عن الحوار الأخير مع رياض الترك -مقالات مختارة-
————————————–
رياض الترك خارج المشهد السياسي/ عمار ديوب
انتظر السوريون المقابلة التلفزيونية مع رياض الترك بلهفةٍ. هو الرجل الذي قضى في زنزانةٍ منفردةٍ قرابة ثمانية عشر عاماً. عند مواليه هو مانديلا سورية، وعند الآخرين، وليس بالضرورة أن يكونوا من خصومه في السياسة، يُسجَل له تاريخُه النضالي ومعاداة الاستبداد، كما آلاف المعتقلين السياسيين، ومن الاتجاهات السياسيّة كافة؛ وسوى ذلك، هناك اختلاف في تقييم دوره في الحياة السياسية السورية، وأقلّه منذ المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري عام 1969. الرجل من مواليد 1930، وعاصر قرابة قرنٍ من تاريخ سورية، وبذلك يستحق النقد.
كان يُفترض برجلٍ لديه كل هذا التاريخ أن يُحضَّر للحوار معه جيّداً. ولكن حوار جيزيل خوري معه، في الفضائية البريطانية بي بي سي العربية، جاء ضعيفاً، ومن دون جهدٍ يُذكر، فتناول قضايا يعرفها أغلبية من يتابع شؤون المعارضة السورية. كان مأمولا أن يتطرّق إلى الأعوام الخمسين، أو إلى ما بعد العام 2011، بتحليلٍ وانتقادٍ وتوضيحٍ للمسؤول عن الإخفاقات. كرّر الترك كلاماً عاماً، وجاء خارج أطر التحليل السياسي، كلاما يصلح للدردشة الشخصية، ولا شيء أكثر. يستحق الرجل، مثل قياديين كثر في المعارضة السورية، أن يعاد لهم حضورهم، وأن تُجرى معهم حواراتٌ كثيرة، ولكن ليس كما جرى في برنامج “المشهد”.
يعلم الجميع أنه كان لرياض الترك وحزبه دور مركزي في المجلس الوطني، وفي كل أطر المعارضة السورية ومؤسساتها، وفي إطار دهاليز العمل السياسي السوري المعارض، ومنذ 1969، ولكن ذلك كله لم يُناقش؛ فإذا غاب هذا، ماذا يظل من رياض الترك، ومن مسؤوليته بشأن ما جرى، سيما بعد 2011؟ تمحور الحوار حول الحياة الشخصية واعتقال رياض الترك، وأصبحت القضايا التي ناقشتها المُحاورة مع المناضل المعروف نافلة القيمة بالمعنى العميق للكلمة. هناك دور للشخصيات، سيما القيادات، في تقرير أحوال السياسة والصراع؛ ولكن الحوار كان قولبة للأحوال تلك، ووفقاً للحياة الشخصية، بينما كان يُفترض أن يحصل العكس، وأن توجه له انتقادات دقيقة عن مسؤولياته بوصفه قياديّا في حزبه وفي المعارضة.
في ميدان المراجعات التي جرى بشأنها النقاش على هامش الحوار، أَبعدَ رياض الترك مسؤولية حزب الشعب الديمقراطي السوري في إجابته عن دور المجلس الوطني، حيث قال إن المجلس تألف من سبع قوىً. وفي إطار نقده دور الإخوان المسلمين، أوضح أن لديه مجرد ملاحظة، وكرّر كلمة ملاحظة مرات؛ فهل يُعقل ألّا تُحمّل تلك الجماعة مسؤولية كبرى عما آلت إليه أحوال المعارضة والثورة السورية. انتقدهم الترك في تفضيلهم العنف واحتكار العمل الشعبي وترجيح كفّة توجههم الإسلامي وغيرها. والسؤال هنا: أليست هذه القضايا كفيلة بتوجيه انتقاداتٍ للإخوان وللمجلس الوطني بشكلٍ أدق، وبعيداً عن الكلام المرسل، بل وأفاض: الثورة عمليّة تاريخيّة، ومعركتنا من أجل الديمقراطية طويلة، وما زال أمامنا الكثير الكثير. وهذا الكلام يعتبر هروباً من تحمّل المسؤولية، ورفضاً للدخول في أيّ نقاشاتٍ جادّة، تتناول أحوال المعارضة منذ 2011.
وددت لو أعلن رياض الترك استقالته من العمل السياسي، وقد أصبح تسعينياً، وليتفرّغ لكتابة المذكرات؛ من أجل إنصاف تجربته، ومن أجل الأجيال اللاحقة، وليستفيد منها من سيكتب التاريخ في المستقبل. أمّا أن يكون الحوار التلفزيوني كلّه وكأنّ الضيف ما زال في ريعان الشباب، وأن دوره السياسي ما زال قائماً، فهذا يعني أننا لم نستفد شيئاً من تجارب العالم، والتي تؤكد ضرورة التفرّغ تلك، والاستقالة من الحزب وترك السياسة للأجيال الشابة. وليس المقصود هنا هدر خبرة المناضل المعروف، أبداً؛ فيمكن أن يتحقق له ذلك، عبر الراغبين في العمل معه، وعبر تدوين مذكّراته. ورأينا هذا، لأن كل قدرات الرجل، كما ظهر في مقابلته التلفزيونية على شاشة بي بي سي عربية (3/4/2020) متراجعة، وهي حالة كل شخص في عمره، وبالتالي يحق للآخرين مطالبته بالتراجع عن المشهد، والاسترخاء، وبذلك يقدّم نموذجاً للقادة السياسيين وللتاريخ.
وإنصافاً لرياض الترك، وسواه، نقول: لا تسمح الشموليّة للأفراد، بالتشكّل الطبيعي، والتفكير السياسي الحر، وبالتأكيد تمنع كل أشكال الحريات والعمل السياسي والمشاركة السياسية. ربما يفسّر هذا السبب مواظبة شخصيات معارضة سوريّة عديدة، ولم تأخذ دورها في العمل السياسي الحر، وقد تجاوزت الثمانين عاما، على العمل السياسي، مع التوهم أنّها قياديّة أو قادرة على أن
تكون قياديّة. نعم، تجربة سورية مريرة بما يخص كتلاً كبيرة من القوى المعارضة؛ فقد سجنت مددا طويلة، وهي فئات مهمشة كليّة، وليس لها أيّة حقوق مدنية. وفي ما يخص الإخوان المسلمين، هناك قانون خاص بهم، ويحكم عليهم بالإعدام! وبالتالي حتى الرعاية الطبيّة، لا تشملهم، فكيف ببقية الحقوق الأخرى؟ ليست قضية كهذه بسيطة، أنها تُشعِر المرء بأنّه ليس فرداً طبيعيّاً، وبالتأكيد ليس مواطناً، وأنّه أضاع عمره بلا جدوى، وبالتالي هذا ليس وطنه. وضمن هذا المنظور، يفكر كثيرون من أفراد المعارضة السورية، ويفهمون الدنيا. هم محقوق بذلك، ولهذا تركت الأكثرية البلاد، غير آسفةٍ. وهناك كثيرون تركوا البلاد كي لا يعتقلوا، وحينها سيكون الموت بانتظارهم، كما مئات ألوف الذين تظاهروا بعد 2011.
أُكرِهَ رياض على ترك سورية في العام 2018، ولأسبابٍ صحيّةٍ وسياسيّة، وكي لا يصبح عبئاً على حزبه، حيث صار التخفي مكلفاً. وقد لعب أدواراً كبرى، وكان بعضها غير إيجابيٍّ، ومنذ 1969، وبالتأكيد لا أقصد ضمن الحزب الشيوعي الرسمي، بل في إطار المعارضة التي طالبت بالديمقراطية والتحوّل السياسي، وكذلك ضمن حزبه ذاته، وبعد ربيع دمشق، وما بعد 2011. المقصد من ذلك أن الرجل لم يتكلم عن سلبيات كثيرة، شابت دوره السياسي، ودور حزبه، وكان في مقدوره أن يفتح صفحة جديدة، وحواراً ذكياً لو رغب بذلك، حيث برنامج المشهد يسمح بذلك. مضى على تهجيره عامان، وكان في وسعه الاستفادة منهما، وإعلان رؤية جديدة، وتوجيه انتقادات لمجمل دور المعارضة السورية، وتحميلها المسؤوليات. ولهذا ضرورته، بما أصبحت عليها أوضاعها حالياً، وضرورة أن يكون لها دور، وقد أصبحت سورية كعكة على موائد قادة العالم.
لم يخيب ظنَّ نقاده الجادّين به، وفضّلَ حواراً عن شخصيته المعروفة لمواليه، وبذلك نرى أن جيزيل خوري لم تكن موفقة في إحراج الرجل، في ما سلف أعلاه، بل كانت أقرب إلى مواليه.
العربي الجديد
————————————–
رياض الترك والمعارضة والشأن السوري/ محمود الوهب
استضاف برنامج “المشهد” الحواري الذي تبثه قناة “بي. بي. سي. عربي”، وتقدمه الصحافية جيزيل خوري، ذات الحضور اللافت بهدوئها وحسن إدارتها للحوار، رياض الترك، المناضل المزمن من أجل الحرية والديمقراطية، والوجه البارز بين وجوه المعارضة السورية، وقد قاربت مدة سجنه الفترة التي مكثها الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا في سجنه.. وظل يقيم في دمشق حتى أواخر عام 2018. وقد قوبلت المقابلة باهتمام إعلامي محدود في الأوساط السورية خصوصا، وقد يقول بعضهم، وربما كان على حق، إن الرجل على عتبة التسعين، ومعظم حديثه معاد ومكرَّر.. ولكن المشكلة، في جوهرها، ليست كذلك، فأول ما يتبادر إلى الذهن من أسباب هو الحال التي وصلت إليها قيادة المعارضة السورية من بؤس وإفلاس، إذ لم يبق بيدها شيءٌ مما كانت تمسك به.. وأن الثورة، كما أشار إلى ذلك رياض الترك نفسه في المقابلة التلفزيونية، قد فشلت في تحقيق هدفها الرئيس، وهو إسقاط النظام الممعن في استبداده. ما ترك جمهور المعارضة في حال من اليأس والإحباط، لا لأن الأسد لم يسقط، بل لأن سقوطه قد يأتي بتوافقاتٍ دوليةٍ استحوذت على القرار السوري، واستثمرت ذلك الزخم الثوري الذي برز في سورية خلال النصف الأول من العام 2011، ولعلَّ مسؤولية ذلك تعود على النظام والمعارضة سواء بسواء.
وبحسب ما يشاع أو يسرَّب، وبما يفرضه الواقع الذي وضع المتدخلين، وخصوصا الروس منهم، في استعصاء حلول لم تُفْضِ إلى ما يناسب الشعب السوري، ولم ترض المجتمع الدولي، وعلى ذلك، قد تكون هناك مساومات، ربما في المستقبل القريب، أي بعد الخلاص من كورونا، بشأن تأمين خروج آمن لبشار الأسد بأمواله التي اكتنزها من الشعب السوري، وتهرّباً من قانون سيزر (الأميركي) وتقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية… وهذا ما يمكن في ظل وضع المعارضة الحالي أن يفوّت على الشعب السوري إمكانية تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية، فالمسألة، بحسب الشعب السوري، لا تتعلق بأحقاد وانتقام، بل بقضية شعب ووطن، فمئات الألوف من السوريين زُهقت أرواحهم بالسلاح الكيميائي وبالبراميل المتفجرة، وجلهم من المدنيين الأبرياء، رجالاً ونساء وأطفالاً.
من هنا حساسية سؤال جيزيل خوري ضيفها رياض الترك: أين أخطأت المعارضة، وحزب الشعب خلال مسيرة الثورة السورية؟ رحَّل “ابن العم” جوابه بلغة دبلوماسية إلى جهة أخرى في المعارضة، إذ قال: “الآن، بعد تسع سنوات، أستطيع أن أضع ملاحظة على جماعة الإخوان المسلمين هي: أنهم لم يلتزموا تماماً بتوجهات الثورة الديمقراطية الشعبية بمقدار ما كانوا يميلون إلى ترجيح كفّة توجههم الإسلامي، أي أن تفاؤلنا أو حرصنا على دور للإخوان المسلمين لم يتحقق، وأنهم لم ينخرطوا كقوة إلى جانب فصائل الثورة السبعة، بل كقوة تحرِّكها قوى خارجية”. وجواباً عن استفسار ثانٍ بشأن خطأ الإسلاميين، أشار إلى نقطتين: اللجوء إلى العنف، وتسليط الضوء على جماعتهم.
وبغض النظر عن هذا النقد الذي جاءت على ذكره قوى عريضة من الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية وغيره، فإن رياض الترك، الشيوعي القديم والمشهود له بنضاله وتاريخه، لم يشر إلى أيِّ خطأ لحزب الشعب الذي يتمتع بتجربة سياسية غنية عمرها نحو مائة عام إلا قليلا، والترك هو الذي وقف، يوما، ضد دكتاتورية قيادة حزبه الشيوعي أوائل سبعينيات القرن الماضي، ورفض التعاون مع حافظ الأسد، (ذكر ذلك في المحاورة التلفزيونية رداً على سؤال ما كان قد التقى بحافظ الأسد)، إذ قال إنه التقى الأسد الذي دعاه إلى التعاون معه، وإبعاد خالد بكداش، ذلك أنَّ الترك وجماعته قوميون عرب أقرب إلى نهج حافظ الأسد، لكن الحزب (الشيوعي/ المكتب السياسي) آنذاك رفض ذلك. ومن هنا يمكن الإشارة إلى ما كتبه ماهر مسعود في صحيفة القدس العربي (12 سبتمبر/ أيلول 2018) بُعيد الحوار الذي أجراه محمد علي الأتاسي مع رياض الترك في فرنسا عن معارضة اليسار السوري عموماً “الملتبسة” ضد نظام الأسد.
والحقيقة أن رياض الترك لم يكن رافضاً التعاون مع حزب البعث عموماً، وما نقله عن حافظ الأسد صحيح، فالخلاف الذي جرى في الحزب الشيوعي السوري لعبت فيه فكرة القومية دوراً كبيراً، وقد تركز الخلاف حول مفهومين عن الأمة العربية، أحدهما: “أمة عربية موجودة بكامل مقومات الأمة” (رياض الترك)، وثانيهما: “أمة عربية في طور استكمال مقوماتها” (خالد بكداش). وقد حسم هذه المسألة آنذاك “الرفاق الكبار” (العلماء السوفييت، والبلغار) لصالح التعريف الثاني. ويشار في هذا الصدد إلى أن رياض الترك لم يكن ضد التحالف مع “البعث”، فقد كتب مقالة نشرت باسمه في العدد 157 من “نضال الشعب” (صحيفة الحزب الشيوعي السوري) أوائل مايو/ أيار 1972، أي بُعيد توقيع ميثاق الجبهة بشهرين، بعنوان “الجبهة الوطنية التقدمية إنجاز جديد في حياة سورية العربية”. والحقيقة أن طرفي الحزب آنذاك ذهبا في اتجاهين متضادين، تحالف أحدهما مع الأسد عبر الجبهة الوطنية التقدمية بطلب من السوفييت ومباركتهم، والثاني مع مجموعة صلاح جديد التي أصبح أقطابها في السجن، على الرغم من التفاف تنظيم البعث المدني حولها..! وربما كان موقف رياض الترك أكثر انسجاماً مع موقف الحزب الشيوعي الذي كان قبل انقلاب حافظ الأسد. وفي الوقت نفسه، كان حزب الاتحاد الاشتراكي قد انقسم أيضاً بخروج جمال الأتاسي من الجبهة، محتجّاً على المادة الثامنة من الدستور، ليتشكّل بعد عدة سنوات “التجمع الوطني الديمقراطي”، وليدخل أقطابه جميعاً إلى السجن، وبذلك يكون حافظ الأسد قد دمَّرَ الحياة السياسية في سورية، ما قاد فيما بعد إلى تدمير سورية.
ومما يؤسف له أن المعارضة السورية التي عانت ما عانته من عسف سجون نظام حافظ الأسد ونجله لم تستطع أن تعيد تكوين نفسها، ولا أن تخْلِصَ للشعارات الليبرالية التي رفعتها، الحرية والديمقراطية والدولة المدنية وتداول السلطة.. والحقيقة أن تلك الشعارات كانت غريبة في جوهرها عن أيديولوجيا كل حزب من أحزاب المعارضة، وعن ممارساته..!
العربي الجديد
————————————-
لماذا رياض الترك؟/ طارق عزيزة
في برنامج “المشهد” على قناة بي بي سي العربية، استضافت الإعلامية جيزيل خوري السيد رياض الترك، أشهر المعارضين السوريين وأقدمهم، والزعيم التاريخي لحزب الشعب الديموقراطي السوري (الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي سابقاً). كلقاءاته الإعلامية السابقة، أثارت الحلقة سجالات بين منتقديه وبين أنصاره، ممن لايتوانون عن الإساءة ورمي تهم العمالة لكل من ينتقده. فإن تسامحوا يكون الردّ بتسخيف المنتقدين ووسمهم بأنهم “طلّاب شهرة” لا اكثر!
والحزب الذي اقترن تاريخياً باسم رياض الترك ورمزيته هو من العناوين الأبرز للمعارضة التي توصف (أو تصف نفسها) بالديمقراطية والعلمانية، لذا من المنطقي أن يُوجَّه النقد إليهما من المعارضين الديموقراطيين العلمانيين قبل غيرهم. كما يُفترض بأعضاء الحزب أنفسهم، من باب “النقد والنقد الذاتي”، القيام بمراجعات نقدية جريئة وموضوعية، بعيداً من “سلطة الاسم” أو تقديس “الرمز” وتنزيهه عن الخطأ. زعيمهم نفسه، في أول حديث إعلامي بعد خروجه من سوريا قبل نحو عامين، دعا الحزب وحلفاءه إلى “عملية نقد ذاتي ومراجعة لتجربتهم خلال السنوات السبع الماضية”، وهو ما لم يحصل حتى اللحظة.
من أهم ما ينعقد عليه إجماع منتقدي الترك هو علاقته بالإسلام السياسي، وتحديداً الإخوان المسلمين وتمسّكه بالتحالف معهم، كما في “إعلان دمشق” 2005، وبعد الثورة السورية ضمن إطار “المجلس الوطني السوري” في 2011. في المقابلة المشار إليها سُئل: “أين أخطأت المعارضة السورية وحزب الشعب تحديداً؟”، وتضمّنت إجابته موضوع “الإخوان المسلمين” الإشكالي. لكنه لم يعتبر التحالف معهم خطأً وإنما اكتفى بوضع “ملاحظة” عليهم، قائلاً: “لم يلتزموا تماماً بتوجّهات الثورة الديموقراطية الشعبية بمقدار ماكانوا يميلون إلى ترجيح كفّة توجّههم الإسلامي.. تفاؤلنا أو حرصنا على دور للإخوان المسلمين لم يتحقق بالمعنى الذي نريده، أي أن ينخرطوا كقوّة إلى جانب القوى الأخرى وليس كقوّة تحرّكها قوى خارجية”، مضيفاً أنّ خطأ الإخوان الجوهري يكمن في مسألتين: “اللجوء إلى العنف، ومحاولة تسليط الضوء على جماعتهم أكثر من الحركة بمعناها العام الواسع” وفق تعبيره.
في السياسة تنشأ تحالفات على أهداف مرحلية أو مصالح مشتركة مؤقتة، بصرف النظر عن اختلاف الرؤى أو التباين الإيديولوجي بين المتحالفين. غير أنّ “تجريب المجرّب” أمر مستغرب في حالة سياسي مخضرم بحجم رياض الترك خَبِر الحلفاء والخصوم جيداً. فلماذا حرصه “على دور للإخوان” و”التفاؤل” بهم، وهم لم يكونوا مخلصين في تحالفهم معه، حين أداروا ظهرهم لـ”إعلان دمشق” بعد أشهرٍ فقط من تشكيله ووضعوا يدهم بيد عبدالحليم خدام ليؤسّسوا “جبهة الخلاص”، والتي انسلّوا منها أيضاً عند “تجميد معارضتهم للنظام” عام 2009.
ربّما فرضت ظروف الثورة ضرورة التوصّل لتوافقات تقتضي التجاوز عمّا سبق لإيجاد إطار يجمع المعارضة، ولا بأس في ذلك. لكن ما مبرّر استمرار التحالف مع الإخوان، والذي كان أحد أسباب أزمة حزب الشعب الداخلية وانقسامه قبل سنوات، مع أن “ميلهم لترجيح توجّههم الإسلامي وعدم التزامهم تماماً بتوجّهات الثورة الشعبية ومحاولة تسليط الضوء على جماعتهم أكثر من الحركة بمعناها العام الواسع” (أي ملاحظات الترك عليهم) كانت أموراً لم يتأخّر انكشافها. ومثلها “اللجوء إلى العنف”، إذ كان الإخوان إلى جانب أشقّائهم السلفيين، سبّاقين ومبكرين في “عسكرة الثورة” وبطبيعة الحال أسلمتها انسجاماً مع مشاريعهم. ثمّ هل “اللجوء إلى العنف”، الذي رآه خطأً جوهرياً للإخوان، كان موقفهم هم فقط أم رؤية “المجلس الوطني”، وضمناً رئيسه المزمن جورج صبرة، القيادي البارز في حزب الشعب؟
الجواب يأتي على لسان صبرة نفسه. ففي أوّل تصريحاته أمام وسائل الإعلام، عقب انتخابه رئيساً للمجلس الوطني السوري، في تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٢، قالها صبرة علناً: “نريد سلاحاً” مكرّراً عبارته تلك ثلاث مرّات، في مشهدٍ كشف عن انسياق “المجلس الوطني” وراء أمراء الحرب الجدد، من متزعّمي الفصائل المسلّحة على اختلافها. لقد عبّر ذلك الموقف عن رضوخ مكونات المجلس وممثليه لهيمنة الإسلاميين، بسياسييهم ومموليهم وتنظيماتهم المقاتلة حتى “السلفيّة الجهادية” منها، ثم السكوت عن ارتكابات هؤلاء والكوارث التي ألحقوها بالثورة بحجة “أولوية إسقاط النظام”!
ونتيجة لإسهام العسكرة والأسلمة الواضح في بلوغ الثورة مآلاتٍ كارثية، كان لا بدّ من نقد ومساءلة القوى التي تبنّت هذه التوجّهات ودعمتها أو سكتت عنها. إلقاء اللوم على توحّش وإجرام نظام الأسد و”التخاذل الدولي” و”التدخّلات الإقليمية” محقّ وأساسي، غير أنّه لا يكفي لتفسير كلّ شيء ولا يعفي سياسيّي المعارضة السورية من المساءلة عن أدائهم خلال الثورة. حزب الشعب بتحالفه مع الإخوان المسلمين معنيّ بهذا. والترك، وفقاً لما يؤكّده كثير من رفاقه السابقين، يتحمّل شخصياً المسؤولية عن الدفع بحزبه في هذا الاتجاه.
لا يمكن لأي شخص إلا أن يقدّر التاريخ النضالي لرياض الترك، وليس لأحدٍ تجاهل جسامة وقسوة ما تعرّض له الرجل من ملاحقة وتعذيب واعتقال ثمناً لموقفه المعارض، لاسيما سجنه الانفرادي لثمانية عشر عاماً متصلة في سجون الديكتاتور حافظ الأسد، أمضى ثلثيها في عزلة تامّة عن العالم الخارجي، وصموده الأسطوري وصلابة موقفه رغم ذلك كلّه. في الوقت عينه أيضاً، من غير الممكن أن يقف هذا التاريخ حجر عثرةٍ أمام كلّ نقدٍ يطال خيارات الترك وتحالفاته السياسية وحتّى سلوكه في قيادة حزبه، فهو شخصية وطنية عامة، وزعيم سياسي يصيب ويخطئ. حضوره لم يكن “رمزياً” فقط وإنما كان منذ خروجه من السجن صاحب الدور المؤثّر والحاسم، في حزبه وضمن تحالفات المعارضة، قبل الثورة وبعدها. الإساءة لتجربة رياض الترك ورمزيته ليست في النقد بل في رفضه، وليست في الإشارة إلى الأخطاء والاعتراف بها بل في تنزيهه عنها.
*جميع الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي بروكار
بروكار برس
—————————————