أحياناً بالأخريات الوارفات، مليئة أفخاخاً وتشعرني بالضيق. نعم، “قلبي في ضيق” ضيق فيزيائي أفقد معه أنفاسي، وأحصي ما تبقّى منها. أستيقظ في الليل الذي طال أو من غفوة اختطفتني وأنا اصرخ من غسق كابوسي: “خلوني إتنفس رح إختنق”، وذراعاي لا تزالان تصارعان هؤلاء الذين لا وجه لهم أذكره ويصرّون على إزهاق أنفاسي. هل أنا مصابة بهذا الوباء دون علم مني، وهذا قانونه على أية حال؟ أمضي أوقاتاً وانا أحاول ان أستعيد نفساً قديماً: شهيق، زفير… أشهق ولا أستطيع ان أزفر، يظلّ هوائي متعثّراً: أجدني في كهف طويل وسقفه الصخريّ يرتطم برأسي. بالطبع أنا مريضة، مريضة بما حولي، بمن حولي. نقطة ضعفي رئتاي وستمزّقهما براثن الفيروس وسأموت خنقاً مثل والدي لا محالة. أسمع حشرجاته من جديد محتضراً، ومن لم يرَ احتضاراً فاته الكثير من ضيق الأنفاس.
أخرج إلى الشرفة لأعبّ بعض الهواء. تحضرني ذكرى صديقة راحت تغنّي الأوبرا على شرفة بيروتية في الليل الساكن بعدما أعياه القصف. أخرج إلى الشرفة لأرى المشهد المقزّز نفسه مذ ضاقت الخطى: ذرق يملأ المكان! يا لهذا الحمام الذي يتمادى في وقاحة عزّزها انهزامنا. منذ خمس عشرة سنة وأنا أسكن هذا البيت ولم يزعجني فيه أي جناح، فقط عصفوران آنس إلى نقرهما العذب، عصفوران اعتادا على حياكة عشهما في رفراف النافذة. ولكن هذا الذرق يتكاثر دوماً في سهو مني، مهما تحيّنت مرور محدثه لتجفيله. أدخل الى غرفتي من جديد وأغرق في الترجمة: كتاب عن الطبخ فأتشهّى وأدخل إلى المطبخ. أنا بحاجة لطعمات قوية: ثوم كثير، بصل كثير، سأظلّ آكل الثوم حتى أمرض وأستنكف عنه ولكن إلى حين.
أصعد إلى الجبل. أفتح منزلي ويغمرني فرح لا عهد لي به: ما زال المنزل محتفظاً بنضارته المحتبسة داخله، نضارة ما قبل الوباء. كل ما فيه ينتمي إلى زمن لم يمس: الأشياء، الأكياس، المونة، الأثاث، كل ما فيه كما ترك في اواخر أيلول، وصنع في عزلته براءته الشتائية التي تهمّ لاستقبال برودة الربيع. آتي بكرسي وأضعه في الخارج وسط الضباب الكثيف مهما يكن متخيّلاً، أمام أشجار الخوخ البري التي أزهرت مستبقة الربيع دوماً بعافيتها المتوحّشة، غير آبهة بيأسنا. ملتحفة بملابس كثيرة أريد أن ينتهي العالم، عالمي، يوماً ما في عزلة الضباب الوارف ثم يسقط نيزك خلف الجبل عند انقشاعه.
اتصل بي خالي فجأة بعد غياب طويل، سألني بإصرار أن أترجم له كتاباً عن متاحف آيا صوفيا، هكذا وبلا مقدّمات. بدا لي أن كوروناه هي سقوط القسطنطينية. سألته عن أحوال البلدة، عدد المصابين، أحوال الأقارب، لكنّه لم يرد على أي من أسئلتي. نزع الامبراطور قسطنطين رداءه الأرجواني وانقض مهاجماً الأعداء مزهقاً أنفاسه في زحمة الأجساد المهاجمة. قسطنطين يخرّ صريعاً وانا أضحك في سرّي من “الميتافور” السريّة التي حاكها خالي للوباء. أعادت له الجائحة حسراته على شرق ظنّه ملكاً له إلى الأبد.
(*) شهادة كتبتها المترجمة اللبنانية ماري طوق لـ”المدن” عن يوميات كورونا
————————————-
عزلةٌ أم منفى؟ زمن الحرب والكورونا/ هنادي زرقة
تعلن الدول المجاورة عن أعداد مصابيها بفيروس كورونا، ويتأخر السوريون في الإعلان عن حالات المصابين، ثم يعلنون، فيزداد الهلع. تُغلق المدن على بعضها بعضاً، وتتوقف وسائط النقل الجماعي. تقفل القرية أبوابها عليَّ وأزداد عزلة.
هل جربت العيش في قرية بعيدة؟ هل اخترت أن تنعزل عن بني البشر؟
لطالما دار في خلدي أن أنتقل إلى المدينة وأعيش فيها، لا سيما بعدما رحلت أمي. كانت القرية ولا تزال سجناً كبيراً بالنسبة إليَّ، ما إن يبزغ ضوء النهار حتى أفرّ من زنزانتي المنفردة فيها وأولّي وجهي شطر اللاذقية.
في زمنٍ مضى، حين كانت أمي ترى علائم الاكتئاب على وجهي، كانت تقول: “هيّا… هيّا انزلي إلى اللاذقية”. كانت تلك العجوز تحدس بأنّ مجرد ذهابي إلى تلك المدينة والمشي في شوارعها وأسواقها كفيلان بتبديد أي اكتئاب.
أمّا صديقتي فتقول: “روحك واسعة، اللاذقية ضيقة عليك!” وأجيبها: “سوريا ضيقة وتضيق يوماً بعد يوم”.
في القرية، حيث أسكن، أسمع زقزقات العصافير وأشاهد البحر من شرفة المنزل، واللون الأخضر يعمّ المكان. لكني لا أحبّ هذا الجمال. وما إن تبلغ الحافلة المنعطف الذي يؤدي إلى البيت حتى أشعر بالاختناق.
قد أقضي أياماً بلياليها لا أخرج إلى الشرفة، أقرأ وأشاهد أفلاماً وأسمع موسيقى. حولت سريري إلى مكتبة، أضع الكتب التي أحب بجانب الوسادة حيث قد يبقى الكتاب شهرين أو ثلاثة، أفتحه كلّ يوم قبل النوم لدقائق ثم أعيده إلى جانب الوسادة. أذكر أن ديوان محمود درويش سرير الغريبة بقي على هذه الحالة مدة عام. لا أعرف، بالضبط، لم قرنت سريري بذاك السرير، ولماذا ربطت الغريبة بي.
لم يعد لديّ ما أفعله في هذه القرية. أنجزت مهامي على أكمل وجه. دفنت أمي، فلم لا أهرب؟
يسألني صديق: “ألا تخشين النوم وحيدة في هذا المنزل؟” النوم وحيدة! يضحكني السؤال، وأردّ: “هل كان بمقدور أمي العجوز والمريضة أن تدفع عني غائلة الخوف في العشر سنين الأخيرة؟”
أعترف أنني أفشل في تنظيم فوضاي. لا أعرف كيف أبدأ! كلّ ما أفعله هو القراءة. لم أعد أكتب كما في السابق. أنا التي كنت أتذرع بضيق الوقت، بات لديَّ، بعد وفاة أمي، وقت كثير لا أعرف كيف أبدده، لكنني لم أعتد الكتابة في المنزل، كنت أجلس في مقهى في اللاذقية وهناك أقرأ وأكتب بذاك التركيز الذي لم أعد أقوى عليه. صحيحٌ أنَّ أمي المريضة كانت تشتت ذهني بعض التشتيت، لكن غيابها يوترني، وسريرها الفارغ يذهب بفكري مرات كثيرة في النهار الواحد.
“آن لكِ أن تغيّري المكان!”
لكنَّ الذاكرة لا يمكن نسفها. لو أنَّ الدماغ مثل كومبيوتر يسعك أن “تُفَرْمِتَه” لهان الأمر ورميت الذكريات وبدأت من جديد. ثمَّ إنَّ تغيير المكان يلزمه دخل مريح، ولم يعد بوسع مرتبي الشهري مهما لحقته الزيادات أن يلحق بارتفاع إيجار البيوت.
“لا صداقات مع المكان”.
لم أستطع أن أقيم علاقة صداقة في هذه القرية. النساء اللواتي في مثل سنّي تزوجن وغادر معظمهنّ القرية، أمّا من بقين فتكفلت مواقفي وآرائي في عام 2011 بالقطيعة معهن.
لم تنقصني العزلة، فقد جربتها في العشر سنين الأخيرة مع أم مصابة بألزهايمر. لكن تلك العزلة، على الرغم من قسوتها، كانت عزلة اختيارية، وكان بمقدوري، كلما ضجرت، أن استقل الحافلة وأمضي ثم أعود وقد غادرني الضجر.
تقول ابنة أخي: “نيّالها تاتا، ارتاحت من البرد ومن الكورونا”، أضحك وأجيبها: “بس تاتا ماتت”. لم أتصور يوماً أن في الموت راحة إلا في هذا الشتاء البارد والقاسي: صعوبة في تأمين وسائل التدفئة، انقطاع التيار الكهربائي، غلاء فاحش، ثم تأتي الكورونا، ألم يكفي السوريين ما حلّ بهم؟
لم نطل المكوث في البيوت حتى في أوج الحرب. كانت القذائف تسقط، وتقع انفجارات في كراجات الانطلاق، وفي اليوم التالي نتابع حياتنا كأننا نعيش بضربة حظ. ومع ازدياد الموت تزداد العدمية، فنخرج كل يوم كأنه آخر يوم نعيشه. لم يكد أحد يفكر طيلة العشر سنوات بأن يخزن الطعام، وها تأتي الكورونا، فنصاب بالهلع، ونأخذ نكدس الطعام. ما الذي حلَّ بتلك العدمية؟ هل كنَّا نكذب؟
تعلن الدول المجاورة عن أعداد مصابيها بفيروس كورونا، ويتأخر السوريون في الإعلان عن حالات المصابين، ثم يعلنون، فيزداد الهلع. تُغلق المدن على بعضها بعضاً، وتتوقف وسائط النقل الجماعي. تقفل القرية أبوابها عليَّ وأزداد عزلة.
لم يعد الموضوع مزاحاً، ها قد داهمتنا الكورونا.
أغنية فيروز “خليك بالبيت” تصبح شعار المرحلة المكورنة.
تطالعني صورة لاجئ يرفع يافطة مكتوب عليها بالانكليزية ” Stay home… I wish I can” (خليك بالبيت … يا ريت لو فيي). وماذا عن سكان الخيام؟ ماذا عن العمال المياومين؟ كيف سيبقون في منازلهم؟ من سيتكفل بإطعام أولادهم؟ يبدو خيار “خليك بالبيت” خياراً للمترفين الذين يمكنهم أن يتسوقوا عبر الانترنت. ماذا عن بلد أنهكته الحرب ونخره الفساد؟ كيف تقنع الناس بالعزلة إن لم يكن بوسعك أن تؤمن أدنى متطلبات حياتهم.
ها شبح الكورونا يخيم على العالم، وأنت تقبعين في قوقعتك، تمدّين رأسك قليلاً في الصباح ثم تعودين إلى القوقعة خشية العدوى.
“كلٌّ في قوقعته حتى إشعار آخر”، هكذا أقرأ البلاغات الرسمية الصادرة. هل كانت تنقصنا العزلة حقّاً؟ ألم تبعد وسائل التواصل الاجتماعي البشر عن بعضهم بعضاً؟ لطالما جلسنا ساعات طوال مع أحبّة لا نتبادل الكلام. نفتح هواتفنا الذكية ونغرق في محادثات مع أناس بعيدين عنا، حتى إذا انقطع النت دقائق معدودات تذمرنا كأنها نهاية الكون. هل هي نهاية الكون؟ ها إسرافيل نفخ في صوره “ابقوا في منازلكم” كأنها صيحة واحدة جمدتنا. أي قيامة تنظرنا الآن؟
أتابع الصين في معركتها ضد فيروس الكورونا، وكيف استطاعت أن تضبط ملياراً ونصف المليار من البشر وتحاصر فيروساً ذا قدرة هائلة على الانتشار. وأتذكر كيف تركت القيادة الأميركية مواطنيها في نيو أورلينز إبان إعصار كاترينا لمصيرهم، وأرى كيف استهانت بهم اليوم وتركتهم أسابيع بين براثن الفيروس.
بات من الصعب أن نفكر بالخلاص الفردي. سكان هذا الكوكب يتقاسمون المصير نفسه، فهل يغيّر الكورونا من طبائعنا؟ هل يصبح العالم أقل أنانية وجشعاً؟ هل يغيّر الحكّام من طبائعهم؟ أسئلة كثيرة تتلاطم في رأسي، لكنَّ الأمل يحدوني أنْ سوف ننجو.
———————————-
شريط لفيروز في زمن “كورونا”، كان يُمكن تفاديه… ببساطة/ نديم جرجوره
بعد أسابيع على بداية تفشّي فيروس “كورونا” في العالم، وإجراءات الاحتواء والتعبئة العامة والعزل المنزلي في لبنان، كما في بلدان كثيرة أخرى، تُطلّ فيروز في شريط فيديو “تسرد” فيه آياتٍ مختارة من “سفر المزامير”، كصلاةٍ لخلاصٍ بشري مطلوب. ثوانٍ عدّة تكفي للتعبير عن سخطٍ فيسبوكيّ إزاء رداءة شريط الفيديو، الموصوف بـ”فيلم رعب” في أحد التعليقات، التي يُطالب كاتبو بعضها بضرورة إنقاذ فيروز من طغيان ابنتها ريما عليها، إذْ يرى هؤلاء أن ريما سببٌ أساسيّ في إظهار فيروز بمظاهر قبيحة وصادمة، لشدّة بهتان المظاهر تلك، وسطحيتها وتفاهة أشكالها.
***
شريط الفيديو بحدّ ذاته غير مستوف حدّاً أدنى من الشرط الفني البصري الجمالي، المطلوب في أعمالٍ كهذه. ألوان مائلة إلى الأصفر الغامق، توحي باكتئاب غير متناسق مع مواجهة فيروس يفتك بالناس، خصوصاً أنّ أبرز أداة للتخفيف من تفشّيه تتمثّل بالعزل المنزلي، والحرص في التعامل مع الآخرين عند الضرورة، ما يعني عزلة ووحدة وتقوقع، يحتاج الملتزمون بها إلى متنفّسٍ مختلف عن ذاك المُقدَّم في شريط الفيديو هذا. ففيروز تكاد تغيب في الشريط، ويكاد صوتها يُلغي بقايا حضورها في الصورة، لكونه مُثقلاً بحطام النبرة والارتباك وضعف النطق. أما الجُمل المختارة فمروية على لسان مغنّية مُقدَّسة إلى حدّ السذاجة، في عمرٍ يُصبح الاختفاء الكلّي عن المشهد العام (الاعتزال) حاجة ملحّة لحماية تاريخ وذاكرة ونتاجٍ.
شريط الفيديو هذا غير ممتلكٍ جمالية صورة وتسجيل وتصوير. ميل الألوان المختارة إلى الأصفر إيحاء إلى امتلاء الفضاء، المُصوَّر فيه الشريط، بمرضٍ أو عزلة، وإنْ يكن المقصود منه انسجاماً مع الحالة العامّة لتفشّي فيروس “كورونا” (هذا تبريرٌ غير متوافِق ربما مع “هدف” الشريط وصانعته، إنْ يكن للشريط وصانعته “هدفٌ” واضح). صحيحٌ أنّ مدّة الشريط قليلة للغاية، لكنّ كلّ شيء جامدٌ فيه، بشكل عاجز عن إقناع المتلقّي بأنّه إشارة إلى جمود الحياة في مرحلة العزلة المنزلية، أو “الحجر الصحي” كتعبير رسميّ عن الحالة الراهنة. اختيار آياتٍ من “سِفْر المزامير”، وإنْ يهدف إلى إنشاد نوع من صلاة تمزج بعض روائع العهد القديم براهنٍ عالمي موبوء، ضعيفٌ لانعدام نسقٍ دراميّ جمالي تأمّلي فيه، يُفترض به (النسق) أنْ يجمع الآيات في نصّ بصري متين الصُنعة. غير أنّ مُنجزة الشريط، ريما الرحباني، تستعين بالتصوير من دون أدنى تبيانٍ إنْ يكن التصوير سينمائياً أو تلفزيونياً، أو مجرّد شريط فيديو يُصنع “كيفما يكن”.
صوت فيروز بحدّ ذاته مُثير لنفورٍ، يشعر به منعزلون قسراً في منازلهم، في زمن الموت المتجوّل في الأمكنة والفضاءات كلّها. غالب الظنّ أنّ شعوراً كهذا سينتاب كثيرين عند الاستماع إلى صوتها في أزمنةٍ أخرى، مع أنّ أزمة أخرى لن تُنتح شريط فيديو مثله (ربما تُنتج شريط فيديو أسوأ منه). جلوس فيروز إلى أقصى يمين الـ”كادر”، الثابت والجامد والفارغ، في زاوية معتمة، حاملة كتاب الصلوات، مسألة تفقد كلّ هاجس فني، على منجزة الشريط التنبّه إليه، والاستعانة به، وإلاّ فلا شيء يستدعي إنجاز شريطٍ كهذا، يجب أنْ يليق بفيروز.، إنْ يُنجَز.
الآيات المستلّة من “سِفْر المزامير” تحمل، كالسِفْر كلّه (وكـ”نشيد الأناشيد” أيضاً)، جمالياتٍ مصنوعة بقلق إنسانيّ يتوق إلى خلاص ربّاني، أو يروي حكاياتٍ أعمق من أنْ تُختزل بكلمة. لكنّ آيات “سِفْر المزامير” في شريط الفيديو الفيروزيّ الرحباني تفقد جمالياتها لأسبابٍ فنية أولاً، إذْ تنعدم في الشريط كلُّ خصوصية بصرية تنفتح على إمكانيات الصورة المتحرّكة في ابتكار الأجمل والأعمق، ولأسبابٍ شخصية ثانياً، تتعلّق بصوت فيروز وحضورها المعطّل (دائماً) أمام الكاميرا.
***
المفارقة المنبثقة من بثّ شريط الفيديو كامنةٌ في أنّ السخرية، التي يعتادها فيسبوكيون كثيرون في مقارباتهم أحوالاً وانفعالاتٍ وتفاصيل يومية (من دون التغاضي عن أنّ لهؤلاء الكثيرين مواقف سجالية جادّة في قضايا تمسّ عيشهم ومكانتهم في الاجتماع والحياة والبلد)، حاضرة لوقتٍ عابر، فالمرحلة، اللبنانية تحديداً، خاضعة لتحالفٍ خفيّ بين سلطات الأمر الواقع، المتحكّمة بالبلد وناسه بجوانب كثيرة، وفيروس “كورونا”، الذي يُجمَع على أنّه (الفيروس) سببٌ لـ”تعويم” تلك الطبقة الفاسدة والناهبة أموال الناس وحقوقهم، بعد أسابيع مديدة على محاولة تحطيم سطوتها، بفضل ابتكارات “ثورة 17 أكتوبر” (2019).
مع هذا، فإنّ أسوأ المُنبثق من بثّ شريط الفيديو متمثّل بمكتوبٍ عنه، غير آبه بمتغيّراتٍ يُدركها البلد وناسه في العلاقة بمفهوم التقديس، المانع نقداً لشخصيات حاكمة في السياسة والأمن والاقتصاد والدين والفن والثقافة. بعض المكتوب، وهو الأقلّ عدداً بالتأكيد، مستمرٌ في تبجيل فنانة، لها حضور كبير في وجدان كثيرين، ممن يستمعون إليها دائماً، وهذا طبيعي، ففيروز ـ بصوتها الأجمل سابقاً ـ أقدر الفنانات العربيات على بلوغ أعماق أناسٍ منتمين إلى أكثر من جيل، يصعب على أخريات وآخرين بلوغها. لكنّ هذا البلوغ منتهٍ، فهي ـ منذ سنين مديدة ـ منعزلة كلّياً، وإطلالاتها الفنية نادرة، وبالتالي فإنّ الإطلالات الفنية النادرة تلك يندر العثور فيها على جديدٍ وساحر وجاذب، كعادة فيروز والرحابنة، أباً وعمّاً وابناً، في صُنعه. بعضٌ يُبجِّل فنانة تُصدر، في وقتٍ عصيبٍ كهذا، شريط فيديو يستحيل العثور فيه على ما يُغري الاستماع إليه ومشاهدته مرة ثانية. بعضٌ يُمجِّد امرأة كأنّ شيئاً غير حاصلٍ في بلدٍ يشهد، في 15 عاماً على الأقلّ، “ثورتين منقصوتين”، لكنّهما تؤكّدان إمكانية اللبناني على تحدّي الأصنام المقدّسة، وتحطيم صُوَرها في مخيّلة ووعي، وإنْ تُصاب الثورتين بأعطابٍ، بعضها قاتل. معظم الأعطاب تلك نابعٌ من سوء إدارة وانهماك مزري في لعبة السياسة والمصالح، كما في “ثورة الأرز” (2005)، بينما “ثورة 17 أكتوبر” يُعاندها حكم المصارف ووباء “كورونا”.
في مقابل نصّ الشاعر والكاتب اللبناني عقل العويط، في “النهار” اللبنانية (4 أبريل/ نيسان 2020)، المليء بتلك المفردات المُكرّرة منذ سنين طويلة عن فيروز وصورتها وصوتها، بعيداً كلّ البُعد عن أي سجال نقدي، أو حتى عن أي تعبيرٍ جديد عن حبّ قديم لها؛ يُطلّ الإعلامي رامي الأمين في شريط فيديو (الموقع الإلكتروني “درج”، 5 أبريل/ نيسان 2020) يرتكز على مقاربة غير فنية، لتوغّلها في إقامة تشابهٍ (وتحليله) بين ثنائية فيروز ـ ريما الرحباني وميشال عون (رئيس الجمهورية اللبنانية) ـ جبران باسيل (رئيس “التيار الوطني الحر” العوني، وصهر الرئيس)، في السياسة والسلطة والعلاقات والبُعد السيكولوجي والسوسيولوجي، إلخ. مقاربة مرتكزة على تحليل ممزوجٍ بسخرية، وجديرة بالتنبّه والمتابعة والنقاش، أكثر بكثير من مقالةٍ يُمكن أنْ تُكتب اليوم أو أمس أو منذ ألف عامٍ أو بعد ألف عامٍ، من دون أي تأثير أو تغيير أو معنى.
***
شريط الفيديو الفيروزي الرحباني هذا “حدثٌ”، “كان يُمكن تفاديه” بكل بساطة.
مجلة رمان
——————————-
==============================
يوميات وكتابات العزلة أدباء، فنانين، مثقفين -مختارات الموقع- متجدد يوميا
الأدب وفيروس كورونا قصائد ويوميات ومقالات مختارة – الحزء الأول
==============================
تحديث 15 نيسان 2020
——————————-
قصائد من زمن الحجر الصحي
ترجمة: سارة حبيب
القيامة/ إليزابيث ميتشل
إنها القيامة
النرجس البري أخرج رأسه
من التربة وفتح
أذرعه المشرقة على سماوات أكثر زرقة.
لكنّي، مع ذلك، مليئةٌ
بخوف غامض وقلِق
إذ تغلق المسارح أبوابها ويتوقف السفر
وتعرض محلات البقالة رفوفها الفارغة
حيث كانت مناديل الحمّام ومحلول التبييض
وأكياس الطحين تصطفّ بصفوف مستقيمة.
معدتي تتلوى وأصابعي ترتعش
بينما أتحضر لأفعّل ساحة المعركة
المكان الذي لطالما أحببتُه وشعرتُ فيه بالارتياح
بات الآن ميداناً من القطيرات المرشوشة عبر غرفة
أو المترصّدة على مقبض أو مغسلة لكي تجد طريقها
إلى داخل أيدينا أو أفواهنا أو عيوننا الواثقة
تلك التي تلمسك حين تكون مريضاً
تقول لك كلمات مطمئِنة وتبحث عن حلٍّ لألمك.
إنها القيامة
بينما يبدأ الربيع من جديد
وتنتشر الأزهار ذات الألوان الزاهية
في حديقتي الخلفية
الجيران ينزّهون كلابهم
ويمشون عبر الشوارع الهادئة
أمطُّ قفازيّ الأرجوانييّن على يدين ثابتتين
أربط مئزري الأصفر خلف ظهري
وشعري داخل قلنسوة زرقاء
فمي وأنفي وعيناي
ساكنةٌ وهادئة داخل دروعها المترقّبة.
إنها القيامة.
إليزابيث ميتشل: طبيبة في غرفة طوارئ المركز الطبي في بوسطن. تلجأ إلى كتابة الشعر لأنه برأيها “الشعر يجعل الأطباء يصغون بشكل أفضل”. كتبت هذه القصيدة بعد أن لاحظت في إحدى نزهاتها في شهر آذار/مارس كم يتناقض مظهر الربيع في الجوار مع ما يحدث في غرفة الطوارئ بعد انتشار فيروس كورونا.
القيامة:
*****
حظر التجول/ ريتشارد هندريك
نعم ثمة خوف.
نعم ثمة عزلة.
نعم ثمة هلعُ شراء.
نعم ثمة مرض.
نعم ثمة حتى موت.
لكن،
يقولون إنه في ووهان بعد سنين عديدة من الضوضاء
يمكنك الآن سماع صوت الطيور من جديد.
يقولون إنه بعد بضعة أسابيع من الهدوء
لم تعد السماء مثقلة بالدخان
بل زرقاء ورمادية وصافية.
يقولون إنه في شوارع أسيزي
الناس يغنون واحدهم للآخر
عبر الساحات الفارغة،
تاركين نوافذهم مفتوحة
حتى يتسنّى للوحيدين
أن يسمعوا أصوات العائلة حولهم.
يقولون إن فندقاً غرب إيرلندا
يقدم وجبات مجانية وخدمة توصيل للمحتجزين في بيوتهم.
اليوم امرأة شابة أعرفها
منشغلة بتوزيع نشرات تحتوي رقمها
في أرجاء الحي
حتى يكون للمسنين شخص يطلبونه عند الحاجة.
اليوم تتحضّرُ الكنائس، الكُنُس، الجوامع، والمعابد
لاستقبال المشردين، المرضى، والمتعبين، وإيوائهم.
الناس حول العالم يتمهّلون ويتأمّلون.
الناس حول العالم ينظرون إلى جيرانهم بطريقة جديدة
الناس حول العالم يستيقظون على واقع جديد
على حقيقة حجمنا الفعلي.
على كوننا لا نملك من السيطرة إلا قليلاً.
على الشيء المهم فعلاً.
على الحب.
لهذا نصلّي ونتذكر أنه
نعم ثمة خوف.
لكن لا يجب أن يكون هنالك كراهية.
نعم ثمة عزلة.
لكن لا يجب أن يكون هنالك وحشة.
نعم ثمة هلع شراء.
لكن لا يجب أن يكون هنالك دناءة.
نعم ثمة مرض.
لكن لا يجب أن يكون هنالك مرض في الروح.
نعم ثمة حتى موت.
لكن يمكن أن يكون هنالك دوماً ولادة جديدة للحب.
تيقّظْ لخياراتك حول كيفية العيش الآن.
اليوم، تنفّسْ.
استمع، بعيداً عن الضجيج العالي لخوفك
الطيور تغني من جديد،
السماء تغدو صافية،
الربيع آتٍ،
ونحن دوماً محاطون بالحب.
افتح نوافذ روحك
ورغم أنك قد تكون غير قادر
على اللمس عبر الساحة الفارغة،
غنِّ.
ريتشارد هندريك: الأخ ريتشارد، كاهن يعيش اليوم في إيرلندا. كتب قصيدته هذه في 13 آذار/مارس 2020 لأنه اعتقد أن أفضل طريقة لنشر رسالة أمل وتعاضد عبر العالم بعد انتشار فيروس كورونا تكون عبر الشعر. تركت كلماته بالفعل أبلغ الأثر في المؤمنين وغير المؤمنين على السواء.
حظر التجول:
*****
في زمن التباعد/ ألكسندر مكول سميث
يحدث غير المتوقع دائماً بالطريقة
التي لطالما حدث بها:
بينما نقوم بفعل شيء آخر،
بينما نفكّر بأشياء مختلفة تماماً –
أمور تُظهر الأحداث لاحقاً
أنها غير مهمة بتاتاً
كما هي شواغلنا الإنسانية على الدوام؛
الآن، وقد حلّ بنا غير المتوقع،
ينظر واحدنا إلى الآخر باندهاش؛
كيف استحالت الأمور هكذا
في الوقت الذي كنّا فيه بارعين للغاية، راضين للغاية
بالنظم المتطورة التي اخترعناها –
الشبكات والأقمار الصناعية، الأجهزة الذكية،
العقاقير لكل احتمال – ما عدا هذا الاحتمال؟
وهكذا نعود ليواجه واحدنا الآخر
ونكتشف هذه الأشياء
التي شارفنا على نسيانها،
لكنها، من حسن حظنا، لا تزال موجودة:
الحب والصداقة، ليس فقط تجاه أولئك
القريبين منّا، بل كذلك تجاه هؤلاء
الذين لا نعرفهم والذين كنّا ربما
في الماضي خائفين منهم؛
كلمات مثل الأخ والأخت،
تلك التي لا تزال محتفظة بفعاليّتها،
أُخرجَت الآن للضوء، نُفِض الغبار عنها،
واكتشِفَ أنها لا تزال قادرة على التعبير
عمّا نشعر به تجاه الآخرين، ذلك الحرص المضبوط؛
الآن ونحن متحّدون معاً في المحنة
نكتشف أشياء كنّا استبعدناها:
ألعاب لوحية قديمة ذات قوانين مبهمة،
كتباً كنا ننوي قراءتها،
رسائل كنا ننوي كتابتها،
أشياء اعتقدنا أننا قد نقولها
لكننا لم نجد قط الوقت لفعل ذلك؛
ومن هذه الاكتشافات للذات، للوقت،
يأتي إدراك جديد
أننا كنّا على عجلة كبيرة من أمرنا،
أننا أسأنا استخدام عالمنا الهش،
أننا نسينا حقوق الآخرين
أولئك المتروكين؛
نكتشف ذلك في عزلتنا،
في صمتنا؛ نلتزم من جديد،
نبحث عن بضع أغنيات
اعتدنا أن نغنيها سوية،
منذ زمن بعيد؛ نمنح ما نستطيع أن نمنحه،
ننتظر، عارفين أنه عندما ينتهي كل هذا
الكثير منّا – ربما ليس الجميع – لكن معظمنا،
سنكون أناساً مختلفين قليلاً،
وأن عالمنا، رغم انكماشه،
سيكون أكبر بكثير، إذ يتكشّفُ جماله من جديد.
ألكسندر مكول سميث: كاتب بريطاني. انتقل من التدريس الجامعي إلى التأليف، ليكون له أكثر من مئة كتاب في المجالات الأكاديمية والأدبية. لكنه عُرف على وجه الخصوص حين نشرت له سلسلة: وكالة التحريات النسائية الأولى، دموع الزرافة، أخلاقيات للفتيات الجميلات. كتب هذه القصيدة في 19 آذار/مارس 2020، بعد تلقيه العديد من الرسائل من قرائه المعزولين بسبب فايروس كورونا.
في زمن التباعد:
ضفة ثالثة
——————————————–
حتى التوابيت/ سيموني سيبيليو
ليس من وجهة لها، التوابيتُ،
على الطرق الترابية، مذهولة ومضطربة، ينقلونها
عبر الحقول والغابات،
فقد باتوا أقلَّ تسامحاً الآن، الحطّابون والفلّاحون،
حتى أنها تسلك سهولاً من الرمل والحصى،
منسيّة، تهوي في طيّ النواقيس الصمّاء
انْتُزِعَتْ من الجسد الذي يحتضنها
ومن دموع الأحبّة.
حتى التكريم لكل مغيب يصانُ،
لن ينالوا،
فينحسر عند ذلك القلق من صمت الإنسان،
وتخبو النداءات اليائسة لمن كانوا أهلهم.
لقد ضاعت، وغُيّبت عن إحساس المأوى التوابيتُ،
وعوداً أبدية تَهِبُ،
فاربطوا وحلّوا بأيّ ثمن كان.
التوابيتُ لن تجد مأوى.
* شاعر إيطالي
** ترجمة عن الإيطالية يوسف وقاص
العربي الجديد
—————————————
مشقة الحجر الصحي في الجزائر/ سعيد خطيبي
1
الكتابة نشاط، لكنها أيضاً خمول. وفي هذه الفترة التي تتوالى فيها أيام الحجر الصحي، مع تباعد الناس عن بعضهم بعضاً، وتمسكهم بالعزلة، يصير الخمول طقساً، والكتابة نتاجاً له.
الخمول يحيلنا إلى الحلم، يمدنا بسبب أن نقلص من التشبث بالواقع وننزاح للحياة الافتراضية. في الخمول لا نلقي بالاً للوقت، تتشابه الساعات ومعها الأيام، نطمئن لضياع الصباحات، ونمني أنفسنا بأننا سوف نستردها بعد حين، عندما نستفيق من كسلنا، ويعود عيشنا إلى رتابته القديمة.
كل كاتب يجنح إلى الخمول كلما شعر برغبة في الكتابة، أو كلما فرغ منها، هي المزاج الذي يقلل من سطوة الراهن في رأسه، ويرفع حائطاً بينه وبين ضغط الحياة اليومية. قد تحد الكتابة من حرية الكاتب، من حركته، وتعزله في مكان معلوم، ويأتي الخمول كي يحرره من ضغطها ومن قساوتها أحياناً.
2
نشرت صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية مقالاً، سرعان ما تُرجم إلى اللغات الأخرى بما فيها العربية، وتداولته مواقع كثيرة، وكذا حسابات على السوشيال ميديا. يقول صاحب المقال إن الناس يعجزون عن المطالعة أيام الحجر الصحي، وكلما فكروا في قراءة رواية شعروا بتناقض حياتنا السابقة مع الحياة تحت رحمة فيروس كورونا. استغربت أن يصدر المقال في صحيفة محسوبة على اليسار. كيف كان غرامشي يقرأ في سجنه؟ بل يكتب أيضاً. كيف كان أنطوان دو سانت إيكزوبيري يقرأ ويكتب ويقوم بعمله كطيار إبان الحرب العالمية الثانية؟ المقال الذي نشرته الصحيفة الإيطالية ولاقى إعجاباً عربياً يصلح للكسالى، لمن لا يقرؤون في وقت السلم، فما بالك أن يقرؤوا في زمن الأزمات. يخبرنا المقال نفسه أن مشاهدة الأفلام أيضاً قلّت، فكيف يفسرون زيادة التهافت على منصة نتفليكس؟
3
منذ بدء الحجر الصحي، وارتقاء الخوف في نفوس الناس، نشطت سوق موازية: سوق الشعوذة. وجدت فضائيات جزائرية مادة كي تشغل المشاهدين، وتنسيهم الهم الذي يحيون فيه. ظهر من يدعي أنه يملك عصا موسى، وآخر ينسب إلى نفسه ابتكارات صيدلانية، وهناك من سابق الجميع، وكان الأذكى بين المشعوذين من صرح بأنه صنع دواءً للوباء، بدون أن يجد وقتاً كي يطلق عليه اسماً، وبدون أن يعلمنا بما تحتويه خلطته، وابتدع بشطارة حججاً في عدم مقدرته على تجريبه. في الوقت عينه تطالعنا وزارة الصحة كل يوم بأرقام الإصابات والوفيات الجديدة.
المشعوذون الذين أفرزهم زمن الوباء، يختلفون عن آبائهم، يلبسون ربطات عنق ويتكلمون بفصاحة، وقد يتقنون لغة أجنبية واحدة أو أكثر، ولا يتعرقون حين تصوب إليهم الكاميرات. كلما مرّت الجزائر بأزمة، نبت من الخلاء مشعوذون، لكن هذه المرة الأولى صار المشعوذون أكثر شهرة من الأطباء ومـــن رجال الدين، والفضل في ذلك يعود إلى نشاط الفضائيات الجزائرية، التي أبانت عن لياقة حسنة في استدراج كل الباحثين عن الشهرة إلى استديوهاتها.
4
عكس ما ذهبت إليه صحيفة «لاريبوبليكا»، تشير أرقام من دول أوروبية عاث فيها كورونا فساداً، تزايد الطلب على الكتاب الإلكتروني، فعلى الرغم من الغلق الاضطراري للمكتبات، يستعين الناس بمنصات رقمية، ويواصلون شغفهم في القراءة. تساءلت: لماذا لا توجد سوق كتاب إلكتروني في الجزائر؟ كل العوامل اجتمعت كي لا يصل الجزائري إلى الكتاب: نظام بنكي مهترئ، يتعامل مع النقد والبقشيش، لا مع بطاقات بنكية، وسرعة الإنترنت في المراتب الدنيا مقارنة بدول الجوار. ولا سبيل للقارئ سوى الاتكال على مواقع القرصنة، وقد صار الجزائريون من زبائنها الأوفياء، بل منهم من لا يكتفي بالتحميل، بل يُطالب بحقه في قرصنة كتب بعينها. يشعر بأن القرصنة حقاً وليس تطاولاً على حقوق التأليف. في هذا الزمن الذي صار فيه اللمس مرادفاً مبطناً لانتقال العدوى سيندم النظام السياسي على تأخره في التعامل مع التقنيات الجديدة، سيندم أنه اكتفى بالبقشيش ولم يطور خدمته البنكية.
5
أغلقت المدارس والجامعات، وانقطع الأطفال والطلبة عن الدراسة، وقررت الحكومة تفادي سنة بيضاء بإطلاق دروس على الإنترنت، قصد إتمام الموسم، قبل أن تقع في الفخ الذي نصبته لنفسها، فالإنترنت ليست في أحسن أحوالها، وأحياناً ليست متاحة للجميع، والكثير من الطلبة ومن عائلات الأطفال لا يتوافرون على أجهزة (امتلاك «تابلت» يعد ترفاً) ما حتم عليها تخصيص ساعات بث على قنوات تلفزيونية. كان بالإمكان أن تلعب الإنترنت دوراً في تعزيز الديمقراطية في الجزائر، أن تحرر المواطن من الصوت الواحد ومن الصورة الواحدة ومن المذاق الواحد، لكن الحكومات المتعاقبة أرادت العكس، جعلت منها أداة في الهيمنة على الآراء وفي بسط ما ترغب فيه، لا ما يحتاج إليه المواطن. ونستشعر اليوم كم ضيعنا من سنوات، وكيف أننا تأخرنا في تعميم الديمقراطية أمام امتحان كورونا العسير. في الوقت عينه وبدل أن يطلق التلفزيون الرسمي قناة تربوية تنوب عن المدارس، فضّل أن يطلق قناة تسلية، ولحد الساعة لا يعلم الطلبة أي منقلب ينقلبون.
6
الخوف يوحد الجزائريين هذه الأيام. الريبة والشك أيضاً. مقاطع فيديو مجتزأة عن خوف الناس تتكرر على مواقع التواصل الاجتماعي، صور أناس يتهافتون على كيس سميد، أو يصطفون أمام محطة بنزين. في الحقيقة الناس ليسوا خائفين من اللحظة التي يعيشونها، بل يخافون من مستقبل لا أحد يستطيع أن يستشرف شيئاً منه، عدا مشعوذي الفضائيات، الذين زاد ضجيجهم ومن يتابعونهم لا يثقون فيهم. لقد أسرفت تلك الفضائيات في سقي الأوهام، وبما أن الأوهام لم تتحقق فقد تحولت إلى مخاوف. كلما شعر إنسان بخوف شعر بأن الزمن يتجاوزه، فيزيد إصراره على التمسك باللحظة التي يعيشها، وينجرف إلى التهويل، وإلى المسارعة إلى طوابير السميد والبنزين.
7
فرضت الحكومة حظراً شاملاً على البليدة (التي لا تبعد عن الجزائر العاصمة سوى ساعة بالسيارة). وحاصر الوباء المدينة. دائماً ما كانت البليدة في الواجهة، تحملت الآلام نيابة عن الآخرين. وقفت في الصف الأول سنوات حرب التحرير، وكانت بؤرة معارضة بعد الانقلاب العسكري 1965، قاومت لوحدها سنوات العشرية الحمراء، ونجاتها كانت تعني نجاة الجزائريين بأكملهم. كما فُرض حظر جزئي على المدن الآخر، وشعر الناس بأننا نحيا في جو من الحرب. الانتظار كمن ينتظر غودو عزز شعورهم بذلك. لكنها حرب ضد عدو غير مرئي. لا نعرف كيف نُدافع فيها عن ذواتنا ولا نعرف كي تتساقط علينا الضربات. إنها حرب يومية حتى إن تغافلنا عن تسميتها كذلك، يُرافقها خمول الكتاب، وبرامج تستضيف مشعوذين، وأطفال تاهوا مثلما تاه الطلبة، يبحثون عن سبيل لاستكمال موسمهم في بلد لا يؤمن بالميديا الجديدة، ويخاف من الإنترنت.
٭ كاتب من الجزائر
القدس العربي
———————————-
يوميات الوباء: الفيروس والاعتقال والكتابة/ إبراهيم سعدي
اعتدتُ، بحكم وظيفتي كأستاذ جامعي وبصفتي كاتباً، على قضاء معظم وقتي في البيت. ولذلك لم يشكّل الحجر الصحي في المنزل، بسبب فيروس كورونا، مشكلةً حقيقية بالنسبة إليّ. غير أن ذلك لا يعني أنَّ كلَّ شيء ظلّ كما كان. لقد تغيّر فجأةً معنى الفضاء الخارجي وأصبح مقترناً بخطر يُمكن أن يكون مُميتاً.
حتى الشارع الذي اعتدتُ الإطلال عليه من نافذتي من وقت إلى آخر بات مختلفاً، يُخيّم عليه صمت غير معتاد، قليل الحركة بشكل لافت، يَظهر فيه بين الحين والآخر شبح أو اثنان لا يلبثان أن يختفيا… شارع يشبه بفراغه وسكونه – وبالداء الخفيّ والصامت المحدِق به – جلَّ شوارع المعمورة التي باتت تنقلها الشاشات الصغيرة عبر العالم هذه الأيام. مشاهد تُذكّر بالمدن الأميركية الميتة التي تحدّث عنها الروائي الجزائري محمد ديب في “سيمورغ”، مؤلّفه ما قبل الأخير.
الزمن بدوره لم يعُد هو نفسه، أعني بالخصوص الساعة الخامسة منه. صار اقترابُ حلولها يثير الجزع في النفس. حين تحلّ، يجتمع في صمت وقلق كلّ أفراد العائلة أمام الشاشة الصغيرة. إنها ساعة الإعلان اليومي عن عدد الإصابات والوفيات بجائحة كوفيد 19. الداء في تفاقم مستمر. الجزائر هي الأكبر عربياً وأفريقياً في عدد الوفيات. الوضع يذكّر بالعشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي.
في تلك الأيام أيضاً كان الفضاء الخارجي غير آمن، لا يدري المرء، إذا ما غادر بيته، سيعود إليه سالماً. الفرق أن المتوفّين هذه الأيام تحوّلوا إلى أرقام، بينما في التسعينيات كانت جثثهم وصورهم تُرى رؤية العين وأسماؤهم يُعلن عنها، والصحف تقدّم كل التفاصيل المروّعة عن مقتلهم.
صحيح أن صور وأسماء ضحايا الموت الذي جاء ينشره كوفيد 19 في العالم تظهر أحياناً في منصّات التواصل الاجتماعي، لكن نراهم لحظتها وهُم في صحّة وعافية. مع ذلك، يتّخذ الموت بهذا الشكل طابع المفارقة والمأساة، وحتى التراجيديا في بعض الحالات: حين يتعلّق الأمر مثلاً بأطبّاء أو ممرّضين لقوا قدرهم وهم يقاومون الداء الذي أصاب مرضاهم. لقد جعل الوضع الكارثي لمستشفياتنا مهنةَ الطبّ أخطر مهنة اليوم عندنا.
ولأن القنوات التلفزيونية صارت تُقدّم – خصوصاً منذ بداية حراك 22 فبراير/شباط – عالماً غير موجود، فقد صرتُ أُكثِر التردُّد هذه الأيام على وسائط التواصل الاجتماعي للبقاء على صلة بما يجري في أرض الواقع. وفي هذا السياق، يلفت الانتباه في ما يكتبه بعض المنتمين إلى عالم الثقافة تركيزهم على موضوع عالَم ما بعد جائحة كورونا، لا سيما الغربي منه. الحديث يدور عن “التفكّك الحتمي” للاتحاد الأوروبي وعن “موت الحضارة الغربية” وبداية هيمنة الشرق – يقصدون الصين – على العالم، وعن “سقوط منظومة القيم النيوليبرالية”، وعن “عودة ماركس”، وهلم جرّاً.
شيءٌ جيّد كلُّ هذا في الواقع. نحن لا نعيش بمعزل عمّا يجري في العالم، لكن حين نسكت في آن واحد عن التحدّيات الوجودية العاجلة والآجلة الخاصّة بنا، لا سيما عن المشكلة السياسية، أُمّ المشاكل عندنا، وفي بقية بلدان المنطقة، نكون في هذه الحالة أمام ضرب آخر من الهروب من الواقع.
من حسن الحظّ أنّك تجد، أيضاً، صُوَراً أُخرى تسعى إلى تغيير هذا الواقع. نماذج خلّاقة ومبدعة في التضامن والتحدّي في هذا الوقت العصيب، إن لم أقل الوجودي؛ لحظات تُذكّر أكثر من غيرها بعبارة شكسبير الخالدة “أن توجَد أو لا توجد فتلك هي المسألة”… صور آتية من المجتمع تبعث على الأمل وعلى الحسرة في آن، تدفع إلى التفكير في المعجزات التي كانت ستتحقّق لو أنَّ النظام القائم استثمر في الجوانب الخيّرة لإنسان هذا البلد، لا في نقائصه.
الواقع أنه عندما تكون من الجزائر، فإنه يصعب عليك أن تفكّر في خطر جائحة كورونا فقط. وأنت تتابع أخباره المقلقة الوافدة من العالم وقد تمّ فيه توقيف عجلة الاقتصاد وتعطيل مختلف الأنشطة وغلق الحدود بين الأمم من أجل الحفاظ على وجود الإنسان الذي بات مهدَّداً، تأتيك هذه الأخبار عندنا مرفقة أيضاً بأنباء يومية عن اعتقالات ومحاكمات تمسّ أصحاب الرأي، أحيانا بتهم غريبة، من قبيل “التشكيك في قدرات الدولة”. يصعب على المرء في مثل هذا الجو الموبوء ألّا يفكر بأنه إذا نجا من الجائحة، فقد لا ينجو من خطر “التشكيك في قدرات الدولة”، أو من شيء عبثي آخر على شاكلته.
فقط مع القراءة يشعر المرء بنفسه بعيداً عن هذا العالم، في أجواء أخرى غير أجواء الاعتقالات البائسة وأرقام الوفيات والإصابات الآتية من مختلف بقاع العالم، في هذه الحرب الكونية الثالثة؛ ضد فيروس هذه المرّة، لا بين البشر. آخر عمل قرأته في زمن الكورونا هذا، للمرّة الثانية في الحقيقة، رواية “الديوان الإسبرطي” للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي. عمل يتحدّث عن احتلال فرنسا، الجزائر، وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. رواية جميلة وثرية لا أستبعد أن يكون صاحبها أوّلَ جزائري يحصل على هذه الجائزة. وأقرأ الآن أيضاً رواية “حطّاب سراييفو” لسعيد خطيبي التي بلغت بدورها القائمة القصيرة للجائزة نفسها.
الإحساس نفسه بالابتعاد عن عالم وباء كوفيد 19 يعتريني عندما أعود إلى الرواية التي أعكف حالياً على كتابتها، رغم أنّ الرواية – أية رواية – هي دائما تعبير عن الوجود الإشكالي للإنسان. أحرص كذلك على ألا أتأثّر بالأجواء التي جاء بها الفيروس. تجربة ما سُمّي “الأدبَ الاستعجالي” المتولّد عن العشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي لا أعتقد – بالمناسبة – أنها ستتكرّر مع هذا الوباء.
كيف سيكون ما بعد كورونا في الجزائر؟ سيكون شبيهاً بما قبل دخوله يوم فُتحت له الموانئ والمطارات. أعني أنَّ حراك 22 فبراير سيعود يومها للمطالبة بإقامة الدولة المدنية.
كلّنا في انتظار ذلك اليوم.
العربي الجديد
——————————-
الكتاب كسلاح ودواء وصديق في زمن كورونا/ بوعلام رمضاني
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي نعى مؤخرا الكاتب الصحافي الكبير جان دانيال بخطاب ينم عن روح قارئ نهم، كما مرّ معنا في مقال سابق هنا، لم يتوجه للشعب الفرنسي يوم السادس عشر من شهر مارس/آذار بخطاب سياسي خالص للتحذير من خطورة تداعيات وباء كورونا فحسب، بل دعا شعبه إلى القراءة، في سياق الإعلان عن إجراءات الحجر الصحي المستمرة حتى ساعة كتابة هذا المقال. وقبل معظم الفرنسيين بكافة فئاتهم الإجتماعية وأطيافهم الأيديولوجية دعوة الرئيس، بمن فيهم الذين يتمنون أن ينهزم سياسيا في الاستحقاق الرئاسي القادم، والتقطوا نداءه كأمر في زمن حرب ترعب الناس بشكل غير مسبوق.
هنا إطلالة على خيرة ما قيل ويقال عن الكتاب، كحاجة ضرورية للإنسان السوي والمتوازن في كل الحالات، وخاصة في حال تحول العزلة إلى أمر واقع يهزم الجميع سواء كانوا حكاما جبابرة أو ديمقراطيين، محكومين ميسورين ومخمليين أو كادحين مسحوقين، كما يبين كورونا في هذه الأيام العصيبة الشبيهة بالآخرة التي لا ينفع فيها مال ولا بنون.
برنار بيفو سيد الكتاب
شخصيا لم أفاجأ بالسبق الذي حققه أحد أهم عشاق الكتاب في فرنسا وفي العالم، وكنت أنتظر ردة فعل العضو في الأكاديمية الفرنسية، والصحافي الشهير الذي كان يقرأ ويكتب ليل نهار مدة عشرين عاما لإعداد برنامجه الشهير “أبوستروف”. إنه برنار بيفو الذي حاور كبار الكتاب فرنسيا وعالميا، كان أول من سعد بدعوة الرئيس الفرنسي في عز استفحال وباء كورونا، وراح يغرد كاتبا: “آه، كم كنا نتمنى أن نسمع بأن الحجر الصحي المفروض بسبب كورونا، قد دفع المواطنين إلى غزو المكتبات لضمان مؤونة روحية لمدة طويلة”.
بيفو، الذي يعيش في مجتمع يستقبل الملايين من القراء سنويا بمناسبة صالون باريس للكتاب، كتب بصيغة توحي بأن أبناء وطنه قد تراجعوا في مطاردة الكتب، كما يطاردها هو المفتون والمجنون بالكتاب على مدار الساعات والأيام والأعوام والفصول. الرجل الفذ الذي حبب الناس في القراءة لعقود، يعود اليوم بقوة إلى واجهة الحدث الذي جعل منه نموذجا يحتذى به في ظرف أصبح فيه الكتاب منقذا لبشرية متأزمة روحيا ونفسيا، ومسجونة بدنيا بين جدران لا تطاق مهما ارتقت جمالية وأريحية وفخامة القصور أو الشقق التي تشيدها.
فتح بيفو بتغريدته المذكورة شهية كتاب آخرين، وتبعه الروائي دافيد فوينكوس، الذي ثمن دعوة رئيس الجمهورية الفرنسيين إلى القراءة مغردا: “في قلب خطاب رئيس الجمهورية، كانت هناك قوة خاصة لخصها قوله: عليكم بالقراءة”. من جهته، صرح الروائي دانيال بيناك لقناة “فرانس أنتير” أن القراءة تنجي المسجونين والمعتقلين من الانهيار النفسي ضاربا المثل بالصحافي جان بول كوفمان، الذي أنقذ عقله على حد تعبيره بإعادة قراءة الجزء الثاني من “الحرب والسلام” للكاتب الروسي الشهير تولستوي، والقراءة نفسها أنقذت الكاتب الروسي الكبير الآخر سولجنتسين، صاحب رائعة “أرخبيل غولاغ”، من فقدان صوابه. وإذا كان الحجر الصحي في البيوت، كاعتقال جزئي ومؤقت وإجباري في الوقت نفسه، لا يقارن مبدئيا بالسجن من منطلق الحرية الكبيرة التي يتمتع بها الإنسان، فإنه يؤثر نفسيا تحت وطأة الغلق المستمر والانقطاع عن العالم الخارجي: “والأدب وحده كفيل بإخراج القارىء المحجور إلى عوالم أخرى تشعره بالسعة والانفتاح، وبالتالي تمكنه من تجاوز العزلة والانغلاق، ويضمن التواصل الإنساني عبر القراءة” كما سيتبين ذلك من خلال شخصيات تاريخية وإبداعية أخرى.
بروست: القراءة صداقة حقيقية
قبل عقود عدة، أكد كبار الإبداع أهمية القراءة، باعتبارها حاجة إنسانية أزلية وأبدية، والرئيس الفرنسي ماكرون، والكتاب الذين يدعون اليوم إلى اللجوء للقراءة في زمن الحجر الصحي، يكررون مقولات من سبقهم إلى تذوق نكهتها الخارقة والاستثنائية، وقدرتها على قتل فيروس العزلة،
“مئات وآلاف الروايات العالمية وغير العالمية تنطق حتى هذه الساعة بشخصيات بديعة ومبهرة وآسرة، ووحده الذي يريد القنوط والعزلة والإرهاق النفسي، يرفض صداقات رجال ونساء دخلوا التاريخ بتجسيدهم التواصل الإنساني المنافي لكل أنواع التباعد الاجتماعي”
وعلى كسر الحصار النفسي والعصبي على الإنسان المسجون أو المحجور. فصاحب “الأمير” مكيافيلي سبق هؤلاء الذين ذكرناهم، وأشاد بالقراءة، بقوله إنها “رياضة للعقل، كما هو التمرين العضلي للجسم، ومحفزة للمخ ومعادية للكسل”. وبروست العظيم صاحب رائعة “البحث عن الزمن المفقود”، قال: “القراءة صداقة حقيقية”. وأما يوجين يونسكو فقال: “كتاب جيد هو صديق جيد”. مئات وآلاف الروايات العالمية وغير العالمية، تنطق حتى هذه الساعة بشخصيات بديعة ومبهرة وآسرة، ووحده الذي يريد القنوط والعزلة والإرهاق النفسي، يرفض صداقات رجال ونساء دخلوا التاريخ بتجسيدهم التواصل الإنساني المنافي لكل أنواع التباعد الاجتماعي. والطبيب “ريو” بطل رواية “الطاعون” لألبير كامو الروائي الكبير الآخر دليل على صحة ما نقول، ورواجها هذه الأيام عالميا عبرة لمن يعتبر.
وسيلة علاجية ضد الإرهاق
في هذه الأيام التي أكد فيها خبراء الأمراض النفسية والعقلية خطورة انعكاسات العزل الاجتماعي على صحة الإنسان بسبب إجراءات الحجر الصحي، يضحي الكتاب بشكله الورقي التقليدي أو الحديث الرقمي، الوسيلة الأنجع والأقوى والأدوم لمحاربة الإرهاق النفسي الذي يطال كل الناس مهما بذلوا من مجهودات وقاموا بأشغال ونشاطات مختلفة تساعد كثيرا على تمضية الوقت.
“موقع بلدية باريس الرقمي سوف لن يمكن من قراءة الكتب بمعدل 6 شهريا فحسب، بل سيسمح كذلك بتعلم السياقة وبتلقي دروس الدعم المدرسي، فضلاً عن الاستمتاع بمعارض البيت الأوروبي للتصوير والاستفادة من أرشيف مجمع الصور وحفلات أوركسترا باريس”
وحسب موقع ” أكتوليتي” (الأحداث الأدبية)، فإن الكتاب يكتسي أهمية علاجية خاصة في الظروف العصيبة غير المسبوقة مثل ظرف وباء كورونا الذي يثير الهلع، ويفسد ويعكر المزاج، ويتسبب في التشتت الذهني وفي الأرق. واستند الموقع الشهير، في تأكيد ما راح إليه، إلى دراسة قام بها عام 2013 المحللان النفسيان دافيد كومير كيد وإيمانويال كاستانو في المعهد الجديد للبحث الاجتماعي، وخلص الاثنان إلى أن قراءة كل أنواع الكتابات الخيالية، تمكن القراء من معايشة حالات اجتماعية ونفسية غير مسبوقة، من خلال الدخول في سياقات عوالم معقدة، ومجهولة تسمح بمعانقة حقائق وجودية جديدة. الموقع الفرنسي المذكور نفسه عمق قناعته بأثر الرواية الإيجابي على القراء استنادا لدراسة أميركية أخرى أقدم من الأولى. وكشفت الدراسة، التي نشرتها جامعة بوفالو في الولايات المتحدة عام 2011، أن قراءة الكتب تسمح بالانغماس والغطس في عوالم خيالية تؤسس لعلاقات اجتماعية جديدة تتجاوز ما كان يربط القارىء اجتماعيا ونفسيا وواقعيا في كنف هدوء يريح الخاطر ولو لفترات عابرة. في المحصلة، يمكن القول إن القراءة تعوض التباعد الاجتماعي الذي تفرضه حياة العزلة المفروضة على الجميع لاتقاء شر فيروس وباء كورونا ولعدم نقله لآخرين، وعالم القراءة وحده يمكن المحجور الصحي من ربط علاقات اجتماعية وعاطفية مع كتاب وشخصيات يتحولون إلى رفقاء وإلى أصدقاء جدد يساهمون في الحد من الكبت الناتج عن ظرف قاهر يحول دون لقاء الأهل والأقارب والأحباب بلحمهم وجلدهم ودمهم.
20 ألف كتاب للقراءة مجاناً
في اللحظة التي كنت أنهي فيها هذا المقال عملت آن إيدالغو، العمدة الاشتراكية لبلدية باريس، بمقولات بروست ومكيافيلي وبنتائج الباحثين الأميركيين، وأسعدت برنار بيفو (84 عاما) العضو في لجنة جائزة غونكور، وذلك بوضعها 20 ألف رواية رقمية في موقع البلدية بهدف تمكين الباريسيين من قراءتها مجاناً حتى غاية نهاية شهر حزيران/يونيو. وأعلنت البلدية، التي ترأسها الراحل جاك شيراك قبل أن يصبح رئيس جمهورية، عن تبنيها حرب فرنسا ضد كورونا بسلاح الكتاب، عبر بيان كتبه كريستوف جيرار، النائب المكلف بالثقافة.
وكتب المسؤول: “ستسمح الكتب التي تشكل نسبة معينة من المكتبات التابعة للبلدية لسكان باريس بالقراءة مجاناً في هذا الظرف العصيب الذي نحتاج فيه إلى الثقافة باعتبارها قوام صحة ذهنية سليمة”. وحسب قناة “بي أف تي في”، فإن سكان باريس “سيتمكنون في أثناء عطلة الربيع من السفر عبر عوالم آلاف الكتب الروائية والأخرى الخاصة بالأشرطة المرسومة”. وموقع بلدية باريس الرقمي، سوف لن يمكن من قراءة الكتب بمعدل 6 شهريا فحسب، بل سيسمح كذلك بتعلم السياقة وبتلقي دروس الدعم المدرسي، فضلاً عن الاستمتاع بمعارض البيت الأوروبي للتصوير والاستفادة من أرشيف مجمع الصور وحفلات أوركسترا باريس.
ضفة ثالثة
———————————–
كورونا ديترويت… أجساد تهوي كطائرات محترقة/ فادي سعد
اتصلَتْ بي مديرة قسم الأمراض الصدرية والعناية المشددة في المستشفى الذي أعمل فيه: “علينا الاستعداد لهجمة الوباء”. لا أعرف إذا كانت كلمة “هجمة” هي الترجمة الأدق. يمكن أيضاً ترجمة ما قالته المديرة بالانكليزية إلى “اندفاعة”، “قمّة”، “موجة”. المهم هنا أن الوباء الذي كان بعيداً، آتٍ وبقوة، وعلينا أن نستعد. كيف يستعد الإنسان لوباء؟ نستعد للسفر بالحقائب، للهجرة بالبكاء، للامتحانات بالدراسة… لكن ماذا علينا أن نفعل هنا؟ نلبس بذلة أنيقة وحذاءً لامعاً ونمسك علبة تعقيم اليدين وننتظر؟ كيف يمكن للمرء أن يستعد لحالة غامضة مجهولة مخيفة لم تمرّ ولن تمرّ في حياته القصيرة سوى مرّة واحدة؟
أكملتْ المديرة: “الأسبوع المقبل ستتضاعف إصابات الكورونا بشكل كبير في ديترويت. نحاول استنفار كل إمكاناتنا الطبية. حوّلنا أقساماً عديدة من المشفى إلى أسرَّة للعناية المشدّدة فقط. استقدمْنا كوادر طبية جديدة. جلبنا آلات تنفّس إضافية. طلبيات عديدة من كمّامات
N-95 في الطريق. ننسّق مع بقية المستشفيات، وسيتم تبادل المعلومات. لدينا اجتماع غداً صباحاً لجميع الأطباء العاملين في العناية المشددة لمراجعة آخر التجهيزات والبروتوكولات وساعات العمل، هل تستطيع المجيء؟”.
“بالطبع، نلتقي غداً”.
أغلقتُ السماعة. جاءت اللحظة التي كنا نترقّبها. المستشفيات كلها تستعد. مدينة ديترويت، ولاية ميشيغان، الأمة الأميركية كلها تستعد. سأكون مستعداً. لم أكن أعلم أنه مهما حاول المرء، من الصعب جداً أن يكون مستعداً للأشياء الغامضة والمجهولة والقاتلة التي لا تأتي سوى مرّة واحدة في حياته.
***
لستُ معتاداً على مشهدٍ كهذا. الشوارع التي تمتلئ عادة بالحركة والأصوات والسيارات، شبه فارغة. مقفرة وبائسة كمدينة خراب خائفة من أن تتنفّس حتى لا تتلوّث رئتاها. كيف وصلْنا إلى هنا؟ مدينة من دون صخب ليست مدينة. مدينة مُطفَأة. عالم بأكمله يذوي من الخوف.
كأنني أقود سيارتي إلى العمل وحيداً. فراغ أمامي وفراغ خلفي. مقهى ستاربكس الذي أتوقف عنده، كل صباح، مغلق. كل شيء مغلق. الحياة مغلقة. حاكمة الولاية أمرتْ الجميع بإغلاق محلّاتهم والجلوس في البيت. الجميع مع استثناءات قليلة جداً: مخازن بيع الطعام، الصيدليات، والمستشفيات طبعاً. بتُّ من القلائل الذين لم يتوقف عملهم منذ وصول الكورونا. لا بل، للأسف، زاد عملي. زاد كثيراً.
أصلُ أبكر من المعتاد، فالطريق صار يأخذ وقتاً أقل. المستشفى حيث أعمل لم يعد نفسه. الوجوه في الداخل باتت كلها مُكَمّمة، ومختبئة خلف دروع من الألبسة والدروع البلاستيكية الواقية. أحياناً لم أعد أتعرّف على الزملاء. الكلام بين الأطباء من مسافة أمتار، والحديث قلّما يحيد عن آخر أخبار الوباء وآخر قصص الضحايا. الهواء ثقيل مُعبَّأ بالقلق والحذر والخوف… والكآبة. هنا، في الداخل، الحرب على أشدّها وطبولها تصمّ الآذان. وعلى المرء أن يحذر الألغام. قد يكون الفيروس مختبئاً في كيبوردات الكومبيوترات؛ على الطاولات؛ مقابض الأبواب؛ في المراحيض. بعض الأطباء يمسحون بالمناديل المعقّمة كل ما تمر عليه أيديهم. لا أحد يعلم بالضبط كم يمكنه أن يعيش الفيروس على الأسطح. أغسلُ يديّ أكثر من عشرين مرّة في اليوم حتى غزتهما الشقوق. أشعر بالراحة عندما أفعل. على الأقل، لن أشعر بالذنب إذا وصل إليّ الفيروس.
***
العزلة كانت تستهويني دائماً. أنجزُ الكثير داخلها. أقرأ وأكتبُ وأتخيّل العالم الذي يحلو لي. لذلك عندما توقف الضجيج في هذا البلد الذي ليس من السهل دائماً الهرب من ضجيجه، ظننتُ أنني أستطيع أن أنجز الكثير. قراءات وكتابات كثيرة تنتظر. ظننتُ أني سأستغل هذا الصمت وهذا الهدوء وهذه الكآبة العامة. الجوّ المثالي للكتابة. لكنّ الترقّب والانتظار والقلق.. كانت كلها تبتلع الساعات والأيام ولا تُبقي منها شيئاً. لم أستطع التركيز على الإطلاق. إرهاق العمل، ثم هذه العزلة المريبة الملوّثة. العزلة الحقيقية أن تكون في الداخل عندما يكون الجميع في الخارج. العزلة اختيار، وهذا الذي نعيشه شيء آخر. حجْرٌ مفروض علينا مُحاط بالقضبان. عزلة ما قبل الكورونا لا تشبه ما بعدها. العزلة الأولى اختيارية، أنت سيّدها، تشهرها في وجه العالم متحدّياً ومتكبّراً. بينما عزلة الكورونا القسرية، هي التي تقودك من ياقة قيمصك، تجرّك خلفها ذليلاً، كما يجرّك رجل مخابرات إلى زنزانة تحت الأرض. وعندما تكون في زنزانة تحت الأرض، من الصعب أن تفعل شيئاً مفيداً سوى التفكير في لحظة الإفراج عنك.
انتهيتُ من فحص المرضى في جولتي الصباحية في المستشفى. بات أكثر من 90% من المرضى الذين أراهم كل يوم، مرضى بفيروس الكورونا. مرضى في غرف معزولة بطريقة خاصة للوقاية من العدوى. نلبس ثياباً خاصة للعزل قبل الدخول إلى غرفة كل مريض. قبعة، حاجز بلاستيكي شفّاف للعينين، كمامة على الفم، بدلة واقية، غطاء للأحذية، قفازان. عدّة كاملة للقتال. إنها الحرب.
أحد المرضى اليوم لم يكن في غرفة العزل، فنتيجة اختبار الكورونا لديه جاءت سلبية. لا خطر إذاً. وُضِع في غرفة عادية. ممرضّته وجميع من يعتنون به، كان يدخلون غرفته ويخرجون من دون أي لباس واقٍ. شككتُ في الأمر، فالكثير من أعراضه مطابق لمرضى الكورونا. طلبتُ إعادة الفحص. فاختبار الكورونا ليس مثالياً. نسبة 25% من المصابين بالكورونا تكون نتيجة الاختبار لديهم سلبية. جاءت نتيجة الاختبار الثاني، ايجابية. أخبرتُ ممرّضته: “يجب أن نضعه في غرفة العزل وبسرعة”. نَظَرتْ إليّ برعب: “بوزيتيف!”، ثم أكملتْ بانكسار: “لقد تعرّضتُ للفيروس إذاً”. الآن، ستبدأ بالنسبة إلى هذه الممرضة فترة الانتظار. الممرضة التي كانت تفحص المريض وتنظّفه وتعتني به، من دون وقاية، ستنتظر أياماً طويلة. ستترقّب أي عارض ينذر بالإصابة. سعال جاف، ألم خفيف في الحلق، قشعريرة عابرة. أي شيء الآن يمكن أن يتضخّم معناه إلى درجة الهلع. الكثير من الممرضات والممرضين وجد الفيروس طريقه إليهم. نانسي، الممرضة اللطيفة، تقبع الآن في العناية المشددة بعدما أُصيبَتْ بالعدوى. تقاتل من أجل البقاء على قيد الحياة.
إذا أراد المرء التحدّث عن شجاعة ما، عن تفانٍ ما، عن سلوك مدعاة للإعجاب والإلهام، فلا يمكنه سوى أن يذكر أولاً وأخيراً هؤلاء الممرضات والممرضين من جميع الأجناس والأعمار. خطّ الدفاع الأول والأخطر. هؤلاء الذين يصطدم بهم الفيروس أولاً قبل الآخرين. لم أسمع ممرضة تشتكي أو تحاول فعل أقل مما تفعله عادة. الموضوع بالنسبة إليهم شرف عسكري.
سألتْني ممرضة في إحدى المناوبات: “هل أنت خائف؟”. بالطبع أنا خائف. خائف على نفسي وعلى عائلتي. زملائي الأطباء، جميعهم خائفون. لا نصرّح بخوفنا، لكننا نتحدث عنه همساً كأحد الأسرار التي لا نريد أن يطلّع عليها أحد. لا أحد منّا يريد أن يدّعي بطولة ما، ولا أحد يسعى خلفها. ولنكن أكثر وضوحاً، لا أحد يبحث عن الشهادة. شخصياً، لا أعرف طبيباً دخل مهنة الطب كي يضحّي بحياته. لكن الميثاق السرّي الآخر الذي نردّده مع أنفسنا، هو أن لا يشوّهنا الفيروس. أن نبقى نمارس المهنة بأكثر ما يمكن من حرفية وأخلاقية وإنسانية. ربّما هذا هو انتصارنا الصغير الذي يمكن أن نعلنه يوماً. لا شيء أكثر جزاء من أن تقوم بعملك بأفضل ما يمكن في أصعب الظروف.
وربّما للخوف بعض الميّزات. فالخوف يشحذ الرؤية ويجعلها أكثر دقة ووضوحاً. الخوف من فقدان الشيء يجعلك تدرك قيمة الشيء أكثر. كليشيه ربّما، لكن بعض الكليشيهات يستحق التكرار. بعد أن ينتهي كل شيء، قد نحتفل بالحياة أكثر ونشتُمها أقلّ. قد نصبح أقل تبرّماً بها وبمصاعبها اليومية. أقول “قد”. الحياة التي خفنا من خسارتها.
***
للقصة شقّان. الأول تراجيدي. مَن يمكنه الهرب من تراجيدية الموت؟ لكن هناك شقّاً آخر يبعث على الأمل، ويتم تجاهله كثيراً في هذه المعمعة. الحديث عن الشق المأساوي مُحقٌّ وضروري، لكن لا يخفى الإثارة التي يراها البعض في التركيز عليه. لدى الميديا مثلاً وتوابعها. يجب أن نتذكر دائماً أن للقصة شقّان.
سأحاول أن أسردَ القصة كاملة.
البارحة كان يوماً عصيباً. ثلاث جثث، وثلاث عائلات منكوبة. حاولنا فعل كل شيء. آلة التنفّس الاصطناعي لم تعد تستطيع الحفاظ على مستوى مقبول من الأوكسيجين في الدم لأن الفيروس افترس الرئتَين تماماً ولم يُبق منهما شيء. كان كل جسد يهوي كما تهوي طائرة محترقة.
الضحايا في الأربعينات والخمسينات. حاولنا فعل كلّ شيء. توجيه ضربات للقلب. صدمه بالكهرباء. ثم أعلنّا الهزيمة. الهزيمة تلو الأخرى. وأصعب ما في الهزيمة في معارك الكورونا هو الاتصال بعائلة المتوفي. “آسف، لا يمكنكم القدوم لتوديعه”. لم يعد يُسمح لأحد بزيارة أحد. لم يعد يُسمح لأحد بدخول المستشفيات سوى العاملين فيها. مرضى الكورونا يعانون في غرفهم وحيدين، ويموتون في غرفهم وحيدين. هذا أقسى ما يفعله الفيروس. هذه هي نذالته. ليس هناك من عناق أخير، ولا كلمة وداع، ولا يد تُمسك يد المحتضر. ابنة رجل من الضحايا أرادت رؤيته عبر “فايس تايم”. حملتُ هاتفي الآيفون واقتربتُ من الميت. هكذا تم الوداع. عبر الشاشة من بعيد. عدتُ إلى البيت وأنا أحمل جبلاً في صدري. لم تكن لديّ أية رغبة في الكلام. وضعتُ رأسي على وسادتي وحاولتُ النوم.
اليوم، استطعتُ تخريج أربعة مرضى إلى البيت. إضافة إلى خمسة مرضى آخرين يُبدون تحسّناً يومياً، ويقترب موعد خروجهم من المستشفى. أكثر من 98% من مرضى الكورونا يتحسّنون. إحدى المريضات لم تعد في حاجة لآلة التنفّس الاصطناعي وصارت تتنفس من دون أي مساعدة. لقد نجتْ، ويتكاثر عدد الذين ينجون كل يوم. بعض الأدوية يُبدي مفعولاً إيجابياً على مسار المرض. لا أحد يحتفل بالناجين كما يجب. لا أحد يحكي رحلتهم ذات النهاية السعيدة. الميديا مشغولة بأشياء أخرى لا علاقة لها بالموت والحياة. والقضية هنا هي قضية موت وحياة، فقط لا غير.
***
في طريق العودة من العمل، تتصل بي زوجتي وتطلب مني جلب بعض الأغراض. أمرُّ على محلّ التسوّق القريب من البيت. المحلّ شبه فارغ في هذه الأيام. أقف منتظراً لدفع ثمن الأغراض. ما زلتُ مرتدياً بدلتي الطبّية الزرقاء التي تفصح عن مهنتي. الواقفون معي في الدور ينظرون إلي بقلق. ثيابي لا توحي بالطمأنينة. ثيابي التي قد تحمل في ثناياها الخفية بعض الفيروسات العالقة من مكان العمل. أصل إلى الكاشيير، يُخَيّل إليّ أنها ترتدّ قليلاً إلى الوراء عندما ترى ثيابي المشبوهة. أدفع وأخرج مسرعاً من المحل. لا ألوم أحداً. أفهم جيداً مدعاة القلق.
أصل البيت لأمارس البروتوكول اليومي نفسه الذي اتفقت عليه مع زوجتي. لا عناق لأحد. أحيي الأولاد من بعيد وأخلع ثيابي فوراً عند العتبة. توضع الثياب في كيس خاص، ومن ثم مباشرة إلى الغسّالة. وأذهب بدوري فوراً لأخذ حمّام ساخن. الماء الحارّ عدوّ الفيروس. لا عناق ولا قُبل. فالقبلة قد يكون ثمنها كبيراً.
أحيانا أشعر أني أصبحتُ الوباء يمشي على قدمين.
***
أخيراً استطعتُ النوم. حلمتُ بأني أسعل، ثم اشتدّ سعالي إلى درجة الاختناق. صرتُ متيّقناً أني أُصبتُ بالكورونا. ذهبت إلى عيادة الطبيب. أجرى لي صوراً شعاعية كثيرة، ثم أخبرني بأني مُصاب بالسرطان وأحتاج عملية جراحية طويلة.
استيقظتُ معكَّر المزاج. لم يكن لديّ عمل يوم. لم أكن أسعل، إلّا أنني بدأت أشعر بألم في الحلق. قستُ حرارتي، كانت طبيعية. وجع الحلق أقلقني قليلاً. عدتُ فقستُ حرارتي، ما زالت طبيعية. انتبهتْ زوجتي: “لماذا تقيس حرارتك كثيراً اليوم؟ هل تشعر بشيء؟”. “لا، ما في شي، كلو تمام”… بعد الظهر، قستُ حرارتي مرتين أخريين، كانت الأرقام دائماً تُشير إلى أنها طبيعية، لكن وجع الحلق ما زال موجوداً.
***
كانت المناوبة الليلة مُرهِقة. كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحاً عندما اتصل بي طبيب الطوارئ: “لدينا حالة كوفيد صعبة، أظن أنها يجب أن تكون في قسم العناية المشددة”. نزلتُ مع الطبيب المساعد لفحص المريضة. كانت كاثرين في الـ91 من العمر. لديها ندبة في وسط صدرها من جراحة قلب مفتوح سابقة. كانت كاثرين شبه غائبة عن الوعي، حرارتها عالية، نسبة الأوكسجين منخفضة جداً وتتنفس بسرعة وعدم انتظام. اختبار الكورونا جاء إيجابياً. صورة الصدر تُظهر ذات رئة شديدة بسبب الفيروس. قلتُ لطبيب الطوارئ أنها بحاجة إلى جهاز التنفّس الاصطناعي فوراً. “أعلمُ”، أجابني، “لكن كاثرين تركتْ وراءها وصيّة طبية تقول بشكل واضح أنها لا تريد أن يتم تنبيبها. لا تريد جهاز التنفس الاصطناعي ولا تريد أن يتم إنعاشها في حال توقف قلبها”. تطلّعتُ إلى وجه كاثرين، كانت تتنفس بصعوبة بالغة، لكن رغبة المريض مقدّسة هنا. لا مجال لمخالفة وصيّتها. “حسناً، في هذه الحالة، كل ما نستطيع أن نفعله، هو نقلها إلى العناية المشددة وإعطائها الأوكسجين”. صعدتُ إلى غرفتي. كاثرين ستموت. من المستحيل لامرأة في التسعينات وبهذه الحالة التنفسية السيئة الاستمرار من دون تنفس صناعي. ذات الرئة لديها شديدة. ستموت كاثرين كما مات غيرها. من خبرتي الطببية، كنتُ متأكداً من ذلك. المسألة مسألة وقت.
حاولتُ النوم بضع ساعات. حوالي السابعة صباحاً، بدأتُ جولتي الصباحية على المرضى. أردتُ أن أبدأ بكاثرين. كنتُ أتوقع جسداً يحتضر. لكن كاثرين كانت من خلف الباب الزجاجي تلوّح لي بيدها. كانت مستيقظة ومستوى الأكسجين لديها مرتفع. كان تنفسها أفضل بكثير. لم أصدّق! شيء أشبه بالمعجزة. لم يكن من المفترض أن تكون كاثرين حيّة، لكنها كانت أكثر من ذلك. كانت تبتسم. لم أرَ في حياتي شراسة كهذه في التعلّق في الحياة. هذا الوغد يمكن هزيمته. لوّحْتُ بدوري لكاثرين بيدي، واجتاحتني رغبة عارمة في البكاء.
(*) نصّ كتبه الشاعر والطبيب السوري المقيم في أميركا فادي سعد، خصيصاً لـ”المدن”، عن يوميات كورونا.
———————————————
أنيس الرافعي… حيوان ليليٍّ مجنَّح عالق في فيلم أنطونيوني
ا(إلى مصطفى الزين، سحاقة النبل المتحتتة من كيس المحبة)
اليوم، ما بعد منتصف الليل، كسرت للمرة الأولى طوق الحجر الصحي الإختياري، ثم خرجت لأتمشى ساعة تقريباً. حرصت -طبعاً – منذ البداية على ارتياد الزنقات والدروب الخلفية الضيقة فقط، متحاشياً الشارع الرئيسي الفسيح المحروس من دون ريب بواسطة سدود دوريات الأمن الصارمة، التي لا تفوتها خلال هذه الفترة الحرجة، شاردة أو واردة. كان كل شيء من حولي كاسداً، مجرداً من الرائحة، مثخناً بالكآبة، غارقاً في الجمود، محجوراً عليه، محاطاً بالعالم السرمدي للغموض، مغلولاً إلى الخيبة المعدية. واهناً بالظلام والنسيان المصممين على تشويه سمعة عواميد الإنارة العمومية. مغموساً بالكامل في “تاريخ الصمت” (ألان كوربان)، لدرجة أني وضعت السماعات الموسيقية في أذني، رغبة مني في ملء الفراغ الصوتي القاسي الذي داهمني أثناء هذه النزهة الليلية الخرساء و الخائبة على الأقدام.
مضيت سائراً وسط الديكور نفسه المتشابه كفاقد للذاكرة يحاول إعادة تجميع المعطيات الضائعة من القرص الصلب الإلكتروني الخاص به. بناء “البازل” المبعثر المتناثر لحياته المنسربة مثل نهر يعوم في اتجاه تلاشيه الأخير في بحر العدم. إعادة إعمار الأراضي الخلاء الموحشة لروحه الطافحة بالقلق والكدر. كنت متفرقاً مشتتاً منبثاً، أسعى لأن أسترد عالمي القديم الذي انفلت راكضاً مني مذ وقعت في كمين المعزل الحصين. وبينما أنا أميد بين هذه الهموم البصرية والوجودية، ألفيتني فجأة في مهب الشارع الرئيسي. لم يكن ثمة أحد على الإطلاق. حتى دورية الأمن المعتادة ذابت في الأقراص الفوارة للغياب. لعل واحداً من أهم مبررات الليل وأسباب نزوله هو عدم وجود الناس إذ هذا شرط لازم لكينونته وهويته الميالة للفراغ. للفراغ المطلق، بيد أن هذا التواري كان مبالغاً فيه. لا إنسانيا على نحو خادش. احتجاباً يمثل التخوم وما لا يمكن تجاوزه واختراقه. اضمحلالاً قادماً من عالم الموتى الميثولوجي “الإستكسي”. انقطاعاً موجعاً لوصال الألفة مع الفضاء. تلاشياً للمدنية والتحضر وعودة غير مظفرة للوحشية والبدائية كما يمكن أن يعبر العالم الشيخ كلود ليفي ستروس.
فها هي، إذن، الحداثة المفرطة للوباء الجوائحي، قد أفضت أخيراً إلى موت فرجة الشارع. احتضار “الاحتفال المدني باليومي والحياة” (إميل دوركايم). اندثار “مجتمع المترو” الصخاب الكرنفالي (مارك أوجيه). لقد اكتشفت بأنني لم أكن أخطو في مكان اعتاد على السرعة والعبور والمؤقت، وإنما في “لامكان أنثروبولوجي” (مارك أوجيه). فالرموز والمعاني والمسارات والعلاقات والمصائر والأفعال والأحاديث والتواريخ، التي كانت في ما مضى منتسجة ومغزولة بنول العادة “البينيلوبي” داخل هذا الحيز الجغرافي، غارت واستترت بفعل حالة الطوارئ المفروضة.
كنت في واقع الأمر حيواناً ليلياً تائهاً وعالقاً داخل المشاهد “النيكتورينية” المتتالية لفيلم “الخسوف”(1962) للمخرج الإيطالي الخالد، وسيد الرحلات الباطنية الدائرية والصحاري الحمراء للمغامرة الإنسانية التافهة، مايكل آنجلو أنطونيوني (1912- 2007). كنت نقطة ضوء ضئيلة وغير ذات بال، إشعاعي في مجرة “الانفجار النجمي الشاذة”، التي قرأت عنها طيلة اليوم في كتاب “المجرة، رسم خريطة الكون” لعالم الفلك البريطاني جيمز غيتش. كنت مصباحاً معطلاً منذ سنوات خلت في لوحة “محطة بولوستراس”(1922) للألماني ليو ليزر يوري. طيفاً على كرسي متحرك يقف خارج الحياة في لوحة “صقور الليل” (1942) للرسام الأميركي إدوارد هوبر. وهجاً خافتاً بالغ النأي والشجى في لوحة “الليل في ضوء القمر” (1881) للبريطاني جون غريماشو. غيمةً ليلية نحيلة، وريحاً بحرية هزيلة في لوحة “صيادو السمك في البحر”(1796) لفنان المائيات اللندني ويليام تيرنر. ضوءاً فوسفورياً في طور البدد والانفضاض في لوحة “ليلة مقمرة على نهر الدنيير” (1882) للمبدع الروسي أرشيب كوينجي. روحاً شيطانية سوداء تمرق فوق أمواه لوحة “ليلة مرصعة على ضفاف الرون” (1888) للمجنون والرائع تماما فان غوخ. وأنا أعود على عقبي بخطوات عجلى في اتجاه المنزل، كنت كالمسرنم لا أرى شيئاً مما يحيط بي سوى بأذني اللتين أحسستهما استطالتا، كما أني انشغلت بساعدي وأطراف أصابعي، التي امتدت أغشيتها الجلدية وتمططت حتى أوشكت أن تصير أجنحة.
ولما وقفت أمام باب العمارة، طرت مباشرة إلى الشرفة في الطابق الرابع مثل خفاش حقيقي، راشد، في الرابعة و الأربعين من عمره. “فسبحان من جعل الليل لي نهاراً و معاشاً، وجعل النهار لي سكناً وقراراً. فلا يرد أبصاري إسداف ظلمتة، ولا أمتنع من المضي فيه لغسق دجنته” (علي بن أبي طالب، “نهج البلاغة”، الخطبة 155، وهو يتحدث عن بديع خلقة الوطواط).
(*) مدونة نشرها القاصّ المغربي، أنيس الرافعي، في صفحته الفايسبوكية، وهي من سلسلة “أرخبيل الفزع”
—————————————–
العالم يمارس الجنس كأنه بلا غد/ رشا الأطرش
“في ظروف الحجر والعزلة، يبدأ الدماغ والسلوك البشري بمحاكاة سُبات الحيوانات في الشتاء”، وفقاً لبحث جامعي جديد. العيش في كنف ضوء مقنن، ومحفّزات بيئية محدودة، يدفع الدماغ إلى الإبطاء، إلى العمل في حدوده الدنيا لحِفظ طاقته، تماماً كما يتمسّك الجسد بدهونه حينما يستشعر حالة تجويع. ويحكي الباحث لورنس بالينكاس، المتخصص في دراسة التأقلم النفسي مع البيئات القصوى، عن نَظرة من نوع معين، لوحظ تبادلها بين دارسي الحياة في القطب الجنوبي خلال فصل الشتاء القاسي والمظلم. هو ما تقوله عيون البشر المتساقطين عن حواف الحوار، حتى الأحاديث بسيطة. ولهذا “اللامحكي” تسمية: “نَظرة القطب الجنوبي” (The Antarctic Stare).
التبلّد الذي نشعر به، الذهني والجسدي، والذي ينكره بعضنا أو يستسلم له، ويقاومه البعض الآخر كسبيل للصمود، بات له توصيف. السيقان التي لا تعود تطاوع أصحابها، الأجسام العالقة في تكاسلها الإجباري. الأفكار المبتورة في الرأس، وقبل أن تخرج من الأفواه. المحادثات المتقلّصة بين المحجورين سوية. حالات “قُطبية” على ما يبدو. والطريف أن نظرية بالينكاس أعلاه، تَرِد في متن مقال بعنوان “كيف لا تكره بالكامل الأشخاص الذين حُجِرتَ معهم”، ضمن سلسلة من المنشورات المتوالية مؤخراً، والمنتمية إلى نوع “علم النفس الشعبي” و”الدعم الذاتي” الرائجة موضته منذ أكثر من عقد، كُتُباً وفيديوهات ومقالات، كلمتها المفتاحية: “الإيجابية”. أضف إليها النصائح واقتراحات النشاطات لملء أوقات الأطفال المحجورين ومساحاتهم. تلك التي تُرفَق بصُور أمهات جذابات (عاملات؟ من البيوت؟)، وإن تخففن من المكياج وأناقة المكاتب، وفي خلفيتها مقتطفات بصرية من بيوت انقلاباتها لطيفة، ضجيجها مقونن ومضبوط، لا تخلو من الفوضى الطفولية الفاتنة، لكنها دوماً “فوضى خلاقة”، وقد نتجرأ على القول أنها مرتّبة أيضاً.. وهذا طبعاً هو الواقع المنحول، شأنه شأن صور الإعلانات التي تُظهر عارضات بأجساد خرافية منغمسات في ما يُراد لنا استهلاكه من شوكولا أو بوظة كاملة الدسم.
ولعلنا، في هذه العزلة، وبانقطاعنا شبه التامّ، عن الخارج وناسه وأشيائه، أصواته وتنبيهاته وبصريّاته، نعود إلى بدائية ما. نُقارَن بحيوانات السبات الشتوي. لكننا أيضاً، قد نحاول إدراك ما نعيشه بقراءة شهادات ممهورة بالحداثة وما بعدها: مدونات رواد الفضاء، ومَن مروا بتجربة الخطف والاعتقال، وأصحاب الأمراض المزمنة أسرى بيوتهم بعدما تطوّر الطب بما يكفي لإبقائهم أحياء. وفيما نهجس بغسل اليدين، وتعقيم المشتريات والأحذية والنظّارات والمفاتيح، وفيما تزدحم دواخلنا بتلك الأفكار المجهرية اليومية عمّا لمسناه أو لم نلمسه أو سنلمسه، نستخرج أدبيات الوسواس القهري.. شخصياً، لم تخطر في بالي، طوال الأسابيع الماضية، أفلام الأوبئة والكوارث، بقدر ما سكنتني شخصية جاك نيكلسون في فيلم As Good As It Gets، وذاك المشهد الطويل عن استعداده للنوم الذي لا يتمكن من الاستغراق فيه إن لم يكن خُفّاه المنزليان موضوعَين بطريقة مثالية قرب سريره.
ثم نتصفّح تاريخ الحروب الكبرى، ليستوقفنا ما يتجاوز شحّ الموارد والبضائع، التخزين والقلق، التصدي الفردي والجماعي للموت الحاصد، وتوقّف عجلات العالم. فنجدنا نتعمق في تفاصيل من قبيل كيف كان الجيش الأميركي، خلال الحرب الثانية، يؤلّف فِرق الغواصات وفقاً لمدى قدرة أفرادها على رفد حاجاتهم النفسية في ما بينهم، فهؤلاء سيقاتلون محجورين معاً في كبسولة هواء مجهزة بأحدث تكنولوجيات ذاك الزمن، في عمق البحر، ولا شيء يمتحن التوافق مثل هذا الظّرف. نحن أيضاً فِرَق محجورة، عائلات صغرى دون فروعها، وعوالم فردية مُقَزّمة، مع الانترنت وهواتفنا وتلفزيوناتنا الذكية. نتواصل مع أهل وأصدقاء عبر شاشة، ونتواطأ مع غرباء السوبرماركت على حربنا الباردة مدجّجين بالكمّامات والقفازات ومسافة المتر الآمن.
ها نحن نعود إلى كينونتنا الأمّ بنسخة جديدة، مع تكنولوجيا الألفية الثالثة وقِيمها. منذ أسابيع، والحَجر المنزلي يعمل على عدّاداتنا ليُرجعها إلى الصفر، صِفر العام 2020. الجنس يتصاعد، كما لم يفعل منذ عقود. زيادة ملحوظة في مبيعات الألعاب الجنسية، والواقيات الذَّكَرية، وحبوب الفياغرا ومنع الحَمل. وارتفاع لافت في عدد مستخدمي مواقع البورنوغرافيا، وتطبيقات المواعدة، بل والمواقع الموجّهة للمتزوجين الباحثين عن علاقات جانبية… أي كل ما يلزم لاستنهاض وإشباع الرغبات – ثنائية كانت، أو أكثر، أو أقل. الأرجح أن البشر، منذ أسابيع، ينغمسون في الجنس، في مارسته وتهويماته، كما لو أنهم بلا غد. ولو كان العالم سريراً كبيراً، لربما استحالت الغفوة مع كل هذا الصرير.
الاستنتاج الأوليّ يقول إنها ماكينة الغريزة، من أجل البقاء وحِفظ النوع البشري في الأزمات المُهدِّدة للوجود. بيد أنها اليوم مضبوطة على إيقاع المتعة وتجزية الوقت المستطال، لاستسقاء هرمونات السعادة والرضى، علّها تُلطّف المحنة وتبلسم المخاوف وتضمّد القلق. لكن، لا “انفجار ولادات” متوقعاً بعد سنة، بحسب الخبراء، خلافاً لجيل Baby Boomers الذي أنتجته الحرب العالمية الثانية طوال عقدين بعد انتهائها. هو اللايَقين الذي يلغي فكرة “فلنصنع طفلاً”. الحاضر والمستقبل الغائمان، اقتصادياً وصحياً واجتماعياً. واليوم، البشر يقررون: الجنس للجنس، لحِفظ النّوع عقلياً ونفسياً.
وتتكاثر أيضاً حالات العنف الأسري. الخطوط الساخنة تلتهب في أنحاء الأرض، والأرجح أن الإحصاءات والحالات المسجلة أقل بكثير من الواقع، والمعنفون/المعنفات محجورون مع معنّفيهم. العنف مكوّن بشريّ أصيل.
وترتفع نسب الطلاق. في الصين أرقام واضحة بعد رفع الحجر، وحول العالم بوادر أرقام جديدة. فسخ عقود العيش المشترك والمؤسسات العائلية، من سمات الإنسان الأول بعد كورونا. هو الذي، خلافاً لأخيه القديم باني الجماعة ومُشيّد الاستقرار، فُرضت عليه اللُّحمة العائلية بأكثر أشكالها ضغطاً على التوق الأصيل لأن “يكون”، فقط يكون. ويحتار في ما له الغلبة على هذا “الكَون”: الاستئناس بالأحبة الأقربين في حقبة الوحدة القسرية؟ أم اختناق الحيز الخاص بالحضور المديد والدائم لشركاء العيش والسكن؟ ثم ينتبه إلى أن الحيز العام، أي الشارع والمقهى ومكان العمل والمواصلات والسيارات، كان يمد كلاً منا بحيّزه الخاص. وحين أقفل هذا الخارج، فَقَدنا، في بيوتنا، شيئاً من خصوصياتنا، من حميمياتنا الفردية. البيوت التي كنا مقيمين فيها، نرجع إليها من الخارج مُحمّلين بأخبار وحكايات، بمختلف المشاعر والتجارب والجديد اليومي، ثم نرتاح فنستسلم للنوم.. بتنا نعيش فيها، كامل العيش، أي الإقامة التي بلا خارج، حيث صحوُنا ونومُنا سُبات، قد تتخلله كوابيس الفيروس المتوّج أو “نظرات القطب الجنوبي”.
———————————–
كورونا وإيتالو كالفينو والقراءة/ زار آغري
كما لو أن إيتالو كالفينو كان يعرف أن يوماً سيأتي فنجد أنفسنا متروكين لأمرنا أمام كم هائل من الوقت لا نعرف كيف نتعامل معه.
يبدو كما لو أنه جهز لهذا اليوم شرحاً مسهباً في ما يتعلق بالقراءة حين نعلق في مصيدة العزلة. هذا الشارح نجده في الفصل الأول من روايته “لو أن مسافراً في ليلة شتاء”.
يخاطب كالفينو القارئ بشكل مباشر. يخبره بأنه على وشك قراءة نص روائي.
لكن النص الذي سيقرأه ليس أي نص، بل بالضبط ذاك الذي كتبه كالفينو نفسه ونشره تواً.
يتوجه كالفينو إلى القارئ توجه صديق لصديق. مثلما يحدث الآن، هناك جو خاص، حالة استثنائية: القارئ في البيت، على وشك أن يبدأ القراءة وكالفينو يتكلم معه، ليس عبر الواتس أب أو السناب تشات أو الفيسبوك، بل عبر صفحات الكتاب.
يحاول أن يوصل أفكاره في ما بتعلق بطقس القراءة، أو لنقل أنه يريد أن يمنح القارئ عصارة خبرته في هذا الباب.
يطلب منه أن يكون في وضع مريح، هادئ، غير قلق. أن يبدد أية أفكار أو وساوس من رأسه. أن يستعد كي يركز كل انتباهه على الكتاب الذي سوف يشرع في قراءته الآن.
الأفضل له أن يغلق الباب كي لا يصل صوت التلفزيون الذي شغله الأولاد في الصالون. يطلب منه أن يقول لهم، اي للأولاد، أنه لا يريد التفرج على التلفزيون. ماذا هناك أصلاً، في حال كهذا، أقصد في حال الوباء، سوى الأخبار المكررة، المرعبة، عن المرضى والقتلى؟ ما فائدة أن يملأ نظره بمشاهد مخيفة للموتى ويحشو رأسه بأرقام القتلى؟ هل في وسعه أن يفعل شيئاً، أي شيء، للوقوف في وجه الوباء والحيلولة دون انتشاره؟ لا. إذن عليه التركيز على صفحات الكتاب.
لا بد من اتخاذ وضعية مناسبة للقراءة.
الجلوس؟ التمدد؟ الانبطاح؟
أن يستلقي على بطنه؟ على جنبه؟ على ظهره ويرفع الكتاب أمام عينيه؟
يجب عليه أن ينتقي المكان الذي يرتاح فيه حين يقرأ. أين يمكن أن يرتاح أكثر؟ على الأريكة؟ على الكنبة؟ على كرسي هزاز؟ على وسادة؟ على السرير أو، بالأحرى، داخل السرير؟ بل حتى يمكنه، إن كان هذا يريحه، أن يقف على يديه، في وضعية اليوغا، ويحمل الكتاب، مقلوباً، أمام عينيه.
يمكن له، إن أراد، أن يمد ساقيه ويضع قدميه على وسادة، أو وسادتين موضوعتين فوق بعضهما بعضاً، أو أن يضعهما، أي قدميه، على مسند الصوفا أو راحة الكنبة أو منضدة الشاي أو البيانو أو مجسم الكرة الأرضية.
ينبغي، قبل الشروع في القراءة، ضبط الضوء، لأنه إن انهمك في القراءة فلن يزحزحه أي شيء. يجب ألا يكون الضوء قوياً إلى حد يؤذي العينين أو ضعيفاً فيجهدهما. لا بد من التأكد من أن لا ظلال تقع على الصفحة وتبهم الحروف وتجعلها أشبه بقطيع متداخل من الجرذان.
ينبغي التيقن من أن لا شيء يمكن أن ينهض فينغص عليه القراءة. إذا كان يشعر بحاجة للذهاب إلى الحمام فعليه أن يفعل ذلك الآن بلا إبطاء.
يقدّم كالفينو هذه النصائح، كي يدفع القارئ إلى تهيئة الجو المناسب للقراءة. وهو حريص على فعل ذلك لأن الأمر يتعلق بكتابه، أي الرواية التي كتبها ونشرها تواً.
هو يخاطب القارئ بالقول: “أنت كنت قد قرأت في إحدى الصحف خبراً عن صدور رواية “لو أن مسافراً في ليلة شتاء” لإيتالو كالفينو الذي لم ينشر عملاً منذ سنوات. ذهبت إلى المكتبة واشتريت الكتاب. حسناً فعلت”.
حسناً. لكن ماذا بعد أن يفرغ من قراءة الرواية؟ هناك فسحة هائلة من الوقت، مثل الوقت الذي تبرع به فيروس الكورونا للناس. ماذا نفعل بالوقت حين ننتهي من الرواية؟
يتوجه كالفينو بالكلام إلى قارئ الكتب حصراً. الكتب لا تنتهي. لا فائض من الوقت للقاريء الحقيقي، أي القاريء الذي ينهض عالمه على أعمدة القراءة.
هناك الكتب التي تنتظر:
الكتب التي كان القارئ يخطط لقراءتها منذ زمن ولم يكن الوقت يسعفه.
الكتب التي كان يبحث عنها منذ سنين.
الكتب التي تتعلق بأشياء يشتغل عليها وجاء الوقت المناسب لتصفحها الآن.
الكتب التي يمكن أن يبقيها لديه للأيام المقبلة.
الكتب الجديدة التي تبث الرعشة في كيانه وتخلق عنده فضولاً لا تفسير له.
كتب قديمة. كتب جديدة. في آن معاً. في الكتب الجديدة نبحث عما هو غير جديد وفي غير الجديدة نبحث عما هو جديد.
الكتاب الذي سيقرأه، أي رواية كالفينو، جديد. “مازال طازجاً”. سينال القارئ متعتين في وقت واحد: متعة الكتاب ومتعة الجديد. لكل كتاب متعة ولكل جديد متعة.
ما العمل الآن؟
التصفح. تقليب الكتاب. التحديق في العنوان. في الرسم. في شكل الحروف. تمرير اليد على الغلاف. تفحص الصفحات بمعاينة سريعة بحيث فتتدفق الصفحات مثل رشقة طلقات، من الصفحة الأولى حتى الأخيرة.
ستعلق كلمة أو جملة أو اسم شخصية أو مكان في الذهن. هذه تدريبات التحمية للانقضاض على الوليمة. دوران حولها. تلمسها، تشممها، تحسس جوانبها.
قبل الغوص في جوف الكتاب لا بد من الركض إلى الغلاف الخلفي وقراءة الملخص القصير عن مضمون الكتاب وربما لمحة عن الكاتب. بل قد تكون هناك صورته أيضاً. صورة كالفينو نفسه. كل هذا يمنح القارئ غبطة وشوقاً ويقوي عنده الاندفاع للقراءة.
كل شيء مهيأ الآن. الغرفة، الصمت، السكون، الرهبة، الرغبة، الفضول، ولكن أكثر من أي شيء آخر: الوقت. الوقت كله ملك اليد فلنرتشفه كما يحلو لنا.
—————————————-
ديفيد لينش: بَعد الحجر الذاتي سنعيش في عالم أكثر روحانيّة ولطفاً (ترجمة)
حسام موصللي
أعتقدُ أنّ الأمور ستغدو أكثر روحانيّة ولطفاً، وسنغدوا أقرب جميعاً إلى بعضنا البعض على نحوٍ جميل وقويّ في آن. سيكون هنالك عالم مختلف على الضفّة الأخرى؛ عالمٌ أكثر ذكاءً بكثير. سنصل إلى حلول لهذه المشكلات، وستغدو الحياة جميلة جداً. ستعود الأفلام. ستُزهر الأشياء كلّها مرّة أخرى، وبصورةٍ أبهى بكثير على الأرجح.
بالنسبة إلينا نحنُ المحظوظين بما يكفي لأن نبقى حُبساء منازلنا -لا على الخطوط الأماميّة لمكافحة جائحة فيروس كورونا- فإنّه ثمّة مزيج عجيب من الملل اليوميّ والفزع المحدِق صار يُحدّدُ لنا معنى الحياة في ظلِّ الحجر الصحيّ.
لقد أصبحت الأنشطة العاديّة، على غرار احتساء القهوة أو تنزُّه المرء بمفرده، تتحلّى بمزايا منافية للمعقول، كأن تمنحنا قدراً من الارتياح المعقَّم بينما يتوارى الظلامُ تحت السطح مباشرة. يزدهر السأمُ، وكذلك الموت أيضاً، مثلما هي حال المساحات الماديّة والعاطفيّة التي يستكشفها ديفيد لينش في كلّ من أفلامه السينمائيّة، وأعماله التلفزيونيّة، وفنّه البصريّ.
لكن ديفيد لينش لا يشعر بالملل؛ إنّه يصنع المصابيح.
كائنٌ معزّز بتيّارات قويّة من الكافيين والتأمُّل المتسامي؛ هذا ما كان عليه الروتين اليومي للينش، على نحوٍ رهبانيّ في مرحلة ما قبل الحجر الصحيّ، وقد استمرّ على حاله دون أن يتغيّر فيه الشيء الكثير. يقول إنّه لا يمانع البقاء في حجر صحيّ، وإنّه حريص كعادته على الإبداع، ومتفائل بصدد العالم الذي ينتظرُنا على الضفة الأخرى من الحجْر.
من ورشته لنجارة الخشب في لوس أنجلوس، تحدّثنا إلى لينش عن القهوة والحجر الإبداعي؛ وكيف بمقدور التأمُّل أن يُبدّد الظلام الذي نشعر به جميعاً الآن، بل وربّما أن يفضي إلى سلام عالميّ. لكن أولاً، وفي مستهّل الخوض في هذه المواضيع، دعونا نتحدّث عن الخشب.
كيف يبدو روتين ديفيد لينش خلال الحجر الصحي؟
لا يختلف روتيني الحاليّ كثيراً عمّا كان عليه من قبل. في البداية، أستيقظ ثمّ أحضّر القهوة. بالنسبة إليّ، أحبُّ أن أبدأ بالقهوة على الفور. هذا ما أفضّله شخصيّاً على الدوام. أتدري حينما يحقنون في المستشفى ذراعك بمحلول وريدي؟ حسناً، إنّ محلول القهوة يدور في داخلي طوال اليوم. أتأمّلُ بعد ذلك، ثمّ أمضي إلى العمل.
ما الذي تعمل عليه في هذه الأيام؟
أنا الآن في ورشة نجارة الخشب، أصنعُ شمعدانين حائطيين- مصباحين صغيرين. لديّ مصابيح، وكهرباء، وبلاستيك راتنج البوليستر، وأشياء أخرى من هذا القبيل.
لطالما كان كلٌّ من الخشب والكهرباء موضوعين حاضرين في أفلامك. ما الذي يجعل منهما مصدر إلهام إلى هذه الدرجة؟
الكهرباء مُشوّقة للغاية. فكّر في الخشب أيضاً، فكّر في الخشب، ولو لثانية واحدة، إن شئت. إنّ الطبيعة تزوّدنا بكلّ هذا؛ بمختلف أنواع الخشب التي في وسعنا أن ننشر هياكلها، ونصقلها بالرّمل، ونُشكِّلها، ونلمّعها، ونحوّلها إلى أثاث أو العديد من الأشياء الأخرى مثل المنازل. إنّه المادّة الأكثر روعة، كما أنّ رائحة ذكيّة جداً تنبعث منه حينما تقطعه. وعلى غرار التأمّل المتسامي، فإنّه بمقدورك القول عن الخشب إنّه “الآب الرحيم العظيم” الذي يمنحنا كل شيء. وأين سنكون الآن لو أنّه ليست لدينا كهرباء؟
إنّ الكهرباء تمنحنا الضوء، والضوءُ يمنحنا الأمل. هل يُشبه التأمُّل الكهرباء؟
ليس الظلامُ شيئاً؛ بل هو غيابُ شيء. والسلبيّة هي غياب كلّ إيجابيٍّ تُغلِّفُه. وهكذا، عندما تبعثُ الحياة في ذلك، فإنّ ظلام السلبيّة يبدأ بالتلاشي في ضوء هذه الإيجابية. وبمجرّد أن تنظّف هذه الأنبوب، ستهرع الأفكار إليك وستعرفُ ماذا تريد أن تبني، أو ترسم، أو تخترع. السلبيّة تمنع تدفُّقَ الأفكار. وإذا تأمّلتَ، فإنّ الحلول ستتبادر إلى ذهنك.
ما أهميّة التأمّل اليومي؟
يسمحُ التأمُّل المتسامي للإنسان بالغوص عميقاً في داخله واختبار شكلٍ أبديٍّ من الوعي الصافي الذي يوجد في داخلنا جميعاً. لقد فقدنا الاتّصال بهذا المجال الداخليّ لسببٍ ما -هذا المستوى الأبديّ المطلق غير النسبيّ- لكنّه موجود في داخلنا جميعاً.
لماذا التأمُّل المتسامي على وجه التحديد؟
لأنّه سهل ولا يتطلّب جهداً. إنّه مُصمَّمٌ لكلّ إنسانٍ في الحجْر؛ فهو ليس تركيزاً أو تفكُّراً أو تأملاً ذهنياً. ولا بأس بهذه الأنواع أيضاً، لكن وحده التأمل المتسامي ما يسمح لك بالتسامي.
ما النصيحة التي قد توجِّهها إلى الأشخاص المثقلين بكلٍّ من الإجهاد والقلق بسبب الجائحة العالميّة؟
ماذا برأيك؟ (يضحك). تعلّموا تقنيّة التأمُّل المتسامي، وستختلف أحوالكم جذريّاً عندما تبدؤون في الاستمتاع بالحياة وبحلّ تلك المشكلات! بمقدورنا أن نُنمي ذلك وأن نوسّع وعينا. ستغدو الحياة أفضل وأفضل، وسيستمتع الناس بكونهم أحياء، وستصبح صورتهم عن أنفسهم أكبر وأكثر اتّساعاً، وستتحسّنُ علاقاتهم برفاقهم ورفيقاتهم في الإنسانيّة.
ماذا لو كنتَ عالقاً في حجر صحيّ، أو تحت ضغط ماليٍّ في الفترة الحاليّة، ولست قادراً على الالتحاق بدورات التأمّل المتسامي؟
بمقدورك أن تتعلّم هذه التقنيّة على الفور. ابحث عن مدرّب تأمل متسامٍ في منطقتك، ثمّ ابحث عن طريقة تمكّنك من التعلُّم مع الإبقاء على مسافة فاصلة بينكما من ست أو ثمان أقدام. وإذا لم يكن باستطاعتك أن تتحمّل التكاليف، فمن الممكن أن تسدّد الأجور على عدّة دفعات أو أن تحصل على منحة من ديفيد لينش. أنجِز ذلك فحسب. تحدّث إلى مدرّب تأمّل متسامٍ، واحصل على خطّة. استفِد من هذه التقنيّة على الفور. ليس غداً! … اليوم!… قُم وأنجز الأمر.
السلام العالميّ هو واحد من الأهداف المعلنة للتأمّل المتسامي. ومع وجود مليارات من البشر حول العالم في الحجر الصحي الآن، فباعتقادك ما الذي قد يحدث في حال أنّهم تأمّلوا معاً في الوقت ذاته؟
ثمّة في داخل كلّ إنسان حقل لا حدود له من ذكاء وإبداع وسعادة وحبّ وطاقة وقوّة وسلام، الخصال الإيجابيّة كلّها في داخل كلّ منّا. وإذا تمكنّا جميعاً من إزكائها بقوة كافيّة، فستكون قادرة على تحقيق السلام في العالم. لقد أجريت أبحاث ودراسات بهذا الصدد، ونتجَ عنها ما يُعرَف باسم “مجموعات خلق السلام”. وفي حال أصبحت المجموعة كبيرة بما يكفي، وعلى أساس مُستمر، فسيكون بإمكانها أن تجلب السلام للعالم. بيد أنّ السرّ يكمن في الداخل؛ لطالما كان هكذا، وسيظلّ هكذا على الدوام.
هل يمكن أن يكون الحجْر الذاتيّ مفيداً للإبداع؟
يتوقّف ذلك على عدّة عوامل. ففي حال كنت تعاني من البؤس والكرب في الحجر، فإنّه سيكون غير ذي فائدة عندما يتعلّق الأمر بالإبداع. السلبيّة عدو الإبداع. وإذا كنت مشحوناً بالخوف والغضب وكلّ ما هو سلبي، فسيصير تدفّق الأفكار محدوداً، وستسحقُ السلبيةُ أنبوب السعادة. إذا كنت تتأمل وتتسامى بصورة يوميّة، فإنّ السلبيّة ستنقشع. سينكشف الذهب وتختفي القمامة. السلبيّة، الإجهاد، القلق، التوتّر، الاكتئاب، الكرب، الكراهية، الحاجة إلى الانتقام، الغضب الأنانيّ المرير؛ سرعان ما ستبدأ بالتبدُّد.
هل تعتقد بأنّه ثمّة درس يمكن أن تتعلّمه البشريّة من هذه التجربة الوبائيّة؟
لقد كنّا نسلك درباً خاطئاً لسبب ما، ثمّ قالت لنا الطبيعة الأمّ: “هذا يكفي! علينا أن نُوقِفَ كلّ شيء”. وسوف يستمّر الوضع على ما هو عليه مدّة كافية لأنّ يقود إلى طريقة جديدة في التفكير.
أفضل أم أسوأ؟
أعتقدُ أنّ الأمور ستغدو أكثر روحانيّة ولطفاً، وسنغدوا أقرب جميعاً إلى بعضنا البعض على نحوٍ جميل وقويّ في آن. سيكون هنالك عالم مختلف على الضفّة الأخرى؛ عالمٌ أكثر ذكاءً بكثير. سنصل إلى حلول لهذه المشكلات، وستغدو الحياة جميلة جداً. ستعود الأفلام. ستُزهر الأشياء كلّها مرّة أخرى، وبصورةٍ أبهى بكثير على الأرجح.
وفي الوقت الحالي؟
في الوقت الحالي، ثمّة أشياء يمكن للناس أن يقوموا بها من منازلهم؛ بإمكانهم الرسم، أو الطلاء، أو بناء أشياء صغيرة، أو كتابة الشعر أو القصائد الغنائيّة، أو كتابة قصص يمكن لهم أن يُصوّروها لاحقاً، أو اللعب، بإمكانهم أن يخترعوا ألعاباً. هنالك أشياء كثيرة جداً يمكن أن تحدث في مساحات صغيرة؛ بإمكانهم أن يخترعوا وصفات وأشياء جديدة في الطهي. إنّها فرصة لخوض مجموعة من التجارب المختلفة.
شكراً لك، يا ديفيد! سأتركك تعود إلى مصابيحك.
بالطبع، يا نِك. اعتنِ بنفسك…
أجرى المقابلة نِك روز ونشرتها vice، وكانت هذه ترجمتنا لها.
مجلة رمان
——————————-
يوميّات بيدرو ألمودوڤار أثناء الحَجْر في إسبانيا، والأفلام التي يشاهدها (ترجمة)
ترجمة رهام درويش
فيما أنتهي من متابعة القناة الثانية، أدركُ أن الوقت أصبح متأخراً، لكن هذا شيء عادي، فلا حدود للوقت أثناء الاحتجاز ولا رغبة لديّ في تخييب آمال جيمس بوند. لا أريد أن أخلد إلى النوم قبل أن يتمكن شون كونري من إحباط كل خطط المكيافيللي وGoldfinger السمين ونجاحه في إنقاذنا جميعاً.
الرحلة الطويلة حتى حلول المساء
كنتُ رفضتُ ممارسة الكتابة حتى الآن، لأنني لم أرغب في ترك أي دليل على المشاعر التي أيقظتها فيّ هذه الأيام القليلة من العزلة. قد يكون السبب الأول في ذلك اكتشافي غير السعيد بأن الوضع الحالي لا يختلف كثيراً عن روتيني اليومي، فأنا معتادٌ على العيش وحدي والبقاء في حالة من التيقّظ. رفضتُ خلال الأيام التسعة الأولى كتابة أية ملاحظات، حتى قرأتُ هذا الصباح عنواناً إخبارياً بدا لي وكأنه من مجلة مخصصة للكوميديا السوداء “تحولت حلبة تزلج في مدريد إلى مشرحة مؤقتة”. يهيء إليّ أنه عنوانٌ مكتوب بأسلوب جيالو الإيطالي، بيد أنه يحدث في مدريد، ويشبه العناوين التي درجتْ في برنامج تلفزيونيّ يسردُ أكثر أخبار اليوم شراً.
اليوم هو الحادي عشر من أيام الحجر الصحي الذي بدأتُ بالالتزام به يوم الجمعة التي صادفت الثالث عشر من مارس آذار. بدأتُ من ذلك الحين بترتيب أموري لأتمكن من مواجهة الليل وما يجلبه من ظلام. فأنا أعيش في مكان يبدو وكأنه وسط غابة، وأتتبع الإيقاع الذي يدلني إليه النور الساطع عبر الشرفة والنوافذ. لقد بدأ فصل الربيع والطقس ربيعيّ فعلاً. هذا أحد أروع المشاعر اليومية التي كدتُ أنسى وجودها. ضوء النهار ومسيرته الطويلة حتى يحل المساء، ولا أعني أن هذه المسيرة شيء مروّع، بل على العكس، فهي تبعثُ على البهجة. (أو أن هذا ربما ما أحاول التركيز عليه متجاهلاً عذابات الأخبار التي تَرِدُ باستمرار.)
توقفتُ عن تفقد ساعتي، ولا أنظر إليها إلا لأعرف عدد الخطوات التي قطعتُها مشياً عبر الممر الطويل في منزلي، الممرّ الذي عاتَبتْ فيه جوليتا سيرانو أنطونيو بانديراس لعدم كونه ابناً جيداً فيما أشارت إليّ. يخبرني الظلام في الخارج أن المساء قد حلّ بالفعل، لكن ليس الليل ولا للنهار جدول زمني. توقفتُ عن الاستعجال. من بين كل الأيام، اليوم هو الثالث والعشرون من مارس وتخبرني حواسّي بأن اليوم قد أصبح أطول أي أن بإمكاني الاستمتاع بضوء النهار لمدة أطول.
لستُ في مزاج سعيد بما يكفي لأبدأ بكتابة عمل مسنود إلى الخيال. يحدثُ كل شيء في وقته، بالرغم من قدرتي على التفكير بعدد من الحبكات لبعضها طبيعة أكثر حميميّة. (أكاد أجزم أننا سنشهد طفرة في المواليد بنهاية هذا الوضع، كما أنني متأكد من أن حالات الانفصال ستكون كثيرة، فكما قال سارتر، الآخرون هم الجحيم. ستضطر بعض الأسر لمعايشة الواقعين في آن: الانفصال وولادة فرد جديد لأسرة تفككت للتوّ.)
كان ليسهلَ فهم الواقع الحالي لو كان أدباً خيالياً أكثر منه كقصة واقعية. إذ يبدو وكأن العالم والفايروس الجديد أجزاءً من قصة خيال علمي من الخمسينيات أو من سنوات الحرب الباردة. وكأن الواقع فيلم رعب يمتلئ بالبروباغندا القاسية المناهضة للشيوعية. أو أنه فيلم أمريكي جيد من الدرجة الثانية، خصوصاً تلك الأفلام التي استندت إلى روايات ريتشارد ماثيسون مثل “The Incredible Shrinking Man,” “I Am Legend,” “The Twilight Zone”، على الرغم من سوء نية منتجي هذه الأفلام. بالإضافة إلى هذه الأسماء، أفكر أيضاً بأفلام “The Day Earth Stood Still,” “D.O.A.,” “Forbidden Planet,” “Invasion of the Body Snatchers”، وأي فيلم يظهر فيه سكان المريخ.
لطالما جاء الشرّ من الخارج، فهناك الشيوعيون واللاجئون وسكان المريخ، وشكلت هذه ذرائعاً خدمت الشعبوية القاسية. (مع ذلك، فإنني أنصحُ وبحماسة بالغة بمشاهدة كل الأفلام التي ذكرتُها، فلا زالت ذات جودة عالية). في الواقع، لا يدّخر ترامب جهداً ليضمن أننا نعيش في فيلم رعب من الخمسينات، وهو يطلق على الفايروس اسم الفايروس الصيني. ترامب هو الآخر مرضٌ عضال نعيشه في هذا العصر.
أقررُ الحصول على بعض التسلية. عادةً ما أرتجلُ شيئاً (لكن هذه ليست عطلة نهاية الأسبوع التي أسخرها عادة لعزلتي)، لذا فأنا الآن أخطط برنامجاً يتكون من مشاهدة الأفلام والنشرات الإخبارية والقراءة بهدف ملئ أوقات الفراغ خلال اليوم. أصبحَ منزلي بمثابة معهد وأنا ساكنُه الوحيد. أضفتُ مؤخراً بعض التمرينات المنزلية كذلك. كنتُ أشعر بإحباط شديد حتى الآن، فلم أكن أقوم بأي تمارين سوى الاستيقاظ والسّير عبر ممر في منزلي، شاهدتم كلاً من جوليتا سيرانو وأنطونيو بانديراس يسيران عبرهُ في فيلم “Pain and Glory”.
أقوم باختيار فيلم الظهيرة “Dirty Money/Un flic” للمخرج جان بيري ميلفلي، وأفاجئ نفسي باختياري لفيلم المساء إذ أقرر اختيار أحد أفلام جيمس بوند “Goldfinger”. اعتقدتُ أنني في يوم كهذا بحاجة إلى نوع من أنواع التسلية الصرفة، أو الهروب التام.
أسعدُ فيما أشاهد فيلم “Goldfinger” باختياري، فبدلاً من أن أقوم أنا باختيار الفيلم، اختارني هو. التقيتُ شون كونري حين جمعتنا طاولة على عشاء في كان. تفاجئتُ حينها بمعرفته السينمائية وخصوصاً فكرة اهتمامه بأيّ من أعمالي. كان ذلك بعد رحيله عن مدينة ماربيا، فيما لم يتوقف عن حب إسبانيا من ذلك الوقت. انتهى ذاك اللقاء ببدء صداقة بيننا حتى أننا تبادلنا أرقام هواتفنا التي كنتُ متأكداً أن أياً منا لن يستخدمها أبداً. بالرغم من ذلك، وبعد عدة شهور بين عامي 2001 و2002، هاتفني بعد أن أنهى مشاهدة فيلم “Talk to Her”. لستُ ممن يولعون بشيء ما ولا أؤمن بالأساطير، لكن الاستماع لحديثه عن أحد أفلامي ترك فيّ أثراً كبيراً لا يقل عن تأثير كونه ممثلاً متميزاً جذاباً وذا صوت عميق. فكرتُ بكل هذا فيما كنتُ أشاهد فيلم “Goldfinger” في ذلك المساء. تنافستُ أنا والحجر الصحي والمساء وشون كونري على أفكاري بما في ذلك ما شابها من انقطاعات.
أسترقُ لحظات لتشغيل التلفزيون بين فيلم وآخر لأعلم أن إعصاراً لا نعرف عنه سوى اسمه قد أودى بحياة لوسيا بوس، لأذرف أولى دموع اليوم. كنتُ مفتوناً بلوسيا بصفتها الفنية وصفتها الشخصية. أتذكرُها من فيلم “Story of a Love Affair” لأنطونيوني، إذ كانت امرأة بجمال لا مثيل له، غريبة بالنسبة لزمانها وذات مشية حيوانية عجيبة تجمع بين أسلوب الرجال والنساء، وهي مشية ورثها عنها ابنها ميغيل بوس إضافة إلى أشياء أخرى. سأُدرِجُ فيلم أنطونيوني على برنامج الغد.
كنتُ واحداً من الكثير من أصدقاء ميغيل الذين ذُهلوا ووقَعوا تحت تأثير التعويذة القوية لهذه المرأة التي بدا أنها خالدة. مثل جين مورو وشافيلا فارغاس وبينا باوش ولورين باكال، كانت لوسيا جزءاً من ظاهرة مرموقة جمعتْ نساءً أحراراً مستقلات أكثر رجوليّة من الرجال في محيطهن. أعتذرُ عن سلسلة الأسماء التي ذكرتُها للتّو لكنني حظيتُ بلقائهن جميعاً وكنتُ قريباً منهن. هذه إحدى سلبيات أن تكون عالقاً من المنزل، تصبحُ فريسة سهلة للنوستالجيا.
أتمكنُ من التواصل مع ميغيل في مكسيكو سيتي ويستغرق حديثنا وقتاً طويلاً. مرّت سنوات عدة على آخر حديث بيننا، وبالرغم من الحدث المأساوي، كنتُ أرغبُ في التعبير عن شكري له على كل أزهار الأوركيد البيضاء التي لا يزال يرسلها إليّ في عيد ميلادي على مدار العقود الثلاثة الأخيرة. بغضّ النظر عن مكان تواجدي، وهو مدريد في أغلب الأحيان، تصلني في الخامس والعشرين من سبتمبر من كل عام مزهرية من أزهار الأوركيد البيضاء التي تدوم لأشهر عدة، وتُرافقُ كل منها بطاقة كبيرة موقّعة بالحروف الأولى من اسمه.
من فوائد عدم وجود جدول زمني أثناء الاحتجاز أن تتخلص من الشعور بالعجلة والضغط والتوتر. أنا بطبيعتي كثيرُ القلق، لكنني أكاد لا أشعر بشيء منه في هذه الأيام. نعم، أدركُ أن الواقع مروّع ومليء بالغموض خارج حدود نافذتي، ولهذا فأنا متفاجئ من عدم شعوري بالقلق. أحاولُ جاهداً التشبّث بهذا الشعور الجديد الذي يساعدني في التغلبِ على خوفي وشكوكي. فأنا لا أفكرُ في الموت ولا في الأموات. مهمتي الرئيسية هي الردّ على كل رسالة وصلتني لتسأل عن حالي وعن عائلتي، وهو أمرٌ جديد أقوم به بكل الأحوال إذ أنّ من عاداتي السيئة أن أتجاهل الرسائل أو معظمها. للمرة الأولى، أشعر أن لهذه الرسائل معنى حقيقياً غير مبتذل. أتعامل مع الرد على هذه الأسئلة بجديّة كبيرة وأقوم بالرد على جزء منها كل ليلة، لأتعرف بشكل أكبر على ما يقوم به أفراد أسرتي وأصدقائي.
عندما يغيب النور عن نافذتي، أبدأ بمشاهدة فيلم “Goldfinger”. ومرة أخرى، أشعر بإعجاب شديد تجاه شيرلي باسي وشيرلي أخرى تظهر لمدة قصيرة، وهي الممثلة الجميلة شيرلي إيتون التي دفعت ثمناً باهظاً لوقوعها في قبضة بوند. يُعدّ المشهد الذي يظهر فيه جسدها بلون الذهب ملقى على السرير دون أن تبقى أي من خلاياها على قيد الحياة، واحداً من أقوى المشاهد التي تم تصويرها في سلسلة الأفلام، وهو تعبير عن الرغبة والجشع والإثارة الإيروتيكية وجنون الأشرار شديدي القوة الذين لا يطمحون لشيء سوى تدمير العالم بحيث لا يتمكن من النجاة سوى أتباعهم.
عليّ أن أتوقف عن متابعة الفيلم لأجيب على مكالمة هاتفية من شقيقتي تشوس التي تخبرني بأنها تشاهدني ضمن وثائقي يُعرض على القناة الإسبانية الثانية، وقد انقضى نصف الفيلم حتى الآن. أسارع في الانتقال من جهاز الفيديو لأتابع القناة الثانية لأجد فيلماً وثائقياً عن شافيلا فارغاس من إعداد داريشا كاي وكاثرينا غوند. أكاد أذرف الدموع في كل مشهد ومع كل صوت. باغتني الأمر بالرغم من أنني شاهدتُ هذا الوثائقي في وقت سابق، لكن هذه لحظة تختلف تمامأً عن كل ما عشته من قبل، وليس بوسعي أن أقوم بأي مقارنات الآن. كل ما أعرفه هو أنني محبوس وأوشك على الانفجار في الوقت ذاته. أتابع الأخبار بوتيرة أقل في كل يوم في محاولة لإبعاد القلق والذعر عن نفسي. يمكن وصف الملاذ الذي أشير إليه، من أساليب التسلية والهرب من الواقع، بأي شيء إلا الرّتابة. حتى وإن كنتُ قد شاهدتُ الوثائقي عن شافيلا والذي فاجئني بمشاعر لا أستطيع التحكم بها، ولا أملك حتى الرغبة للقيام بذلك. أبكي حتى المشهد الأخير، وتغمرني ذكريات كل الليالي التي قدمتُها فيها على خشبة مسرح سالا كاراكول أو مسرح ألبينيز الذي كان أول مسرح اعتلتْ هي خشبته كمُغنية. لم يَسمح لها التمييز الجنسي الملعون في المكسيك بالغناء على المسرح مرتدية بنطالاً وعباءة البونشو، وقد تذرّع القائمون حينها بحجة استحالة ارتداء امرأة حقيقية لهذه الملابس.
قدمتُها على مسرح أولمبيا في باريس. كان ذلك أمراً صعباً لكننا تمكنّا من الحصول على جمهور يملأ المسرح. في الصباح وخلال فحص الصوت، سألتْ شافيلا أحد العاملين عن المكان الذي كانت تقف فيه السيدة إديت بياف أثناء عروضها على المسرح، وقامت بالغناء من ذلك الموقع. منذ تلك الليلة، بدأتُ طقساً خاصاً بي كانت فيه شافيلا إديت بياف خاصتي، فبدأتُ بتقبيل السنتميترات القليلة التي كانت تقف عليها شافيلا على المسرح في وقت لاحق.
لم أكن جاهزاً للاستماع مرة أخرى إلى صوت الساحرة العظيمة في حديثها ولا غنائها بعد متابعة فيلم جيمس بوند المسلّي، كذلك لم أكن جاهزاً لأشاهد نفسي وأنا أغني “Vámonos” معها أو أن أسترجع الكثير من لحظات حياتها سواء في مدريد أو في المكسيك.
أذكرُ أنني هاتفتُها من طنجة خلال عيد الميلاد عام 2007. أخافني يومها صوتها وصياغتها للكلمات القليلة التي تفوّهت بها. كان اللفظ القشتالي الرائع واحداً من مميزات شافيلا الخاصة، فكانت الكلمات تصدر من فمها في غاية الكمال دون أن ينقصها حرف واحد. لكنها لم تتمكن أثناء تلك المكالمة من قول أي شيء سوى “أحبكَ كثيراً” و”يمرّ الزمن سريعاً”، وهو ما أصابني بالقلق. بعد أسبوعين، وصلتُ إلى لا كوينتا لا مونينا في مدينة تيبوزتلان حيث كانت تتلقى عناية صديقة من أيام شبابها. كنت جاهزاً لأسوأ الاحتمالات، إذ كنتُ أعلم أنها خضعت للعلاج في المستشفى قبل ذلك بثلاثة أيام. لكنها عندما علمتْ بأنني قادمٌ لزيارتها طلبت أن يُسمح لها بالخروج في الليلة السابقة. ما كان لأحد أن يرفض طلباً لشافيلا. وبالفعل، كانت حاضرةً في استقبالنا في منزلها الصغير
في تيبوزتلان كما لو كانت زهرة من فصيلة بنت القنصل: مشرقةً وبرّاقة وبنفس الصوت الذي اعتدنا عليه، فلم تتوقف عن الكلام طيلة فترة زيارتنا التي استغرقت ثلاث ساعات.
افترقنا في ظهيرة ذلك اليوم وتركناها وحيدة مقيدة بوحدتها. اعتنت بها امرأة من السكان الأصليين حتى الخامسة من عصر ذلك اليوم، ثم بقيت وحدها حتى اليوم التالي، فلم تسمح شافيلا يوماً لأحد من العاملين لديها برعايتها خلال الليل. كان لوالدتي سلوكاً مشابهاً في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاتها. لسببٍ غير مفهوم تصبح النساء القويات أكثر حدة وأقل عقلانية، ولا يمكن بأي طريقة أن تحذرهنّ من الليالي الطويلة، والسبب الرئيسي وراء ذلك أنهنّ يعرفن تلك الليالي تمام المعرفة وأنهن يتمتعنّ بقوى خارقة على التحمّل. تحدثنا عن مرضها وعن الموت وأخبرتني كما تفعل أي ساحرة طيبة: “لستُ خائفة من الموت يا بيدرو، نحن الساحرات لا نموت، بل نُرفع للسماء.” كنتُ متأكداً من كلامها. كذلك قالت لي: “أنا هادئة، سأتوقف عن الحياة في إحدى الليالي ببطء وسأستمتع بذاك الشعور.”
استقبلتنا في اليوم التالي واقفة ومتحمسة لنصحبها لتناول الغداء خارجاً. كان لشافيلا خبرة كبيرة في العودة إلى الحياة كما لو كانت تُبعث من جديد. بعد أن تعافت بشكل تام، عرضت علينا بسعادة بالغة أن تأخذنا في جولة حول تيبوزتلان. بدأت رحلتنا من تلة تشاتشبيتل مقابل المنزل الذي كانت تعيش فيه. في تلك المنطقة، قام جون ستورجس بتصوير مشاهد فيلم “The Magnificent Seven”. بحسب الأسطورة فإن أبواباً خفية في تلك التلة ستظهر من بين الصخور والأعشاب وتُفتح عند حلول نهاية العالم القادمة، وحينها لن ينجوا إلا أولئك القادرين على الدخول إلى رحم الأرض عبر هذه الأبواب. أنظر إليها بدهشة جديدة، فقد كانت تتحضر بالفعل لنهاية العالم الجديدة، ولا يسعني إلا أن أفكر في النهاية التي نعاصرها اليوم.
بالدموع على خدودي ألتقط أنفاسي وأستعد للعودة لمتابعة فيلم جيمس بوند، لكن القناة الإسبانية الثانية تبدو مستمرة بلا توقف، فتقدم بعد الوثائقي عن شافيلا فيلماً آخراً يحتوي اسمه على كلمة “نور”، فيلم “La luz de Antonio”/“Dream of Light”. كان أنطونيو لوبيز رساماً من لامانشا، وكانت زوجته ماريا مورينو نور عينيه. كانت ماريا رسامة من مدرسة الواقعية العظيمة، ولطالما بقيت على الهامش خلف أنطونيو وغيره من مجموعة رسامي الواقعية العظماء الذين عاشوا أثناء الخمسينيات. أنصحُ بمتابعة هذا الوثائقي بشدة، كما أنصح بهذه المناسبة بمتابعة القناة الإسبانية الثانية لما تقدمه من برامج بديعة.
ماتت ماريا مورينو قبل أسابيع قليلة. أذكر أنها كانت ملاكاً على العكس من شافيلا، إذ تترك رسوماتها انطباعاً طيباً وسارّاً وغامضاً، وتختلف كثيراً عن أعمال أنطونيو لوبيز الذي تشاركت معه الرسم في الموضوعات ذاتها ولم تتأخر عنه سوى بضع خطوات. يتحدث الوثائقي كذلك عن عملها في إنتاج فيلم “The Quince Tree Sun“ للمخرج فيكتور إريثيه، وهو فيلم جيد آخر، أظن أنه الأفضل على الإطلاق في التعبير عن معجزة النور الطبيعي التي تنعكس لتشكّل عالمنا. نجد النور، وحده النور في الرحلة الطويلة نحو المساء، وهو ما يجعلنا نمرّ بفصول السنة المختلفة.
في تحفة إريثيه الفنية، يمكننا رؤية أنطونيو لوبيز في مرسمه، يكنس الأرض ويحضر اللوحات التي سينفّذ عليها عمله الجديد. يا له من طقس جميل! يخرج أنطونيو إلى فناء منزله المتواضع حاملاً كأساً من النبيذ، ونراه مأخوذاً بالثمرة الصفراء لشجرة السفرجل كثيفة اللحاء، وهي شجرة بسيطة ورثة قليلاً. لثمار السفرجل لون أصفر زاه وهي محاطة بأوراق من الأخضر الداكن. في الصباح، يتجول أنطونيو حول الشجرة ويركز نظره على الملمس الخشن لحبات السفرجل، وينظر إليها مفتوناً ومنبهراً. ثم يقرر أن يرسمها، حتى وهو يعلم مدى استحالة قدرته على نقل الصورة التي يمعن النظر إليها إلى اللوحة، لأن الثمرة حيّة وستستمرّ في التغير كل يوم حتى أن نورها لن يستمر على نفس الصورة. يتحدث الفيلم عن المعركة التي يخوضها الفنان لالتقاط نور الشمس على السفرجل، وهي معركة خاسرة سلفاً.
في عام 1992، عُرض فيلم إريثيه في مهرجان كان للأفلام حيث كنتُ عضواً في لجنة التحكيم. حاز الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الخاصة باستحقاق بعد أن كنتُ أوشكتُ على خوض مشاجرة مع رئيس اللجنة جيرارد ديبارديو الذي لم يحبّ الفيلم أبدأً واعتبره فيلماً وثائقياً. لحسن الحظ، تمكنتُ من الحصول على دعم بقية أعضاء اللجنة.
فيما أنتهي من متابعة القناة الثانية، أدركُ أن الوقت أصبح متأخراً، لكن هذا شيء عادي، فلا حدود للوقت أثناء الاحتجاز ولا رغبة لديّ في تخييب آمال جيمس بوند. لا أريد أن أخلد إلى النوم قبل أن يتمكن شون كونري من إحباط كل خطط المكيافيللي وGoldfinger السمين ونجاحه في إنقاذنا جميعاً.
نُشرت في إنديواير في ٨ أبريل ٢٠٢٠ وهذه ترجمتنا لها.
مجلة رمان
———————————–
==============================
==============================
تحديث 17 نيسان 2020
———————————
“كورونا” وكبار السنّ: مشاهدات من الريف الفرنسي/ أحمد عيساوي
“كبار السنّ لا يموتون… ينامون ذات يوم وينامون لفترة طويلة… يداً بيد… يخافون من الضياع ومع ذلك يضيعون…”.
تلك الأغنية (les vieux) التي كتبها جاك بريل عام 1964 وغنّاها كتحية لوالديه اللذين غادرا الحياة، أصبحت من أجمل القصائد، وأقساها، التي تتناول كبار السنّ، إذ لا ترسم فقط بورتريه الشخص العجوز بل تقرنه بفعل الاستسلام لمشيئة حتمية: الموت. وليس الموت العادي كرحيل الجسد الذي يتناوب مع فعل الولادة، هو نفسه الموت الذي يصوّره بريل في رائعته بل انحسار كل شيء وفقدانه قبل ساعة الرحيل. فالوقت سيّد قصيدة بريل التي تقفل في مقاطعها الثلاثة على مشهدية الساعة التي يُسمع رنينها في الصالون حيث “الكتب تشعر بالنعاس والبيانو المهجور”، في إشارة إلى ضعف القدرات الفكرية وحيث “الحركة بطيئة والعيون دامعة والجسد ثقيل” في إشارة إلى تراجع الطاقة الجسدية.
لا أبالغ حقّاً إذا قلت أنّ قصيدة بريل لا تفارق ذهني منذ شهر تقريياً. أتعثّر بكلماتها في مكان العمل، في الشارع، في السوق، في الزيارة الأسبوعية لدار الرعاية وفي كلّ مكان أصطدم به بصورة المرأة أو الرجل، من أصحاب الشعر الرمادي، الأبيض، الذين يسابقون الحياة ويراهنون على البقاء في تلك الأيام العصيبة التي تذكّرهم بصيف 2003 الناري.
في حديقة الدار، اعتاد كبار السن الموجودين في Ehpad الضيعة الخروج لتمضية طيلة فترة العصر وحتى غروب الشمس، لا أثر سوى لكراسٍ فارغة ولسيدة تستقبلك من بعيد لتطلب منك أن تضع أكياس الأدوية على باب الدار. عند المغادرة، تلاحقك نظرات كبار السنّ الذين أحبّ أن أناديهم بالـseniors. العيون مطبوعة على الشبابيك، بعضهم ممنّ نشأت بيننا علاقة وتوطّدت منذ شهور تسعة، يفتح الشباك ويرمي إليّ بسلام وسؤال “هل ستطول الأمور أكثر؟”. أكذب على نفسي وعليهم وأقول “لا، سيكون كل شيء على ما يرام” وأستعجل قدماي المغادرة قبل أن يطاردني سؤال آخر.
في تلك الدار كما في كل دور الرعاية الفرنسية، تُرك المسنّون قبل بداية المعركة. تُرِكوا مرات عدة وفي أزمنة مختلفة وبأشكال متعددة. لم يكن القصد أن يذهبوا إلى تلك المعركة من دون سلاح، لكن هذا ما حصل.
ظروف العمل وصعوبة التنقّل بين قرى الكوريز حتّمت عليّ الاستعانة بشركة تستخدم السيارة الكهربائية لتلبية حاجات النقل بين قرى وبلدات القضاء والمحافظة. الرجل الذي يؤمن لي المواصلات بين الصيدليتين، يخبرني عن تراجع عمله بنسبة 70 في المئة في ظلّ الحجر المنزلي، إذ لم يتبقَّ له سوى بضعة زبائن يعملون في قطاع الصحة، لا يمتلكون سيارات، أو ربما أتوا من مدن أكبر للعمل موقتاً في مستشفيات القضاء. وعندما تسأله عن السبب الرئيسي لهذا التراجع يقول: “هدفي الأساسي من تقديم خدمة النقل في القضاء بسعر مقبول جداً هو هدف إنساني بالدرجة الأولى، وبيئي بالدرجة الثانية. أما السبب الذي دفعني إلى العودة إلى أصولي في الكوريز فهو كبار السنّ. أمي تبلغ 89 سنة، ومثلها آلاف العجزة الذين يحتاجون إلى التنقل لزيارة الطبيب أو لتحصيل الدواء وشراء احتياجاتهم”.
لكنّ الرجل الذي يعمل بشكل أساسي على توفير خدمة النقل لكبار السنّ أو تنسيق زيارات عائلية في أيام محددة من الشهر لمن هم في دار الرعاية، يجد نفسه اليوم ممنوعاً من أي احتكاك بزبائنه. أصبحت فئة كبار السن في زمن الكورونا فئة استثنائية، لأسباب صحّية وفيزيولوجية مفهومة، تعيش على هامش الحياة وفي قلب المأساة.
الكل هنا يخاف من أول حالة “كورونا” في دار الرعاية، يتهامسون سرّاً عن عدد من الحالات في القرية والقرى المجاورة، لكنهم لا يخفون ارتياحهم لغياب تلك “الحالة الأولى” في مراكز الاهتمام بكبار السن. قالت لي طبيبة القرية الوحيدة “حتى اللحظة لم نسجّل أي حالة في الـehpad. أتمنى ألا يأتي ذلك الخبر لأنّ مجزرة تختبئ خلف الحالة الأولى”.
ذات يوم في زمن “كورونا” الراهن، عاجلتنا زبونة بخبر أسود وصادم. حدّثتنا عن موت السيد فرانسوا (اسم مستعار) في منزله مساء أمس. قالت إنّ الحي استيقظ على صراخ زوجته المفجوعة حين رأته متدلّياً في حديقة المنزل. ترك السيد الذي يبلغ 79 سنة، المعروف بدماثة أخلاقه وثقافته الواسعة إذ عمل 30 عاماً كأستاذ ثانوي في ليسيه ادمون بيرييه في مدينة Tulle، رسالة عبّر فيها عن استسلامه الكامل، لكنّه بانتحاره كما يقول ذهب إلى آخر طلقة في جعبته لمقاومة هذا الإستلاب الناتج عن اكتئاب ثلاث سنوات، زادتها أيام الحجر والحجب عن الفضاء الخارجي ذعراً. في رسالته التي وجدت قرب ماكينة تمشيط العشب بعض كلمات “إنّ حالتي تسوء ولا أرى حلولاً لذلك أفضّل الموت بملء إرادتي على أن أموت خنقاً بالمرض”.
مفارقة قاسية جداً، فالسيد فرانسوا لم يطلق رصاصة على رأسه. لم يطعن نفسه بسكين. لم يرمِ نفسه من علو. لم يفعل سوى ما كان المرض سيفعل في احتمالاته الضيقة: شنق نفسه. قام بتعشيب الحديقة، شرب كأس الشاي واختار أن يموت بطريقة خاف أن تأتيه على غفلةٍ.
قد يقول قائل إنّ كآبة الرجل المزمنة دفعته للانتحار وفي ذلك حقيقة لا يمكن نكرانها. لكنّها حقيقة ناقصة، إذ لا تأخذ حيّز الزمان والعوامل المؤثرة في ذلك القرار في الاعتبار. ما هو أكيد أنّ قراره كان سريعاً ولم يكن بإمكاننا فعل ما يجنّبه الرحيل.
تلك قصة من بين قصص كثيرة نسمعها عن معاناة كبار السن في الحجر المنزلي وعن تلك المأساة التي تتولّد نتيجة التباعد الاجتماعي واختلال الروابط الأهليّة.
في رحلتي إلى منزل السيدة كوليت (اسم مستعار) لتركيب سرير طبّي لزوجها الذي أقعدته ثلاث جلطات دماغية في 10 سنوات، قال لي التقنّي المخوّل مساعدتي، الآتي حديثاً إلى الكوريز من مدينة نانت، أنّه صدم في الأشهر الأولى بسبب عدم قدرته على إيجاد طبيب للعائلة (médecin traitant). أخبرني أنّه سمع كثيراً عن “الصحارى الطبية” (deserts médicaux)، لكنّه لم يلمس ذلك إلا في هذه الأرياف حيث تجد البلديات صعوبة كبيرة على انتداب العاملين في القطاع الصحي. ففي إحصائية أخيرة نشرها المجلس الوطني لنقابة الأطباء أكثر من 50 في المئة من الأطباء الذين تمّ استقدامهم منذ العام الماضي إلى الكوريز نالوا شهاداتهم في الخارج (دول أوروبا الشرقية ورومانيا بالدرجة الأولى) وقرروا الاستقرار في القضاء حيث الطبيعة والهواء النظيف وتكاليف الحياة المنخفضة.
على الباب، قالت لنا السيدة كوليت إنّها سمعت أحاديثا عن لزوم لبس الكمامة الجراحية في مرحلة ما بعد الحجر المنزلي. تلك معضلة أساسية اليوم في فرنسا لأنّ السؤال عن الكمامات – التي ما زالت مخصصة للفرق الصحية ولبعض الحالات الاستثنائية من المرضى – والمواد المعقمة لم ينتهِ منذ نحو الشهر.
الجميع هنا يعشق نظريات المؤامرة، لا يثق بكلام الحكومة، ولا يحب السياسيين عموماً وإن عرف عن الفرنسيات والفرنسيين مزاجهم الصعب الذي لا ترضيه أي سياسة مهما كانت توجهاتها الفكرية، فإنّهم لا يوفّرون اليوم فرصة لتصويب النقد على سياسات الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من عقدين من الزمن. يقول معظم الكوريزيين اليوم إنّ هذه الأرض أنجبت جاك شيراك وفرانسوا هولاند، لكنّها لم تنجب رئيساً على مستوى تطلعاتهم وطموحاتهم. يعبّرون عن امتعاضهم من تراجع دعم قطاعي الصناعة والزراعة التي يعمل فيها 27 في المئة، من أبناء القضاء، والتي نشطت مجدداً في أزمة “كورونا”، ويسمعون كلاماً قاسياً بحقّ إيمانويل ماكرون وقانون التقاعد وسياسته الضريبية التي تغازل الأثرياء.
عند خروجي من مكان العمل الذي يبعد بضعة أمتار من السكن الذي أهدتني إياه صاحبة الصيدلية طيلة مدة العمل، لأنني “امتلكت شجاعة الشاب الذي ترك المدينة والمسارح والسينما والمقاهي ليعمل في الريف”، صادفت جاري السيد راموس. الرجل البرتغالي الثمانيني الذي قدم من ماديرا مع جيل الهجرة الأول وبقي لسنوات طويلة عامل بناء في ورش البيوت والأبنية في الكوريز، لا يخفي سعادته على رغم المآسي التي أصابت فرنسا اليوم ويعلّلها بقوله إنّ “عالم الغد سيتغيّر حتماً”. قلت له إنه قد يتغيّر للأسوأ وهذا يقيني. فضحك وأعطاني كرتونة من البيض البلدي وقال “للأسف، إنّ العولمة لم تبدأ هنا كي تموت بعد كورونا. نحن لم نعرفها لأننا اخترنا ألا نتعرّف إليها، لكنّ مفاعيلها وصلت إلينا رغماً عنّا”.
درج
———————————
ما بعد الجائحة/ محمد حنّون
هُـناك أمور بسيطة توقفت عن فِعلها حتى ما قبل الجائحة، وتوقف الكثيرون عن فعلها، بسبب تطورات الحياة واختلافها، وهناك أمور كنا نتجنب فعلها ونرفض تجربتها، أمور أتمنى الآن أن أقوم بها.
* سأقوم بشراء ظرف بريدي ذي أطراف المخططة بالأحمر والأزرق، وسأشتري ورق رسائل مُسطَّراً، وسأكتب رسالة لصديق ما خارج الأردن. سأشتري الطابع البريدي وسألعق ظهره، دون خَوف من أن أُعدي ساعي البريد، أو أن أصاب أنا بالعدوى. ثُم سألعق المثلث الورقي للظرف وأغلقه. سأحمله فَرِحا إلى مكتب البريد، وتحديدا الذي في إربد، في شارع بغداد. سأعطيه للموظف الذي يجلس متأففاً خلف الزجاج، وسأكون فَرِحاً بنزقه، ويا حبذا لو أنه ينهرني حين أجنن سماواته بأسئلتي المكررة عن الوقت الذي تحتاجه الرسالة لتصل إلى وجهتها. أريد أن أفعل هذا بكل الفَرح، أريد ذلك من كل قلبي. والأجمل اذا غضب مني وقال: “ما عنده صاحبك ايميل”، سأقول له: عنده بس حابب أودي رسالة!
* أمر آخر سأحرص على فِعله. سأذهب إلى المكتبة العامة في بلدية إربد، وسوف أتنقل بين الجدران الممتلئة بالرفوف المُغبرة، وسأنتقي أول كتاب قرأته فيها “الأشجار واغتيال مرزوق” لعبد الرحمن منيف. سأقرأ الكتاب وأنا أجلس على إحدى الطاولات الخشبية. سأتعمد الحديث مع شخص آخر، إن تواجد، وإن لم يتواجد سأحدث نفسي بصوت مرتفع، لكي أحرض أمين المكتبة عليَّ، فينهرني بتلك الكلمة العالمية والتي تستخدمها كل لغات العالم: “ششششششششش”.. سأشعر بفرح عظيم حين يغضب مني، وهو يطالبني بالصمت؛ حتى لو كانت المكتبة فارغة تماما من الناس.
* سوف أذهب إلي “دُكان” لأشتري زُجاجة مشروب غازي، وسوف أرجو صاحب البقالة أن يصب السائل في كيس بلاستيكي شفاف، لكي يحافظ على الزجاجة الفارغة. كُنت أكره ذلك، كُنت أضع التأمين النقدي، عَشرة قروش حتى لا يفعل صاحب البقالة ذلك، ولم أدعهم يفعلون ذلك قط. سأرجوه أن يفعل ذلك هذه المرة بالرغم من أنه لم يعد أمرا قائما. سأرجوه أن يفعل ذلك، وسأؤكد له بأنني شخص لا يُؤتمن حتى على بيضة، وسأقطع يَدي وأشحد عليها؛ بأنني لا أملك العَشرة قروش. سألحظ الدهشة على وجه صاحب البقالة وهو يقول لي: يا إبني.. المشروبات الغازية الآن في علب ألمنيوم!! سأقول له: لا يَهُم.. صبها في كيس بلاستيكي.
*سأصغي هذه المرة لحسين الزرعيني، حين كان يقول لي: إذا لم تستمع بشكل كامل للمجانين الذين يمرون من هُنا، لن تتعلم شيئا من الحياة. كنت أصاب بالضجر قليلا من ثرثراتهم حين يمرون بكشك الكتب، كنت أستمع إليهم ثم أقاطعهم ليذهبوا. الآن سأذهب إلى حسين لأرجوه أن نخرج إلى الشارع لنجد أحدهم، حُكماء الشارع. لنجلس إليه ونستمع لكلامه وحكمته لساعات متواصلة. لن أقاطعه، بل سأشعل له سيجارته حتى لا ينقطع حبل أفكاره. قد يقول كلاما غير مفهوم، ولكنني لن أقول شيئا، سأقوم بهز رأسي موافقا.
*سأرفض كفالة صاحب العمل ووساطته عند العائلة الإربدية العريقة، حين كنت في نَظارة مخفر إربد، بسبب شجاري مع أحد زبائن الأستوديو، والذي اعترض على هيئة وجهه في الصورة. كان ذلك وجهه، ولا حيلة لي في الأمر. شتمني ورمى صندوق مغلفات الصور في وجهي، وقال لي “إنت مش عارف مع مين بتحكي؟” وجدتني، دون أن أنتبه، أقف فوقه تماما وأقوم بلكمه. لم أعرف بأن هُناك شخصين معه في السيارة التي تقف في الشارع. دخلوا إلى الأستوديو، وكل ما أذكره أن قانون الجاذبية لنيوتن غير مطلق. وبأنه من الممكن جدا، وبفعل قوة اللَكْمِ، وقوة الصَفْعِ، وقوة الطَرْحِ أرضاً، أن تفقد الأجسام البشرية كثافتها، وترتفع قليلا عن الأرض.
إذا حدث هذا معي مرة أخرى، سأرفض كفالة أحد، وسأرفض أن يسقط أحدهم حقه الشخصي عني نتيجة الوساطة والمعارف. أما أنا فسأسقط حقي ولكني سأرجوهم أن يفعلوا ذلك بعد 24 ساعة وليس الآن. يومها لم أمكث في النَظارةِ لأكثر من ساعة، وكنت متلهفا للخروج. لم أشعر بالتجربة كما يجب، ولا أستطيع أن أقول بأنني سُجنت، وبأنني “رد حبوس” و بأن “السجن للرجال”.. كانت مجرد 45 دقيقة قضيتها محاولا إقناع بقية “الشبيحة” في الزنزانة، بأنني “مگلع”. في حين، لو أن أحدهم عطس في أي لحظة لقفزت عن الأرض مذعورا. أريد أن أعيش التجربة كما يجب. سأحرص على أن أدخل في شجار لا يزجني في النظارة لأكثر من يوم، و لن أنسى أن أحفر على جدار الزنزانة و أنا أغادرها ” حَنُّون كان هُنا”.
أشياء كثيرة أخرى، سأفكر بها، أشياء توقفت عن القيام بها قبل الجائحة، أو رفضت أن أخوضها، والآن أود جدا أن أفعلها.
*مصور فوتوغرافي وكاتب أردني يقيم في تشيلي
ضفة ثالثة
———————————-
زمن كورونا.. فئران في حمّام بانكسي.. وحفل تضامن عالمي
التزم رسام الشارع البريطاني، بانكسي، بالتوجيهات العامة بالبقاء في المنزل، خلال أزمة فيروس كورونا، وقدم عملاً فنياً جديداً من داخل حمام منزله، يصور فئرانه الشهيرة وهي تعبث داخل المكان.
ونشر الرسام صوراً لعمله على موقع أنستجرام مصحوبة بعبارة: “زوجتي تكره ذلك عندما أعمل من المنزل”.
ويستخدم بانكسي، الذي لا تزال هويته الحقيقية مجهولة، موقع أنستجرام لإثبات امتلاكه للرسومات، بعد رسمها في أماكن عامة. وكان آخرها في مدينتي بريستول، وبرمنجهام، الإنكليزيتين.
ويمكن مشاهدة العمل الجديد، شأنه شأن كثير من الأعمال الفنية خلال حالة العزل العام، على الإنترنت فقط.
ويصور العمل الفني الجديد فئراناً ثائرة وهي تضغط على أنبوب لمعجون الأسنان، وتتدلى على مفتاح الإنارة، وورق الحائط.
وارتفعت قيمة أعمال بانكسي بدرجة كبيرة. فقد بيع رسم له لمجموعة من القرود تجلس في البرلمان البريطاني بأكثر من 12 مليون جنيه إسترليني في أكتوبر/ تشرين الأول، وهو رقم قياسي في مزاد على أعماله.
رحيل الممثلة والمنتجة هيلاري هيث
أفادت تقارير إعلامية أن الممثلة والمنتجة العالمية، هيلاري هيث، توفيت بعد معاناة من فيروس كورونا عن عُمر ناهز الـ74 عاماً.
وكتب ابنها يرثيها عبر صفحته الخاصة: “فقدنا عرّابتي الرائعة، هيلاري هيث، بسبب كورونا. لقد كانت قوة من الطبيعة، ولا يمكنني أن أتحمَّل أنها لم تعد معنا”.
وكانت هيلاري اشتهرت بأدوارها التمثيلية الشهيرة في فيلمي “Witchfinder General”، و”Wuthering Heights”، لتنتقل بعدها إلى منتجة أفلام في التسعينيات، حيث كانت لها أعمال عديدة.
رحيل الممثل المسرحي بروس مايرز
توفي في باريس الممثل البريطاني، بروس مايرز، الذي رافق المخرج المسرحي الشهير، بيتر بروك، في كثير من أعماله في فرنسا، عن 78 عاماً، وفق ما أعلن مسرح “بوف دو نور”.
وقال بيتر بروك (95 عاماً) في بيان عن المسرح الباريسي الذي أنعشه في السبعينيات: “غادرنا الممثل المتميز بروس مايرز، وهو قامة مسرحية كبيرة”.
ولد مايرز، الذي كان مخرجاً أيضاً، في 1942 في رادكليف في إنكلترا، ومثَّل في كثير من أعمال بروك، خاصةً مسرحيات وليام شكسبير: “تيمون الأثيني” 1974، و”الصاع بالصاع” 1978، و”العاصفة” 1990، و”هاملت” 2000.
وكان أحد ممثلي عمل بروك الملحمي الشهير “ماهاباراتا” 1985، و”مؤتمر الطيور” 1979 و”أنا ظاهرة” 1998.
“عالم واحد معاً في المنزل”
أفادت تقارير إعلامية بأن المغنيتين تايلور سويفت، وجنيفر لوبيز، والإعلامية أوبرا وينفري، انضممن إلى عرض خاص على مستوى العالم للاحتفاء بجهود من يمارسون أعمالهم في ظل تفشي وباء فيروس كورونا.
وأُطلق على العرض اسم “وان وورلد توجيذر آت هوم”، أو “عالم واحد معاً في المنزل”، وسوف يتضمن فقرات غنائية وكوميدية وقصصاً يرويها أطباء وممرضون وعاملون في محلات البقالة.
من جهتهم، أعلن المنظمون أيضاً أنه سيكون هناك بثّ إضافي يستمر 6 ساعات، وسيشارك فيه نجوم كبار في عالم الرياضة، مثل بطل سباقات فورمولا 1، البريطاني لويس هاميلتون، ولاعبة كرة القدم النسائية الأميركية، ميغان رابينو، وعشرات المغنين والممثلين والشخصيات المؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وسيسبق هذا البث العرض الذي يستمر ساعتين، وستنقله شبكات تلفزيونية عديدة في أميركا الشمالية والعالم، مساء يوم غد السبت، في أكبر مسعى للتعبير عن التضامن مع العاملين في الخطوط الأمامية لمواجهة الفيروس.
وستكون مشاركة الجميع في الحدث، القائمة عليه منظمة الصحة العالمية، وجماعة غلوبال سيتزن الحقوقية، عن بعد بسبب التباعد الاجتماعي، وإجراءات العزل العام التي تهدف إلى الحد من انتشار الفيروس الذي أودى بحياة ما يربو على 124 ألف شخص على مستوى العالم.
دوام جزئي في معهد غوته
أعلن معهد غوته الألماني الثقافي أنه سيسجل نحو 350 موظفاً لديه في نظام العمل بالدوام الجزئي بسبب تداعيات جائحة كورونا.
وكافة معاهد غوته في أنحاء العالم تقريباً، وعددها 157 معهداً، مغلقة حالياً أمام الجمهور، ما يعني عدم وجود إيرادات من دورات اللغة، والتي لا يمكن تعويضها بالعروض الرقمية إلا على نحو جزئي.
وبحسب بيانات وزارة الخارجية الألمانية، فإن ذلك يتسبب في فجوة في إيرادات المعاهد الخارجية تصل إلى 80 مليون من أصل 100 مليون يورو، وتبلغ الإيرادات السنوية لدورات اللغة التابعة للمعهد داخل ألمانيا، حيث يتنافس مع مقدمي خدمات آخرين، نحو 50 مليون يورو.
ويعد معهد غوته الواجهة الثقافية لألمانيا في الخارج. وتوجد للمعهد فروع في 98 دولة، إلى جانب 12 منشأة له داخل ألمانيا.
وقال الأمين العام للمعهد، يوناس إبرت: “المعاهد الداخلية متضررة بشدة من التداعيات الاقتصادية للإغلاق”، مضيفاً أن مجلس إدارة المعهد يدرس حالياً إمكانيات الاستقرار التي تقدمها الحكومة الاتحادية والولايات.
وكانت الحكومة الألمانية أعلنت مؤخراً عزمها على دعم معهد غوته بقروض في الداخل ومخصصات مالية إضافية لنشاطها الدولي.
(رويترز ـ أ.ف.ب ــ د.ب.أ)
ضفة ثالثة
——————————————————–
يوميات كاتب في الحجر الصحي/ محمود عبد الغني
أفكر في الذهاب إلى الرباط. هل من أحد هناك يحبّني؟ أم عليّ أن أذهب إليها لأنقّب عن أعمق القوانين التي تهيمن على وجودي؟ لماذا هذا الإصرار على الذهاب إلى الرباط؟ لماذا هذه المحنة، محنة البحث عن قوانين وجودي؟ وجدتها: سأذهب يوم الأحد. وعلى ذلك الأحد أن يكون ماطراً. ربّما هذا التعبير يعيد ترتيب كل شيء من جديد: عليّ زيارة الرباط في يوم أحد. وعلى ذلك الأحد أن يكون ماطراً. بْلا بْلا بْلا… كفى… كفى. قلبي الذي كان مغلقاً سيُفتح هناك. لكن أهمّ شيء الآن هو اجتناب مشاعر الأنانيين خصوصاً ذلك النوع الذي يغالي في تشكيل كل شيء على صورتهم: تلك هي مأساتهم. هذه الحكاية لم تقل شيئاً جديداً. ذلك أمر معروف، وما قلته مجرد بْلا بْلا بْلا. تقبلوا هذا السؤال: هل سأذهب بوردة في يدي؟ هناك من لا يفهم الحياة إلا ووردة في يده، وهناك من لا يفهمها إلا حين يشكّل كلّ شيء على صورته. هذه حكاية أخرى.
قضيت بالأمس جزءا من الليلة في قراءة رسائل جورج لوكاتش. أصدقاؤه يلقبونه “جوري الحلو”. وضعت إلى جانب المراسلات كتابه، كتاب ج. لوكاتش، المفكّر الشاب، “الرواية كملحمة بورجوازية” (ترجمة جورج طرابيشي). لكن الناشر كتب على ظهر الغلاف “الملحمة كرواية بورجوازية” (ما أجمل التقاء جورج العربي الماركسي بجورج المجري الماركسي). بقيت ذاهباً وآيِباً بين المراسلات والكتاب النّظري الهام، رغم أن هذا الأخير أزعجني برائحته المزعجة (مطبوع سنة 1979). أظن أن جسدي سيكون على خطأ إن لم يشعر بالانزعاج. قد يرفض أن يقوم بردّ الفعل هذا لأنه قد يخاف لعنتي.
أصابتني حيرة شديدة وأنا أترجم مقطعاً من رواية “من قتل رولان بارت، الوظيفة السابعة للغة” للروائي الفرنسي لوران بيني. وسبب حيرتي هذه الجملة: “وليس صدفة إذا كان أمبرتو إيكو، حكيم بولونيا…”. ما أعرفه أن أ. إيكو وُلد سنة 1932 بألساندريا، إيطاليا، وتوفي يوم 19 فبراير/شباط سنة 2016 بميلانو. فمن أين جاءت ميلانو هذه؟ ولما قمت ببحث سريع في ويكيبيديا، وجدت فعلاً أن ميلانو كانت مدينة إقامة طويلة. مكان برزخي بين مكان الولادة ومكان الوفاة. هذا ما كان يحدث في القرون الوسطى: تولد في مكان وتموت في مكان، وشهرتك يمنحها لك مكان آخر. لحظتها تولّد لديّ هذا السؤال: إذا كان السيميولوجيون قد شوّشوا كل شيء، حسب لوران بيني، ولم ينجحوا في النهاية سوى في تمديد (مرة أخرى، وبصعوبة) قائمة أنظمة العلامات الهاربة من اللغة: قانون السير، قانون البحار العالمي، أرقام الحافلات، أرقام غرف الفنادق، كما قاموا بتتمّة الرتب العسكرية، وأبجدية الصُمّ- البُكم… فلماذا لا يضيفون إلى لوائحهم نظام العلامة هذا: أمكنة الشهرة؟
حاولت تذكّر الكاتب الذي أسدى نصيحة ثمينة للطلبة: لا تبحثوا عني في ويكيبيديا. هناك أربعة أشخاص هيمنوا عليّ طوال اليوم، إلى درجة أني شعرت بوجودهم معي في الغرفة، وأبعدهم يوجد في الغرفة المجاورة، وحين أذهب إلى المطبخ لجلب فنجان قهوة، أجده ينظر إليّ بقلق، وهم: جورج لوكاتش، أمبرتو إيكو، رولان بارت ولوران بيني. لم أجرؤ على توجيه كلمة واحدة إليهم، لماذا؟ ألأنني خشيت لعنتهم، لأنهم أمضوا حياة بكاملها وهم يبحثون في القضايا التي أقرأ عنها، ولم أفعل شيئاً سوى تناولها باختصار شديد. أم لأنني خشيت أن يكون الأمر مجرد كذب من عقلي الذي يكذب عليّ متى شاء.
امتلأ بيتي بالأشباح. أضيف إليهم الكاتب الروماني بانييت إستراتي (1884-1935). بعث لي الكاتب التونسي الصديق شوقي العنيزي برسالة يحثني على قراءته. بدأت بـ”حكايات أدريان زوغرافي”، وهو الجزء الأول من رباعية واقعية مدهشة. أعتقد أن لا أحد تكلّم عن هذا الكاتب كما يفعل الفرنسيون اليوم. كان سيكون أمراً جيداً أن يسمع ما يُقال عنه اليوم. شخصياته قدرية لا تسعى إلى تغيير شيء: يحق هذا الحكم على “ستارفو” الغريب الأطوار، لكن “أدريان”، وأظن هذه هي حقيقته، هو أحد النماذج الأكثر صفاء من كل الشخصيات الروائية التي أحببت. لأن عقيدته هي ألا يكون عائقاً أو عثرة. و”أدريان” حين يُنصت، خصوصاً لكلام “ستارفو” الحادّ، تشعر أن الإنسان فعلاً كائن قدريّ، بلا مصير سوى مصيره الذي يتجّه نحوه بسرعة منتظمة.
يكتب ب. إستراتي أدباً لا تتحدّث فيه الشخصيات إلا عمّا فيها. وكلامها لا يشبه التعليق أو الوصف، بل محاولة الفهم والتأثير. وهذا بالضبط ما جعلني أشعر بالسعادة وأنا أقرأ بمفخرة واعتداد. فـ”أدريان” الخائف، شخصية فعّالة جدّاً. ولذلك حدست أن عمل ب. إستراتي يكتب أيضا عن أمور سماوية. وكل شروع في الحوار بين الشخصيات هو دعوة للحديث عن الأمور السماوية فقط، رغم أن كل شيء أرضي. أدريان لا يخفي شيئاً عن ستافرو، وستافرو لا يخفي شيئاً عن أدريان. وكلما أنصت واحدهما للآخر لا يجرؤ على أن يقول له: هذا غير صحيح. لأن الـ”هذا غير صحيح” قد ينفي السعادة الأولية التي يشعر بها كل واحد وهو يحاور الآخر، أو يستشيره، أو يكتشفه عبر الارتحال معه إلى أماكن قصية في قرى شبه “سماوية”. لكن دعوني أؤكّد هذا الأمر: أدب بانييت إستراتي كان سيكون رديئاً لو ارتكز كاتبه على نقاط رؤية عاطفية. وهذا الأمر يدعوني للبحث مستقبلاً في “المرتكز العاطفي” في نهاية القرن التاسع عشر. قُبُلاتي ليدي هذا الكاتب العظيم.
أعدت قراءة ترجمتي لمقطع من رواية “من قتل رولان بارت؟ الوظيفة السابعة للغة” للوران بيني، المنشورة يوم 9 أبريل/نيسان بـ”ضفة ثالثة”. اندهشت للغة الفكرية التي مزجها الروائي بلغة الرواية، وبلغة الشعر. بدا أن الروائي شديد العناية بأفكاره أكثر من عناية المفكّر بالأفكار. لكن، لأعترف بذلك، شككت في كوني أقحمت أفكاراً وأساليب معينة أثناء ترجمتي. فما قاله الروائي سبق أن قلته في إحدى مناقشات رسائل الدكتوراه، حينها أكّدت على عدّة عيوب في تدريس السيميولوجيا: هل السيميولوجيا في خطر إضافي؟ بعد أن تنبّأ غريماس بموتها منذ سنة 1975. ولما عدت للنص الأصلي للرواية، باللغة الفرنسية، وجدت أن ل. بيني يقصد تقديم هذه الأفكار، كما لو أن الرواية مكتوبة من أجل طلبته بجامعة باريس.
ضفة ثالثة
——————————
يوميات الوباء: تدحرج إلى البدايات الأولى/ مراد وزناجي
أكاد أجزم أن كورونا هي الانطلاقة المُثلى والحقيقية، انطلاقة الإنسان وتدحرجه نحو بداياته الأولى، حيث الخوف والهلع واللاأمن والجوع واللهاث وراء سدّ رمق العيش والبحث عن حياة واصطياد الفرائس والتجمّع حول النار والعيش مع الغير أو التزلّف للذات والتعصّب للمكان والقبيلة في أنانية متناهية والاختباء في الكهوف والاختفاء عن الأنظار والاعتراف بالضعف والهوان والانكسار. كرٌّ وفرٌّ في كل الاتجاهات وهروب من وإلى الشر والخير معاً.
كورونا اليوم جعلني أستشعر بداية النهاية التي لطالما نسيتها أو تناسيتُ وجودها الدامغ. الشعور ببداية النهاية هو أن تتوسّط كتلاً بشرية محنّطة تُعدّ بمثابة مشاريع لضحايا عدوّ لعين ومقيت يختفي في اللامكان واللاوجود وبين ذرّات الهواء الحقيرة. بأي سلاح ستحاربه؟ لا حربة الرجل البدائي تنفع ولا تكنولوجيا الإنسان المتحضر تفيد. يا إلهي، كم نحن جبناء وقد مسّنا الوهن وخذلتنا عقولنا بعدما اجتثتنا القلوب وأغفلنا المشاعر وأشهرنا الحقد والغلّ والتشفّي والرياء وكل معاول الدمار الشامل.
عندما تسلّلت أخبار الوباء رويداً رويداً بين جنبات العالم، كرّر بعضنا على مسمعهم جملة وردت في قصة جحا مع النار يوم أتت على قريته: “تخطي داري” ثم “تخطي رأسي”. لكن النار بلغت داره ورأسه معاً فحطمتهما ولم تُبق ولم تذر.
اليوم، وقد سكنت الجائحة ديارنا فإننا تحوّلنا إلى وحوش فتاكة، لا تخرج من جحورها سوى لتشبع نزوات البطن وما تحته وتكدسها في غباء، وكذلك حال أغلبها. لا شيء يبعث على الارتياح مع تدفق الأخبار غير السارة عبر نشرات القنوات التلفزية المتفننة في نقل الحصائل والمتنافسة في تصوير الضحايا وهم يصارعون في وجل ذاك الوباء المستشري. باتت القنوات في حكم الناعي الذي ينبئ بأسماء الهالكين ومصير الناجين، مؤقتاً.
فماذا يفعل المرء قبالة هكذا وضع سوى الاستسلام لضيق في التنفس والاسترسال في الإصغاء لخفقات قلب منكسر يسكنه الضعف والقلق والرعب مما هو آت. كم هو جميل وأنا أفتح كتاباً لأقرأه وأضع فيلماً أمتّع به ناظري وأستخرج لعبة أتقاسمها مع ما تبقى من أفراد عائلتي لأفرح وأنسى وأسرّع عقارب الزمن… لا، مستحيل، فلا الكتاب قرأت ولا بالفيلم استمتعت ولا اللعبة تقاسمت.. لم تكن سوى أضغاث أحلام ليس إلا. ما أنا إلا مجرّد هيكل أنهكته منغصات قديمة فرّت من كراس الذكريات وطفت على سطح الأحداث بمناسبة الحجر المنزلي لتفسد ما نجا من الوباء.
ما أتعس الإنسان وهو يملك السيارة والكمبيوتر والويفي والكتب والأصدقاء والأقلام والمناصب والشهادات وكل المعدات والمنافع، لكنه لا يستفيد منها البتة ساعة حاجته إليها. الموت في كل مكان من قسنطينة إلى وهران، وصابرٌ أنا ومصطبر لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمراً.
وكيف لا أجنّ وأنا أسمع بعض مدّعي الإسلام اليوم وهم يتشفون في إخوانهم في الإنسانية بسبب الوباء؟ بل ولا يدعون بالشفاء سوى لمن هو شريكهم في الدين واللسان والتخلف والتفاهة. وما أزال متأكداً من أن أبناء جيلي في الجزائر قد خبروا كل ما هو فظيع وسيّئ، حتى ليخيّل إليك أنهم لم يخلقوا لغير ذلك. فقرٌ، فإرهاب، فمشلول محنّط، فعصابة، فكورونا، والبقية تأتي.
* كاتب وباحث في التاريخ من الجزائر
ضفة ثالثة
———————————
فئران «بانكسي» تعبث بحمام منزله في زمن العزلة
نشر فنان الغرافيتي البريطاني مجهول الهوية، روبرت بانكسي سلسلة من صور على حسابه الخاص في إنستغرام تظهر لوحة جدارية جديدة رسمها خلال تواجده في الحجر. وأحدثت فئران بانكسي في عمل فني جديد حالة من الفوضى على جدران دورة المياه في منزله، ولم تترك جداراً ولا مغسلة ولا مرحاضاً إلا وعبثت بها، حسب «بي بي سي». فاعتلت الفئران التسعة المرحاض والمغسلة، كما عبثت بمعجون الأسنان، وجلست على المرآة. كما ركضدت على لفافة ورق التواليت لتدفع بها إلى الأرض، ومعلقة على حلقة المنشفة، كما تلهو بسائل الصابون، وتدوس على أنبوب معجون الأسنان. بينما يتأرجح الآخر من الحبل الضوئي. لم تسلم عدة الماكياج الخاصة بزوجة بانكسي، فقد سرقت إحدى فئرانه قلم أحمر الشفاه.
وكانت قد ظهرت آخر أعمال فنية عامة لـبانكسي في عيد الحب في مدينته بريستول وأظهرت فتاة تطلق الزهور الحمراء من المنجنيق. واشتهر بانكسي باستخدام رسومات الغرافيتي للتعبير عن واقع المجتمع من منظور فريد واستطاع تغيير النظرة السائدة حيال هذا الفن الذي تعده مجتمعات كثيرة عملاً تخريبياً يشوه الأماكن العامة، من خلال استخدامه لإيصال رسائل اجتماعية وإنسانية هادفة أسهمت في تحوّل الغرافيتي إلى أحد أبرز أشكال الفن الحديث. وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي سلط بانكسي الضوء على قضية المشردين بجدارية تصور غزالتين من نوع الرنة، وهما تجران مشرداً نائماً على مقعد حديقة في مدينة برمنجهام في وسط إنجلترا.
بانكسي: زوجتي تكره عملي من المنزل
نشر فنان الغرافيتي البريطاني “بانكسي”، منشوراً في حسابه في “انستغرام”، قال فيه إنّ زوجته تكره عمله من المنزل، حيث بدا أنه بدأ يرسم في أرجاء المنزل، بما في ذلك جدران الحمّام، وذلك إثر الحجر المنزلي الإلزامي بسبب تفشّي فيروس “كورونا”.
وأرفق بانكسي المنشور بمجموعة صور من حمّام منزله، تُظهر رسوماً لفئران على جدران الحائط وكذلك غطاء المرحاض، حيث تظهر وكأنها أحدثت فوضى عارمة في المكان. ويظهر في الصورة وكأن فأراً يقف على طرف مرآة كانت قد مالت بسبب الفوضى، ويظهر فأر آخر وهو يرسم على المرآة خطوطاً مائلة، علماً أن هذه الفئران سبق أن ظهرت في العديد من رسومه.
——————————–
الوباء كبوابة عبور/ أرونداتي روي
كيف يبدو مشهد وباء كورونا في الهند وما الذي يجب على حكومات العالم فعله لمواجهة هذا التهديد؟ الكاتبة الهندية أرونداتي روي تكتب: “المأساة آنية وحقيقية وملحمية، وهي تتكشف أمام أعيننا، لكنها ليست حديثة؛ إنها حطام قطارٍ يتمايل على السِّكة منذ سنوات”.
من يستطيع استعمال مصطلح «انتشر بشكل فيروسي» (على نطاق واسع) اليوم دون أن يرتعد قليلًا؟ من يستطيع أن ينظر إلى أي شيء بعد الآن -أكان مقبض باب، أم صندوقًا من الورق المقوى، أم كيس خضراوات- دون أن يتخيله يعجّ بتلك البقع غير المرئية وغير الحية وغير الميتة، المكسوة بأذرع ماصَّة تنتظر الالتصاق برئاتنا؟
من يستطيع أن يفكر بتقبيل غريب، أو بالقفز على متن حافلة، أو بإرسال أطفاله إلى المدرسة، دون أن يداهمه خوف حقيقي؟ من يستطيع أن يفكِّر بمتعة عادية دون تقييم خطرها؟ من منَّا لم يتحول إلى عالم أوبئة، واختصاصي فيروسات، وإحصائي، ونبي؟ أيُّ عالم أو طبيب لا يصلي في الخفاء طلبًا لمعجزة؟ أيُّ كاهن لا يخضع للعلم، على الأقل في السِّر؟
وحتى في ظل تكاثر الفيروس، من بوسعه ألا يفتتن بانتعاش تغريد العصافير في المدن، بالطواويس الراقصة عند تقاطعات حركة السير، وبالصَّمت المطبق على السماوات؟
زاد عدد الإصابات في جميع أنحاء العالم هذا الأسبوع عن المليون. فارق أكثر من 50 ألف شخص الحياة حتى الآن فحسب. تشير التوقعات إلى أن ذلك العدد سوف يتضخم إلى مئات الآلاف، ربما أكثر. فقد انتقل الفيروس بحريّة على امتداد طرق التجارة ورأس المال العالمي، والمرض المريع الذي جلبه في أعقابه حَبَسَ البشر في بلدانهم ومدنهم وبيوتهم.
لكن بخلاف تدفق رأس المال، يسعى الفيروس للتكاثر، لا للربح، لذا فقد عكسَ إلى حدِّ ما، وعن غير قصد، اتجاهَ التَّدفق. إنه يسخر من شرطة الهجرة، والإحصائيات البيولوجية، والرقابة الرقمية وكل نوع آخر من تحليلات البيانات. وضرب أقسى ضرباته -حتى الآن- في أغنى الأمم وأشدها بأسًا في العالم، مما أدى إلى توقف مفاجئ في محرك الرأسمالية، ربما مؤقتًا، لكن على الأقل لوقت يكفي كي نتفحص أجزاء هذا المحرك، ونقيّمه ونقرر ما إذا كنا نرغب في المساعدة في إصلاحه، أو في البحث عن محرك أفضل.
كبار البيروقراطيين الذين يديرون هذا الوباء مولعون بالحديث عن الحرب، بل أنهم لا يستعملون الكلمة كمجاز، بل بمعناها الحرفي. لكن إن كانت حربًا بالفعل، فمن يمكنه أن يكون أشد استعدادًا لها من الولايات المتحدة؟ لو لم يحْتَج جنودها الموجودون على خط النار الأقنعة والقفازات، بل البنادق والقنابل الذكية والذخائر الخارقة للملاجئ والغواصات والطائرات النفاثة المقاتلة والقنابل النووية، هل كنا سنرى عجزًا؟
“المأساة آنية وحقيقية وملحمية، وهي تتكشف أمام أعيننا، لكنها ليست حديثة؛ إنها حطام قطارٍ يتمايل على السِّكة منذ سنوات”
ليلة بعد ليلة، من الجانب الآخر للعالم، يشاهد البعض منا الإيجازات الصَّحفية لحاكم نيويورك بدهشة يصعب شرحها. نتابع الإحصائيات، ونسمع القصص عن المستشفيات المُثقلة في الولايات المتحدة، وعن ذوي الأجور المنخفضة، وعن الممرضات والممرضين المنهكين وقد اضطروا أن يصنعوا ألبسة من أكياس النفايات والمشمّعات القديمة، مجازفين بكل شيء لإغاثة المرضى. نقرأ عن ولايات اضطرت لمنافسة بعضها البعض على أجهزة التنفس الاصطناعي، وعن المعضلات التي تواجه الأطباء بشأن من ينبغي أن يوضع على جهاز، ومن سيُترك ليموت. ونفكر بيننا وبين أنفسنا: «يا إلهي! هذه أمريكا!».
المأساة آنية وحقيقية وملحمية، وهي تتكشف أمام أعيننا، لكنها ليست حديثة؛ إنها حطام قطارٍ يتمايل على السِّكة منذ سنوات. من منا لا يتذكر فيديوهات «التخلص من المرضى»، حيث نرى مرضى ما زالوا في ثياب المستشفى، بمؤخراتهم العارية، وهم يُلقَون سرًا في الشارع؟ إن أبواب المستشفيات في الولايات المتحدة كثيرًا ما كانت مغلقة في وجه المواطنين الأقل حظًا، بغض النظر عن مدى تفاقم مرضهم أو معاناتهم.
هذا حتى الآن، على الأقل. فاليوم، في عصر الفيروس، يمكن لمرض إنسان فقيرٍ أن يؤثر على صحة المجتمع الغني. ورغم ذلك، حتى في هذه اللحظة، ما يزال بيرني ساندرز، السيناتور الذي قاتل بشراسة من أجل الرعاية الصحية للجميع، يعتبر ناشزًا في سعيه للبيت الأبيض، حتى من قبل حزبه.
وماذا عن بلدي، بلدي الفقير/الغني، الهند، المعلقة في مكان ما بين الإقطاع والأصولية الدينية، بين الطائفية والرأسمالية، التي يحكمها قوميون هندوس متطرفون؟
في كانون الأول، بينما كانت الصِّين تكافح تفشي الفيروس في ووهان، كانت حكومة الهند تتعامل مع انتفاضة جماهيرية لمئات الآلاف من مواطنيها المحتجين على قانون الجنسية، الذي يميز ضد المسلمين بوقاحة، والذي مُرر قُبيلها في مجلس النواب.
أُبلغ عن أول إصابة بـ«كوفيد-19» في الهند في الثلاثين من كانون الثاني، بعد أيام فقط من مغادرة ضيفنا الأبرز في استعراض عيد الجمهورية، ملتهم غابات الأمازون ومنكر كوفيد-19، فخامة جايير بولسونارو. لكن كان هناك الكثير مما يجب القيام به في شباط، فلم يتسع الوقت لوضع الفيروس على جدول مواعيد الحزب الحاكم. فقد جاءت الزيارة الرسمية للرئيس دونالد ترمب في الأسبوع الأخير من الشَّهر، بعدما استُدرج بوعود بحشد جمهور مؤلف من مليون شخص في الملعب الرياضي في ولاية غوجارات لاستقباله. كل ذلك استلزم نقودًا، وقدرًا كبيرًا من الوقت.
ثم جاءت انتخابات مجلس دلهي، التي كان مرجحًا أن يخسرها حزب بهاراتيا جاناتا إلا إذا بذل جهدًا مضاعفًا، وهذا ما فعله، مطلقًا العنان لحملة هندو-قومية شرسة ومستبيحة، طفحت بالتهديدات بالعنف الجسدي وإطلاق النار على «الخونة».
مع هذا، خسر الحزب. عندها كان هناك عقاب يجب أن يُكال لمسلمي دلهي، الذين حُمّلوا مسؤولية الإهانة. هاجم أوباش مسلحون من الهندوس، بدعم من الشرطة، المسلمين في أحياء الطبقات الكادحة في شمال شرق دلهي. أُحرقت منازل ومتاجر ومساجد ومدارس. تصدى المسلمون للهجوم، الذي كانوا يتوقعونه. قتل أكثر من 50 شخصًا، من المسلمين وبعض الهندوس.
انتقل الآلاف إلى مخيمات لجوء في المقابر المحلية. كانت الجثث المشوهة لا تزال تنتشل من شبكة المصارف القذرة النتنة الرائحة عندما عقد مسؤولو الحكومة اجتماعهم الأول حول كوفيد-19 وبدأ معظم الهنود يسمعون لأول مرة عن وجود شيء ما يدعى بمطهر الأيدي.
كان شهر آذار حافلًا أيضًا. كُرِّس أول أسبوعين للإطاحة بحكومة حزب الكونجرس في ولاية ماديا براديش الهندية المركزية وتنصيب حكومة حزب بهاراتيا جاناتا في مكانها. في الحادي عشر من آذار أعلنت منظمة الصِّحة العالمية أن كوفيد-19 بات جائحة. بعد يومين، في الثالث عشر من آذار، قالت وزارة الصِّحة إن كورونا لا يشكل «حالة طارئة صحيَّة».
أخيرًا في التاسع عشر من آذار، خاطب رئيس الوزراء الهندي الأمَّة. لم يكن قد أجرى البحث والتحضير اللازمين. استعار من إجراءات فرنسا وإيطاليا. أخبرنا عن الحاجة إلى «التباعد الاجتماعي» (الذي يسهل فهمه بالنسبة مجتمع منغمس للغاية في نظام الطبقات) ودعا إلى يوم من «حظر تجوال شعبي» في الثاني والعشرين من آذار. لم ينبس بكلمة عما ستفعله حكومته في الأزمة، لكنه طلب من الناس أن يخرجوا إلى شرفاتهم، ويرنوا أجراسًا ويدقوا على مقاليهم وقدورهم لتحية العاملين في القطاع الصِّحي.
لم يأت على ذكر أن الهند، حتى تلك اللحظة، كانت تصدّر معدّات الحماية والأجهزة التنفسية بدلًا من الإبقاء عليها للعاملين في قطاع الصحة والمستشفيات الهندية.
لم يكن مفاجئًا أن طلب ناريندرا مودي قوبل بحماس شديد. كان هناك مسيرات تدق على القدور، جماهير ترقص، ومواكب. ولم يكن هناك تباعد اجتماعي. في الأيام التي تلت، قفز الرجال في براميل روث الأبقار المقدسة، وأقام مؤيدو حزب بهاراتيا جاناتا حفلات شرب بول الأبقار. وحتى لا يُتَفوق عليها، أعلنت الكثير من المنظمات الإسلامية أن الله القادر على كل شيء هو الجواب على الفيروس ودعت المؤمنين للاجتماع في المساجد بأعداد كبيرة.
في الرابع والعشرين من آذار في السَّاعة الثامنة مساء، ظهر مودي على شاشة التلفزيون ثانية ليعلن أنه من منتصف الليل فصاعدًا، ستخضع الهند بكاملها لإغلاق تام. سوف تغلق الأسواق وتُحظر جميع وسائل النقل، العامة والخاصة منها.
قال إنه يتخذ هذا القرار ليس فقط كرئيس للوزراء، لكن ككبير عائلتنا. من سواه يمكن أن يقرر، دون استشارة حكومات الولايات التي يتوجب عليها التعامل مع تداعيات هذا القرار، أن دولة يبلغ عدد سكانها 1.38 مليار نسمة ستغلق تمامًا دون أي استعداد مسبق وبمهلة مدتها أربع ساعات فقط؟ من المؤكد أن أساليبه تعطي الانطباع بأن رئيس وزراء الهند يرى المواطنين على أنهم قوة عدائية يجب ترصُّدها وأخذها على حين غرَّة، ولا يجب الوثوق بها أبدًا.
خضعنا للإغلاق. أثنى الكثير من المتخصصين في مجال الصِّحة والوبائيات على هذه الخطوة. ربما هم على حق نظريًا. لكن بالتأكيد ما من واحد منهم يمكن أن يؤيد النقص المفجع في التخطيط أو الاستعداد الذي حوّل أكبر وأقسى إغلاق في العالم إلى العكس تمامًا من الغاية المفترض أن يحققها.
خلق الرجل الذي يحب الاستعراضات استعراضًا يتفوق عليها كلها.
في مشهد روّع العالم، كشفت الهند عن نفسها بكل ما فيها من خزي- بوحشية عدم مساواتها البنيوية، اجتماعيًا واقتصاديًا، ولا مبالاتها القاسية تجاه المعاناة.
بدأت بلداتنا ومدننا الضخمة تقذف مواطنيها من الطبقة الكادحة -عمالها المهاجرين- كما لو أنهم تراكمات فائضة غير مرغوب بها.
عمل الإغلاق التام كتجربة كيميائية أنارت فجأة أشياء مخفية. عندما أُغلقت المتاجر والمطاعم والمصانع وصناعة البناء، وعندما انغلقت الطبقات الغنية والمتوسطة على نفسها في مستوطنات مسوّرة، بدأت بلداتنا ومدننا الضخمة تقذف مواطنيها من الطبقة الكادحة -عمالها المهاجرين- كما لو أنهم تراكمات فائضة غير مرغوب بها.
عندما طردهم أرباب عملهم وأصحاب منازلهم، وفي غياب وسائل مواصلات عامّة، بدأ ملايين من المفقَرين والجائعين والعطشى، شبان ومسنون، رجال ونساء وأطفال، مرضى ومكفوفون وذوو إعاقة، ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه، بدؤوا بمسيرة طويلة باتجاه قراهم. مشوا لأيام، نحو بادون، آغرا، أزامغار، آليغار، لوكناو، غوراكبور- والتي تبعد مئات الكيلومترات. البعض مات على الطريق.
عرفوا أنهم كانوا ذاهبين إلى البيت إلى مجاعة بطيئة محتملة. ربما عرفوا حتى أنهم قد يكونوا حاملين للفيروس معهم، وقد ينقلوا العدوى إلى عائلاتهم، آبائهم وأجدادهم في البيت، لكنهم كانوا بحاجة ماسّة لذرّة من الألفة، الملاذ والكرامة، إضافة إلى الطعام، إن لم يكن الحب.
أثناء مسيرهم، تعرّض بعضهم للضرب المبرح والمهين من قبل رجال الشرطة، الذين أنيط بهم فرض حظر التجول بصرامة. أُرغم شبان على جلوس القرفصاء والقفز كالضفادع على الطريق السريع. خارج بلدة باريلي، تم حشد إحدى المجموعات ورشّها برذاذ كيماوي.
بعد بضعة أيام، قلقت الحكومة من أن السكان الفارّين قد ينشرون الفيروس في القرى، فأغلقت حدود الولايات حتى أمام المشاة. أوقف الناس الذين كانوا يسيرون لأيام وأجبروا على العودة إلى مخيمات في المدن التي كانوا قد أرغموا للتو على مغادرتها.
أثار ذلك بين الأشخاص المسنين ذكريات عملية نقل السكان عام 1947 عندما قسمت الهند ونشأت الباكستان. لكن هذه الهجرة الراهنة لم تكن نتيجة انقسامات دينية وإنّما طبقية. ومع ذلك، فإن هؤلاء العائدين إلى قراهم ليسوا الأكثر فقرًا في الهند. هؤلاء أشخاص لديهم عمل في المدينة (على الأقل حتى الآن) ولديهم بيوت يعودون إليها. بقي العاطلون عن العمل والمشردون واليائسون في مكانهم، في المدن كما في الأرياف، حيث كان ضيق عميق يتنامى قبل حدوث هذه المأساة بوقت طويل. طوال هذه الأيام الرهيبة، ظل وزير الشؤون الداخلية اميت شاه غائبًا عن أنظار العامة.
عندما بدأ المسير في دلهي، استعملتُ تصريحًا صحفيًا كنت قد حصلت عليه من مجلة أكتب لها بين الحين والآخر لأقود سيارتي إلى غازيبور، على الحدود بين دلهي وولاية أوتار براديش.
كان المشهد توراتيًا. أو ربما لم يكن. من المستحيل أن يكون الكتاب المقدّس قد شهد أعدادًا كهذه. أدّى الإغلاق بهدف فرض التباعد الجسدي إلى نتيجة عكسية، ضغط جسدي بدرجة لا يمكن تصوّرها. ينطبق هذا حتى داخل مدن الهند وبلداتها. قد تكون الطرقات الرئيسية فارغة، لكن الفقراء محتجزون في مساكن ضيقة في العشوائيات ومدن الصفيح.
كل من تحدثت إليهم من السائرين كانوا قلقين بشأن الفيروس. لكن هذا القلق كان أقل واقعية، وأقل حضورًا في حياتهم ممّا يلوح في الأفق من البطالة والجوع وعنف الشُّرطة. من بين جميع الناس الذين تحدثت إليهم ذلك اليوم، بمن فيهم مجموعة من الخياطين المسلمين الذين نجوا منذ أسابيع فقط من الهجمات المعادية للمسلمين، كدّرتني كلمات أحد الرجال بشكل خاص. كان نجارًا يدعى رامجيت، ينوي السير لغاية جوراخبور قرب الحدود مع نيبال.
قال: «ربما عندما قرر موديجي أن يفعل هذا، لم يخبره أحد عنا. ربما لا يعرف بشأننا».
«عنّا» تعني 460 مليون نسمة تقريبًا.
أظهرت حكومات الولايات في الهند (كما في الولايات المتحدة) تعاطفًا وتفهمًا أكبر في الأزمة. وزّعت نقابات عمالية ومواطنون عاديون وجماعات أخرى الطعام ومؤن الإعاشة. كانت الحكومة المركزية بطيئة في الاستجابة لمناشدتهم اليائسة من أجل التمويل. تبيّن أن صندوق الإغاثة الوطني التابع لرئيس الوزراء لا يملك سيولة مالية متاحة. بدلًا من ذلك، ينهمر المال من حسني النيّة إلى صندوق جديد وغامض نوعًا ما باسم «رئيس الوزراء يهتم». وبدأت تظهر وجبات مغلّفة مسبقًا عليها وجه مودي.
بالإضافة إلى هذا، شارك رئيس الوزراء مقاطع فيديو لممارسته «يوغا نيدرا» (يوغا النوم)، يظهر فيها مودي متحوّلًا ومفعمًا بالحيوية، بجسد مثالي، يستعرض وضعيات اليوغا لمساعدة الناس على التعامل مع ضغوط العزلة الذاتية.
هذه النرجسية مقلقة للغاية. من الممكن أن تكون واحدة من وضعيات اليوغا هي وضعية الطلب، وفيها يطلب مودي من رئيس الوزراء الفرنسي أن يسمح لنا بالتراجع عن الصفقة الإشكالية لشراء طائرات رافال المقاتلة، حتى نستخدم مبلغ الـ 7.8 مليار يورو المخصص لها للإجراءات الطارئة التي نحن بأمس الحاجة لها، لدعم بضعة ملايين من الشعب الجائع. لا شك أن الفرنسيين سوف يتفهمون.
مع دخول الإغلاق أسبوعه الثَّاني، تعطلت سلاسل التوريد، وبدأت أدوية ومؤن أساسية بالنفاذ. لا يزال آلاف من سائقي الشَّاحنات متروكين على الطرقات السَّريعة، وبالكاد معهم طعام وماء. وتقف محاصيل جاهزة لتحصد، تتعفن ببطء.
الأزمة الاقتصادية هنا. الأزمة السياسية على قدم وساق. دمجت وسائل الإعلام السائدة قصَّة الكوفيد في حملتها السَّامة المعادية للمسلمين على مدار الساعة. حوّلت هذه الحملات منظمة تدعى جماعة التبليغ، كان قد عقدت اجتماعًا في دلهي قبل إعلان الإغلاق، إلى «ناشر فائق [للفيروس]». واستخدم هذا لشيطنة المسلمين ووصمهم. يوحي الخطاب العام بأن المسلمين ابتكروا الفيروس ونشروه عمدًا كنوع من الجهاد.
أزمة الكوفيد لم تصل بعد. أو ربما لا. لا نعرف. إذا أتت وعندما تأتي، يمكن أن نكون على ثقة من أنه سوف يتم التعامل معها بوجود الانحيازات المهيمنة للدين والطائفة والطبقة، راسخة في مكانها.
اليوم (الثاني من نيسان) في الهند، هناك ما يقارب 2000 حالة مؤكدة و58 حالة وفاة. هذه بالتأكيد أرقام غير موثوقة، تعتمد على عدد اختبارات غير كافٍ على الإطلاق. تختلف آراء الخبراء بشكل كبير. يتكهَّن البعض بملايين الإصابات. آخرون يعتقدون بأن حصيلة الفيروس ستكون أقل بكثير. قد لا نعرف أبدًا الحدود الحقيقية للأزمة، حتى عندما تضربنا. كل ما نعرفه هو أن الضغط على المستشفيات لم يبدأ بعد.
مستشفيات الهند وعياداتها العامَّة، العاجزة عن التعامل مع ما يقارب مليون طفل يموتون من الإسهال وسوء التغذية ومشاكل صحية أخرى سنويًا، إضافة إلى مئات الآلاف من مرضى التدرن الرئوي (السل) والتي تشكل ربع عدد الحالات في العالم، مع عدد كبير من المصابين بفقر الدم وسوء التغذية ما يجعلهم عرضة لعدد من الأمراض الثانوية التي تودي بحياتهم، هذه المستشفيات والعيادات لن تتمكن من مجابهة أزمة مثل تلك التي تمر بها أوروبا والولايات المتحدة اليوم.
جميع الخدمات الصحية تقريبًا متوقِّفة، حيث تحوّلت المستشفيات لمواجهة الفيروس. أغلق مركز الصَّدمة التابع لمعهد «كل الهند للعلوم الطبية» الأسطوري في دلهي، وطُرد المئات من مرضى السرطان، المعروفين بلاجئي السرطان لأنهم يعيشون على الطرقات خارج ذلك المستشفى الهائل، مثل الماشية.
سوف يمرض الناس ويموتون في البيت. قد لا نسمع قصصهم قط. قد لا يتحولوا حتى لإحصائيات. يمكننا فقط أن نأمل بأن تصدق الدراسات التي تقول إن الفيروس يحب الطقس البارد (ولو أن باحثين آخرين قد شككوا بهذا). لم يسبق قط أن تاق شعب لصيف الهند الحارق والقاسي لهذه الدرجة وبهذا القدر من اللاعقلانية.
ما هذا الشيء الذي حل بنا؟ إنه فيروس، نعم. لا ينطوي في ذاته ومنها على عبرة أو خلاصة أخلاقية. لكنه بالتأكيد أكثر من فيروس. يؤمن البعض بأنه سبيل الله لكي يحملنا على أن نثوب إلى رشدنا. آخرون يؤمنون بأنه مؤامرة صينية للسيطرة على العالم.
أيًّا يكن، الفيروس التاجي «كورونا» ركَّع القوي وأرغم العالم على التوقف كما لم يستطع أي شيء آخر. لا تزال عقولنا تعدو جيئة وذهابًا، تتوق إلى عودة إلى «الوضع الطبيعي»، تحاول أن تخيط مستقبلنا مع ماضينا وترفض أن تعترف بالتمزق. لكن التمزق موجود، وهو يقدّم لنا في وسط هذا اليأس الرهيب فرصة لإعادة التفكير بآلة الدينونة التي بنيناها لأنفسنا. لا شيء يمكن أن يكون أسوأ من العودة إلى الوضع الطبيعي.
تاريخيًا، أجبرت الأوبئة البشر على الانفصال عن الماضي وتخيل عالمهم من جديد. هذا الوباء ليس مختلفًا. إنه بوابة عبور، مدخل بين عالم والعالم الذي يليه.
يمكننا أن نختار السير عبره، مجرجرين جثث تحاملنا وبغضائنا، بخلنا، بنوك معلوماتنا وأفكارنا الميتة، أنهارنا الملوثة وسماؤنا الدُّخانية خلفنا. أو يمكننا أن نسير عبره بخفَّة، بمتاع قليل، مستعدين لتخيل عالم آخر. ومستعدين للقتال من أجله.
نشر هذا المقال في صحيفة الفاينانشال تايمز في 3 نيسان 2020.
أرونداتي روي
ترجمة أماني لازار
حقوق النشر: حبر 2020
——————————————
نوافذ ويندوز السائلة/ نائلة منصور
يجول مربي النحل الألماني بمساعدة مرافق مصري في كل أرجاء مصر بحثاً عن النحل البلدي المصري الأصيل، راغباً في أن يتذوق عسله الأسود البلدي. يبدو أن النحل المصري من أقوى أنواع النحل في العالم وأكثرها قدرة على مواجهة الأمراض والتغير المناخي. يبحلق الفلاحون المصريون بالزائر، يتغامزون حول فوائد العسل في التقوية الجنسية، ويتقربون من الألماني بصحون العسل. يتذوق هو ويقول لهم بحسم «ليس عسلاً بلدياً»، ويحتارون هم مُخيَّبين. أثناء تجواله في مصر، يُعجَب المربي الهاوي بطرائق تربية النحل ضمن مناحل مستمرة منذ عصور الفراعنة، كما تشهد جدران المعابد في الأقصر: أنابيب مجوفة من الخيزران، مرصوصة ضمن كتل طينية متوسطة العلو، هي بيوت النحل. لم أعد أذكر إن وَجَدَ السائح النحّال مراده من العسل الأسود البلدي… خلّصت البرنامج أصلاً؟
إيميل. الثلاثاء 17 آذار، الساعة 9:30 صباحاً: المدرسة حريصة على متابعة العمل التربوي وعدم الانقطاع عن طلابها خلال فترة الحجر الصحي. نضع بين أيدي المدرسين كل الأدوات الرقمية المتاحة. وسنعلمكم تدريجياً بإمكانيات كل منصة.
– «تباً لكم» (حسب الترجمة الطهرانية العربية للأفلام الأميركية) إنتوا والحرص والمتابعة.
إعلان تجاري1 على فيسبوك: فرش إسفنجية رقيقة تشبه سجادة الرياضة، مثبت عليها أقراص مسمارية صغيرة تحفّز دوران الدم في كل مناطق الظهر، من المنطقة القطنية حتى أعلى الرقاب المهترئة جراء نوافذ ويندوز المفتوحة.
– عظيمة خوارزميات غوغل، تعرف عن ظهورنا أكثر مما يعرف الأصدقاء المقربون. والسجادة ذات المسامير المحفزة عظيمة. تستثير صور النسّاك الهنود اليوغيين الممددين على المسامير، ولعلها تستثير خيالات مازوشية أخرى. ربما بِشراء هذه السجادة نضرب عصفورين بحجر واحد، نلغي درس اليوغا المتهافت علينا من كل صوب وناماستا. لكن شراء أغراض عبر أمازون عيب، خاصة في هذه الأوقات. أمازون ستقتل، أو قتلت، المتاجر الصغيرة والمكتبات، وقد نعرّض عمّال التسليم للخطر ونطبّع مع طريقة عمالة أمازون. طبقة وسطى مستهلكة بالفعل! حسناً سأطلبها.
جذّاب حاكم نيويورك، أندرو كومو، وشاطر بالظهور الإعلامي أثناء الملمّات. أصبح يوتيوب يقترحه باستمرار. رجولة وصلابة وعدم تردد وباور بوينت توضيحي لخطط الولاية في مواجهة الوباء مع كل مؤتمر صحفي يقيمه، ويواجه ترامب باستقلالية. أمه اسمها ماتيلدا، أخوه كريس إعلامي شرس، لا نعرف إن كانت الأم ماتيلدا تفضّل أندرو أم كومو. تشاجرا على الهواء في وصلة تسلية لنا حول إن كانت الأم تفضل كريس أم أندرو. أصيب كريس مؤخراً بالفيروس وحجر على نفسه بعيداً عن عائلته في «بيسمنت» بيته، ولَامه أندرو على استقبال أمهما في البيت مع بداية الأزمة. اعتذر كريس بكل خشوع عند ذكر ماتيلدا. مممممم، سأتابع السيرة الذاتية لكومو على وكيبيديا. مَن زوجته يا ترى؟ مطلّق أم متزوج؟ كم ولد عنده؟ متى وُلد؟ حين أنتهي من إغلاق بعض نوافذ ويندوز…
مُلدِّن موسيقي رقم1: متتالية Les Indes Galantes للموسيقي الفرنسي جان فيليب رامو، تؤديها فرقة «الفنون المزدهرة» (Les Arts Florissants). أفقه بالموسيقى مثل فقهي بالكيمياء العضوية تماماً، بس…. هذه الموسيقى تلفّ وتغطّي وتحمي من الموت المحتم. أليست الموسيقى على العموم ترياقاً سريعاً ضد الموت؟ ربما هي عازفة الطبل أو الإيقاع في المقطوعة الأوبرالية؟ الإيقاع كناظم للسيالات العصبية؟ لم أعد أعرف أين قرأت من زمن بعيد، ربما في كتاب لراي جاكندوف، وهو عالم لسانيات ومنظّر موسيقي كذلك، أن الإيقاع هو الجزء الأوليّ الأبسط والمشترك عند البشر موسيقياً، والهارموني مكون ثقافي أكثر تطوراً وتعقيداً في تاريخ البشرية. الحمدلله رب العالمين، ما زلت في المرحلة ما قبل الثقافية المتطورة موسيقياً. تلك النقلة الأخيرة من الإيقاع البطيء في هذه القطعة المذكورة، إلى الإيقاع الأسرع، يعني إن كان الإيقاع هو ضربات أقدام على الأرض في مواجهة الموت فهذه النقلة تأتي بعد الضربة الرابعة في الثانية 48 من الفيديو. هذه النقلة مثل مُلدِّن يُسهِّلُ اجتياز أعناق الزجاجات، وربما يسهّل المرور ببرازخ الموت. غريب انتشاء الموسيقى، ينبغي أن نستقبل الموت بالموسيقى. ربّما؟ تلك القوة المقابلة للموت شبه إيروتيكية. ألم يشعر أحدكم أنه حتى صباح فخري حين يضرب قدميه طرباً ( بالإيقاع أم بالهارموني؟ ) في وصلاته الغنائية الطويلة، فإن هناك قوة ايروتيكية تصدر عنه، رغم قلة حظوظ صباح فخري في عالم الوسامة؟ أو فهد بلّان حين يغني بإيقاع مضبوط لسهل حوران؟
إعلان غير تجاري2 على فيسبوك: مكتبة الإسكندرية فتحت أبوابها الرقمية، وكذلك المكتبة الشاملة ومكتبة الكونغرس وبعض الدوريات الأكاديمية المدفوعة. زيارة افتراضية تقطع الأنفاس لمدفن رمسيس السادس في وادي الملوك في الأقصر، كيف بنوا كل ذلك؟ اقشعرَّ بدني. حسناً، سأنزّل رواية أرخبيل الغولاغ لـ ألكسندر سولجينيتسن بترجمتها العربية، وسأقترح أن نقرأها في مجموعة قراءة مع بعض الأصدقاء، متى سأتمكن يا ترى من نطق كنية الرجل نطقاً سليماً؟
نقرأ في مقدمة المترجم، التي تستهل الكتاب: «لم يأتِ الكتاب عموماً ليدحض نظرية فكرية سياسية عبر الجدل والنقاش في مدى صوابية هذه الفكرة، ومدى ملاءمتها لقيام مجتمع جديد على أساس المصالح الجماعية للطبقات المقهورة، بل جاء النفي بمثابة إظهار السلبيات التي رافقت قيام الدولة الجديدة»، «لا شك إن نظرة الكاتب تختلف عن مثيلتها لدى الساسة، فالساسة يفكرون بعقل المستقبل ذاته، على العكس من ممتهني مهنة صقل العواطف ونسّاجي الخيال، ومؤججي الانفعال الغلواني» (الغلواني؟ خير إنشالله)، «ألم يكن هو ذاته من غاص في ذلك الوحل الغربي، وراح يستقطب التداعيات الكلامية كافةً، والأساليب المفعمة بالخطابية، ليدين الوطنية الروسية، ذاتها التي كانت أمل الغرب في الخلاص من البطش الهتلري؟ ألم يعتمد، في كتابه الذي بين أيدينا، على الكثير من الشهادات المنقولة، مخطوطة كانت أم شفاهاً، عن ألسنة من كان مشكوكاً في غيرتهم وولائهم لروسيا الوطنية من أمثال اليهود المنشقين، المتغلغلين في التنظيمات السياسية، وخاصة التي كانت بحكم المسيطر عليها من قبلهم؟»
– ومع ذلك. سنقرأ أرخبيل الغولاغ بنسخته العربية.
إعلان غير تجاري3 على كل منصات التواصل الاجتماعي: أفلام على مدّ النظر. فيميو، يوتيوب، منصات مختصة فتحت أفلامها. يقع بَصَري على فيلم قديم للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، أُنتج قبل ثمانية عشر عاماً، سنة 2002. هرمنا. كنتُ قد حضرته حينها في سينما سان أندريه ديزار الصغيرة بشارع سان أندريه دي زار الصغير في الحيّ اللاتيني، على الضفة اليسرى لنهر السين. عنوان الفيلم بانتظار السعادة. نعم، بانتظار السعادة. لن أعيد مشاهدته، أكتفي بما احتفظت، مشهد واحد من الفيلم، يجرّ فيه رجل أسلاك الضوء باتجاه المحيط. ماذا كان يريد أن يفعل بتلك اللمبة فوق رمال شواطىء المحيط الموريتاني الساحرة؟
إيميل رقم 14. الثلاثاء 24 آذار، الساعة 9:30 صباحاً: المدرسة حريصة على متابعة العمل التربوي وعدم الانقطاع عن طلابها خلال فترة الحجر الصحي. نضع بين أيدي المدرسين كل الأدوات الرقمية المتاحة. ونُعلِمُكُم بأن زووم غير آمن رقمياً، وهناك مشاكل قانونية حوله، ويمكن أن يسرق معلوماتكم من حواسيبكم. سنعلمكم بالمزيد.
– المعلومات على الحواسيب؟ على أساس عم نخترع قنبلة ذرّية. غوغل يعرف بين أي فقرة وفقرة تتآكل غضاريف ظهورنا، واليوم بالذات اقترح وسادة صغيرة وردية اللون توضع تحت المؤخرة أثناء الجلوس إلى المكتب. «تباً لكم» (مترجمة مجدداً) إنتوا والمتابعة الدرسية التربوية!
الدرس الأول: تسمعوني؟ تسمعينا؟ الشبكة تعبانة. لا نريد زووم، فهو يخترق الخصوصيات، نريد منصة أكثر أمناً. حسناً.
عظيم يوتيوب. كيف كانت الحياة لتكون لو كان لدينا يوتيوب قبل 30 سنة؟ يقترح عليَّ كتاباً صوتياً لبروست، البحث عن الزمن المفقود. بعد دقيقتين ينطلق فيديو صناعة الخميرة المنزلية، بدون سكر أو تمر أو عسل، فقط من الطحين. يُترَك الطحين بمقادير معينة، مع مقادير معينة من الماء، لمدة يوم كامل، لتبدأ الخميرة الحيّة بالتشكل حينها. ما عليك بعدها إلا أن تغذي الخميرة الحيّة بمقادير معينة من الطحين الكامل والماء، وهكذا ستتشكل الخميرة بعد أسبوع، لتبقى سنوات إن اعتنيت بها.
حين يمارس المرء هوايته مساءً في عدّ الأموات على صفحة وورلد ميترز المخصصة لضحايا فيروس كوفيد 19، بعد انتهاء حفلات الشتائم حول الصين وتدبرها للأزمة الصحية، بين الفرندات على الفيسبوك، عليه أن يتنبه للإمكانيات التعليمية الرياضية المتاحة على الأعمدة الإثني عشر. يمكنه أن يستدرك ما فات أطفاله من دروس في الضرب والطرح والجمع والتقسيم والنسبة والتناسب. يمكنه أن يشرح لأطفاله الفرق بين كثافة سكان إيسلندا والهند من خلال العمود العاشر، والفرق بين مساحة أندورة والهند من خلال العمود العاشر كذلك. سيصعب إيجاد تفسيرات رياضية للفرق في عدد الأموات بين ألمانيا وبقية أوروبا، بيد أن الوقت مُتاح للتعلم.
مُلدِّن موسيقي رقم 2: بوليرو لموريس رافال. هارموني قليل أم كثير؟ هناك إيقاع بسيط جداً ومتكرر. أبسط من سابقته من القطع الموسيقية. إيقاع ببساطة النَفس، يرفس الموت رفساً.
على سيرة النفس، هناك كتب صوتية متاحة للاستماع على اليوتيوب، الاستماع للصوت الداخلي ورؤية النور الداخلي الكوني ومقاومة الاستلاب في هذا العالم. بين فيديو إعداد الخميرة وكتاب بروست عن الزمن المفقود.
موقع الجمهورية،
————————————
ضد الاستضافة/ عمار المأمون
اقترح تطبيق Uber eats الخاص بتوصيل الطعام في فرنسا ميزة جديدة، وهي التوصيل إلى باب البناء، حيث يترك رجل التوصيل الطعام على الباب الخارجي، لننزل نحن ونأخذ الطعام، دون أن يصعد إلى باب الشقة، والهدف أن يكون «الغريب» أبعد ما يمكن عن الفضاء الخاص.
طَلبُ الطعام من «الخارج» مشابه لأي شكل من أشكال الدعوات التي نتبادلها مع «الآخر» كي يزور الفضاء الخاص، سواء كانت زيارته سريعة مقتضبة أو طارئة يقوم بها مجهول ينادي علينا من الخارج، أو يطرق الباب مثلاً. في كلا الشكلين، هناك اختبار لقدرتنا على تحويل المكان الخاص إلى مساحة للاستقبال، أو مساحة لنفي الزيارة ورفض النداء.
يتداعى العالم في ظل الحجر الصحّي داخل المنزل، الذي تَحوّل بالنسبة لكثيرين إلى مساحة للعمل والنوم والتسليّة والأكل. لكن الإشكاليّة هي أن الحجر يهدد مفهوم المنزل كمساحة للاستضافة، الفتحة على العالم الخارجي المتمثلة بـ «الباب» توصد، وتحل الشاشة محلها لنختبر العالم كمراقبين أو مساهمين في تدفق الصور ضمنه. كما أن تلقي أو إرسال نداء للآخر في سبيل استقباله في «الداخل» الذي يشكّل مساحة الأمان تلاشى، ما يحقق حلماً ديستوبياً يمينياً مُتطرفاً، يهدد لاجئين وهاربين وزوّار تمت استضافتهم وحمايتهم ضد أي تهديد في الخارج، في حين أن البعض تُرك «خارجاً» على الباب، ليواجه موته، محروماً من الضيافة، كحالة سكّان المخيمات، والمشردين الذي تم إخلاء بعضهم أو تُركوا لأقدارهم.
الحجر الصحيّ الوطنيّ يفترض الخطر في الخارج والأمان في الداخل. هذا الخارج خطر على مستوى غير مرئي، ينفي الحياة إن وقع؛ أما الداخل فسليم ونظيف و«مُعقّم». يهدد هذا التقسيم الاستضافة بمعناها الأكثر نبلاً، أي علاقة ودّ وصداقة مع الخارج وأفراده، ويستبدلها بعدوانيّة شديدة، لأن الخارج لا يهدد الحياة بمعناها الحيويّ فحسب، بل يهدد الداخل نفسه أيضاً و«يلوّثه».
يتحول المضيف إلى «حارس» في ظل علاقة العداوة هذه. ينفي الضيافة ويوظف التضامن الاجتماعي من مأمنه لخلق علاقة مع الآخر، تتجلى بالمرئيّة أو إثبات الانتماء للخارج وجماعة المعزولين عبر التصفيق على الشرفات أو تبادل التحيات مع الخارج. لكن الداخل ممنوع، لا يجوز المساس به، فـ «الحارس» يحُافظ على خليته الحيويّة ويدافع عن سلامتها حتى ضد نفسه إن اضطر للخروج، معقمات وأقنعة وتدابير منطقية وغير منطقيّة لحماية الداخل الذي لا يضمن من خرج منه مقدار تعرضه للخطر، وهذا ما نراه في سيناريوهات العدوى، التي يحاول بعض المرضى فيها استرجاع الطريقة الذي التقطوا بها الفيروس لتحديد المكان الخطر في الخارج بدقة، كصديقٍ وصف لي أنه أصيب بالعدوى من الأكياس المعلقة في محل البقالة، كونه لمسها ثم لمس وجهه «حسبما يذكر».
الإحساس بالأمن الحيوي الذي يختزنه الداخل تهدده قوانين الطوارئ، بعكس ما يشاع. بمعنى آخر، العداوة بين الداخل والخارج تعني أيضاً تحول الخارج إلى مساحة عدوانيّة في حالة تهديد الحياة، فالكثير من المصابين بالفيروس الآن يُترَكون في منازلهم إلى حين وصول الأعراض إلى مرحلة «خطرة»، ومن يتجه منهم إلى المشفى يُطرَد، ولا يتم استقباله. نعود هنا للاستثناء والطوارئ، وثنائيّة منزل وسجن، ففرنسا، مثلاً، قررت عدم إطلاق المعتقلين على ذمة التحقيق، وتركهم في الزنازين. الاتهام بالجريمة تحوَّلَ إلى عنف اعتباطي في حالة الطوارئ، والأمر ذاته في المنزل، فتقنين علاقة داخل وخارج ينفي الإحساس بالاستقرار الذي يفترض أن يؤمنه المنزل، وذلك بسبب استحالة البقاء فيه إلى الأبد. هناك مقومات حياة لا بد من «مغامرة» الخارج للحصول عليها، خصوصاً أننا لم نشهد بعد قرارات عزل لمناطق بأكملها، أي الحكم على مكان بأكمله و قاطنيه بالمرض، ما ينفي مفهوم داخل وخارج كلّه على حساب «مُربّع الخطر».
الداخل واختبار الذات
يدرك المُضيف دوره وما عليه من واجبات في زمن الاستضافة، ويختبر قدرته دوماً على خلق مناخ ملائم للزائر، خصوصاً أن أنشطة الداخل غير اقتصاديّة، بل حيويّة، قائمة على القدرة على الترفيه وخلق شعور بالأمان، كالولائم، والشرب، والجنس والاسترخاء والثرثرة. أنشطة يوميّة تحمل داخلها علاقات جسديّة مع الآخر وتختبر مكونات الداخل الحيويّة التي يدعمها النشاط الاقتصادي الخارجي. في ظل الحجر الصحيّ، تتلاشى الكثير من هذه الأنشطة، ويهيمن نظام التدبير المنزلي والحفاظ على استمرار الحياة في ظل المقومات المحدودة، ما يجعل الداخل/ المنزل مؤقتاً، كملجأ من القصف الجوي، «الحياة» فيه ترتبط بالاستمرار عبر الحفاظ على حياة الذات والعدوانيّة مع «الآخر» في الخارج.
اختفاء الاستعراض العلني من المساحة العامة، وتلاشي أنظمة الغواية بين «الداخل» و«الخارج» تحيل الجميع إلى كتلة بشريّة «داخليّة» تتبادل صورها، وصور طعامها، وزينتها الداخليّة، لإبراز اختلافها واستمرار نشاطها الاستعراضي. في حين أن من يظهرون في الخارج تُسبغ عليهم صفة الـ «أبطال» بأزياء موحدة وأصحاب «مغامرات»، لكن هذه «البطولة»، السياسية نوعاً ما؛ ترتبط بدقة بالحياة وقيمتها، سواء كان من في الخارج طبيباً أو شرطياً. لن نكرر كلام ميشيل فوكو وجورجيو أغمبين وتجليات السلطة البايوبوليتيكية أو الاستثنائيّة، لكن تحول الخارج إلى ساحة معركة ضد العدو الخفي جعل الداخل حصناً في بعض المناطق: تخزين الطعام، تخزين السلاح، والرهان على فناء الخارج واستعادة سيناريوهات نهاية العالم في بعض المناطق، جعلت تقسيمات الصديق- العدو التقليدية أبعد من أن تكون قراراً سياسياً، وأصبحت على أساس شخصي يرتبط بالحق في الدفاع عن النفس ربما، أو تعيين العدو بناء على خصائص ثقافيّة لا ترتبط بالتشخيص الطبي، بل بالخوف والرعب.
جحيم الداخل
علاقة داخل وخارج اقتصاديّة بالنسبة لكثيرين، ونظام الاستضافة الطارئ أو الودّي قائم على أساس تقسيم الزمن الداخلي والاستعداد لزيارة الآخر. هذه الزيارات والأنشطة المشتركة قائمة على التسليم بـ «الصحة»، لكنها ترتبط بمخزون مقدرات الحياة بين «الأصحاء». مفاهيم الكرم والسخاء والاستضافة في العلاقة بين المضيف والمستضاف، مهددة؛ خصوصاً وأن تدفق الزمن خارج الوقت الاقتصادي يرتبط بإيقاع الجسد نفسه ورغباته، والطاقة اللازمة للحفاظ على استمراره. أي، ولو بصورة مستفزّة، سؤال طقس الطعام والوليمة كعلامة على العلاقة مع الآخر أصبح مهدداً لدى الطبقات الأقل دخلاً.
غياب العلاقات مع الآخر والاستعراض أمامه في الخارج، أدى إلى زيادة العنف المنزلي، ذاك الناتج عن خلل في العلاقات بين «أصحاب المنزل». صحيحٌ أنَّ هناك صلة مع الخارج العلنيّ عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، لكنه يبقى أداءً من نوع ما، خاضع لتحديقة الكاميرا، التي بدونها وبدون احتمالات المشاهدة من قبل غرباء، يُصبح الزمن أبطأ، ويتدفق في الداخل ثقيلاً يُحاكم الفرد فيه ذاته وعلاقته مع هذا الآخر الذي وجد نفسه «أسيراً» معه، ليتعمّق الاختلاف الذي يتم تجاهله دوماً، الاختلاف الذي يُدفع عادة إلى مؤخرة الرأس بسبب توافر زمن لا يحضر فيه الشريك/الضيف الدائم. إن عادة الزمن الفردي وزمن التواجد مع الشريك لا يتطابقان، بعكس حالة الحجر الذي تتطابق فيها الأزمنة، خصوصاً أن التحديق متبادل، ودائم، وذو أثر يمتدّ في الزمن، فمن يُفترض أنه يتشارك السيادة على الداخل يتحول إلى مرآة للاختلاف العميق، ومسائلة للذات التي تكتشف نقصها عبر نقص الآخر واستحالة الاكتمال حتى بوجوده ، ليتحول الشريك إلى ضيف دائم أو مضيف دائم، يزداد الاختلاف بينه وبين الشريك كلما تكشفت تلك التفاصيل المختلفة والعادات شديدة الذاتيّة، وقد يتحول المنزل /الداخل إلى مساحة ضد الضيافة، وضد الاستقرار، في ظل غياب احتمال المغادرة أو الهروب.
موقع الجمهورية،
———————————————-
المُبعَدون والمتباعدون/ جيان ابراهيم
تخرق القذيفة الدخانية رئتي من الأمام، تثقبها، وتخرج من ظهري؛ أُكرّرُ طقس العبور هذا عشرين مرة على الأقل في اليوم الواحد، اليوم العادي، وأكرر لنفسي مقولة فرويدية: «الموت غاية كل الحياة».
أُكرّر لنفسي
أتلاعبُ بعبئي الذهاني. أصنعُ منه عادات، وأناجي وسواسي القهري. أُكرر لنفسي: رِئتاكِ الآن تبدوان كليفة الجلي زاهية اللون وقد أصبحت سوداء جداً بعد دعكها بوعاء القهوة والفنجان، إثر معركة طاحنة مع الطحل الجاف، الجاف كحلقكِ المُدَخَّن الذي تُرطبينه بالمرارة. أو: رِئتاكِ كمرآة الحمام، مبقعة هنا وهناك بفعل البخار، فأنتِ تكررين الاستحمام في قتال مستمر مع الرائحة العالقة بجلدكِ وشعرِك؛ أو أن في رئتيكِ حرقاً يشبه حرق السيجارة في طاولتِك البيضاء:
حرق في طاولتي البيضاء.
حرق في زاوية طاولتي البيضاء.
حرق في الزاوية اليمنى من طاولتي البيضاء.
كالممسوسة، لم أستطع النظر إلى الطاولة مدة ثلاثة أسابيع. لم يساعدني طبق القشّ في نسيان التشوه الذي أنزلته بها. طاولتي البيضاء مشوهة، لن أستطيع النظر إليها، لن أستطيع استعمالها، سأهملها كالكابوس عند حلول الصباح. ولكنها طاولتي أنا؛ طاولتي البيضاء، وأُتابع التدخين عمداً.
في الفقرات أدناه محتوى مشوش. بإمكانك، صديقي القارىء، التوقف عن القراءة هنا، وإلا فإنك ستضطر إلى استحضار سيجارة.
ننزلق من القمرة النسيجية كرواد فضاء انفصلوا عن كوكب الأرض لمدة لا بأس بها. ننزلق ولكن ليس كرواد الفضاء تماماً، أي ممن يختل توازنهم عندما تستعيد الجاذبية سيطرتها على أجسادهم التي اعتادت التحليق مؤقتاً، الذين قد يُسَرُّ بعضهم بالخلل بعد الرحلة اللاأرضية، فالتعثر دليلهم إلى أن حياتهم بدأت باستعادة رتمها السابق على اختراق الغلاف الجوي؛ رتمها الطبيعي: لم نُخلق لنُحَلِّق، بل لنلتصق بالأرض، وإلا كنا زُوِّدنا بأجنحة.
نحن الأجنة، ننزلق من بين ساقي الحياة لنتعلم الجاذبية كدرس، ولأول مرة؛ لم نُخلق لنُحَلِّق. نبدأ بعدها بفقدان الذاكرة عن الشهور التسعة التي قضيناها مُحلّقين، نتعرّفُ على الجاذبية خطوة خطوة، ونصبح ميالين إلى التطبيع مع الالتصاق الفيزيائي كلّما بلغنا من العمر يوماً إضافياً.
ليست المشكلة في الالتصاق، ولا التحليق، وإنما في فقدان الذاكرة؛ علماً أن «الموت هو غاية كل الحياة»؛ تُفسّر أستاذتي في الجامعة مقولة فرويد كما يلي: «هذا ليس تمنٍ للموت؛ وإنما رغبة فعلية بأنه يا ليتنا لم نُخلَق أساساً».
ليتني لم أحرق طاولتي البيضاء؛ ليتني لم ألتصق؛ ليتني لم أنسَ؛ ليتني لم أُحَلِّق؛ ليتني لم أُخلَق.
«ياليتنا لم نُخلَق أساساً؛ لم ننفصل عن مألوهٍ ما؛ مهما يكن هذا المألوه».
الانفصال عن الذاكرة
أتفهّم أنه لم يكن بمقدور والدَي أن يكونا ديمقراطيِين ليسألاني إن كنت أرغب بالانزلالق من ذاك المكان أم لا؛ ولكن ماذا عن الله؟
يتهيأ الله ليزفر؛ تنساب من بين شفتيه روحٌ وإذ بها روحي، ويبدأ الحوار المتخيل يومياً:
أنا: يا الله، لحظة، لتتوقف لحظة؛ هل بإمكاننا وقف هذا التفاعل المنوي قبل أن نصل إلى نقطة لا رجعة عنها.
هو: كلا.
أنا: يا الله؛ هلّا منعنا جبلة الطين هذه من التحول إلى فخارة.
هو: كلا.
أنا: يا الله؛ هلا تركنا الفخارة خاوية، بحيث لا تتحول إلى كائن عضوي.
هو: كلا.
أنا: سأفقد الذاكرة كلها هناك. ألا يمكنني أن أكون شاهداً على كوكب يفقد ذاكرته تماماً قبل أن يعود إليك. فلتكن مقايضة؛ أتحمل ألم الكوكب المصاب بالزهايمر، أحفظ التفاصيل المنسية، أبصمها وأرددها. أخبرك عن خطايا غيري من البشر، أتجسس على حياتهم، مقابل أن لا أفقد ذاكرتي، أن أبقى هنا إلى يمينك أو يسارك، لا يهمني في أي جانب، فلأبقَ جزءاً منك، من الذاكرة التي لا تفنى.
هو: كلا.
تنتهي السيجارة. أتأفف. حدث ما حدث إذاً؛ الله أقل ديمقراطية من والدَي، أنا كائن عضوي إذاً، أورغانيزم؛ فاقد للذاكرة.
اصطياد الذاكرة
في خريطة النَفْس، تختبئ أجزاء من أناي في جيوب، هنا وهناك، تضع بيوضاً وتترأس خلايا شعورية نائمة. تتوارى عن ذهني هاربة من وجه العدالة الإلهية، إذ أنها ترغب في أن لا تَنسى، ترغب في تملّك الذاكرة. تستعيد في مهربها أسئلة لاواعية: هل يمكن الهرب من الزهايمر الولادي هذا حقاً؟ هل سيبقى وجه الله محفوظاً في تلافيفي الدماغية إذا ما واظبتُ على تناول زيت السمك على معدة فارغة؟ هل أرغبُ حقاً بتذكّر أن الكوكب يفقد ذاكرته أيضاً، فيما يتكاثر البشر للحفاظ على الفصيلة في قمة السلسلة الغذائية؛ يَهرَمُ فيما يصطادون، يُصابُ بالخرف كلما أتقنوا استعمال الحياة، يرتجفُ إذا ما فقدوا تركيزهم وهاجمتهم «فلاش باك» ما؟
أم يُفضّل أن أحرق طاولتي البيضاء بزرزور السيجارة مرة أخرى؟ أو أن أزيد من استقلاب الزمن داعمة جهازي الهضمي بالنيكوتين؟ أم عليَّ استنساخ أعراض سيجارة الاستيقاظ على مدار اليوم؛ خدرٌ في نقرة الرأس وأطراف أصابع القدم، غثيانٌ على مستوى الخلية، هبوطٌ في سكر الدم، انتفاضاتٌ متقاربة في كافة أنحاء الجسد؟ ونةٌ خافتة في الأذن تُشكّك بما يدخره باطن عقلي من صور وتسجيلات صوت غير رقمية؟
يختبر الضجيج سلامة المدخرات ومدى صحتها ونسبة تطابقها مع الأصل؛ تطابق، أصل، نسخة مزورة عن الذاكرة. ترتفع درجة الحرارة في محرك التشغيل الكائن في جمجمتي، ويشيخ الله فجأة فيما تنبعث في المكان نفحة من رائحة النفتالين.
قتل الأورغانيزم
في التدخين استجابةٌ لما يسميها فرويد بدافعية الموت، والتي ترافق الأورغانيزم ما إن ينزلق من بين ساقي الحياة. وفي هذه الحال تكون السيجارة المُدخَّنة اندثارية تماماً، فالأورغانيزم، المطرود من عالم المألوه وبالتالي الفاقد الذاكرة، يسعى غالباً إلى حل عقدة الانفصال وتجاوز مأساة الفقد. ببساطة يسعى إلى مقتله؛ لا يرغب الأورغانيزم بالمجمل، والمُدخِّنُ على وجه التحديد، بالانتحار حرفياً، فإحلال الضرر في القلب أو الرئة هو محاولة عودة متعثرة إلى الحالة اللاعضوية؛ لا ضربات، لا نفس، ولا مؤشرات حيوية تجعل من الخسارة الإلهية أمراً واقعاً.
المُدخِّن، شقيٌ كما الأورغانيزم، واعٍ أنَّ الذاكرة التي يَعِدُ بها نفسه بعد الموت الفيزيائي لا تشبه ذاكرته البكر، وأنَّ لا قعر للانفصال.
إنعاش الأورغانيزم
ولأن وعيه يكفيه ليدرك أن الاجتماع بالذاكرة البكر، على لذته، أمر مستحيل، يتمسك الأروغانيزم بفانتزم لمّ الشمل، ويعيش تحت سطوة دافعية فرويدية أخرى؛ دافعية الحياة، التي تُحَوِّلُ بدورها الرغبة بالانتحار إلى أمل مستدام بالموت. ليتني لم أحرق طاولتي البيضاء؛ ليتني لم ألتصق. ليتني لم أنسَ. ليتني لم أُحَلِّق. ليتني لم أُخلَق منذ بادىء الأمر. وكذلك «يَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً».
ولأنه محكوم بالحياة، يقتنع الأورغانيزم بأن اللذة المتوهمة التي يسعى هستيرياً إلى الحصول عليها تكمن في التأجيل، ويستبدل الذاكرة المفقودة بذاكرات بديلة من شأنها مساعدته على ممارسة النجاة؛ نجاته هو نفسه ونجاة المستعمرة الأكبر، الجنس البشري. وهي ممارسة تشترط عليه أن يتفجر حبّاً، حبّا نرجسياً لذاته، وآخر يشمل المستعمرة كلها.
أن يحب الأورغانيزم ذاته: أن يأكل، أن يشرب، أن يقاوم المرض، أن يسكن؛ لينسى أنه ينسى، ليستمر فردياً.
أن أحب ذاتي كمُدخِّنَة: أن أتحكم بالوقت، أن لا يعود الوقت دائرياً وإنما أسطوانياً؛ ليست عشرين دقيقة، بل عشرين سيجارة.
أن يحب الأورغانيزم المستعمرة: أن يبحث عن شريك حياة دافىء، أن يستبدل صورة الله بأخرى عائلية، أن يتجاوز الانفصال إلى الانضمام فالإكثار، أن يستمر الجنس البشري ككل.
أن أحب المستعمرة كمُدخِّنَة: أن أُحوِّلَ الستارَ الدخاني إلى مِشدٍّ فرنسي يلم جسد الكوكب، مسكن المستعمرة، الذي رهّلته الولادات المتكررة، ومواليد لا تتفوق على شهيتهم الغذائية سوى شهية لا متناهية للتدمير. أن أفقد شهيتي وأقتصد بالموارد، أن أتابع قتل بويضاتي وخفض حظوظي بالإنجاب، أن أمتنع عن الأمومة إرادياً فلا أمنح الكوكب طفلاً من قطران.
ألم تستحضر سيجارة بعد؟ أنت واحد منهم؟
هُم
هل أنت منهم؟ من يرفضون التعمق في المخيلات المُدخنة، المنقوعة بالنيكوتين، أو على الأقل التلصص على بعض منها. مخيلاتٌ لا تتشابه كما لا تتشابه العلامات التجارية التي يحمل التبغ المعبأ اسمها. أم أنك ممن أدركوا عِظَم الثورة الباطنية التي يشنها المبعدون اجتماعياً على المنظومة الصحية؛ نحن نستهلك السجائر، نحتفي بالضرر الصحي، وإعاثة الخراب بالجسد، وتَلْفِ الأعضاء الحيوية، في ممارسات تحكمها قوانين الموت. بِعنا أجسادنا للشيطان عن سبق إصرار، مُجدِّدين الصفقة مع كل عقب مسحوق، ثائرين على الله أيضاً.
حماية النسيان
في محاولتهم للحفاظ على الروتين، واستقرار مؤشرات النسيان، ومنع الذاكرة من التسرّب، والمعاهدات الأزلية مع الشيطان: «لا تؤذنا فلا نؤذيك؛ شأننا شأنك؛ أُبعِدت عن الجنة وها نحن للذاكرة فاقدون»، يعمد مشعوذو العالم الصحي إلى تقسيم الفضاء العام، متجاهلين أن الهواء لا يمكن محاصصته. يعمدون إلى رسم حدود مرئية وغير مرئية تفصل عالمهم عن عالمنا الموبوء، كدائرة صفراء كبيرة تتوزع على امتداد قطرها اسطوانات معدنية، حيث ستذهب السجائر إلى مثواها الأخير. المشهد وثنيٌ تماماً، غايته التطهير؛ يتحلّق أصحّاء الجسد من حولنا فيما يُمنع علينا أن نخطو خارج الدائرة ما دامت السيجارة مستعرة؛ مرددين: «اقتلها».
أنا
لما كل هذه المسافة بينكم وبين الطريدة؟ هل هو المسّ؟ أم يخشى صحيح الجسد أن تَزلَّ قدمه، فينزلق إلى عالم المشرحة؟ أم أنه يخاف أن يصبح عميلاً مزدوجاً، أو ما يسمونه المدخن الاجتماعي؟ لأصدقكم القول، أنفر من الخوف الثاني، ففيه عدم قدرة على اتخاذ قرار وقلّة التزام، فالتدخين ليس متعة آنية أو تسلية أو إشارة ود. التدخين طقس؛ عليك أن تدع السيجارة تلتهمك تماماً حتى تكتمل أركانه، كأن تتداعى على الدرج صعوداً، لا بل وهبوطاً، فليس في السجائر العشوائية، والتدخين المتقطع أو النهم المؤقت، أي طريق إلى تجلٍ ما.
انقلاب الذاكرة
غير أن للذاكرة إرادة مستقلة، الذاكرة المضغوطة، بما فيها الأصل والمزورة، لا يمكن التنبؤ بمشيئتها أو قدراتها، فهي تتجاهل مشيئة من نسوا ومن يقاومون النسيان. وقد يكون ضرباً من التَطيّرُ أن نتأمل في مأساة اليوم الكوفيدية على أنها تحالف بين الذاكرة وكوكب الأرض، الساعي أيضاً إلى استعادة ذاكرته بيولوجياً، مُحوِّلينَ التباعد الاجتماعي إلى ابتعاد اجتماعي: على الكلّ التزام مسافات أمان، على الكلّ التزام الوحدة في حجره، سواء كان راغباً بالتذكر أم لا. هل تحاول الأرض قتل الأورغانيزم؟ هل الأورغانيزم على موعد مع الموت؟ هل يقف الله على الضفة الأخرى حاملاً معه الذاكرة؟
*****
* يُعبِّرُ هذا المقال عن أفكار الكاتبة وحدها؛ وتبرأ ذمة الناشر من أي نوايا تبشيرية تدعو إلى التدخين.
موقع الجمهورية،
——————————–
العزلة أو سلاماً أخي الهيكيكوموري/ كمال الرياحي
العزلة، ذلك السلوك الإنساني القديم والذي يعود كل مرة بشكل جديد هاهو اليوم يعود بأكثر وحشية ليشيد عالماً ديستوبياً شاملاً. فلئن عرفناه في أنواع شتى كتلك المحدودة في الزمن لترميم الذات والمشاعر والمشاريع وتلك الأبدية التي تعلن تنكراً تاماً للبشر، شيء مثل الانتحار الإجتماعي؛ حالة من الغثيان والترجيع لكل الموضوعات الاجتماعية والتواصلية. حتى وصل بعضها إلى الانتحار من خلال ما تسميه العرب قديماً بـ “الاعتفاد”* وهو أن يغلق المرء على نفسه فلا يرى أحداً حتى يموت. عزلة دوافعها مختلفة: بعضها ازدراء الناس وبعضها إعلان إفلاس وبعضها حفظاً للكرامة وبعضها تفرغاً للعمل وبعضها بحثاً عن استراحة وبعضها توديعاً للحياة برمتها. فإن هذا الشكل الجديد من العزلة التي نعيشها اليوم والمضروبة علينا باعتبارها شرطاً لبقائنا على قيد الحياة والنجاة من الكورونا تبدو الأسوأ على الإطلاق. فلنترك العزلة وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية لنتذكر بعض نماذجها الثقافية؟
بين الوحدة والعزلة
أن تلوح بنفسك في العزلة ليس أمراً سهلاً. فهذا قرار صعب اختص بأخذه عبر تاريخ البشرية كل من الأنبياء والمجانين والفنانين والفلاسفة والكتاب العباقرة. فمناعة البشر ضد الاحتكاك ضعيفة حيث لا يحققون ذواتهم في أغلبهم إلا عبر اعتراف الآخر، ذلك الآخر التراكمي والمتعدد في كل مكان ويبرر البشر ذلك التذري للذات في الحشود بالشبق وبالكينونة الاجتماعية والطبيعة المدنية للكائن البشري.
غير أن للعزلة أخت غير شقيقة تتشبه بها أحياناً حد التطابق هي الوحدة التي لا ينتهي أصحابها دائما إلى مصير المنعزلين. لذلك لا يعلم البشر اليوم هل هذا العزل الإكراهي سيجعلهم يعودون إلى الحشود بقوة أو حتى بشوق أم انه سيحدث رهابا من الآخر وستعود الحشود أفراداً إلى المخابئ تنشد الوحدة؟ يقول الروائي والمفكر الفرنسي الاستشرافي جاك أتالي في كتابه “معجم القرن الواحد والعشرين”: “الوحدة: هي اليوم، مظهر من مظاهر البؤس؛ وهي بعد غد، ترف يختص به ذوو الترحال المفرط. وهي اليوم، حكم بالإعدام، ومآل تدمير البنى الأسرية. وهي غداً، بما أسوأ من ذلك بمراحل: دنيا من الوحدات متراكمة، والملذات الأنانية، والمصائر المنغلقة على نفسها. وما من أحد سيشيع جنازة غيره في نصف حالات الوفاة الطارئة على العالم أجمع. ولكن بعد غد، سيدفع الغني غاليا حقه في البقاء وحده هو دون سائر الناس، ولحضور عروض ترفيه دون أن يتكلف الازدحام بين الدهماء. ذلك إلى حين تصبح الأخوة شرطاً من شروط البقاء”.
أدب وفن العزلة
لا يمكن للأدب كما الفن أن يبقى غافلا عن معالجة هذه الظاهرة المتعددة والمتنوعة والمشتركة في آن بين الشعوب كلها. بل تقاذفت المشاهد الثقافية في العالم بهذه التيمة في مقاربات متعددة لعل أهمها وأطرفها رواية “الحمامة” لزوسكيند وفيلم “اهتزاز طوكيو”.
اهتزاز طوكيو سينما الهيكيكوموري
ظهر سنة 2008 فيلم مرعب عن اليابان بعنوان “طوكيو” متكون من ثلاث أفلام قصيرة بثلاثة مخرجين تعالج الخوف في اليابان منها فيلم “اهتزاز طوكيو” shaking Toky الذي يدور حول العزلة من رهاب الناس والزحام. يختار بطل الفيلم أن يقاطع العالم برمته ويبدأ الفيلم من لحظة يكون فيها البطل قد قضى عشرة سنوات في شقته لم يغادرها أبداً محاطاً بالكتب ومنشغلاً بترتيب علب البيتزا التي يطلبها عبر الهاتف الثابت، صلته الوحيدة بالعالم الخارجي، لم يكن البطل يشغل حتى التلفزيون وينشغل طوال الوقت بالقراءة وترتيب علب البيتزا الفارغة. هذا السلوك الانعزالي معروف باليابان بهيكيكوموري وهو مرض اجتماعي ونفسي ظهر في الثمانينات وتفاقم في التسعينات من القرن العشرين أثناء الأزمة الأقتصادية يعاني منه أكثر من مليون مواطن ياباني. يعرف المرض بالانسحاب الاجتماعي.
يستعين بطل الفيلم بخدمات التوصيل للبيت يفتح الباب يتسلم أنابيب الكرتون أو ورق التواليت أو البيتزا التي يطلبها كل سبت ويسلم النقود لعامل التوصيل دون النظر في وجهه. ظل على هذه الحال عشر سنوات إلى أن طرقت يوما باب شقته فتاة جميلة Yū Aoi جعلته يرفع رأسه وينظر في عينيها على غير العادة. لم تكن الفتاة تتكلم فقط تقدم له البيتزا وترحل. وفي احدى المرات وهي تسلمه البيتزا على الباب ضرب زلزال المدينة فسقطت الشابة عنده في البيت مما أدهل عليه ارتباك كبير فأول مرة يقتحم عزلته كائن متحرك غيره فلم يستطع أن يفعل شيئاً غير السقوط بدوره ذعراً من ذلك الجسم الجميل. سقوط هيكيكوموري على الأرضية تزامن مع سقوطه في الحب. وبعد أن تغادره الفتاة التي تكون أشبه بروبو، تختفي ولم يعد يأتيه إلا رجل توصيل جديد بينما الانعزالي ينتظر بلهفة عودة الفتاة إليه. فقد صار في الخارج أمر يهمه بعد عشر سنوات من العزلة. فيقرر في لحظة أن ينهي كل شيء ويخرج بشكل مؤلم نحو العالم الخارجي بحثا عن فتاته الغامضة فينتزع بصعوبة دراجته الهوائية التي تركها بالحديقة منذ سنوات ليهاجم الطريق نحو المدينة التي تغيرت بالكامل.
إن الفيلم السوريالي الذي لا يتجاوز طوله نصف الساعة استطاع أن يقدم بذكاء كبير وطأة الاعتزال والعيش وحيداً وكيف يتعاظم الخوف داخله من كل غريب وخارجي ولكنه يعلن أن العواطف الانسانية والروح هي التي يمكن أن تنقذ الإنسان من هذه الحياة المميتة بعيداً عن الآخر، فالآخر سيظل ذلك المنقذ لنا من سواد أنفسنا مهما تشوهت صورته وأنه لا الزحام ولا الصخب بالجحيم بل الجحيم في الصمت والفراغ.
عالم باتريك زوسكيند الانعزالي
لا نكاد نعرف شيئا عن حياة الكاتب الألماني باتريك زوسكيند ( 1949) الذي اختار العزلة بعيداً عن الأضواء، منذ سنوات خاصة بعد نجاح روايته العطر حتى أننا لا نكاد نعثر له على صور، فقط صورة يتيمة يتداولها الإعلام. يرفض الكاتب أن يدلي بتصريحات وحوارات في نية واضحة للتخفي ويكسب شهرته من الفعل المضاد الظهور. يقول زوسكيند في مديح العزلة وهجاء الخارج : “سبب تعاسة الإنسان يكمن في أنه لا يريد الركون إلى حجرته حيث يجب أن يكون”، ويضيف “ما عاد يجوز أن يختلط المرء بأي إنسان، كائناً من كان، في أيامنا هذه، فالعالم يعج بالقمامة”.
لكن الغريب أن هذا السلوك يمكن أن نقرأ به منتجه الإبداعي حيث يمثل موضوع الوحدة والعزلة من المواضيع الأساسية في مدونته. ففي قصته “حكاية السيد زومر” يتطرق إلى قساوة الوحدة من خلال شخصية السيد زومر المريض برهاب الأماكن المغلقة أو الـ”كلاوسترفوبيا” مما يدفعه أن يقضي يومه يمشي في الطرق هائماً على وجهه، تلك العذابات اللامرئية للمرضى بهذا المرض تدفع بهم في غالب الأحيان إذا ما استفحل بهم إلى الانتحار مثلما فعل السيد زومر الذي أغرق نفسه في البحيرة .
أما “ثلاث حكايات، وملاحظة تأملية” فيتناول في إحداها ” فقدان الذاكرة الأدبية” الوحدة من زاوية البياض وفقدان الذاكرة، تلك الذاكرة التي تجعلنا في تواصل، لا مع العالم القائم على المواضعات بل مع أنفسنا أصلا، ومن ثم فنحن ننغلق حتى على ذواتنا بانسداد شرايين الذاكرة التي تحملنا إلى الماضي الشخصي لنا.
أما في رواية القصيرة “الحمامة” فهي ذروة معالجة هذه التيمة حيث يختار جوناثان نويل، بطل الرواية، أن ينعزل في بيته بعيداً عن الناس أثناء الحرب العالمية الثانية، حتى توطدت علاقته بشقته الصغيرة التي أصبحت كل عالمه وهو ينسحب من العالم الخارجي بشكل غريب فحيث “ظلت حصنه المنيع، ملجأه، حبيبته. نعم حبيبته، فقد كانت صومعته الصغيرة تحيط به رقيقة إذا عاد مساء إلى البيت، تدفئه وتحميه، تغذيه روحا وجسدا، ترعاه إذا احتاجها ولا تهجره قط. … بقي جوناثان وفيا لحبيبته حتى أنه نوى أن يشد عرى العلاقة بينهما أكثر فأكثر. نوى الإرتباط بها إلى الأبد بأن يشتريها. وبهذا ستصبح أخيراً ملكه، ولن يفصل بينهما شيء قي العالم، هو جوناثان وغرفته الحبيبة، حتى يفرق بينهما الموت، هكذا كانت الأحوال عندما ألمت به في آب، صبيحة يوم الجمعة، فجيعة الحمامة”.
هذا الارتباط العاطفي الذي جمع جوناثان بشقته الصغيرة كما وصفه الرواي تحول إلى ارتباط شبقي قبل أن يهجم عليه الخوف. فلحظة أراد أن يخرج من تلك الشقة وجد أمامه حمامة على عتبة الباب وسقط في الرعب من ذلك الطائر البشع كما وصفه ذو المخالب الحمراء وتحول جوناثان إلى أسير لا يستطيع مغادرة شقته الصغيرة المعلقة وانقلبت العزلة اللذيذة إلى معتقل مرعب.
يذكرنا فيروس كورونا، اليوم، ونحن محاصرون في بيوتنا بهذه الحمامة فالفيروس، أيضا، ينتظر الناس خارج بيوتها التي هرعوا إليها في البداية مستبشرين ثم ضاقت بهم. والفيروس من ناحية عدو غير مرئي ومجرد فيروس كان الإنسان قد تغلب على آلاف من الفيروسات مثله سابقا ومن ناحية أخرى هو مخيف لأن هذا الإنسان مازال أمامه عاجزا ويحصي قتلاه كل يوم بالآلاف ولم يتوصل بعد إلى دواء أو لقاح له، هكذا هو الفيروس هش كحمامة ولكنه مخيف لأنه بمخالب دموية.
غير بعيد عن تلك الشخصيات الانعزالية في أعمال زوسكيند يقف جون باتيست غرونوي في مخبئه يستنشق رائحة جسد ضحيته الأولى ويرسم طريقا للحب والعطر والموت بعيدا عن عالم الناس؛ عالم الجلود النتنة.
ولئن ذهب تشارلز بوكوفسكي يهجو الخارج قائلا: “لا شيء في الخارج سوى مصنع للحماقة، واختلاط الحمقى بالحمقى، هذا كل ما في الأمر” فأقوى الرجال بالنسبة إليه هم الأكثر عزلة. فإن بتريك زوسكيند يراه معادلا للموت والتعاسة ويجب أن نتوارى بعيدا عن الخلق ونرسم حياتنا البديلة ففي الخارج الزمبي ينتظرون كل من يخرج إليهم ليمزقوه كما مزقوا جون باتيست غرونوي في آخر رواية “العطر”.
فرناندو بيسوا عزلة المتعدد
انسحب فرناندو بيسوا من العالم تدريجيا بعد أن أصبح متعدداً، أنشأ بمخيلته شعبا كاملا من نفسه المتشظية حتى أنه كان يكتب بأكثر من سبعين اسما، لم تكن بعض تلك الأسماء استعارية وما نسميه بالأسماء الفنية بل كان هو نفسه بيسوا الذي غرق في الوحدة والتوحد مع ذاته. أصبحت الذات كثيفة حتى غطت العالم وحجبته.
إن الانسحاب التدريجي من العالم عند بييسوا أصله أكبر من احساس خيبة في الآخرين إنما أصله تلك الكثافة السوداء التي تحولت إليها الذات عندما أصبحت تعيش حالة ما بعد الهشاشة، يكتب في يومياته: “أشعر ببرد الروح، لا أعرف كيف أحمي ذاتي ولا يوجد غطاء ولا رداء لتدفئة الروح.” هكذا يردد بيسوا كلمة الروح بعد أن تحول الجسد إلي شيء غير مرئي وضاق الفضاء بكثافة هذه الروح. وهكذا يصبح كل ما هو يومي وطبيعي أمراً ساذجاً وتافهاً وأصبح التواصل مع الآخرين مستحيلاً. يكتب: “لا أكلم الآخرين. إنه لأمر شاق في الواقع أن أكون موجودا كل يوم في البيت في ساعة البلاهة وأن أتسلى بهذه البلاهة مع شاي الابتذال وكعكات الرضا”. ويؤكد تلك الوحدة التي دعته وهو مع الناس والأصدقاء والحشود فيقول: “يضايقني فراغ مطلق من أخوة ومودة. حتى الذين يوجدون بالقرب مني غير موجودين.. أنا اليوم أكثر وحدة مما كنت. معزولا أكثر مما كنت. شيئاً فشيئاً تتفكك كل روابطي تلقائياً. عما قريب سأبقى وحيداً تماماً”.
غير أن وحدة فرناندو بيسوا وحدة مخصوصة فذاته الكثيفة تستحوذ على الآخرين وتبتلعهم لكي يعيشوا داخله وليس معهم يقول في كتابه: لست ذا شأن: “العيش مع الآخرين، بالنسبة إلي، هو العذاب. كل الآخرين موجودين داخلي، حتى لو كنت بعيدا عنهم، أنا مضطر للعيش معهم. وحدي، تطوقني الحشود. لا أعرف إلى أين أهرب، على الأقل لأهرب من نفسي أنا”.
كانت حياة بيسوا كلها من مرضه إلى جنونه تذهب به إلى ذلك المصير الذي يصبح فيه العقل مشوشاً وأكثر تسلطاً على الكائن والكون. تلك اللحظة التي قادت نيتشه إلى الجنون وإلى العزلة وإلى تلك الصورة المؤلمة إلى تظهر فيها يرمي برأسه في صدر أخته إيزابيل متكورا كجنين هش بشارب ضخم.
ولئن كانت العزلة قد قادت بيسوا وغيره إلى الجنون والتلاشي فإن العزلة قادت الفنانة المكسيسية فريدا كاهلو إلى كسب ذاتها واكتشاف عبقريتها الكامنة وراء جسدها المشوه. فقد حولت يد صاحبة الساق الرقيقة المشوهة إلى أعظم رسامة في القرن العشرين ولم يكن حادث السير الذي حطم العمود الفقري لفريدا كاهلو والذي جعلها ترقد على ظهرها شهوراً في عزلتها كله شر. كانت تلك الرقدة المؤلمة سبباً في مسيرة فنية عظيمة لحظة طلبت الفرشاة والألوان وعلقت المرآة في السقف لتطل عليها ذاتها وتبدأ رحلة رسم البورتريهات الشخصية. كان التأمل في الذات تخلصا من الآخر كموضوع اهتمام وإعادة نظر في المواضعات الاجتماعية.
فهل سيقودنا هذا العزل القسري اليوم إلى الجنون لأننا فقدنا الآخرين أم سيجعلنا نكتشف ذواتنا وطاقتنا الحقيقية لأننا تخلصنا من هؤلاء الآخرين؟ هل ستخلق منا العزلة بيسوا أم فريدا كاهلو؟
*الاعتفاد: ورد في لسان العرب لابن منظور:”الاعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه فلا يسأل أحداً حتى يموت جوعاً، وقال محمد ابن أنس: وكانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم باباً وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعاً.”
منشورة في:
مجلة رمان
————————————-
============================
تحديث 20 نيسان 2020
—————————————–
قرّاء الحجر وقراءاتهم/ صبحي حديدي
للحجر البيتي، الإلزامي أو الذاتي الذي فرضته جائحة كورونا على مئات الملايين من البشر، منافع شتى تتباين تبعاً للمناطق والأعمار والاهتمامات، وما يتوفر ويكون متاحاً أصلاً، غنيّ عن القول؛ إذْ يحدث، على نطاق غير ضيّق أغلب الظنّ، أن يطمح امرؤ إلى ممارسة هواية ما فلا يجد ضالته، أو لا يعثر إلا على مادّة تستحثّ الضجر والضيق والقلق، بدل الاستمتاع والتسلية وحُسْن تزجية الوقت. ثمة، إلى هذا، ما يشبه الإجماع على أنّ القراءة (في منافسة حامية الوطيس مع مسلسلات التلفزيون مثلاً) تأتي في صدارة الفوائد التي تحقق التعامل مع الحجر من منطلق «ربّ ضارّة نافعة».
وقبل أيام نشرت أنغيلا هوبت مقالة في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، أحصت فيها عشرة أنماط من القرّاء يمكن أن يتوفروا خلال أزمنة الحجر هذه، ضمن مشهدية أمريكية بالطبع؛ لكنها تصلح، على أكثر من نحو، لتلمّس نماذج مماثلة على نطاق كوني أيضاً. ثمة قارئ يبحث عن المعنى في الطارئ العجيب، وثانٍ «هروبي» يهرع إلى العوالم العجائبية، ورابع أب لأطفال يقرأون أو يعيدون قراءة ما في حوزتهم من كتب، وخامس ينتهز فرصة الوقت المتاح لتطوير مهارات جديدة، وسادس أجهز أو يكاد على مسلسلات نتفليكس فأخذ يقرأ نصوصها، وسابع رياضي المزاج يقرأ كتب الرياضة بعد أن عزّت عليه مشاهدة المباريات المختلفة، وثامن آن له أن يقرأ أمهات كلاسيكية ضخمة مثل «الحرب والسلم»، وتاسع رومانسي ينفض الغبار عن الروايات العاطفية التي أبكته ذات يوم، وعاشر «مازوشي» المزاج يغرق في روايات الحيال العلمي التي تصف الجوائح…
ثمة، بالطبع، أنماط أخرى عديدة ومتنوعة، بعضها لا يجمعه جامع مع أيّ من قرّاء هوبت العشرة؛ لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، تاريخية وجغرافية ونفسية. وثمة، أيضاً، ذلك التنوّع المعتاد المذهل في القراءات المتعددة للنصّ الواحد ذاته، طبقاً لتأويلات ذات صلة بالأسباب المشار إليها أعلاه، واستناداً إلى سيرورات بالغة التعقيد تكتنف فعل القراءة بين قارئ وآخر. ولستُ أكفّ شخصياً عن الاندهاش للبلاغة البارعة والصائبة التي انطوى عليها غلاف الطبعة السابعة (1992) من كتاب «نقد استجابة القارئ»، الذي أشرفت على تحريره جين تومبكنز، وصدر للمرّة الأولى عام 1980 وأصبح بعدئذ مرجعاً كلاسيكياً في دراسة نظريات النقد المنشغلة بالعلاقة بين القارىء والنصّ. الغلاف يحمل رسماً كاريكاتيرياً يصوّر امرأة تقف في حافلة عامّة، تقرأ في كتاب مفتوح، مقطّبة الحاجبين وجدّية الملامح؛ على يمينها يتطفّل رجل يقرأ الصفحة ذاتها من الكتاب، ولكنّ دموعه تسيل مدرارة؛ وعلى يسارها يتطفّل رجل ثانٍ يقرأ ذات الصفحة، ولكنه يكاد يسقط على قفاه… ضحكاً!
هو النصّ الواحد ذاته، والفعل (في مستواه الفيزيولوجي على الأقلّ) واحد كذلك؛ لكنّ القرّاء ثلاثة، والاستجابات ليست مختلفة ومتناقضة فحسب، بل تتراوح بين الجدّ والبكاء والهزل. لماذا، وكيف حدث أنّ النصّ ذاته استدعى هذه القراءات الثلاث في آن معاً، في الزمن الواحد ذاته، وفي المكان الواحد ذاته؟ أسئلة أخرى، أكثر تعقيداً في الواقع، يمكن أن تنجم عن هذا الموقف الطريف الدالّ، بينها الطائفة التالية على سبيل الأمثلة: ما هي القراءة؟ مَن هو القارىء؟ ما هو مصدر السلطة التي تخوّل الحقّ في تأويل القراءة؟ ما الذي يقوم به القارئ، على وجه الدقّة، حين يقرأ؟ هل النصّ هو الذي يحدّد القراءة؟ أم استجابات القارئ الذاتية؟ أم العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية؟ أم هي أعراف القراءة في مجتمع ما، في برهة زمنية ـ تاريخية ما؟ أم جماع ذلك كله؟ ثمّ هل توجد، بالفعل، قراءة صحيحة أو سليمة؟ وإذا صحّ ذلك، فكيف في وسعنا أن نقول عن قراءة ما إنها صحيحة، وعن أخرى إنها خاطئة؟ كيف تؤثّر النصوص على القرّاء؟ هل توجد «أخلاقيات» قراءة؟
وفي الإجمال تبدو الأسئلة الثلاثة الأولى وكأنها تختصر المسألة بأسرها، غير أنّ محاولة الإجابة عنها ليست بالسهولة التي قد تلوح للوهلة الأولى؛ وهي، في كلّ حال، لا تُختزل إلى تلك الإجابة الغريزية التي تقول ببساطة: ولكن… القراءة هي القراءة، والقارئ هو القارئ، فعلام العناء إذن! العناء، في مستوى أوّل، تختصره طائفة أخرى من التساؤلات: كيف تكون «القراءة هي القراءة» إذا كنّا، في سياق الحياة اليومية، لا نتحدّث عن قراءة الكتب والمجلات والصحف وحدها؛ بل نشير إلى «قراءة اللوحة» و«قراءة المنحوتة» و«قراءة المقطوعة الموسيقية» و«قراءة الملامح» و«قراءة الأقوال» و«قراءة النوايا»، و«قراءة الأحداث» و… «قراءة الكفّ»؟
والناقد البريطاني تيري إيغلتون لم يجانب الصواب كثيراً حين اعتبر أنّ «في وسع المرء تحقيب تاريخ النظرية الأدبية الحديثة في ثلاث مراحل: الانشغال بالمؤلّف (المدرسة الرومانتيكية والقرن الثامن عشر)، والانشغال الحصري بالنصّ (مدرسة النقد الجديد)، والنقلة الملحوظة نحو الاهتمام بالقارىء في السنوات الأخيرة». تلك أقوال العام 1983، حين صدر كتاب إيغلتون «النظرية الأدبية: مقدّمة»؛ ولكننا اليوم لسنا في أطوار العودة إلى القارئ لجهة موقعه التأويلي والنقدي والسوسيولوجي في فعل القراءة فقط، بل كذلك في أنماط الاستشفاء والنقاهة والتعافي التي تتولاها السطور والصفحات، في هذه الأيام الكورونية تحديداً.
القدس العربي
————————————
البلكون لمَن لا منبر لهم/ بشير البكر
كشف لنا فيروس كورونا وظائف جديدة للمكان. ومن ذلك أن شرفة البيت (البلكون) في بعض البلدان باتت بمثابة منصة تعبير. ووجد البشر الذين يمتلكون حدائق وشرفات في منازلهم، أن معاناتهم في الحجر الصحي أخف وطأة بما لا يقاس ممن يعيشون في بيوت مغلقة، مهما كان حجم المساحة. وصرنا على مدى شهرين من حصار كورونا، نشاهد تحقيقات صحافية وصوراً عن حياة كاملة في الشرفات وحدائق البيوت. ولا يتوقف الأمر عند السهر ليلاً وتناول قهوة الصباح، فهذه عادات دارجة، بل ممارسة الرياضة، واستقبال الجيران من أجل نشاطات مشتركة، أو محاورة سكان البيوت المجاورة أو التي تقع في الجهة المقابلة. وشيئاً فشيئاً، صرنا نشهد نشاطات من نوع مختلف، طابعها اجتماعي وثقافي وفني واحتجاجي.
الحكاية بدأت من إيطاليا بعد أيام قليلة من فرض الحظر الحجر الصحي في 8 مارس/آذار، حيث شهدنا حفلات موسيقية وغنائية على الشرفات، وعروضاً مسرحية. وبعدها صارت البلكونات منابر حلقات نقاش حول الحياة في ظل الوباء، من أجل احتواء الانعكاسات وامتصاص السلبيات، خصوصاً العنف المتولد عن الضغط داخل الجدران. وتحولت الشرفة إلى ملتقى يومي، يخرج إليها كل من يود كسر الحصار داخل البيت، والبحث عن متنفس في الثرثرة والحوار، أو التعارف وتبادل الآراء والتدخين وتناول العشاء، وشيئاً فشيئاً كسر الناس قسوة الحصار المطبق على الصدور من خلال تحويل المكان إلى حيز عام وفضاء خارجي.
ومن النقاشات على البلاكين، بدأت تخرج مشاريع السهرات والطبخات الجماعية وحفلات الموسيقى والنقاشات، وكذلك تحول البلكون إلى منصة للتعبير والاحتجاج في غياب الشارع الذي كان يشكل مكاناً للتظاهر، وصرنا نشاهد على البلكونات شعارات مرفوعة مكتوبة بخط يدوي على كرتون عادي بدلاً من اللافتات، تحمل مطالب سياسية: “ماكرون إرحل. والمشافي مقصرة.. نريد مشافي وطبابة تحترم المواطنين”، أو شعارات تندد بالصين: “الصين قاتلة”. أو شعارات ذات طبيعة نضالية: “كوفيد 2019 قاتل.. الاحتلال قاتل أيضاً.. فلسطين حرة.. أنقذونا من كورونا بوتين والأسد..”.
ومن بين الأماكن التي أعاد لها كورونا الاعتبار، هو البيت. وتبين أن الحجر الصحي طبقات. بيت مع حديقة ومسبح، يختلف عن بيت مقفل. بيت مع شرفة تطل على البحر، أفضل من بيت بشرفة تطل على شارع جانبي. شرفة كبيرة أفضل من شرفة صغيرة. وهكذا يتحدد الأمر. قل في أي مكان عشت الحجر الصحي، أقُل لك من أنت، وكيف تأثرت به! وعلى أهمية هذه التفاصيل، فإن البيت يمكن أن يتحول إلى سجن بخمس نجوم، إذا افتقد إلى ما أحاط بهذا الطقس الاجباري والقاسي (الحجر الصحي) من إبداعات تجرأت كلها على كسر عنفه وجبروته.
وتشير بعض مقالات الصحف الفرنسية والانكليزية إلى أن وسائل التواصل التي كانت تشكل عالماً موازياً وافتراضياً في ظروف انفصال الناس عن الشارع، لم تتمكن من سد النقص والنهم الذي خلّفه حصار كورونا، وبدت مسألة الحياة الافتراضية بدعة هشة، وصار وجود نافذة إلى الخارج متنفساً ضرورياً.
هناك أمران مهمان، هما أن الحجر ضد المجتمع، ليس من منطلق تقييد حرية الناس فقط، وإنما من زاوية اللقاء مع الآخر الذي لا يمكن تعويضه بأي نشاط داخلي بين أربعة جدران. وقد تفيد القراءة ومشاهدة الأفلام والمسرحيات في تقطيع الوقت، وليس استثماره على نحو سليم في هذه اللحظة الصعبة. والأمر الثاني هو مسألة العلاقة مع الفضاء الخارجي. ولدى كل الشعوب هناك داخل الدار وخارج الدار.. وهنا تأتي مكانة الحديقة والشرفة. الحديقة أساسية في البيت التقليدي والريفي، وكان يسميها البعض صحن الدار. أما البلكون فقد نشأ في العمارة ذات الطوابق، واشتهرت به بيوت الشرق، او تلك التي نشأت على شواطئ البحر وضفاف الأنهار، وهذا ما نلحظه في عمارة البحر المتوسط حيث معدل أيام الشمس والضوء مرتفع، الأمر الذي يجعل من البلكون فضاء ذا قيمة خاصة لتناول الطعام وشرب القهوة والشاي والسهر واستقبال الزوار.
يقول جان لاكان: “إن الذات دائماً ما تدرك نفسها أكثر فى الآخر، لكنها فى الوقت نفسه، تسعى هناك الى ما هو أكثر من نصف ذاتها، فالذات هي كذلك فقط لأنها تخضع لمجال الآخر… وهذا هو السبب في أن الذات ينبغي أن تخرج… ان تضع نفسها خارجاً”. وهنا يتجلى الجدل بين الحيز العام والحيز الخاص. والحيز الخاص هنا مغلق، ولا يمكن أن تكتمل حرية الكائن إن لم يجد نفسه في الحيز العام: مكتب، مقهى، شارع، حقل،.. ولذلك أول ما يعمل عليه السجناء المحكومون لمدد طويلة هو الانفصال عن الحيز العام، والقيام بقطيعة ذهنية وعاطفية مع الخارج، والانكفاء إلى الداخل من أجل مواجهة شروطه الصعبة والقاسية. لو كان للسجن شرفة، لأصبح السجين بمثابة الطائر الذي ينظر نحو الفضاء.
لن يعود البلكون ملحقاً بالبيت يمكن الاستغناء عنه، بل صار ضرورة للتعويض، ومنصة في غياب الشارع ووسائل التعبير العامة. وصرنا نسمع البعض يقول “من هذا البلكون” في حين كان يخطب في السابق “من هذا المنبر”.
المدن
————————————
على الأقل حتى نهاية الليل
ترجمة عن الإيطالية: أمل بوشارب
ضربٌ وردّ مع جانكارلو بونتيجيا
* ألبيرتو بيرتوني
أذكُر الجِدار في قصّة قصيرة
“فلنبتعد عن همومي”
ولكن أكثر من فاز لم يكن الجدار بل أنْ-لا
أكون أبداً غير ما أنا عليه
حانقاً، خاضعاً، ساخطاً
الكابوس هو تفكّك العالم هذا
بين الخياشيم والمعصم
وابل الذرّات هذا الخارج عن السيطرة
وأنت في المنتصف
مرآة كئيبة
لا تجمّل
أي شيء
إن لم يكن وجودي اليوم
أحد الأعراض الحيّة
للوشيك
عيد ميلادي الخامس والستّين
بمنأى عن
المجتمع الطيّب الذي علّمني
هو تأكيدٌ على الحق في الانعتاق
من عظامي ولكن أيضاً
من سمنتي المتبقّية المترتّبة
عن عواطف مطوّلة
واليوم – أُقرّ – هي مهملة
بسبب طعام أجزائي
وهذا القليل من الكحول
في المحصّلة، أنا أيضاً لو
حدث والتقطتُّ العدوى
سيتمّ على أقلّ تقدير حبسي
وبعد وقت قصير دفني
في الحديقة التي لا منفذ لها
حيث التقيت كبومةٍ
هذا الصباح
حشدَ كلاب عاوية
والبهاء المنطفئ لآذاري
مخدوشاً بشفرات الصقيع
التي يجمع فيها الشِّعر
النهاية بالبداية
لأنه، عزيزي جانكارلو بونتيجيا،
لا وجود لشيء آخر
غير هذا الاستنزاف السريع المتسلسل
للدموع من نهاية القصة
أو من فقدان لا يُعوَّض لأب
لو عرفنا لمرّة
قراءة السماء التي أصدرت
حكمها النهائي
لنهاية المطر
مع ضربات مسارات الثلج البيضاء
ولون أزرق
يلاحقني من على جانب المرض
ويتدهور الأمر بسرعة
يغدو غيبوبة مؤمّناً عليها
الأعصاب تَشبِكك على بعضك
وتنفجر العبارة داخلك
في شظايا حروف تقول
كفى كلاماً، عزيزي،
على الأقل حتى نهاية الليل
في الوقت المعتاد الذي لا يعرف النوم
لمرور العرق
أنا الطبيعة وما أدراك ما أنا
أُختزل إلى العدم
ليس الإنسان وحده عديم الاحساس
بل الحجر العاطل عن وجوده منذ زمن
ولكن بدلاً من أن تختزلني
في كلمة أُحادية منتهية الصلاحية
تقترب منذ زمن إلى الهاوية
حيث يعيش أحبّائي
أتجمّع كُلّي في دائرة
السنوات، والأيام، والساعات
حتى آخر دقيقة
أُنقذ فيّ تقريباً فقط:
ذرة الشم تلك
ومذاقاً في زاوية الفم.
Alberto Bertoni شاعر وناقد إيطالي، من مواليد 1955 مودينا في إقليم إيميليا ـ رومانيا بإيطاليا، أستاذ الأدب الإيطالي المعاصر في جامعة بولونيا، صدرت له عشرات المؤلّفات عن كبريات دور النشر الإيطالية، من دواوين شعرية منها “السرير الخاوي” (2012)، وأعمال نثرية منها “ذكريات من الزهايمر” (2016)، بالإضافة إلى أعمال نقدية أبرزها “تاريخ الشعر الإيطالي الحر (1995)، و”الشعر، كيف يُقرأ كيف يُكتب” (2006). حظيت أشعاره بدراسات نقدية موسّعة، ويُعدّ حالياً من أهم كتّاب صحيفة “لا ريبوبليكا”.
■ ■ ■
كما لو كنّا نصوّر فيلماً
* جانكارلو بونتيجيا
عزيزي ألبيرتو،
رسالتك هذه هي حقّاً هدية رائعة توظّف بعضاً من عناصر [كتابي] “المرآة”، مُزحزِحاً إياها على مستوى تجربة لا تقل إرباكاً وملحمية. هاوية الوقت والذاكرة، وبالتالي العالم، منهياً كل شيء بـ “ذرّة من الشم/ المذاق”، في لقطة ساخرة تخلع عنّا لوهلة، ذلك الشعور من الارتباك والدوخة الذي نحياه جميعاً كضحايا ومتواطئين عندما نفكر في العلاقة الغريبة للأنا بتعقيدات الكون.
كانت في غاية الجمال على وجه خاصّ تلك الأربطة التي اخترقتها تدفّقات نحوية جميلة تحاكي إلى حدّ ما الحركة غير المنتظمة للكلام، ولكنها تجد توازنها الذي لا تشوبه شائبة، وهو إيقاع يتوقّف عليه كلّ شيء.
وكأنّني أسمع في كتاباتك هذه صدى “تشيكو أنجولييري” أو مقطع فذ من “كارمينا بورانا”، حيث تتوحد اللقطة المرحة والمضحكة مع الكآبة السوداء، البعد الوجودي لمذاق التشويه والسخرية: تقاليد أحبّها كثيراً، وغالبًا ما أعود إليها في قراءاتي. شكراً من القلب، ألبيرتو: كان لا بدّ من كلمة متفجّرة بكلّ هذه العاطفة والتمرّد في لحظة غريبة ومفتوحة كهذه، تكاد تكون غير حقيقية: كما لو كنّا نصوّر فيلماً، أبطاله كومبارس فقط، فيلم طويل جدّاً وقاتم.
مع خالص التحية.
جانكارلو
Giancarlo Pontiggia شاعر وناقد إيطالي من مواليد 1952 في سيرينو بإقليم لومبارديا. صدر له العديد من الكتب النقدية والأعمال الأدبية، من بينها: “مرآة” عن دار موندادوري (2017) التي تعالقت قصيدة ألبيرتو بيرتوني “ضربٌ وردّ” معها نصيّاً.
العربي الجديد
————————————-
مرضى لا يستحقّون الحياة!/ بوشعيب كادر
أسمَعُ فَحيحاً، ثُمَّ رَميَة سُمّ
وَبعدَها نَتَساقط جميعا كالرماد
■ ■ ■
قال لنا الأطبّاء لا تَتَصافَحوا،
لا تعانِقوا أحداً، فَفَعلنا
قال لنا الأطبّاء
احبِسوا أنفاسَكم في الداخل
وغَطّوا وجوهكم بِأقنعة،
فَفَعلنا
قالوا لنا أغلقوا أبوابكم ولا تَفتحوها اليوم،
فَفَعلنا
اليوم قالوا لنا إِنَّ بعضكُم لا يَستَحِقُّ الحياة!
فوداعاً لِموتى يَرحلون بِدون تلويحات وَداعٍ
وداعاً لِمرضى يَموتون وحيدين
وَداعاً لِأَحِبَّة لا قبور لهم
ارحَلوا أَيُّها الشامِخون ما أَجمَلَكُم
ارحَلوا أَيُّها الساكِنون في قُلوب أَحِبَّتكُم
فاليوم، السماء، العصافير، البحر
الشجرة المزهِرة، والفرحانةُ كعروسٍ بجوار بيتي
أجمل منّا جميعاً نحن الأحياء
اليوم سأغسِل أوراق النباتات
كما تَغسِلُ أُمٌّ رَضيعها،
وأُعَرِّضُها لِرقاقات الشمس
لِتنمو عُروشها كأصابِع طفل
وأسَمِّدُ تُربَتها، وَأَرُشُّها بالماء بِرِفقٍ
كما يَرُشُّ الله الجنة
■ ■ ■
اليوم جاءت لِزِيارتي نَحلَةٌ وَفَراشتان
أَعدَدتُ لهما لَحناً وَرَقَصنا حتى الصباح.
* شاعر وأكاديمي مغربي أميركي مقيم في مدينة نيو أورلينز الأميركية
العربي الجديد
————————————
مقام العزل/ طه عدنان
مهلًا أيّها الوباءْ
رُوَيْدَك
لا مَصْلَ هنا
لا دواءْ
مهلًا أيّها البلاءْ
نحن الأحياءَ المعزولين
على هذه الأرض
مُياومي الخلود المؤقّت
لا نملكُ سوى القصائدِ
– نحيبِ الكلماتْ –
ندبّجُها
بحسرة الثكالى
ضدّ الأسى
والفناءْ
نُوَدِّع في كل حينْ
جثامينَ معقّمةً
نعوشًا بلا مواكبَ
ولا مشيّعينْ
فيما الفيروس يقتادُ
العالَم الحزينْ
إلى جحيمٍ لامرئيّْ
إلى محرقةٍ بلا دخانْ
أيّها الفارّون
من لعنة التَّاجْ
يا قبائل الملثّمين
المكمّمين
من مختلف الألوانْ
ادخلوا مساكنَكُمْ
وأقفلوا الرِّتاجْ
تقَوْقَعوا على أنفسكمْ
مثل حلازين
ممنوعةٍ من الزّحف
تلهَّوْا بالهلع الخفيف
ممّا هو آتْ
وتدرّبوا
على الفقدانْ
لا وقت للهزل
هذا أوان العزلْ
عُدْ إلى كهفكَ
أيّها البشريّْ
عُدْ إلى عصركَ الحَجْريّ
عُدْ إلى جُحْركَ العصريّ
فشمس إبريل كاذبةٌ
والربيع
يُزْهِرُ الموت
في الخارج
عُدْ لِتَعي
أنّ الكون منتظمٌ
بدونك
وأنّ الآخرينْ
ليسوا حتمًا
هُمُ الجحيمْ
اهدئي أيتها البشرية
الكوكبُ مغلقٌ للتصليحْ
ستحتجِبُ الحياةُ قليلًا
مثل شمسٍ كَليلةٍ
تناهبَتْ أشعّتَها الغيومْ
فَلْنترك لغز الوجود
يغفو
في دولاب الأسرارْ
ولْنَرْكُن
إلى منفانا الدّاجن
نتابع هذا السيناريو الجنائزيّ
إلى أن تلتقط الأرض أنفاسها
لنهدَأْ لوهلةٍ قد تطولْ
وَلْنبتسم بِقَبولْ
في وجه أبديةٍ من غبارْ
تشابهت علينا القواميس
أمشاجُ الكلماتْ
فاختلط المجهريّ
بالجوهريّ
تفرّقت بنا السُّبلُ
واستشرَت العدوى
لا فرق بين فقيرْ
بلا مأوى
ولا ساكن القصر
ذاكَ الأميرْ
لا وقت للهمس
لا وقت للّمس
هذا زمن التباعُد
لِنُعِدْ تحديد المسافة
في الحَراكِ
وفي السكونْ
كأنّا حفنة ممسوسينْ
نلعب الغُمّيضة
مع جراثيم عمياءْ
العالم يتقدّم
بأطرافٍ ميّتةٍ
وشفاهٍ ناشفةٍ
من الرُّضابْ
المشاعر تقتل
فاجتنبوا الضّمّ
واتّقوا القبلاتْ
فهذا الحبُّ
كالحرب خدعةٌ
يا أيّها البشرُ العاطفيّْ
العالم يتقدّم
مدجّجًا بالفتوحات المَخْبرية
والنبوءات المِجْهرية
مثقلًا بالحروب
والخطايا
ورذائل القرنْ
العالم يتقدّم إلى مصيره
بأعلامٍ منكّسَةٍ
فيما الوباء
يعربد في الطرقاتْ
يجتاح الأرض
بلا صواريخ
ولا دبّاباتْ
الوباء
يوزّع أكاليل الموت
بالقسطاس المريعْ
ليستوي الراعي والقطيعْ
وتستوي السلالات الرفيعة
والسلالات الوضيعة
المِللُ والنِّحل
ممالِكُ الجَوْز
وجمهوريات الموزْ
سنسكن جميعًا
إلى جُبْنِنا الفطريّ
سنجرّب العيش الفاتر
بلا مآتِمَ ولا أعراسْ
سنجرِّبُ الانزواءْ
لنكتب
حتى الزفير الأخير
حشرجةَ الأرضِ
وهي تتجشأُ النفايات
ونرنو إلى السماء
وقد خَلَتْ
من طَيْرها المعدنيّ
ومن أكسيد الحضارةْ
أيّتها العدوى الزّاحفة
تمهّلي قليلا
دعينا نسابق النهاية
نحو مصير غامض
في مواجهة اللّامرئي
بتلعثم جنديّ مهزوم
يلفظ أوهامَهُ الأخيرةَ
على أرض برابرةٍ ظافرينْ
نهتف: مهلًا كوفيدْ
مهلًا يا صاحب التاجْ
ليس لنا مَصْلٌ
ولا علاجْ
سوى المراثي
في وداع الأحبّة
نلقيها
هكذا
من بعيدْ.
5 إبريل 2020
* شاعر مغربي مقيم في بروكسل
العربي الجديد
————————————-
يوميات الوباء: ذاهبون إلى عالم لا نعرفه/ هاشم غرايبة
تقف هذه الزاوية مع الكتّاب العرب في قراءاتهم أثناء فترة الوباء، وما يودّون مشاركته مع القرّاء في زمن العزلة الإجبارية.
في قريتي يتصرف الناس كأنهم كلهم مصابون بالفيروس. أو كأنهم كلهم آمنون. يمارسون حياتهم اليومية كالمعتاد من العاشرة صباحا حتى السادسة مساء. الدكاكين مفتوحة. الفول البلدي يباع على قارعة الطريق. ولا تزاحُم على مخبز حسني الفرّان.
اتصلت بصديقي “حميد كيا” الذي يعيش في مخيم النّور شرق قريتي حوارة لأطمئن على أحوالهم، فقال: “الحمد لله. اللي عنده يعطي الماعنده. المهم لقمة تسد الجوع. وخربوش يأوي الراس. والحكومة ما قصرت جابولنا خبز”.
متطلبات العيش قليلة وغير مكلفة. أما وقد أفسدت الثقافة الاستهلاكية أهل المدن، فسيشكو أهلها حتى من نقص نكاشات الأسنان. وينشغلون بمتابعة مسلسل الإصابات المحلية، والسرديات الكبرى لكورونا.
في بيتي صرت أكثر ميلا للتأمل والتحديق بالتفاصيل. أنتبه لزوايا رؤيا جديدة، والتقط التفاصيل وهي تتغير. كنت أذهب إلى عملي من العاشرة للخامسة يومياً. خصصت هذا الوقت لمزروعاتي وأشجاري حول البيت (عشّبت البصل وقطفت الفول الاخضر، وقصيت حوض السبانخ، ونظفت الفسائل والسرطانات عن جذوع أشجاري، وزرعت البامياء والبندورة والقثاء).”
طبعا أتابع الأخبار، ووسائل التواصل الاجتماعي. أسمع موسيقى وأشاهد أفلاماً وأقرأ قليلا. فأنا معتاد على المزاوجة بين العمل ومتعة القراءة والتأمل.
أحلام اليقظة مهنتي. (اكتسبت هذه المهارة أثناء سنوات السجن).
حين أغمض عيني أخرج من الواقع، وأغوص عميقاً في لجة الكون، فأشعر بأني فوق كل التزام، وأقوى من أي إكراه، وبأني حر طليق بلا كثافة ولا تكلّف، ولسبب لا أعرفه، وجدت قلمي شغوفا بالكتابة عن الغجر:
[كان لنا مملكة، وكانت لنا حكاية، لكن مملكتنا طواها النسيان، وحكايتنا لم يُؤبّدها الرواة. كنّا سادة الكلام. نتحدث للكائنات فتجيبنا، نلقي التحية على الزهور فتبتسم، والطيور والفراشات تردد أهازيجنا. في حكاياتنا كان الغجري منّا يستيقظ طفلا وليدا يكبر مع ارتفاع الشمس في السماء. في المساء يشيخ، وعندما يخيم الليل يموت. في اليوم التالي يستيقظ طفلا جديدا. كانت الطيور ركائبنا نسرجها كالخيول. الصقور تحمل متاعنا إلى أعالي الجبال. فوق الغيم كانت الخيول تجرّ عرباتنا المزركشة نحو الشمس..]
على الشاشات اللامعة يختلط الواقع بالخيال، والفكر بالخرافة، والحكاية بالأسطورة، والمعرفة بالفانتازيا. هذا الحساء الرديء وجدت بديله عند الغجر بعيدا عن هجمة الرعب الكوروني، والتبجح البشري بالمعرفة. هل أحاول رسم نقيض لاضطراب العالم السوريالي من حولي؟
لا مناص من التفكير بهذا الفيروس اللعين.
هل سيشكل فيروس كورونا علامة فاصلة بين سرديات ماكنة الاحتراق الداخلي، والصناعات العملاقة والتلوث البيئي والبوارج الحربية والصواريخ البالستية. وبين سرديات فيزياء الكم وتكنولوجيا النانو وعلم الجينات والحواسيب الكمومية والذكاء الاصطناعي؟
إنها تلك الأشياء المتناهية في الصغر التي تنمو في الهامش بعيدا عن أعين الفضوليين وفجأة – يبدو الأمر كأنه فجأة – تشكل مسارات وتفرض واقعا.
لعل التحولات العظيمة تحدثها أصغر التغييرات، وأشد الكائنات خفاء!
هل نعت أحداث كورونا الحداثة وما بعدها بشكل عملي، ووضعتنا وجها لوجه أمام “واقعية سائلة”- على غرار سلسلة سوائل زيغموند باومن-.
المعماري الساخر روبرت فنتوري يعرف ما بعد الحداثة بأنها الحداثة مضافا إليها شيء ما. وأنا أقول إن الحداثة وما بعدها أضيف إليها ما يفسدها ويبطل سحرها، وقد حدث أن أكلت حليمة ربها، واستنفدت دودة الحداثة تفاحتها، وهاهي كورونا تفتح مسربا جديدا لرياح التغيير.
الآن ودائما نحن ذاهبون إلى ذلك العالم الذي لا نعرفه.
* كاتب من الأردن
العربي الجديد
——————————
القواقع التي ستنمو فوق ظهورنا في الحجر المنزلي/ إعداد شهد محمد قيس
رسم ألكسندرا حلو
ربما سنخرج بعد انتهاء كل هذا كأسراب من الحلزونات أو السلاحف الطرية، مع فقدان كبير للمهارات الاجتماعية أو الأداء الاجتماعي
في اللحظة التي بدأ فيها حظر التجول الطوعي أو الإجباري في المنطقة بسبب انتشار فيروس كورونا، تحسست جلدي! كان عليّ أن أذكر نفسي بأنه قد بدأ يقسى أخيراً ويستطيع مواجهة العالم الخارجي بعد أن كان محمياً داخل قوقعة عدّة مرات. القوقعة لم تكن واحدة، كان منها أكثر من نوع، الأول كان القوقعة المستعارة التي يدخلنا فيها أهلنا لحمايتنا من العالم الخارجي، والقوقعة التي أريد التحدث عنها كانت تنمو من عظامي فوق ظهري، والتخلص منها أشبه بعملية بتر جزء من جسدك.
لا تنمو هذه القوقعة فوق ظهورنا دون سبب. يجب توّفر الظرف الملائم لها، وهو العزلة الاجتماعية. العزلة التي نجبر عليها لظروف مختلفة مثل الحروب وتبعاتها التي تجعل من البقاء في المنزل الخيار الأكثر أماناً للنجاة من القناصين والخاطفين، أو فشل دراسي أو ما يشبهه يجعلنا نخاف من مواجهة الآخرين، أو حالة صحية معينة، وأخيراً وباء خطير سريع الانتشار.
هذه الحالات أو غيرها، وما تفرضه من عزلة في المنزل، تستوجب إيجاد حلول لقضاء الوقت في هذا المكان المغلق، وبالتالي فإن التلفزيون والإنترنت وربما بعض الكتب ستكون خيارات نقوم بها لمواجهة الوقت بين الجدران، وبالفعل في الوقت الحالي بدأت شركات إنتاج الأفلام، وشركات الاتصالات، والمكتبات بتوفير عروض مجانية أو أقرب للمجانية لمساعدة المحجورين بسبب كورونا لقضاء هذا الوقت، ناهيك عن توفر مئات من مواقع الأفلام والمسلسلات والكتب المقرصنة. سيبدو الأمر مفزعاً بالبداية، لكننا سنغرق في هذه العوالم، وفي ساعات المشاهدة المتواصلة التي ستخرجنا من قلقنا وأفكارنا وتشغلنا بها. ودون أن ندرك ستكون القوقعة قد بدأت بالنمو شيئاً فشيئاً.
أذكر نمو قوقعتي الأولى جيداً. في العراق أثناء السنوات الأولى للحرب في 2003-2005 ، كنت طفلة صغيرة وكان على أهلي حمايتي من الرغبة في الخروج في خضم حالات الخطف والقتل على الهوية وغيره، فحصلنا على ساتلايت –بعد أن صار مسموحاً به أخيراً- وبهذا وجدت عالماً مثيراً جديداً، وجدت قنوات مختلفة تعرض الرسوم المتحركة طوال الوقت، ولم يعد عليّ مشاهدة أفلام ديزني على أقراص لعشرات المرات، كان هناك أشياء جديدة ومستمرة. وشيئاً فشيئاً لم أعد أرغب في الخروج، حتى لو كان مع عائلتي، كنت أخشى من تفويت حلقات مسلسل يوغي أو أجنحة الكاندام. وكنت أسأل أهلي إن كان هؤلاء الأشخاص الذين سنزورهم ممتعين أو مفيدين أكثر من مسلسلاتي؟
بعد مرور الوقت، بدأت أستخدم ألفاظاً فصيحة بدلاً عن العامية، بضعة كلمات فقط كانت كفيلة في أن تجعلني أتعرض للسخرية عند عودتي للمدرسة. استطعت التواصل قليلاً، لكنني تعاملت مع كل شيء على أنه رسوم متحركة، وكانت قد مرت سنوات قبل أن أدرك أن الأمر لا يسير بهذه الطريقة، وأنني أفقد الكثير من مهاراتي الاجتماعية، ما يجعل حتى التنفس محرجاً. وهكذا كنت أبتعد كل مرة حتى صرت أعيش داخل القوقعة التي نمت فوقي بالكامل ونتج عن هذا جلد طري عالي الحساسية. وحساسية كهذه تسبب الخوف، والخوف يعيد دائرة العزلة. استطعت تحطيم القوقعة قدر الإمكان بصعوبة، وكانت تنمو مع كل مشكلة، وأعود لمحاولة تحطيمها ثم اكتساب جلد خشن قليلاً وهكذا دواليك.
لا أشبّه الحروب بكورونا قسرياً، إنما تجاربنا والذاكرة هي من يفرض ذلك. سمعت مصطلح حظر التجوال لأول مرة في حرب أمريكا على العراق عام 2003، وقمنا بتخزين مواد غذائية رئيسية في الحرب، اختبأنا في بيوتنا لنحمي رؤوسنا من الشظايا، تعاملنا مع الخوف ومع الأخبار ومع احتمالات الموت والخطف وفقدان الأصدقاء والعمل. نحن المدنيين المختبئين في المناطق التي تسمى آمنة، الذين لم نر الدم بأعيننا لكننا نشم رائحته.. تذكرنا كورونا بالحرب.
قد يبدو هذا كلاماً ينم عن رفاهية كبيرة، عن شخص كان آمناً في الحرب، لكن أليست كورونا تظهر الفروقات نفسها؟ القوقعة بالأصل ليست شأناً عاماً، إذ لا يمكنني تناسي أولئك الذين لن يملكوا الوقت لنمو القوقعة، لأنهم مضطرون للخروج، أو لأنهم لا يمتلكون القدرة على إمضاء الوقت على التلفزيون أو الإنترنت، وبالتالي لا خيار لهم سوى مخالطة الجيران أو الأقارب رغماً عن السلطات والحجر الصحي والحظر.
صحيح أننا نتواصل الآن بسبب الانترنت، وربما نتواصل أكثر مما كنا عليه قبل الحجر، لكنه تواصل لا يحتاج إلى وجود الجسد. في مكالمات الفيديو يمكنك مثلاً أن تغلق الكاميرا بحجة الانترنت الضعيف لترتاح من عملية الحفاظ على تعابير وجه صالحة للظهور أمام الآخرين
الحرب تنتقل من بلد لآخر بأوقات مختلفة، وحتى من منطقة إلى أخرى داخل البلد نفسه، ما يجعل القواقع تبدو حالة غير ملفتة، لكن هذه المرة ستنمو قواقعنا جميعاً في الوقت نفسه، ربما سنخرج بعد انتهاء كل هذا كأسراب من الحلزونات أو السلاحف الطرية، مع فقدان كبير للمهارات الاجتماعية أو الأداء الاجتماعي. وأتساءل مع نفسي إن كان سيكون هناك شكل جديد من الأداء الاجتماعي؟ صحيح أننا نتواصل الآن بسبب الانترنت، وربما نتواصل أكثر مما كنا عليه قبل الحجر أو الحظر بسبب تفرغنا، لكنه تواصل لا يحتاج إلى وجود الجسد. كل ما عليك فعله هو الكتابة والقراءة، وربما استخدام صوتك وصورتك قليلاً. وإن أزعجك أمر ما، تستطيع فصل الانترنت وكأنك ارتديت قبعة الإخفاء ببساطة! وفي مكالمات الفيديو، والاجتماعات، يمكنك أيضاً أن تغلق الكاميرا بحجة الانترنت الضعيف لترتاح من عملية الحفاظ على تعابير وجه صالحة للظهور أمام الآخرين.
كل هذا غير ممكن في اللقاءات الحقيقية، في العالم الواقعي عليك أن تواجه التنويعات الصوتية، النظرات، تلاقي الأعين، وتعابير الوجه، وأحكام الآخرين البادية على وجوههم وإن حاولوا إخفاءها. ضحكتك يجب أن يكون لها قياس محدد حسب المكان والوضع، تثاؤبك عليك أن تسيطر عليه، مخاطك عليه أن يجد طريقة ليتوقف وإن كنت تعاني من حساسية الربيع، ارتباكك، التعابير التي تدل على البلاهة، رقصك، حركتك، ظهرك الذي لا يجب أن يكون محنياً، وأمور كثيرة أخرى بعضنا لا يجد صعوبة في التعامل معها بسبب العادة، وآخرون عليهم أن يعيدوا أداءها مراراً وكأنهم يتعلمون السير مجدداً.
الإنترنت مقابل الواقع يشبه أن تقرأ نصاً مسرحياً، تقرأ جميع شخصياته بصوتك الخاص، أو بأصوات قليلة أخرى. في الواقع ستجد نفسك على خشبة تؤدي الشخصية الخاصة بك أمام جمهور كبير ومخرج من خلفك يرغب بقتلك بسبب فشلك في الأداء. نحن الآن في البداية، قد نشعر بالراحة قليلاً من عبء خشبة المسرح تلك، لكن الوقت سيمر، وسنفقد مهارة تلو الأخرى، وعندما نعود سنبحث عن زر إطفاء الكاميرا لنقوم بالتمخيط أو الضحك أو البكاء في غير وقته، سنبحث عن زر إطفاء الانترنت لنقاطع حديثاً هاماً ونذهب إلى الحمام.
العالم بعد انتهاء الحجر لن يصبر علينا، ولن ينتظرنا بنعومة لنعود تدريجياً، سيُسقط مدراء العمل فوقنا مطراً من الحجارة القاسية لتتفتت هذه القواقع بسرعة شديدة، ونعود بذلك لأعمالنا وحياتنا التي لا يجب أن نعيش فيها كسلاحف مختبئة بداخل قوقعة
سنحاول أن نكون مثل شخصيات المسلسلات التي شاهدناها لكننا سنكتشف كل مرة بالطريقة الصعبة أن أجسادنا ووجوهنا عاجزة على أن تكون هذه الشخصية، وأنه علينا تعلم كل خطوة مجدداً. ستعيقنا القواقع التي نمت فوق ظهورنا وسنحتاج للوقت للتخلص منها، ومن ثم سنحتاج لشجاعة كبيرة لتعريض جلدنا الذي بات طرياً وحساساً للشمس، ستحرقنا كل كلمة، كل نظرة، كل تلعثم نقوم به، سنحترق حتى نعود لشكل حياتنا السابق بدون هذه القواقع. وربما سيعلق بعض منا في هذه القوقعة إلى الأبد.
قد تتكسر القواقع بالطريقة الصعبة، فالعالم بعد انتهاء الحجر لن يصبر علينا، ولن ينتظرنا بنعومة لنعود تدريجياً، سيُسقط مدراء العمل فوقنا مطراً من الحجارة القاسية لتتفتت هذه القواقع بسرعة شديدة، ونعود بذلك لأعمالنا وحياتنا التي لا يجب أن تكون مختلفة، التي لا يجب أن نعيش فيها كسلاحف مختبئة بداخل قوقعة. سيأتي مدربون ليعطوننا دروسًا حول الشخصية القيادية والشخصية الفاعلة والشخصية الكاريزماتية وتمارين تقوية الشخصية وكل ما يمكن القيام به بجدوى أو بدون لنعود للقالب المعتاد القديم، سيفعل المخرج كل شيء ليرمي بنا إلى الخشبة لنواجه الجمهور.
————————————
في عزلة كورونا.. إعادة اكتشاف البيت: البيت في أهم أفلام السينما العالمية/ عروة المقداد
مع فرض الحظر الصحي يتشارك ملايين الناس حول العالم محاولات إعادة اكتشاف البيت. يَفتحُ هذا الخللَ في الحياة اليومية، أسئلةً حول معنى (البيت) بُنيته ومركزتيه، ومعنى خسارته والحرمان منه. وطالما تتفرد السينما في حضور البيت، عن الشعر والمسرح والرواية التي تمدنا بصور شاعرية عنه، بالتجسيد الفيزيائي الذي تخلقه الكاميرا في تشكيل علاقة مكانية وزمانية لها بعدٌ فلسفي وشاعري، لذا ستكون هذه العلاقة موضوعاً وفضاءً لأعظم الأفلام في تاريخ السينما، وهو ما تتحدث عنه هذه المقالة.
لطالما كانت العودة إلى البيت إحدى أكثر لحظاتنا سحريةً في الحياة اليومية، ومع فرض الحظر الصحي يتشارك ملايين الناس حول العالم محاولات إعادة اكتشاف البيت. يَفتحُ هذا الخللَ في الحياة اليومية، أسئلةً حول معنى (البيت) بُنيته ومركزتيه، ومعنى خسارته والحرمان منه. وعلى الرغم من هول مشاهد ضحايا الفايروس في إيطاليا، إلا أنّ صوراً مبهجةً بثّها الإيطاليون من شرفات بيوتهم كسلاحٍ في مواجهة رعب الفايروس، والتخفيف من ضراوة العزل. تحمل هذه المشاهد في عمقها دلاتٍ مختلفة، فخط الدفاع الأخير للإنسان في مواجهة الأخطار الداهمة يتمثل في اللجوء إلى (البيت).
يُشكّل (البيت) رؤيتنا الذاتية عن العالم. فهو كونُنا الأول كما يصفه غاستون باشلار في كتابه (جماليات المكان) “وهو كونٌ حقيقيٌ بكلّ ما للكلمة من معنى”. يخلق (البيت) ما يُطلق عليه باشلار أحلام يقظتنا الشاعرية. فالبيت أعطانا الدفء والحماية، ثم منحاه القدرة على التأمل في ذواتنا وفي الكون. منحنا ثبات أركانه القدرة على الإمعان في الأفكار، ترتيبها، ثم الانطلاق بها نحو الحياة.
عكف مُعظم الخاضعين للحظر، على إيجاد طرقٍ لتزجية الوقت الطويل في البيت، التي بدأت من الطبخ وانتهت بمشاهدة الأفلام والمسلسلات، حيث أتاحت المهرجانات والمواقع الإلكترونية المئات منها بشكلٍ مجاني. ولعل السينما هي أكثر الوسائط تعبيراً عن علاقتنا المعقدة بالبيت. فقد شَغلَ فضاءُ البيت، في حيز الصورة ترجمةً عميقة للأفكار الفلسفية والنفسية التي تتناول تلك العلاقة. وتتفرد السينما في حضور البيت، عن الشعر والمسرح والرواية التي تمدنا بصور شاعرية عنه، بالتجسيد الفيزيائي الذي تخلقه الكاميرا في تشكيل علاقة مكانية وزمانية لها بعدٌ فلسفي وشاعري، لذا ستكون هذه العلاقة موضوعاً وفضاءً لأعظم الأفلام في تاريخ السينما.
بيت الطفولة
حرماننا من بيت الطفولة يسبغ الحياة بقسوةٍ عصيةٍ على التفسير. لذا فإن علماء النفس يعودون إلى مرحلة الطفولة والمراهقة لفهم سلوكنا ورغباتنا والدوافع الكامنة ورائها. يضيف باشلار (البيت) كموضوع بحث لفهم أكثر عمقاً لتلك الرغبات والدوافع. يتناول أورسن ويلز في رائعته (المواطن كين) العلاقة مع بيت الطفولة بالمعنى الجمالي (الظاهراتي) الذي تناوله باشلار. (رزبود) اللغز الذي سيتركه (كين) على فراش موته، سيكون مفتاحاً لفهم قسوة وأنانية الناشر والسياسي الفاحش الثراء. محاولات كشف لغز تلك الكلمة ستعرّي المعنى الجوهري للبيت وتشكيله لشخصية (كين). إننا لسنا أمام فيلم يتناول حياة ناشر وسياسي كانت له الهيمنة في الحياة الاجتماعية والسياسية الأمريكية المليئة بالفضائح والمكائد، نحن أمام العلاقة الجدلية مع البيت بمعناها الشاعري.
يقفز الصغير (كين) تحت ندف الثلج المتساقطة خارج المنزل الخشبي بسعادة غامرة. تتراجع الكاميرا لتدخل إلى البيت وتكشف عملية التفاوض مع والديه لبيعه ونقل وصايته إلى أحد الأثرياء. (كين) يلعب في عمق الكادر غير مدركٍ وحشة المصير الذي سينتظره. سيحدد هذا المشهد الاستثنائي التغريب الذي سيعيشه أثناء صناعة إمبراطورتيه وعلاقاته العاطفية على مدار الفيلم. يخلق ويلز ذلك التناقض بين بيت الطفولة الحميمي والقصر الموحش. مشهد لعب (كين) على الثلج أمام بيت الطفولة هو حلم يقظته الذي سيستمر معه حتى نهاية حياته، إنه البيت الأليف الذي أتاح له فضاء اللعب، وأضاف عليه الشتاء مسحة من الحميمية، جعل من الثلج خلفية للنقاء والصفاء والسكينة. المدفأة الضخمة في صالة قصره الواسع لا تستطيع بعث الدفء في محاولاته الحثيثة لامتلاك حيوات الناس. يستحيل بياض ثلج الطفولة إلى سواد الرغبة في امتلاك كل شيء تعويضاً عن خسرانه لبيت الطفولة. القصر المترامي الأطراف الغارق بتماثيل وتحف فنية جامدة، لن تعوضه عن (رزبود) فردوسه المفقود، المقتلع من حناياه، حيث تاه في محاولات العودة إليه دون أن يجد لذلك سبيلاً.
بيت الأحلام
لا تمتلك جميع البيوت شاعرية (بيت الأحلام)، الذي وصفه باشلار بأنه ذلك البيت المؤلف من ثلاث طبقات: القبو والعلية والطبقة المتوسطة. يُحلل كارل يونغ في كتابه “الانسان الحديث يبحث عن الروح”، العلاقة بين تلك الطبقات الثلاث. فيضرب مثلاً لرجلٍ يعيش في منزل مكون من الطبقات الثلاث. الرجل يجلس في الطبقة المتوسطة فيسمع صوتاً مريباً، فيسرع إلى العلية ليتأكد من عدم وجود لصوص وحين لا يجد لصوصاً، فإنه يُقدر أن ما يسمعه مجرد (وهم)، في حين أن هذا الرجل لا يجرء على النزول الى القبو. فالقبو هنا يتصل بالمخاوف العميقة للإنسان.
يؤسس القبو في فيلم “الطفيلي” للمخرج الكوري “جونج بو هو” جوهر علاقة الشخصيات. تحاول عائلة فقيرة اغتنام فرصة الهروب من جحيم قبو تعيش فيه على هامش المدينة، نحو بيت (الأحلام) عندما يتيح القدر أن تتسلل العائلة الفقيرة إلى بيت العائلة الثرية. يذهب ابن العائلة الفقيرة الشاب ( كي وو) لتدريس اللغة الانكليزية لابنة العائلة الثرية، وحين يدخل إلى البيت، تغمر الشمس الكاميرا لحظة دخوله، كما لو أنه يعيش في حلم يقظة. تدور الكاميرا حوله ليتبدى فضاء البيت الواسع الغارق بخضرة الأشجار وزرقة السماء. تفتخر “مدبرة المنزل” بأن البيت يمتلك تاريخاً، وهو من تصميم مهندس معماري ذائع الصيت. إذاً فالمنزل متصل بعمق بالأرض، والقبو الذي سنكتشف أنه يعود الى الحرب العالمية، مصمم للنجاة أيضا، حيث يختبئ فيه زوج مدبرة المنزل الذي يحلم بالصعود إلى بيت الأحلام.
إن قبو البيت يتخذ ما يسميه يونغ، مخاوف البشرية العميقة المرتبطة بالعبودية والرغبة بالتحرر. ومن القبو تنطلق الحياة صعوداً نحو حلم اليقظة (التحرر من جحيم الفقر). يتسلل أفراد عائلة (كي وو) إلى منزل العائلة الثرية، ليتولوا إدارة شؤونها. وفي تجسيد لحلم عائلة (كي وو) بامتلاك بيت الأحلام، نراهم مجتمعين في الصالون الفاخر بعد خروج أفراد العائلة الثرية في رحلة تخييم خارج المدينة. تعد عائلة (كي وو) طقساً احتفالياً وتغرق بالسكر والثرثرة. تشتد العاصفة خارج المنزل، فيراقب أفراد عائلة (كي وو) المطر الغزير المنهمر من وراء جدران البيت الزجاجية. إن سمة البيت التاريخية الراسخة هي قدرته على حمايتنا من أهوال الكون وعواصفه وكوارثه، وأيُّ متعةٍ أكثرُ من مشاهدة العاصفة تمرُّ أمام أعيننا ونحن نتمتع بالدفء والثرثرة عن توافه الحياة. لكن الحلم لا يستمر، تهرب عائلة (كيم) تحت أمطار العاصفة الغزيرة التي تغرق حيّهم بالكامل وتجعل من القبو مكاناً مليئاً بمخلفات البشر. يلتجئ سكان الحي إلى إحدى مراكز الإيواء حيث يسأل (كي وو) والده وهما مستلقيان ومنهكان: “ما هي خطتك؟ يجيبه أتعرف ما هو نوع الخطط التي لا تفشل؟ الخطط التي لا وجود لها”. تتخذ خططنا في الحياة مساراً عشوائيا عندما يغيب البيت، أساس قدرتنا على تشكيل المستقبل والتخطيط له، أساس أحلام يقظتنا.
شاعرية البيت
يسبغ البيت الشاعرية على حياتنا. اللحظات العائدة للطفولة تمنحنا صوراً كثيفة، تتسرب إلى ذاكرتنا وخيالنا وتمنحنا نوع من القدرة على تجميل واستيعاب العالم. تقترب كاميرا آندري تاركوفسكي في افتتاحية فيلمه (المرآة – (1975 من الأم الجالسة على سور البيت، تراقب السهل الواسع الممتد أمامها. تنتقل الكاميرا إلى لقطة أمامية لنتعرف من خلالها على ملامح الأم الجالسة، حيث يتبدى وراءها البيت كما لو أن حركة الكاميرا تخلق ذلك الدمج بين ملامح الأم وتفاصيل البيت الراسخ في الطبيعة. يحدد هذا المشهد العلاقة في الفيلم بين الأم والبيت وذكريات المخرج الذي يجهد في ترميمها.
مع دخولنا إلى البيت الحالم يستخدم تاركوفسكي قصدية شعرية ليؤسس لشعرية البيت في ذهن المتلقي. ذلك أن الشعرية وحدها ستستطيع تكثيف ذكريات البيت. يحدد تاركوفسكي هذا المدخل الشعري في الحوار الدائر مع الأم في المشهد الافتتاحي، حيث يقول نحن عكس الطبيعة في عجلة وتوتر واضطراب لأننا لا نثق بالطبيعة الداخلية لأنفسنا. لكن البيت هو جزء من الطبيعة وهو صلتنا الأساسية مع الأرض.
ويا إلهي أنتِ لي فقط،
وعندما تستيقظين، تغيّرين لغة البشر وتفكيرهم
شكّلتِ لغة الخطاب الفخيمة، بكلامك المهذب
كأحاسيس تبدّلت فجأة بافتتان
حتى الأشياء القليلة، كانت تقف بيننا
وتحرسنا كالماء الصلب المتراصف
حملتنا لا أعلم إلى أين
تتقهقر خلفنا كالسّراب
أعشاب النعنع تحت أقدامنا امتدت
الطّيور كانت تتبع موقع أقدامنا
والأسماك جاءت للنهر تنحني
والسماء كانت مفتوحة لأعيننا
وخلفنا المصير يتلمّس طريقه
كرجل مجنون بيده نصل
ننتقل من الصور الشعرية للقصيدة إلى شاعرية كاميرا تتحرك مع الأم وأطفالها نحو الحريق الكبير. لتنعكس ملامح الأطفال والأم في المرآة، ثم نخرج تحت قطرات المطر نحو البيت المجاور المشتعل بألسنة اللهب. يقف الجميع مدهوشاً أمام ذلك المشهد المفزع لاحتراق المنزل. تتكثف الشعرية في هذا المشهد، حيث سيفتح حلم اليقظة نحو الاستغراق في تفسير العالم. البيت وصوره الشعرية هو موضوع رؤية الذات. إنه حلم تاركوفسكي المرهق عن الحياة، عن منزل الطفولة الذي مهد الطريق أمامه نحو عالم عصي على التفسير، عالم غارق في القسوة يسير فيه الجنود نحو حتفهم غارقين بوحل الحروب المفزعة، حالمين بالعودة الى بيوتهم.
السينما، البيت، التلصص
الجلوس ومراقبة حياة الآخرين هو جزء من علاقتنا الحميمة مع المنزل، الرغبة باكتشاف أسرار الكبار وخوض المغامرات والقفز وراء أسوار المنزل للوصول نحو العمق الكوني وتحفيز المتعة في التغلب على الموت بعيش حيوات لا نهائية. الردة المفاجئة للبيت، أثار الشعور بالهشاشة المفرطة لعالم (الخارج) الغير محمي. ذلك أننا فقدنا القدرة على البقاء في الداخل (البيت) كما أن الخارج بات محكوماً بفضاء ثالث افتراضي (وسائل التواصل الاجتماعي). بالعودة الاضطرارية إلى البيت بدا العجز واضحا عن الالتفات لسحرية المنزل، وبات لابد من استحضار اليومي المعاش في الفضاء الثالث (الافتراضي). فالردة هنا ليست اختيارية وإنما جبرية، وهذه الجبرية تطلبت وسيط ثالث يُنجي من الإحساس بالاعتقال. اللجوء لوسائل التواصل الاجتماعي تنشئ هذه العلاقة التلصصية التي تعود في عمقها إلى طفولتان والعلاقة مع النوافذ والستائر وتلصص الأبناء على الآباء وتلصص الآباء على الأبناء.
سحر التلصص النابع من البيت هو جوهر متعة السينما، فهي تضعنا في ذلك المكان المحمي المعتم لنتلصص على حيوات الآخرين واكتشاف أسرارهم. إنه يمنحنا القدرة على التنقل في كل مرة خارج حدود الفيزياء، والمنطق. ويكثف حيواتنا وينقلنا عبر الزمن. إن التلصص مزيج من الرهبة والدهشة. ألفريد هيتشكوك يبرع في تجسيد هذه المشاعر في فيلم “النافذة الخلفية – 1954″، حيث يرسم تلك العلاقة المدهشة بين البيت والتلصص. يصاب المصور الصحفي (جيف) بكسر في قدمه فيفرض عليه ذلك الجلوس في المنزل. وفي ذلك الصيف الحار حيث نوافذ الحي مشرعة “يتلصص” جيف من خلال عدسة كاميرته المكبرة على نوافذ جيرانه. يضعنا الفيلم كمتلصصين مع البطل في تلك الرغبة بالاحتماء واكتشاف حيوات الناس وتصرفاتهم المتناقضة. إننا نجلس في بيوتنا ونتلصص على هذا الكون من خلال القصائد والروايات والأفلام. النوافذ هي عيون البيت المشرعة نحو الكون الفسيح. لكن بيوت المدينة لا تتمتع بهذا القدر من الشاعرية والألفة. إنها تحتم علينا ذلك التغريب في العلاقات. إن التلصص يأخذنا إلى الرعب الكامن في أعماقنا وتناقضات رغباتنا. التلصص سيفضي في النهاية إلى اكتشاف خطيئة ما، جريمة ما نحاول التستر عليها. الكتل الإسمنتية للمجمعات الضخمة تبدو محكومة بعلاقة متأرجحة مع الأخلاق والدين. فقي رائعة كسلوفسكي (الخطايا العشر) تخيم الأسئلة القدرية على شخصيات المسلسل في المجمع الضخم، نحن أمام تشابكات مختلفة ومعقدة للقدر. الخيانة والموت والاختيار. ينقلب سحر البيوت هنا إلى وجع مصيري يرتبط بأسئلة ليس لها أجوبة. بيوت المدن بحسب الكاتب الفرنسي بول كلوديل نوع من المكان الهندسي الذي نؤثثه بالصور والأشياء والخزائن داخل الخزائن. إنهم يضعوننا في هذا النوع من البيوت كي لا نتصل بعمق مع تاريخ الأرض، كي تخيم كآبة مريعة على مصائرنا.
على مشارف الثمانين يعود أكير كورساوا لأحلامه المرتبطة ببيت الطفولة. يشكل العالم في ثمانية أحلام يقظة تمتد على سنين عمره. ومن أمام منزل الطفولة يخرج كورساورا إلى عالم سحري يستغرق فيه لتجميل العالم، حيث الثعالب ترقص، وأرواح بستان الخوخ تحزن على قطعها، وروح العاصفة تجذبه إليها. وعذاب النجاة من الحرب يأخذه إلى نفق يخرج منه جندي، ويقول له أنه عاد من الموت وذهب إلى بيته وأكل فطيرة من يد والدته. القائد المذعور لهذه الرؤية يحاول أن يخبر الجندي ذي الوجه الأزرق الشاحب بأنه روى له هذا الحلم قبل أن يموت. يسير الجندي محزوناً وينظر إلى التلال، ويشير لقائده نحو ضوء يلمع كنجم بين التلال، ويقول له وهو ينتحب: هذا هو بيتي.
أين يكمن الجمال في هذا العالم؟
تنتقل الشعرية في فيلم “باترسون” إلى التفاصيل اليومية في منزل صغير يعج بالأحلام. الأساس الأول للشعر كما يقول باشلار. الاستغراق بأحلام اليقظة التي تمنحنا التدقيق بالتفاصيل اليومية. يمضي الشاعر في شاحنته وفي يومياته الغارقة بالألفة ليؤلف قصائد في غاية العذوبة. تتغذى العلاقة الحميمية بين المنزل المكان لتتحول باترسون جميعها الى وطن.
لا وجود للملحمية في فيلم جارموش، الملحمية في شعرية القصائد التي يؤلفها باترسون، في اليومي المعاش في دائرة تكتمل بين الداخل والخارج. منزل الأحلام وحلم اليقظة الذي يبدأ داخله ليمتد إلى الكون الشاسع.
(تنتقل الشعرية في فيلم “باترسون” إلى التفاصيل اليومية في منزل صغير يعج بالأحلام/ صورة مأخوذة من فيلم باترسون وهي تنشر بموجب الاستخدام العادل والحقوق محفوظة لأصحابها)
هذا المعنى الشعري متضمن في قصائد وليم كارلس، الذي كتب أحد أشهر القصائد تحت عنوان “باترسون” التي يعتبرها البعض أنها قصيدة “أمريكا”، يقول وليم في مطلع قصيدة “باترسون”:
قسوة الجمال في السعي،
لكن كيف نستطيع إيجاد الجمال،
عندما يكون محبوساً في العقل
بعيداً عن كل اعتراض.
البيت والمعتقل
حياة البيت تنعدم بمفهومها الإنساني مع الأنظمة القمعية الفاشية التي تحيل يومياته إلى نوع من العذاب الجسدي والنفسي المليء بالغرائز الحيوانية المخيفة وانحطاط السلوك البشري. يتحول البيت في ملحمة بازوليني (120 يوم في سدوم) إلى قصر يخضع فيه مجموعة من الشباب والفتيات إلى أقسى أنواع السادية من قبل مجموعة من الأثرياء الفاشيين. يضج الفيلم بمشاهد مقززة من العنف الجسدي والجنسي، التي تدور في أروقة القصر. ولكن ألا تبدو الحياة بالفعل كما هي في قصر هؤلاء الأثرياء؟ نكدح كل يوم في سبيل الامتثال إلى رغباتهم في هذا العالم؟ الكد اليومي في سبيل حياة تحرمنا من أبسط حقوقنا وتدفعنا لندفن رأسنا في اليومي المعاش. الإهانات التي نتلقاها في كل يوم نخرج فيه من بيوتنا نحو العمل في سبيل إرضاء قيم تنتقص من كرامتنا الإنسانية وتنتهك مساحة الحرية لدينا وتمارس ضغوط جنسية وجسدية علينا.
في المشهد النهائي للفيلم يراقب الأثرياء واحداً تلو الآخر من النافذة الطرق السادية في تعذيب الفتيات والشبان. إنهم يقومن أيضاً بفعل التلصص واحداً تلو الآخر على الساحة التي تقلع فيها الأعين وتقطع فيها الألسن، ويتم فيها اغتصاب جماعي. نحن لا نسمع صوت آلامهم، هذه المشاهد الصامتة لأناس يتعذبون دون صراخ تثير الأثرياء الجالسين على كرسيهم الأشبه بالعرش. ومع هذه المشاهد نسمع مقطع من قصيدة لإزرا باوند:
القبيلة بأكملها تتكون من جسد رجل واحد، ماذا كنت تعتقد؟ أهنالك سبيل آخر؟ اللقب والفنون التعسة؟
فقدان البيت
مع تهدم البيوت وسحقها يغيب المعنى الشعري الحالم عن حياتنا، تصبح محاولة الالتقاء مع الماضي والذات غائمة وضائعة، ويخيم عليها كآبة الفقدان. إن فقدان المنزل هو بالضبط العري الروحي المذل للإنسان. لقد كشف لنا الحظر مساحة التغريب التي نعيشها في هذا العالم. فلا شيء مشترك بين دوله وقاراته، فمنذ سنوات كان ثمة جائحة عالمية قتلت ملايين البشر وأخضعت مئات الآلاف منهم لجحيم المسالخ البشرية دون أن يعتكف أحد في منزله لإيقاف عجلة الحياة. فقد الملايين أكوانهم الخاصة ورحمهم الشعري وقدرتهم على وضع خطط للمستقبل.
للمرة الأولى يقترب الموت من الناس بهذا الشكل الجماعي. الموت يواجهنا جميعاً، ولن تعود الحدود أو المرتبة الاجتماعية أو الثروة قادرة على حمايتنا ولو جزئياً. لم يعد الموت مجرد أخبار بعيدة تقع في الطرف الآخر من العالم. لكن ماذا عن أولئك العائدين من صراع مرير مع الموت؟ نبدو نحن السوريون مثل الفارس (أنطونيوس) العائد من الحروب الصليبية إلى بلده في رائعة انغمار برغمان (الختم السابع). يجتاح الطاعون البلاد، ويهبط ملاك الموت ليقبض أرواح الآلاف. يظهر الموت مكللاً بالسواد بوجه أبيض شاحب للفارس قرب شاطئ البحر. فيسأله الفارس: هل أنت قادم من أجلي؟ يجيبه: لقد كنت قربك منذ فترة طويلة. في رحلة العودة الطويلة إلى البيت، يلعب الفارس مع الموت لعبة مليئة بالأسئلة حول معنى الحياة والغاية منها. لكن في النهاية لا يستطيع الفارس الهروب من الموت فيلاقيه عند وصوله إلى بيته مهدوداً راغباً في الراحة. يثير الفيلم سؤالا ً حول معنى التفكير في الموت والهروب منه؟ إنه فقط يثير الخوف الكامن فينا ويسلبنا الانتباه للحياة القصيرة التي نمر فيها.
ملاحظات لا بد منها:
*تستند هذه المقال في مجملها على كتاب غاستون باشلار (جماليات المكان) حيث يحاول باشلار دراسة البيت من خلال الشعر والنماذج الأدبية.
*تتجنب المقال الدخول في تفاصيل قصص الأفلام وفردها تلافياً لاحراق احداثها.
أسماء الافلام المشار اليها بالمقال باللغة الانكليزية:
Citizen Kane (1941)
Parasite (2019)
The Mirror 1975
Rear Window (1954)
Paterson (2016)
Salò, or the 120 Days of Sodom (1975)
The Seventh Seal (1957)
حكاية ما انحكت
—————————————–
سيناريوهات العدوى… سرد عن خطر اليومي المبتذل/ عمار المأمون
يسمّي الخطيب ومعلم البلاغة الروماني شيشرون، القدرةَ على التذكّر الحرفي لنصوص طويلة أو صور معقدة بـ”فن الذاكرة الخفي”، كلمة فن هنا تحيل إلى فرع من فروع البلاغة- mnemonics، الذي إن اتقنه أحدهم استطاع حفظ وتذكّر واستعادة ما سمعه أو رآه باستخدام عمارة “فنية” داخل العقل، تقسّم فيها الذاكرة إلى غرف وحجرات وطوابق، تحوي “الكلمات والصور” التي تُستعاد متى يريد المحامي، الخطيب، الممثل أو الشاعر استخدامها، هذا الفن وازدهاره حتى العصور الوسطى كان مرتبطاً بشرط العصر حينها، لأن مهارات الذاكرة حالياً فقدت جدوها، وأصبحت استعراضية للترفيه والمسابقات، فـ”كل شيء” الآن قابل للاسترجاع بلمسة زر.
من جانب آخر، طرح المسرحي البرتغالي تياغو رودريغز، في مسرحيته “عن ظهر قلب”، سؤالاً مشابهاً عن جدوى الذاكرة، سواء لدى الممثل المجبر على حفظ النص أو لدى الشخص العادي، الذي بالرغم من شدة التطور التي شهدها، ما زال مفروضاً عليه “حفظ” بعض الأشياء وتذكرها في أي لحظة، كرقم الهاتف، رمز بطاقة الائتمان وكلمات السرّ المختلفة، وبالرغم من سرعة الوصول إلى المعلومات، ما زال “الحفظ” و”الاسترجاع” البشري مهارة لا يمكن الاستغناء عنها، وهناك دوماً سؤال حول “جدوى” ما نتذكره، وأسلوب تذكرنا له، وتظهر أهمية هذا السؤال، في ظل الأحداث المرعبة أو تلك التي لا يجب أن ننساها ويمكن اعتبارنا شهوداً عليها.
هذه العلاقة بين الذاكرة وبين ما حدث ماضياً، تظهر الآن بشدة في ظل جائحة كورونا العالميّة، آلاف الشهادات التي تصف النجاة والمعاناة مع المرض وأسلوب العلاج، لكن هناك دوماً تفصيل حوله لبس، و هو أسلوب العدوى، أو “حدث العدوى” الذي يحيط به الغموض أو اللايقين، مثلاً، وصف صديق لي كيفية إصابته بكورونا، قال أنه كان مع شريكه في السوبر ماركت، وكان حذراً أثناء شراء الأشياء، لكنه “يتذكر” أنه لمس واحداً من الأكياس المعلقة كي يضع فيها ما اشتراه، ثم قام بعدها بلمس وجهه، وهذا الحدث بـ”الضبط” هو ما تسبب بإصابته وشريكه بالمرض، كلاهما الآن بحالة مستقرة ولا خطر على حياتهما.
بعكس تمارين الذاكرة السابقة أو تلك التي تحدث عنها رودريغز، ذاكرتنا المرتبطة بالحياة اليومية تحذف و تلغي الكثير من التفاصيل، فلا عمران للذاكرة أمام لا تناهي الحياة اليومية، وحين نقرأ أو نستمع إلى شهادات عن العدوى، نرى أنفسنا أمام ما تسميه شوشانا فيلمن، بـ”خيانة الشاهد”، ذاك الذي اختبر بجسده حدثاً صادماً دون أن يدركه كلياً، لتأتي الشهادة محاولة للإحاطة بالحدث على أساس استعادة ذكراه، وفي حالة العدوى، لا وجود لحدث صادم يمكن للشهادة أن ترسم معالمه بدقة، كون الشاهد نفسه لم يدركه، والمقصود هنا لحظة العدوى بدقة، فهناك حدث قبل العدوى في قصة صديقي وهو “الذهاب للتسوق” وهناك ما بعدها “حدث الإصابة”، دون يقين واضح حول لحظة العدوى نفسها، وهنا تظهر خيانة الشهادة، فإن كان تدخّل السرد أسلوباً لخلق تأريخ شخصي من نوع ما للعدوى، تظهر الخيانة في لحظة العدوى، التي تنتمي إلى لا تناهي الزمن اليومي المبتذل، الذي لا يمكن تذكره بأكمله بدقة حتى من قبل شيشرون أو الأصمعي نفسه، مع ذلك هناك رغبة سردية بتعيين هذه اللحظة وضبط إيقاعها، لمعرفة لحظة التحول بدقة، تلك التي حصل ضمنها المسّ بين الخارج الخطر والداخل المعقم.
يتدخل الخيال والظن أثناء استعادة لحظة العدوى، خصوصاً أنها لا تمثل حدثاً جللاً أو حدثاً “لا ينتمي للحياة اليومية”، هي فعل شديد الاعتيادية، “تذكّره” شديد الصعوبة، وعادة ما يتم التركيز في الشهادات على تجربة النجاة وتجربة المرض، أما لحظة العدوى فتظهر أشبه بالتخمين بسبب لا تناهي احتمالاتها، ليجد الشاهد نفسه مضطراً إلى تركيب صور وكلمات لوصف “حدث العدوى” تشابه من يصمم حبكة، نشاهد ملامحها في فيديو مصوّر لشهادات مصابين بكورونا، وفيه لا تعلم المتحدثة كيف التقطت العدوى، من المصنع أو من صديقة لها، ذات الأمر مع شاهد آخر، يحاول تذكر إن كان السبب هو “سلامه على أحدهم”، أما من بعده فيتذكر أنه كان على نفس الطاولة مع صديقه الذي عرف لاحقاً أنه مصاب.
ضرورة تحديد أسلوب العدوى أو لحظتها ترتبط بالنجاة نفسها والحديث عنها، لا بدّ من نقطة علّام في الحكاية تفصل ما بين “زمن الصحة” و “زمن المرض”، هذه اللحظة بدأ فيها اختلاف الشاهد عن “الأصحاء”، لكن سطوة اللايقين تجعل الشاهد نفسه يشكك بحكايته وبوعيه بذاته ضمن العالم، خصوصاً أن لحظة العدوى تنتمي إلى لا نظام الحوادث، أي ليست نتيجة عطب مادي في تكوين العالم، بل هي “حادث” سببه الاستخدام اليومي والمعتاد لهذه المكونات، كركوب السيارة، الحصول على كيس، السلام باليد، أي هي ضمن ما لا يمكن التنبؤ به ولا يمكن الوقاية منه بصورة كاملة، ليأتي السرد هنا ضرورة لإعادة ترتيب هذه المكونات، لخلق حكاية تكون عبرة للآخر من أجل الحذر، وتماسك حكاية الشاهد نفسه، ليتخلص من أثر الصمت الذي بدون الشهادة العلنية يمكن له أن يأكل العقل، لكن الحذر من ماذا بالضبط؟ كل العالم الخارجي خطر، لم التركيز على حدث العدوى؟
ضرورة الحكاية هنا مرتبطة بالرعب، أي العجز عن الفعل لحظة العدوى، لتأتي الشهادة محاولة لنفي الخطر المجهول وتعيينه بدقة لاجتنابه، كما أنها “علاج” للشاهد نفسه الذي يحتاج لأن يتحدث وأن يستمع له الآخرون، خصوصاً أن “حكايته” تحوي “معرفة جسدية” اكتسبها ولابد له من نقلها، لكنها معرفة هشة، أثرها عاطفي أكثر من معرفي بسبب سطوة اللايقين.
خلق حكاية كبرى للوباء
تساهم هذه الحكايات على المدى البعيد برسم تاريخ جماعي للمرض والعدوى، وذلك لخلق حكاية كبرى للوباء، نحن أمام ملامح لنظام حوادث جديد، المفترض أنه انتهى مع زمن الطواعين الكبرى، وربما قد يُصمم العالم لاحقاً على أساس احتمالات العدوى التي تطرحها هذه الحكايات، كونها تحاول رصد كل ما هو يومي وخطر، أما “النقص” في هذه الشهادات أو أثر اللايقين فيمكن لمسه في الإحالات إلى لوم الذات الذي لا تتحرر منه الضحية بفعل السرد، هذا اللوم سببه أن المسؤول عن العدوى في حالة الوباء هو الشخص نفسه (إن كنا نتحدث عن السياق المثالي للحجر الصحي)، إي هناك دوماً تشكيك بأداء “الأنا” ونظام الوقاية الذاتي، لتأتي الحكاية كأسلوب لتحفيز عمارة الذاكرة لدى المستمعين، كون كل واحد منهم مهدداً في لحظة ما بأن يصاب بالعدوى.
رصيف 22
——————————————-
أن تحبَّ في زمن الوباء/ وداد نبي
اليدُ مصدرُ الشرور
لا تلمس يدَ من تحب
العناقُ حمَّالُ توابيت
لا تعانقَ من تحب
القبلةُ غبارُ ما قبل العاصفة
جرارٌ من السموم
لا تقبّل من تحب
قائمة ممنوعات لا حصر لها
لتنجو بنفسكَ ومن تحب
من فخاخِ الموت الكثيرة
حكايات جديدة لأشباح موت قديم ستسمعها
لكنّهم لن يخبرونك أبداً
أنّ المرء يموت أيضاً
من قلّةِ الحب
قلّةِ العناق
قلّةِ التقبيل
قلّةِ الملامسة
في التلفاز
الراديو
وسائل التواصل الاجتماعي
وسائل النقل العام…
يُحكى عن قواعد الصحةِ في زمن الأوبئة
وأنت وحدكَ تعرف
أنّ ذرّة هواء من رئةِ حبيبك هي اللقاح
قبلةَ حبٍّ تحطُّ على فمكَ هي الكمامة الواقية لك من العدوى
ملامسةَ يد من تحبّ هي جهاز الأوكسجين لحظة الخطر
سيخبرونكَ في كلّ الأزمنة
زمن الحروب
زمن الأوبئة
زمن السلم
زمن الخوف
عدم الاقتراب
عدم الملامسة
الابتعاد
والجفاف
لكنّك وحدكَ ستعرفُ أنّكَ نجوتَ من الوباء
ومن كلّ الأزمنة الخطرة
بسبب الحب
والملامسة
العناق
والقُبل.
ضفة ثالثة
—————————————
====================================