40 عاما من دون جان بول سارتر/ إبراهيم العريس
هل لا يزال في المكان متسع لمفكرين من طراز صاحب “الكينونة والعدم”؟
هل كان يخطر في بال أحد في عام 1980 حين رحل المفكر والكاتب الفرنسي جان بول سارتر عن عالمنا، أنّ قومه سوف يضعونه على رفوف النسيان طوال قسم كبير من الأربعين عاماً التالية؟
لقد حدث هذا ومن دون أي سبب وجيه. فسارتر لم يتقادم به العهد، وكتاباته لم تعرف الشيخوخة، والمبادئ السياسية والفكرية التي أمضى حياته مدافعاً عنها كانت هي الأقرب إلى الانتصار والديمومة، في وقت انهار فيه كثيرٌ من الأقطار والأيديولوجيات، وبات عشرات الكتّاب والكتب مستحقين لأكثر من مجرد النسيان. والأكثر من هذا هو أن سارتر كان يجب أن يخطر على البال، وغالباً إلى جانب إميل زولا في كلّ مرة يؤتى فيها على الدورين الاجتماعي والنضالي للمثقف في عصورنا الحديثة.
الذي حدث هو أن الفكر الفرنسي، وتحديداً خلال العقود التالية لرحيل سارتر، بات فكر “موض” (جمع موضة)، تظهر وتختفي تبعاً لقوة جاذبيتها الإعلامية. وجدية فكر سارتر، بما في ذلك إيمانه بالدور النضالي للمثقف، والتزام هذا الأخير الحرية خصوصاً، كانت خرجت من الموضة.
لكن المشكلة، بالنسبة إلى خصوم سارتر، لا سيما منهم أولئك الذين أبكروا في إدخاله إلى متحف النسيان، كمنت في أن تلك الحرية لم يمكن إدخالها المتحف، بل بقيت هناك ماثلة في منتصف الطريق تُلهم الكثيرين، من دون أن يعترفوا بذلك، حتى اقترب قبل عقدين من الآن، موعد الذكرى العشرين لرحيل صاحب “الذباب” و”الشيطان والرحمن” و”الكلمات”، فانبعث سارتر حينها من رقاده وعاد الحديث عنه، محوّلاً إياه إلى “موضة” من جديد.
ووصل الأمر بواحد من “الفلاسفة الجدد”، من الذين كانوا خاصموا سارتر طويلاً، ووصفهم أحد المفكرين بأنهم “لا فلاسفة ولا جدد”، إلى أن يؤلف كتاباً ضخماً يقول فيه إن سارتر كان، بعد كل شيء، “رجل القرن العشرين بامتياز”.
أمّا اليوم في الذكرى الأربعين فيبدو أن فيروس كورونا التهم سارتر وذكراه في معمعة التهامه كل شيء، وها هي الذكرى تكاد تمضي وسط صمت فصيح.
فالذكرى الأربعون لرحيل سارتر، تقع اليوم، إذ إنه رحل عن عالمنا في الـ15 من أبريل (نيسان) 1980. وهو حين رحل، ودُفن في مقبر مونبارناس، وسط باريس، غير بعيد عن مكان سكنه ومن مقاهيه المفضلة في بوليفار سان جيرمان، رافقته إلى مثواه الأخير جماهير حاشدة، لم يسبق أن حظيت بمثلها جنازة أي زعيم فكري من طراز سارتر.
فالواقع، أن سارتر كان ذا شعبية كبيرة، ليس فقط بفضل كتبه الفكرية أو الأدبية، بل تحديداً وبخاصة بفضل خوضه النضال في الشارع إلى جانب المهمشين، الذين تضيع حقوقهم. كان هو صاحب مبدأ التزام المثقف، المبدأ الذي اتبعه طوال حياته وكلّفه غالياً. بل جعله يبدو صاحب تقلبات، وجعل حتى حلفاءه يستشرسون ضده، لا سيما حين ينقلب هو ضدهم، إذ يكتشف ممارساتهم ولو متأخراً في بعض الأحيان.
بدايات مسيرة
ولد سارتر عام 1905 في باريس، يتيم الأب، فتولّى تربيته جده شارل شفايتزر، والد الطبيب والإنساني ألبرت شفايتزر. وسارتر يروي لنا طفولته في كتاب سيرته “الكلمات” الذي أصدره في عام 1964، أي العام نفسه الذي رفض فيه جائزة نوبل حين مُنحها. ويروي لنا سنوات دراسته ورفقته لبول نيزان أولاً، ثم لخصمه اللدود بعد ذلك ريمون آرون.
وهو تعرّف إلى سيمون دي بوفوار التي ارتبط بها منذ عام 1929. بين أواخر العشرينيات وعام 1945 تولى سارتر تدريس الفلسفة. لكنه في عام 1933 توجّه إلى ألمانيا حيث درس هايدغر وهاسرل، وتحوّل إلى الوجودية مبتكراً واحداً من أشهر فروعها: الوجودية الملحدة الملتزمة. ومنذ ذلك الحين جعل مبدأ الحرية المبدأ الذي يقود خطواته والتزامه. وكان هو الذي أدخل إلى فرنسا الوجودية الألمانية والظواهرية.
أمّا كتاباته الأدبية فبدأت بالظهور في عام 1938، حين نشر روايته الأولى “الغثيان”، ثم ألحقها بمجموعته “الجدار”، ولم يتوقف بعد ذلك عن الكتابة، حتى حين جُنِّد في الجيش، أو حين التحق بالمقاومة خلال الحرب العالمية الثانية. وملفت في هذا الإطار أن يكون كتابه الأهم “الكينونة والعدم” صدر في عام 1943.
طبعاً من الصعوبة بمكان، في هذه العجالة الحديث عن كل ما كتبه سارتر. هو أمر سنعود إليه وباختصار طبعاً على طول السطور والفقرات التالية، فمؤلفاته، على شكل كتب أو محاضرات أكثر من أن تحصى. لكن يمكن مع هذا الإشارة إلى بعض أبرزها مثل ثلاثية “دروب الحرية”، ومسرحية “الأيدي القذرة”، وكتاب “تعالي الأنا”، و”نقد العقل الجدلي” و”الوجودية نزعة إنسانية”.
كما يمكن الإشارة إلى إصداره، مع دي بوفوار وآخرين، مجلة “الأزمنة الحديثة”، ودفاعه عن العالم الثالث، ووقوفه إلى جانب المعسكر الاشتراكي، حتى كانت مأساة المجر في العام 1956، فانصرف عن ذلك الموقف، وأصبح من أشد الخصوم لموسكو عداءً لها، ولو إلى حين! وهو وقف مع ثورة الطلاب الفرنسيين في عام 1968، ووصل إلى حد بيع الصحف التقدمية، وبخاصة منها صحيفة “قضية الشعب” الماوية على قارعة الطريق، دون أن يكون ماويّاً، وهو ما تسبب له في التوقيف بأحد أقسام الشرطة!
كل هذا خلق له شعبية وحضوراً كبيرين. وجعل رحيله في عام 1980 يعتبر نهاية عصر في الحياة الفكرية الفرنسية، وما عودته إلى الواجهة في مناسبات معينة بين الحين والآخر بعد ذلك، سوى مظهر من مظاهر الحنين إلى ذلك العصر.
هو الذي نحب أن نخطئ معه
“إنني أفضّل أن أكون على خطأ مع سارتر من أن أكون على صواب مع ريمون آرون”. هذه العبارة التي أطلقها يوماً مثقف فرنسي نصف /جادّ نصف/ مازح، تكاد تختصر وحدها مكانة سارتر في الحياة الثقافية الفرنسية. ولعلها تلقي ضوءاً كاشفاً على ذلك العنوان العريض الذي أعطته ذات يوم مجلة فرنسية لملف نشرته عن سارتر: “هل كان سارتر دائماً على خطأ؟”. صحيح إنه عنوان يحمل قدراً كبيراً من سوء النية والمغالطة، لكنه يقول في الوقت نفسه كم أن سارتر لم يُدفن بعدُ، لا في فرنسا ولا في غيرها.
بل إنه وإلى فترة يسيرة من الزمن كاد يكون المفكر الفرنسي الراحل الأكثر حياة وحضوراً بكتبه وأفكاره وبالسجالات حوله، وربما بتقديم مسرحياته، ثم بخاصة بالحملات التي تُشن عليه، وكأنه لا يزال حيّاً بيننا يساجل ويساجَل. وحسبنا للتيقّن من هذا أن نقرأ كتاباً صدر قبل حين لواحد من مؤرخي الحياة الثقافية الفرنسية في القرن العشرين، ميشال وينوك بعنوان “قرن المثقفين”، حيث لا يخلو كثير من صفحاته من هجمات على سارتر، تبدو وكأنها تدعوه إلى المبارزة!
وبالنسبة إلينا، لا بدّ لنا من أن نعود بعض الشيء إلى سارتر هنا على اعتبار أنه، عن خطئه أو عن صوابه أيضاً قد دنا كثيراً من قضايانا العربية، سواء كان ذلك عبر تبنيه الحازم القضية الجزائرية أو وقوفه نصرة للعمال العرب المهاجرين، وصولاً حتى إلى مواقفه، ولو الملتبسة، إزاء القضية الفلسطينية، من دون أن يمنعه ذلك الالتباس “الفلسفي” من إبداء تعاطف ما مع النضال الفلسطيني منذ أواسط الستينيات من القرن العشرين.
وفي سياق عودتنا إلى سارتر لا بدّ لنا من أن نتبنى بدورنا مقولة “الخطأ معه ولا الصواب مع آرون”، لكن لماذا آرون؟ ببساطة لأن “جان بول” و”آرون” كما كانا يناديان بعضهما، كانا بعد بدايات رفاقية ودية في الدراسة الثانوية، وبعد تناغم ما في سن الشباب والدراسة الجامعية يتعلق باهتمامهما المشترك بالفلسفة والفكر الألمانيين خاصة، عادا ليشكلا قطبين متناحرين فكرياً في الحياة الثقافية الفرنسية: قطب يساري، لا يتورع عن انتقاد اليسار كلما دعت الحاجة، وقطب يميني لا يتورع عن انتقاد اليمين حين يجد ذلك مناسباً له.
وحتى ولو أن شهرة آرون لم تبلغ لا محلياً ولا عالمياً شهرة سارتر، فإن الحياة الثقافية الفرنسية انقسمت حيالهما في مجالات كثيرة، حتى ولو قام تطابق ما في بعض الأحيان في موقفهما من إسرائيل: سارتر على ضوء فهمه الخاص للمسألة اليهودية، وآرون على ضوء جذوره اليهودية.
غير أن هذا التجاذب والتنابذ بين المفكريْن لن يكون له شأن كبير في موضوعنا هنا. فموضوعنا هنا هو سارتر والذكرى الأربعون لرحيله. سارتر الذي كان له، بوصفه مفكراً وفيلسوفاً وأديباً وناقداً ومناضلاً، مكانة تماثل مكانة بيكاسو في الفن التشكيلي: كلاهما هيمن على زمنه ومجال اهتمامه إلى درجة أنهما ظلّلا، وظلما في معظم الأحيان، على آخرين لم يكونوا يقلّون عنهما إبداعاً وعمقاً وتفانياً.
من التأمل إلى الممارسة الميدانية
ليس من الأمور اليسيرة بالطبع التقاط سارتر من جانب واحد. فالرجل الذي هيمن على الحياة الفكرية والأدبية الفرنسية طوال أكثر من نصف قرن، ولا يزال يفعل، وإن كان بين الحين والآخر، أو بين المناسبة والأخرى، في هذه الأيام بعد أربعة عقود من رحيله، كان كما قلنا، فيلسوفاً وكاتباً مسرحياً وروائياً وناقداً ومفكراً سياسياً ومتعمقاً في التحليل النفسي، كما كان في بعض الأحيان كاتباً للسيناريوهات السينمائية، حتى وإن كنا نعرف أن السيناريو الأفضل الذي كتبه (عن حياة فرويد) لم يُحقّق أبداً. وإلى هذا كله كان سارتر باحثاً في تاريخ الأدب والفكر وصحافياً وناشطاً ميدانياً في عديد من شؤون الحياة العامة في فرنسا والعالم.
لكنه كان، بعد كل ذلك، وربما قبل كل ذلك، مشاكساً كبيراً. هو الذي تجلّت مشاكسته بأوضح ما يكون حين أُعلن نيله جائزة نوبل الأدبية في عام 1964 فما كان منه إلا أن رفضها، بكل بساطة. وهو بعد ذلك بسنوات قليلة، حين وجد السلطات الديغولية الفرنسية تضطهد الطلاب والحركات اليسارية بعد خمود حراك ربيع عام 1968، حوّل نفسه وهو في أوج سنواته السبعين، إلى موزّع للصحافة اليسارية في الشوارع والأزقة، ليبيع أعداداً من صحيفة “قضية الشعب”!
كان سارتر كل هذا. لكنه كان قبله مفكراً تأملياً يشي بعض كتاباته بممارسته فن التأمل بمعزل عن الناس. لكن هذا لم يكن صحيحاً، فهو كان دائماً في وسط الزحام وفي قلب الحياة من دون أن ننسى “حكاية الحب” الغريبة التي جمعته مع سيمون دي بوفوار طوال القسم الأكبر من سنوات حياتهما. كانت علاقتهما، كما تقول لنا هي على أي حال، في كتابين هما “حفلة الوداع” و”رسائل إلى الكاستور”، علاقة حرة مارس كل منهما فيها حياته وعلاقاته الخاصة. كان ذلك ما صنع جان بول سارتر بالتأكيد.
وسيرة سارتر تحكي لنا ذلك كله وتقدمه لنا قبل ذلك بشكل رسمي بوصفه فيلسوفاً وكاتباً. ومن ثمّ مؤسّس الوجودية الفرنسية، تلك النزعة الفكرية المستقاة من الفكر الألماني (هاسرل وهايدغر وربما كيركغارد أيضاً) والتي انقسمت مع سارتر إلى تيارين: تيار وُصف بأنه ملحد، قاده سارتر بالطبع، وتيار عرف بكونه مؤمناً تحت قيادة غابريال مارسيل الذي يبدو منسيّاً إلى حد كبير اليوم. وتقول لنا سيرة سارتر أيضا إنه كان غزير الكتابة صاخباً في طرح مواقفه ومتهكماً. ورغم خوضه عديداً من الأصناف الكتابية سنجد تلك الأصناف على كثرتها، ولو تفحصناها جيداً، متحلقة من حول عدد محدود من الأفكار الأساسية: الإنسان بالنسبة إليه “محكوم بأن يكون حرّاً” في عيشه “تحت قبة سماء مشرقة رغم غيومها”… حياة لا يمكن أن تكون فيها قيم دائمة وأبدية فـ”أنت لا تنزل النهر نفسه مرتين”، يقول مستعيراً من هيراقليطس الما –قبل- سقراطي. لقد وجد الإنسان نفسه مرميّاً في هذا العالم بوصفه كائناً مسؤولاً، ما يعني أن لا عذر له ولا ظروف تخفيفية خارج حريته والتزامه بتلك الحرية، من دون أن ننسى أن “الجحيم هو الآخرون” كما يقول في مسرحيته “خلف أبواب مغلقة”.
بين الحرية والالتزام
والحقيقة أن كل أفكار سارتر في كل كتاباته إنما تنطلق من قاعدة أساسية هي: حرية الإنسان، لكن مدغومة بمسؤوليته والتزامه، وستبدو لنا حياة سارتر كلها ملتزمة بهذه القاعدة خاضعة لمتطلباتها، مؤكدة إياها بصورة عملية.
وتبدأ حياة سارتر على أي حال في عام 1905 حين وُلد في العاصمة الفرنسية وسط عائلة من البورجوازية المتوسطة ذات الجذور العائدة إلى الشرق الفرنسي، الألزاس، حيث تختلط التقاليد الفكرية الفرنسية بتلك الألمانية. غير أن سارتر لم يهنأ في ظل الحياة العائلية طويلاً، إذ كان في الثانية من عمره فقط حين رحل والده لتتزوج أمه رجلا آخر سيكون هو من يربيه وسط بيئة برجوازية سيصفها لنا سارتر لاحقاً في كتابه “الكلمات” (1964) ذلك النص في السيرة الذاتية الذي يروي فيه طفولته وصباه وشبابه والاختيار الذي اتخذه ذات يوم بالاتجاه إلى الكتابة، حيث يقول: “لأنني منذ بداية حياتي لم أكتشف العالم إلا عبر اللغة، ظللت لفترة طويلة من تلك الحياة أعتبر اللغة عالمي الحقيقي الوحيد”.
منذ وقت باكر إذاً، اكتشف سارتر اللغة التي ستلعب الدور الأهم في حياته إلى جانب الدور الذي ستلعبه الحرية. وبالتالي نجده حين وصل إلى الدراسة الجامعية، يتوجّه مباشرة نحو الفلسفة مركّزاً اهتمامه على فلسفة اللغة والفلسفة الظواهرية (الفينومينولوجيا) الألمانية.
أما بداياته الأدبية، وفي مجال الكتابة بصورة عامة، فستكون في عام 1938 مع رواية “الغثيان”، لقد كان حين صدور الرواية في الثالثة والثلاثين من عمره. وهي أحدثت منذ ظهورها انفجاراً سيبدو لنا اليوم غريباً، في عالم الأدب. وهو أصدر في العام التالي مجموعته القصصية “الجدار” كما أشرنا. ومن هنا إثر صدور الكتابين وانتشارهما، أدرك القراء رغم لغة سارتر الجميلة والبعد الذاتي في كتابته، أنهم هنا أمام كاتب يستخدم الأساليب الأدبية للتعبير عن أفكار فلسفية. ولسوف يبقى هذا الاعتبار طاغياً على كتابات سارتر حتى النهاية، وهو على أي حال، لم يحاول أبداً نقض هذه الفكرة في أي من أعماله، مع علمه بأنها لا يمكن أن تُستساغ من قبل أهل الأدب.
ففي النهاية كان سارتر نفسه يحرص بصورة دائمة على تقديم نفسه رجل فكر أكثر منه رجل أدب وإبداع، حتى وإن كان في مقدورنا وبكل بساطة أن نكتشف قدراً كبيراً من الإبداع الخالص في رواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة، لكن أيضاً في نصوصه الفكرية والنقدية المعمقة وكتاباته التقنية وحتى في رسائله.
من وجود الوعي إلى وعي الوجود
نعرف إذاً، أن سارتر قدّم نفسه إلى الجمهور العريض، أول الأمر، من طريق الإبداع الأدبي، لكنه ما لبث بعد أعوام قليلة من ذلك أن لفت الأنظار ببعض الجوانب الأخرى من نتاجه حيث أصدر تباعاً في بداية سنوات الأربعين كتابين سيكون لكل منهما شأن كبير في مساره، وفي الحياة الثقافية الفرنسية: “الخيال” و”المتخيّل” ليصدر بعدهما في عام 1943 كتابه الفلسفي الكبير والمهم الذي سيعتبر حدثاً فلسفياً كبيراً في تاريخ الفكر الفرنسي في القرن العشرين، وحتى ذلك الحين على أي حال: “الكينونة والعدم”، وهو الكتاب الذي نقل مؤلفه مرة واحدة من خانة أديب الفلاسفة إلى مرتبة فيلسوف الأدب. وفي هذا الكتاب يقترح سارتر، الذي كان لا يزال في ذلك الحين مطبوعاً بعمق اطلاعه وتأثره بالظواهرية الألمانية كما تجلت لدى هاسرل وهايدغر، يقترح تحليلاً للعلاقات بين “الوعي الذاتي والآخر والعالم” العلاقات التي يقول لنا في سياق النصّ نفسه، إن الوعي يكتشفها ويؤكده بذاته من دون أن تُفرض عليه من خارجه، أي أن الوجود يأتي، بالنسبة إلى الفلسفة السارترية، سبّاقاً على الماهية، ليعني أن سارتر ينقض هنا -ولو بشكل مضمر- فكرة وجود “طبيعة بشرية” مسبقة. فالوعي لديه لا يمكنه أن يأتي إلا لاحقاً للوجود.
في ذلك الحين كان سارتر قد بدأ لا سيما منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، يرسخ قدميه معلّماً أساسياً من معلمّي الفكر، منتجاً مسرحيات متتالية وقصصاً اهتم فيها أول ما اهتم بالتركيز على إشاعة أفكاره الفلسفية في وقت راح يغوص أكثر وأكثر في الممارسة السياسية، ودائماً مدافعاً عن الحرية متّبعاً في ذلك تقلبات راحت تجرّ عليه سجالات ومعارك، خصوصاً حين راح يبدو عليه نوع من التخلي عن وجوديته ولو إلى حدود معينة مقترباً من فكر ماركسي راح يكتشفه تدريجياً ولو على ضوء نزعة تحررية كثيراً ما ضحّى بها على أي حال، لصالح التعبير عن مواقف سياسية مبهمة في أحيان كثيرة. ولقد ظهر ذلك بوضوح خلال فترة تقارب فيها مع الحزب الشيوعي الفرنسي، لا سيما بعد موت ستالين وبدء ظهور شيء من التحرر في السياسات الخروتشيفية. والحقيقة أن ذلك ظلّ سائداً لديه حتى بعيد صدور تقرير خروتشيف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان من أبرز نتائجه إدانة الستالينية وجموديتها.
لكن شهر العسل بين سارتر والشيوعية، حتى في انفتاحيتها، لم يدم طويلاً إذ ما إن اندلعت الأزمة المجرية عبر تمرد قمعه الاتحاد السوفياتي بقوة وسرعة، حتى أدرك سارتر محدودية التفاهم الذي يمكن أن يتواصل بينه وبين تلك التوتاليتارية. ومن هنا، وبفعل تراكم الأخطاء، بل الخطايا، التي راحت تُرتكب في المعسكر الاشتراكي، حتى بعد زوال ستالين، راح سارتر يبتعد معززاً ابتعاده بمسرحيات ومواقف نالت من الشهرة أضعاف ما نالته كتبه الفلسفية مجتمعة.
غير أن مواقف سارتر من الستالينية في صبغتها الجديدة، لم تبعده عن اليسار النقدي ولا عن الماركسية التي سيقول عنها إنها “فلسفة زماننا التي لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال”، غير أننا نعرف أنه لن يعيش ليشهد بأم عينيه كيف جرى تجاوزها خلال العقد التالي لموته! مهما يكن فإن الأمور لم تكن كذلك حين أصدر في عام 1960 كتابه الفلسفي الكبير التالي “نقد العقل الجدلي” الذي لعل أهم ما تضمنه كان إعادة النظر في موقفه الوجودي – الظواهري الذي كان يهيمن على “الكينونة والعدم”. فهو إن كان توجّه في هذا الأخير نحو الوعي الفردي، ها هو يتوجه الآن نحو مساءلة التاريخ، ومن ثمّ علاقة الفرد بالتاريخ.
من المؤكد أننا لسنا قادرين هنا على التوقف طويلاً عند مجمل حياة سارتر وفكره وكتبه ومواقفه ومعاركه وضروب إعادته النظر في أفكاره، حيث إن الأمر يحتاج إلى مطولات أكثر تخصّصاً، لكن في مقدورنا ومن المفيد لنا هنا أن نتوقف عند واقع أن سارتر سعى أواخر ستينيات القرن العشرين إلى إزالة ما لسوء التفاهم الذي كان يطبع علاقته بالفكر العربي من ناحية وبالقضية الفلسطينية من ناحية أخرى وإنما مترابطة. وكان ذلك أولاً من خلال عدد خاص ضخم من مجلته النظرية “الأزمنة الحديثة” أصدره مع انطلاقة العمل الفلسطيني المقاوم، وبدا متوازناً بين الطروحات العربية وتلك الإسرائيلية بالنسبة إلى الصراع العربي – الإسرائيلي، كما أنه زار بعد ذلك مصر في صحبة سيمون دي بوفوار وكلود لانزمان قابلوا خلالها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، كما التقوا عدداً من المفكرين المصريين. ولقد نتج عن ذلك، أيضاً صدور كتاب بالعربية متعدد الأصوات يمكن النظر إليه اليوم على أنه أوفى وثيقة عربية تتحدّث عن الموقف من سارتر، هو الذي كان على أي حال، ذا حظوة كبيرة لدى القراء العرب منذ الأربعينيات، إذ تُرجم معظم كتبه الفكرية والسياسية والأدبية إلى العربية (وبخاصة من قبل جورج طرابيشي وسهيل إدريس)، ناهيك بأن عدداً كبيراً من مسرحياته قُدّم على خشبات المسارح العربية. أما بالنسبة إلى فكر سارتر الوجودي الما –قبل- الماركسي، فلقد نقله إلى العربية عبد الرحمن بدوي الذي كان من أبرز المشتغلين على ذلك الفكر، لا سيما في كتابه “الفكر الوجودي”، كما في “دراسات في الفكر الوجودي”، علماً أن بدوي كان هو نفسه من ترجم “الكينونة والعدم” تحت عنوان غير موفق هو “الوجود والعدم” قبل أن يعيد اللبناني نقولا متيني ترجمته بعنوانه الصحيح وبفهم أكثر دقة وتوفيقاً عام 2009.
أين سارتر الآن؟
والآن بعد ذلك كله وفي أربعينية سارتر هذه، ورغم غياب أي احتفالية للمناسبة، يمكننا أن نعود لطرح السؤال الذي لا بدّ منه: ماذا الآن؟ وهل لنا أن نستنتج على ضوء الوضع الراهن لمكانة الفكر في فرنسا، هذه الأيام، بكورونا وحجر صحي أو من دونهما، أن ريمون آرون، كان هو المنتصر، أخيراً، في المعركة الفكرية الطويلة التي دارت بينه وجان بول سارتر منذ كانا زميلي دراسة في المدرسة الثانوية، وتواصلت حتى رحيلهما في حقبة واحدة تقريباً؟ في الماضي كانت الحياة الثقافية الفرنسية لا تكف عن أن تردد: “من الأفضل للمرء أن يكون مخطئاً مع سارتر، من أن يكون مصيباً مع ريمون آرون”، فهل لا يزال هذا القول صحيحاً حتى اليوم؟
قبل طرح هذا السؤال أليس من الأفضل أن نطرح سؤالاً آخر: أين هو سارتر اليوم؟ وما الذي بقي من ذاك الذي كان أكبر وجه من وجوه الثقافة والفكر والفلسفة في فرنسا القرن العشرين؟ أين هو بعد أربعين عاماً من رحيله، هو الذي كان، ملء السمع والبصر في فرنسا، يمثل بالنسبة إلى الكثيرين ضمير الفكر الفرنسي، بل ضمير كل حركة تقدمية في ذاك البلد؟
إن الرصد الدقيق والمتابع الحياة الفكرية في فرنسا يقول لنا إن سارتر يكاد اليوم أن يكون نسيّاً منسياً، رغم مناسبة من هنا وأخرى من هناك تستعيده للحظات خاطفة إلى واجهة الاهتمام، قبل أن تعود فرنسا لتغرق في اهتمامات أخرى. ولعل العاملين الأساسيين اللذين جعلا لسارتر هذا المصير هما: أولاً، وصول اليسار إلى السلطة بعد عام من رحيله، وإخفاق هذا اليسار، الذي كان يمكن لسارتر أن يكون واحداً من محبذيه، في تحقيق برامجه وفي إحياء الأمل في النفوس، وثانياً، سيطرة التلفزة والفكر الاستعراضي ووسائل التواصل الاجتماعي على الحياة الثقافية، ما جعل من مفكرين تناطحوا لخلافة سارتر مجرد نجوم تلفزيونية تبتعد أكثر وأكثر عن عمق التحليل الفكري، لتقترب من حدود الابتسار والأحكام القاطعة واللغة الطاووسية.
هذان العاملان، إذ يضافان إلى تراجع القيم والقضايا الكبرى، في العالم كله على أي حال، يمكنهما أن يفسرا ذلك التراجع الذي يطاول سمعة سارتر ومكانته، ويجعلا الحياة الثقافية الفرنسية التي كانت مليئة بالصخب والحيوية طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، شبه خاوية اليوم، لأن الحياة التي كانت تُصنع في الجامعات ودور النشر والمجلات الأدبية، وفي الشارع أيضاً، صارت اليوم تُصنع في التلفزة وأخواتها. ولأن التلفزة وأخواتها، هي ما هي عليه، كان من الطبيعي لخلفاء سارتر الحقيقيين مثل ديلوز وديريدا وغاتاري أن يبقوا بعيدين عن الأضواء، ليتألق تحت الكاشفات الضوئية مثقفون يطرحون أنفسهم خلفاء للفكر الفرنسي كله، من دون أن يكون أي منهم مؤهلاً حقاً للعب الدور الذي كان يلعبه أسلافهم الكبار. في مثل هذا الوضع من المؤكد أنه لا يمكن أن يكون ثمة مكان حقيقي لأناس من طينة سارتر.
كثيرون من المثقفين المصريين وضعوا أيديهم على قلوبهم بعد أن بارح المفكر الفرنسي الكبير جان بول سارتر بلادهم في ختام زيارة قام بها وصديقته الكاتبة سيمون دي بوفوار، ودامت أياماً عدة.
وسبب ذلك التوجس كان في معرفة أولئك المثقفين أن صاحب “الكينونة والعدم” اعتاد أن يعبر عن خيبة أمله بسرعة بعدما يزور بلداً تدفعه حماسة معيّنة أصلاً لزيارته. فإذا بما يراه ويختبره شخصياً، يخفف من درجة حماسته فيعبّر عن الخيبة، ما يجعل للبلد سمعة غير طيبة، على الأقل في أوساط مثقفي العالم.
والحال أن مصر كانت في ذلك الحين في حاجة ماسة إلى أن يساندها أولئك المثقفون، وسط ركام من المعارك المباشرة (السياسية والعسكرية)، أو غير المباشرة (الحضارية) التي كانت تخوضها. ثم، خصوصاً، في وقت كان فيه من الواضح أن ثمة حرباً جديدة بين العرب وإسرائيل تلوح في الأفق وتبدو وشيكة. وشخص مثل سارتر، وأيضاً مفكرة من طراز رفيقته سيمون دي بوفوار، كانا نافعين لمساندة الموقف المصري، إذا ارتأيا مساندته ولو جزئياً، لأنهما كانا معروفين بمناصرتهما إسرائيل.
من هنا اعتبرت زيارة سارتر ودي بوفوار إلى مصر تاريخية، وستكون تاريخية أيضاً مواقفه التي راح يعبّر عنها خلال الفترة التالية، لا سيما بعد أن زار إسرائيل آتياً من مصر، قبل أن يعود إلى فرنسا حيث عبّر لاحقاً عن تفهمه المواقف المصرية، وأبدى شيئاً من العتب على إسرائيل. وكان شيء من ذلك قد تجلّى على أي حال في عدد ضخم واستثنائي أشرف جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار على إصداره من مجلة “الأزمنة الحديثة”، التي تتحلق من حول سارتر ودي بوفوار وأفكارهما.
فالحال أن ذلك العدد التاريخي أتى محايداً، وكتب فيه، من دون قيد أو شرط، عديد من مؤيدي الحق العربي الذين هيمنوا عليه بأكثر مما فعل مؤيدو الصهيونية. ولقد كان في وسع المثقفين المصريين يومذاك أن يتنفسوا الصعداء. وكذلك بات في وسع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي كان، خلال زيارة سارتر ودي بوفوار القاهرة، قد حرص على أن يستقبلهما بنفسه، وأن يقدم لهما وجهة نظره في القضايا الشائكة، وفي مقدمها القضية الفلسطينية.
قضى سارتر ورفيقته في ذلك الحين 17 يوماً في مصر، كانت برامجهما خلالها حافلة، إذ إضافة إلى الندوات واللقاءات العديدة التي أجريت مع كبار المفكرين المصريين، وإضافة إلى الزيارات التقليدية إلى المتاحف ومناطق الآثار، ودور الصحف والمراكز الثقافية، نظمت للزائرين، بناء على طلبهما، زيارة قاما بها إلى المخيمات الفلسطينية في غزة، وكانت يومها لا تزال في عهدة المصريين، ورتب لهما أيضاً حضور عرض لمسرحية “الذباب” لسارتر نفسه، والتي كانت ترجمتها العربية تعرض في القاهرة حينها بنجاح كبير.
غير أن ذروة ذلك كله كانت، بالطبع، زيارة الضيفين الرئيس عبد الناصر في بيته. واللافت أن الحوار بين “الريّس” والمفكرين دام نحو ثلاث ساعات. وفيه أتى عبد الناصر على ذكر عديد من الأمور، وقال لسارتر إن له قراءً مخلصين يتابعون كتبه ويتأثرون بأفكاره في العالم العربي، كما قال له إنه هو شخصياً قرأ عديداً من دراساته وكتبه، لا سيما ذات المضمون السياسي منها، مثنياً على وقوف الفيلسوف إلى جانب العالم الثالث، ومثنياً في الوقت نفسه على كتابات سيمون دي بوفوار حول المرأة والقضايا الاجتماعية.
كانت جلسة طويلة ومفيدة، وحرص سارتر على أن يقول بعدها إنه كان شديد التأثر بذلك اللقاء الحار الذي جمعه بجمال عبد الناصر، إذ اكتشف فيه “زعيماً فطناً، صائباً وبعيد النظر”.
يوم 14 مارس (آذار) 1967 إذاً غادر سارتر ودي بوفوار مصر سعيدين بما حققاه فيها، وتوجها إلى إسرائيل لاستكمال جولتهما من حول القضية الفلسطينية. واللافت أن الصحافة الإسرائيلية استقبلتهما يومها بكثير من الانتقاد الذي طاول مجمل نشاطهما القاهري، بما فيه اللقاء مع الرئيس عبد الناصر.