حارث حسن وخضر خضّور :الجبهة الجديدة في الشرق الأوسط
مايكل يونغ
يناقش حارث حسن وخضر خضّور، في هذه المقابلة، مضامين دراستهما الأخيرة حول الحدود العراقية- السورية.
نشر حارث حسن، وهو باحث أول غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، وخضر خضّور، وهو أيضاً باحث أول غير مقيم في هذا المركز، لتوهّما دراسة مشتركة حملت عنوان: “تحولات الحدود العراقية- السورية: من الحدود الوطنيإلى الحدود الإقليمية”. الدراسة نُشرت بدعم من شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية (The X-Border Local Research Network) التي تشكّل جزءاً من برنامج X-Border Conflict Evidence, Policy and Trends)) التابع لوزارة التنمية الدولية في المملكة المتحدة. شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية هي ثمرة شراكة بين كلٍّ من مؤسسة آسيا ومركز كارنيغي للشرق الأوسط ومعهد الأخدود العظيم، وهي تهدف إلى إجراء الأبحاث الآيلة إلى تحقيق فهم أفضل لأسباب النزاعات في المناطق الحدودية وتأثيراتها وأبعادها الدولية. أجرت “ديوان” مقابلة مع المؤلّفين في أوائل نيسان/أبريل لمناقشة هذه الدراسة.
مايكل يونغ: نشرتما للتو دراسة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط حول الحدود العراقية– السورية في منطقة القائم- البوكمال تحت عنوان: “تحولات الحدود العراقية- السورية: من الحدود الوطنية إلى الحدود الإقليمية”. ما الفكرة الرئيسة هنا؟
حارث حسن وخضر خضّور: طرحنا فكرتين رئيستين: الأولى، أن تضعضع الدولة المركزية وتشظي السلطة في كلٍّ من العراق وسورية، حوّلا منطقة الحدود إلى نقطة جذب لعدد من اللاعبين الدُولتيين، وغير الدُولتيين، وشبه الدولتيين. وهذا أفرز شكلاً هجيناً من السلطة يتميّز بالسيولة، والتحالفات المتقلّبة، والتحديات، وتداخل الأجندات شبه الوطنية، والوطنية، والعابرة للحدود الوطنية.
الثانية، بدلاً من أن تكون منطقة الحدود حدّاً فاصلاً بين دولتين ذات سيادة، أضحت حدوداً إقليمية تكبّل السلطات في بغداد ودمشق، بفعل الوجود الكثيف للميليشيات المدعومة إيرانياً، وبسبب تحوّل بقعة القائم- البوكمال إلى ممر استراتيجي للمنظمات شبه العسكرية المدعومة من إيران. يُضاف إلى ذلك أن وجود القوات الأميركية وحلفائها المحليين في مناطق أخرى قرب الحدود، والاستهداف المتواصل لقواعد الميليشيات المدعومة من إيران في القائم والبوكمال من خلال الغارات الجوية الأميركية والإسرائيلية، قَلَبا منطقة الحدود إلى خط جبهة في نزاع إقليمي.
يونغ: ماذا كانت السمات الرئيسة لمنطقة الحدود في الماضي، قبل وبعد الغزو الأميركي للعراق العام 2003؟
حسن وخضّور: قبل الغزو الأميركي، أسفر التنافس بين فرعي حزب البعث الحاكمين في العراق وسورية عن قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية وإغلاق معابر الحدود. وعدا التجارة غير المشروعة المحدودة التي كان يقوم بها مهربون محليون، ساد ركود عام في منطقة الحدود بعد أن أصبحت القائم والبوكمال أكثر ارتباطاً بمركزي بغداد ودمشق، على التوالي، مما كانا عليه بين بعضهما البعض. بيد أن هذا بدأ يتغيّر حين استأنف البلدان العلاقات التجارية وأعادا فتح الحدود أمام حركة البضائع والأشخاص في أواخر التسعينيات. كذلك، تغيّر الوضع مع إحياء خطوط التهريب في التسعينيات، بفعل الضعف النسبي للحكومة العراقية غداة حرب الخليج العام 1991، وتدهور قيمة العملة العراقية بسبب العقوبات الدولية.
بعد الغزو الأميركي العام 2003، انهار النظام على الجانب العراقي من الحدود، ما وفّر للمتمردين والجماعات الجهادية فرصة بناء وجود قوي في منطقة الحدود، مستفيدين من شبكات التهريب القديمة والجديدة. وهكذا أصبحت المنطقة معبراً حيوياً للجهاديين والمقاتلين الأجانب الذين تدفّقوا إلى العراق من سورية، غالباً بمساعدة عناصر من الحكومة السورية، وأضحت القائم معقلاً أساسياً للقاعدة في العراق بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، الذي أمضى بعض الوقت هناك. وقد بقي الحال على هذا النحو حتى العام 2005، حين تشكّل تحالف بين الجيش الأميركي وبين أكبر قبائل القائم، البومحل، التي تمكّنت في نهاية المطاف من طرد الجهاديين.
بيد أن الانتفاضة السورية العام 2011 جلبت فرصاً جديدة للجهاديين، لكن هذه المرة عبر ولوج سورية من العراق، وأصبحت هذه المنطقة مسرحاً حيوياً لنشاط تنظيم الدولة الإسلامية. وفي العام 2014، حين أعلنت الدولة الإسلامية مداميك خلافتها عبر الحدود العراقية- السورية، كانت القائم- البوكمال المنطقة الوحيدة التي حاول فيها هذا التنظيم دمج البلدات العراقية والسورية في كيان إداري واحد. الهدف: إضفاء الشرعية على ادّعائها بأنها وضعت حدّاً للمضاعفات المزعومة لاتفاقية سايكس- بيكو العام 1918 (على الرغم من أن هذا الادعاء استند إلى تفسير غير دقيق لهذه الاتفاقية). أطلق تنظيم الدولة الإسلامية على هذه المنطقة اسم ولاية الفرات، أو منطقة الفرات، ما سمح بحرية تحرّك غير مقيّدة للأشخاص بين البلدتين اللتين تبعدان 7 كيلومترات عن بعضهما البعض.
يونغ: لحظنا في الأشهر القليلة الماضية تزايداً في العمليات العسكرية للطائرات الأميركية والإسرائيلية في منطقة الحدود. لماذا حدث هذا، وهل أصبحت هذه المنطقة خط جبهة إقليمية جديدة؟
حسن وخضّور: أجل، بالفعل. فالمجابهات الأخيرة ليست لها من علاقة بالمصالح والأولويات الرئيسة للدولتين العراقية والسورية. هناك تموضع كثيف للميليشيات على جانبي الحدود، بما في ذلك الميليشيات التي تُعتبر جزءاً من قوات الحشد الشعبي. نظرياً، تتبع هذه الأخيرة الدولة العراقية، لكنها في الممارسة مستقلة عنها. ولذا، أصبحت منطقة القائم- البوكمال الممر الرئيس لنشاطات شبكة القوات شبه العسكرية متعددة الجنسيات التي يدعمها الحرس الثوري الإسلامي. لقد سعت طهران إلى استخدام الحدود للحفاظ على رابط عبر أربع بلدان- إيران، العراق، سورية، ولبنان- في سبيل حماية نفوذها الإقليمي. ولهذا السبب، استهدفت الولايات المتحدة وإسرائيل مراراً وتكراراً القوات شبه العسكرية التي يدعمها الحرس الثوري. الهدف: منع إيران من تأمين هذا الممر واستخدامه لمجابهة النفوذ الأميركي في العراق وتطوير عملياتها في سورية، خاصة قرب الحدود السورية- الإسرائيلية، وعرقلة قدرتها على دعم حزب الله في لبنان.
يونغ: من يوجد فعلياً في قطاع القائم- البوكمال على الحدود، وما مدى سيطرته؟
حسن وخضّور: على الجانب العراقي من الحدود، ثمة مروحة من الوحدات العسكرية الدولتية، واللادولتية، وشبه العسكرية، تتشاطر السيطرة على الأرض، بينها الفرقتان السابعة والثامنة في الجيش العراقي، ووحدات حرس الحدود، وقوة مكافحة الإرهاب، ومختلف الميليشيات العاملة تحت إشراف قوات الحشد الشعبي، والقوات القَبَلِيَة السنّية المحلية ولواء بدر، وهو الذراع العسكري لقبيلة البومحل، ولواء الفرات الأعلى الذي يتكوّن من رجال قبيلة كربولي.
حين كنا نُعد هذه الدراسة، كانت الميليشيات الأساسية في قوات الحشد الشعبي المتموضعة في المنطقة هي لواء الطفوف (اللواء 13 في الحشد)، وكتائب حزب الله (اللواء 45 في الحشد) التي تسيطر على الطريق بين القائم وعكاشات في الجنوب الغربي، وكتائب الأمام علي (اللواء 40 في الحشد) وكتائب أنصار الحجة (اللواء 29 في الحشد) ولواء المنتظر (اللواء 7 في الحشد)، وسرايا الخراساني (اللواء 18 في الحشد). واستناداً إلى مقابلات مع سكان محليين، يرتبط لواء الطفوف مع المقامات الشيعية في كربلاء لكنه يقيم علاقات قوية مع إيران. وتُعتبر كتائب حزب الله من بين أكثر الميليشيات موالاة لإيران ومُدرّبة تدريباً جيداً. وقد ضمنت هذه الكتائب موقعاً وازناً في النواة القيادية للحشد الشعبي، وتبدو الأكثر نشاطاً في القائم.
في داخل سورية، في البوكمال وحولها، يقسم نهر الفرات الأراضي إلى منطقتين: الجانب الغربي الذي يُعرف بـ”الشامية”، يسيطر عليه النظام السوري جنباً إلى جنب مع الميليشيات المدعومة إيرانياً، والجانب الشرقي هو منطقة الجزيرة التي تُهيمن عليها قوات سورية الديمقراطية، وهي ميليشيا كردية لها روابط مع حزب العمال الكردستاني. بيد أن الميليشيات المدعومة من الحرس الثوري الإسلامي الإيراني تحتفظ أيضاً بوجود كثيف في المدينة. في منطقة الشامية، تسيطر الفرقة 17، والحرس الجمهوري، وبعض القوات الروسية على الخط الفاصل بين نظام الأسد وقوات سورية الديمقراطية على طول نهر الفرات. كما يدير الروس مركزاً يركّز على تحقيق المصالحة يدعى مركز المصالحة في البوكمال.
بعض الأحياء في هذه المنطقة أضحت مراكز للميليشيات المدعومة إيرانياً، وهي تشمل كتائب حزب الله، وحركة الأبدال، وحركة حزب الله النجباء، والزينبيون، والفاطميون، وكتائب الإمام علي، وعصائب أهل الحق. وفي أيار/مايو 2019، سيطرت ميليشيا الفاطميون، التي تتكوّن أساساً من مقاتلين شيعة أفغان، على مبنى في قطاع الدوار في البوكمال، لأنه يوفّر رؤية واضحة للطرق المحيطة، ونصبوا فيه الكاميرات، وحوّلوا المبنى إلى غرفة عمليات.
في المقابل، حافظت قوات سورية الديمقراطية على سيطرتها على منطقة الجزيرة بالتعاون مع عشيرة الشعطيات، وهو تحالف أقل تعقيداً من القوات متعددة الجنسيات الموجود في المنطقة التي يسيطر عليها النظام السوري. ومثل هذا الخليط من الوحدات العسكرية في طول منطقة الحدود وعرضها، سيكرّس بقاء التوترات على وتيرة عالية لسنوات عدة مقبلة.
يونغ: هل أثّر وباء كوفيد- 19 على منطقة الحدود بأي شكل؟
حسن وخضّور: من المبكّر للغاية الخروج بتقديرات حول ذلك. لكن، يمكن القول إنه يحتمل أن تؤدي تأثيرات الوباء في منطقة القائم- البوكمال إلى فرملة الخطط الطموحة لبعض اللاعبين الذين ضغطوا لإعادة فتح معبر القائم- البوكمال رسمياً في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2019. وهذا بالمناسبة كان اليوم نفسه الذي شهد أحدث موجة من الاحتجاجات العراقية، ما غذى نظريات المؤامرة في أوساط المنظمات المتحالفة مع إيران، والتي تقول إن الولايات المتحدة وإسرائيل هما اللتان تحرّكان الاحتجاجات بهدف إضعاف الروابط بين أعضاء محور المقاومة (إيران، وسورية، وحزب الله، والميليشيات الشيعية العراقية الموالية لطهران) التي كان يفترض أن يؤدي فتح الحدود إلى شد أزرها.
معبر القائم- البوكمال هو الآن المعبر الوحيد على الحدود السورية- العراقية الذي أُعيد فتحه رسمياً بإدارة الحكومتين العراقية والسورية. أما المعبران الآخران- التنف- الوليد، وربيعة- اليعربية- فلا يزالان مغلقين، حيث تمنع القوات الأميركية الحكومة السورية من الوصول إلى المعبر الأول، فيما تعرقل قوات سورية الديمقراطية وصولها إلى المعبر الثاني.
عمدت الحكومة السورية إلى الضغط لتسريع فتح الحدود، من خلال إعادة توكيد سلطتها على جزء من الحدود، لأنها كانت تتطلّع إلى إحياء المؤسسات الصناعية في حلب والإفادة من السوق العراقي لصالح المنتجات السورية، وفي الوقت نفسه استيراد المنتجات النفطية الرخيصة من العراق. كذلك، شجّعت الحكومة اللبنانية وحزب الله إعادة فتح هذا المعبر كوسيلة لتسهيل تصدير المنتجات اللبنانية إلى السوق العراقية.
علاوةً على ذلك، قد يخدم هذا المعبر كممر بري للحجاج الشيعة من إيران والعراق إلى سورية. وإعادة التشغيل هذه تعتبر خطوة نحو تطبيع تموضع القوى الجديدة في منطقة الحدود، بهدف تعزيز الروابط بين طهرات ودمشق وبغداد وبيروت. ويعتقد سكان محليون أيضاً أن هذا سيفيد النقل والشركات التجارية المرتبطة بمحور المنظمات والقوات شبه العسكرية الذي يقوده الحرس الثوري الإيراني في العراق وسورية ولبنان. والآن، يتعيّن تأجيل بعض هذه الخطط لأن كل الحدود إما مغلقة أو خاضعة إلى قيود استثنائية لمنع تفشي وباء كورونا.
مركز كارينغي للشرق الأوسط