لمسة اللذّة الممنوعة/ عمار المأمون
تبحث الرجولة عن الصلابة، وتسعى للاحتفاظ بتدفق الدماء في القضيب، كما أنتجت “مؤسسة الرجولة” سلسلة من المتخيلات والأدوار لتدلل الانتصابات وتداري زمنها المؤقت.
لكن، في خضم هذا الميل للحسم والتصنيف والصلابة، تظهر أزمة تاريخ المركزية القضيبية، التي تخفي داخلها هشاشة وخوفاً من الليونة، وسعياً لنفي الإيلاج، الصفات التي ترتبط باللحم المؤنث ذي الفتحات، والسعي لـ”إغلاق” حدود الجسد الرجولي، الذي لا يجوز رهزه أو حتى الاقتراب من فتحاته.
هذا التعصب للانغلاق ثمنه أحياناً ضياع اللذّة وتحولها إلى سعي نحو الموت، إذ نقرأ مثلاً في مسرحية “في انتظار غودو” لصموئيل بيكيت، كيف يقترح أستراغون على فلاديمير أن يشنقا نفسيهما، لماذا؟ لأن ذلك سيؤدي إلى انتصابهما، وكأن “الرجولة” ترمي بنفسها للموت في سبيل انتصاب أخير، متعة ما قبل الموت التي قد تتطابق مع تلاشي الأنا.
تُنتج الرجولة ذاتها بوصفها غير قابلة للتفكك، مدروسة، لا تستسلم، لكنها مؤقتة، يظهر ضعفها في الحالات المرضية، تلك التي تهدد انغلاق اللحم الذكوري، والتي تتجلى في “سرطان البروستات”، العطب الذي يضرب في الغدة المسؤولة عن حركة النطاف، التي قد يتلاشى إثرها الانتصاب وتهدد صلابته، وتنفتح رغبات اللحم المذكّر نحو أشكال أخرى خفية لا يكتب عنها، فالمؤسسة الطبية تحكم على “ضعيفي الانتصاب” بعار من نوع ما، بل أن حكاياتهم محط سخرية أحياناً، فالبروستات تحكم على أصحابها، في حال تلاشت، بنوع من “التأنيث” بوصفه إهانة، وينفى فاقدها من نادي الرجال “المنتصبين”، لنرى أنفسنا أمام مجتمع منفيّ ومهمّش، يبحث عن مساحة آمنة للحديث عن تجربته الجديدة.
الخوف من التأنيث
يكتب الطاهر بن جلون في روايته “استئصال” عن حكاية صديق له استأصلت بروستاته، ويخبرنا في المقدمة كيف تداخلت رغباته الدفينة مع رغبات شخصيته، خصوصاً أن الأخير بدأ يحلم بأن يولج به، كونه توقف عن ممارسة الجنس، ويتخيّل أنه يمتلك قضيباً من خشب، مع ذلك لا تسمح له أي امرأة بأن يلجها، ونقرأ :”منذ أن توقفت عن الانتصاب، وعندما أقترب من ساعة النوم، بدأت أرى أحلاماً فوضوية…حاولت مرة أن أستمني كما كنت أفعل حينما كنت شاباً، بحثت عن قضيبي الجبان والمختفي، حاولت تلمسه لكني لم أجده، لقد اتجه إلى الداخل، أنا امرأة بدون مهبل”.
هذه المخاوف من “التأنيث” ترتبط بتاريخ إدراك الذكورة القويمة لذاتها، والتي تتجلى بجسد فتحاته محصنة، والتي في حال تفعّلت كبوابات بين الداخل والخارج، تحصر في سياق الرجل المريض أو المثلي، ذاك الذي يبحث في ظلام الشرج، فتحة اللذات الدفينة، وهنا تظهر وظيفة البروستات مرة أخرى، التي تُحدد طبياً بوصفها تؤثر في الانتصاب وتسرّع النطاف، فوظيفتها تتحدد إثر علاقاتها مع غيرها من “الأعضاء”، وهنا يظهر الاستثناء الثقافي، إذ نفيت لزمن طويل وظيفة “اللذة” التي تمتلكها البروستات كونها “مؤنثة”.
الأهم أنه في حال استئصالها وفصلها عن وحدة الجسد، لا تتحول إلى لحم منفي أو مهمّش، بل يصبح الجسد الخالي منها أشبه بـ”فضلة” (abject) تثير الشفقة والقرف أحياناً، وكأن اللحم الذي فقد ذكورته ليس مؤنثاً فقط، بل كتلة لا وظيفة لها، وكأن هذه الغدة ليست “عضواً” فقط، بل جهاز كامل يرسم وظائف الليبيدو وكيفية توجيهه.
اللمس من الداخل
تحتكر الرجولة التقليدية الفتحات، تهيمن على ما يدخل وما يخرج، وتصاب بالرعب في حال اخترق اللحم، بل يأتي النص القانوني لينفي “الجنسي” عن إي إيلاج في الدبر يصيب الرجل، إذ لا يوجد صيغة لاغتصاب الرجال، بل فقط جريمة “الفحشاء”، حتى لو وقع الولوج في الدبر، لأن الاعتراف بالاغتصاب يعني أن ما هو جنسي قد يتحول إلى لذّوي، أو يتحول الأمر إلى “مثلية” والذي يخضع لقوانين مختلفة.
إن تجاوزنا القانوني والأخلاقي، لا يقتصر ظهور البروستات على ما هو مرضي، بل هناك ما هو دفين في ظلام الشرج، تدليك البروستات من الداخل يأخذ الرجولة إلى مساحات من النشوة غير معروفة من قبل. لمسة محرّمة دفينة، لا يمكن التسلل لها بسهولة، تنفي وحدة الجسد الذكوري ووظائفه التقليدية، خصوصاً أنها تهدد “تجسيد الأداء الجنسي”، فالعلاقات التقليدية بين الأعضاء الجنسية تفترض الانتصاب والإيلاج في لحظة ما، أما اللمس من الداخل فيغير وظائف “الأعضاء”، خصوصاً أن هذا اللمس ليس فقط محاط بتابو ثقافي وأخلاقي، بل أيضاً يحوي غواية لذّوية، إذ يخلق فضاء في المكان والزمان ضمن “الداخل”، ينفلت إثره اللحم من تعريفه التقليدي، وتتلاشى الحدود الوظيفية بين أجزاء اللحم، ليتداعى الماضي ويغيب المستقبل في نقطة جوانية.
حيرةُ المُستمني بمائه
كلّما كان أكبر كان أفضل: ليس صاروخاً فضائياً ما نتحدّث عنه
عصا اللذة السحرية بيد المرأة الخطيرة، الجميلة… تلك التي تقودك إلى التهلكة
في لحظة التدليك، تتغير معالم الجسد الذي يقوم بالإيلاج، فلمسة الداخل تعني تداعي الدور الرجولي، إذ لا معنى للانتصاب الشديد، كوننا أمام بوابة نحو أغلمة لا تنتهي بمجرد الإنزال، بل تمتد في الزمن، وتخلق تناقضاً يمكن تلمسه حتى في وصفها الطبي: “هي إشكالية، إذ تتفعّل لذة إيروتيكية عبر لمس البروستات، حتى لو لم يكن هناك انتصاب و تركيز سوائل لأجل قذف المني”.
تدفع لذة البروستات الذات إلى التحديق في موضوع لذتها الدفين، اللامرئي، ذاك الذي لا يظهر في المرآة، وفي حال البحث عنه يكون بديله المرئي صورة الجسد المؤنث، الذي يخلق الرعب كونه يهدد اللا إيلاج الذي تحافظ عليه الرجولة، خصوصاً أن غياب الانتصاب يعني الابتعاد عن اللذة الاستمنائية، عن الخلاص والامتلاء. هذه اللذة نقرأ عنها بـصيغة اعترافات تجارية: “حينما ضربتني النشوة، كانت شديدة، أحسست بموجة تتحطم في أحشائي، تلتها أخرى ثم أخرى تتحطم على جسدي، أصبح جلدي شديد الحساسية، كان الشعر ينتصب في رأسي، وشعرت بالضغط يتصاعد مرة أخرى، صرخت بشدة، وقذفت عبر الغرفة…”.
لا يمكن أن نحكم بدقة على “صحة” أو “أدبية” ما هو مكتوب، لكن المثير للاهتمام هو ظهور أشكال اللذة هذه إلى العلن وتداولها وتحويلها إلى جزء من الفانتازم الرجولي، خارج مساحات الخطاب الطبي، إلى جانب دورها في تفكيك مفهوم الدور السوي والأوهام المحيطة به، والحرمان الذي يُمارسه على متبنيه كلياً.
نفي علاقات القوة
اكتشاف لذة البروستات يهدد أدوار الأداء الجنسي التي تتحرر من ثنائية إيلاج واستقبال، كذلك يفقد زمن الانتصاب معناه، خصوصاً أنها تعني الاستغناء عن قيود الدور الرجولي وتحرير الشرج من مفاهيم “الوساخة” و”الانحراف” نحو لذة متصاعدة، إيقاعها مختلف عن التقليدي، ما يخلق رعباً لدى الخطاب الثقافي الذكوري، الذي لم يعد متماسكاَ وفتحاته مهدد، لتتحرك مؤسسات التحكم بالجنسانية للوقوف بوجه هذا “الانحراف”.
وهذا ما نراه في الفتاوى التي تتناول الموضوع بدقة، إذ يحرم الفقه الإسلامي كل إدخال في الدبر مهما كان سببه، بسبب “النجاسة”، وقراءة الحجج الدينية يدل أنها تتحرك من منطلقي “النظافة” وضرورة الحفاظ عليها و”عدم التشبه باللواط”، خصوصاً أن هذا الفعل مهما كان سببه “من خوارم المروءة التي يجب أن يتنزه عنها أهل الدين والأخلاق والرجولة، وفعل كهذا يؤدي ولا بد إلى سقوط هيبة الرجل عند امرأته، وهو ما يتنافى مع مقصود الشارع من كون الرجل هو صاحب القوامة على أهله”.
رصيف 22