لماذا اختار النظام السوري الحل الأمني؟
وحدة الدراسات – مركز حرمون
مقدمة:
أثار لجوء النظام السوري إلى “الحل الأمني”، لمواجهة الاحتجاجات السلمية، استغرابَ العالم ودهشته، حيث لجأ النظام إلى استخدام العنف المفرط ضد تظاهرات شعبية واسعة تطالب سلميًا بالتغيير السياسي، ولم يبقَ صنفٌ من صنوفِ أسلحة جيش النظام إلا استخدمه، إضافة إلى الاعتقال الواسع للمتظاهرين والناشطين، والتعذيب الوحشي والتصفيات في السجون، والاغتيالات والخطف والإخفاء القسري، مع هدم الأحياء السكنية في المدن والبلدات على نحو غير مسبوق في التاريخ.
إصرار النظام على رفض أي خيار آخر
خلال الأشهر الستة الأولى من انطلاق التظاهرات، قُدِمَتْ نصائح كثيرة لبشار الأسد، وجاءه مندوبون من حكومات السعودية وقطر وتركيا، يطلبون منه ألا يستمر في استخدام العنف الذي بدأه منذ اللحظة الأولى في 18 آذار/ مارس 2011، وكان يقدّم وعوده بأنه سيفعل ذلك، ولكن الأجهزة الأمنية كانت تستمر في نهجها الدموي، وكأنها لا تتلقى أوامره، أو لا تصل إليها.
وعلى الرغم من أن التظاهرات قد رفعت شعارات معتدلة في البداية، فإن النظام لم يُبدِ أي مرونة لفتح حوار مع الحراك السلمي. كما أن المؤتمرات التي نظمها معارضون بارزون وشخصيات وطنية داخل سورية قد حافظت على طرح شعارات ومطالب لم تتسم بالتطرف، ويمكن أن نعدّد هنا أهمّ مؤتمرات عقدت في سورية في 2011، وشارك فيها أبرز الأحزاب والشخصيات المعارضة اليسارية والقومية والديمقراطية وهي: 1) مؤتمر المعارضة الأول الذي عقد في دمشق في فندق سميراميس 27 حزيران/ يونيو 2011؛ 2) المؤتمر الأول لهيئة التنسيق الوطنية الذي عقد في 25 حزيران/ يونيو 2011؛ 3) المبادرة الوطنية الديمقراطية لإنقاذ سورية، التي أطلقها وزير الإعلام السابق محمد سلمان، 09 آب/ أغسطس 2011؛ 4) مؤتمر الحوار الوطني 10 و11 و12 تموز/ يوليو 2011، الذي نُظم بقرار من بشار الأسد، وكلف نائب الرئيس فاروق الشرع بإدارته، وشارك فيه طيف واسع من السوريين، سواء من كوادر الدولة ومن أعضاء قياديين في حزب البعث وأحزاب الجبهة وشخصيات وطنية مستقلة ومؤيدة للنظام. وقد صدرت عنها توصيات تشكل بمجملها برنامج إصلاح معتدل، لنقل سورية إلى دولة ديمقراطية تعددية.
غير أن نظام الأسد رفض تنفيذ أي من توصيات هذه المؤتمرات، حتى توصيات المؤتمر الذي أمر به وأداره فاروق الشرع، ولم يناقشها بجدية، ولم يفتح أي حوار مجتمعي آخر، باستثناء اجتماعات شكلية لم يخرج منها نتائج ملموسة.
من جانب آخر، أصرّ النظام على تشدده المطلق برفض المبادرة العربية، في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، لحل الأزمة السورية قبل أن تستفحل، ورفض مبادرة كوفي أنان، ثم رفض إعلان جنيف في 30 حزيران/ يونيو 2012، على الرغم من أن نحو 70% من الأراضي السورية كانت قد أضحت خارج سيطرته، وبدا نظامه على وشك السقوط، كما رفض من بعد اتفاقيات أستانة وسوتشي التي عقدها الروس لخدمة بقائه وبقائهم في سورية. وبدًلا من الاستجابة لأي حلول ممكنة؛ استمر في حله الأمني، مستعينًا بدعم سياسي روسي وبقوات إيرانية وميليشيات جاءت بها إيران من دول كثيرة، وأدى ذلك إلى قتل وموت قرابة مليون سوري، وهدم البنية التحتية، وتشريد أكثر من 6 ملايين سوري إلى خارج سورية، ونحو 6 ملايين أخرى داخل سورية، وهدم بنية المجتمع وتقاسم السيطرة على الأرض السورية بين دول وقوى متعددة، وتحويل سورية إلى مرتع لنمو المجموعات المتطرفة الدينية الشيعية والسنّية.
يطرح سلوك النظام وحلفائه، بعد اختيارهم الحل الأمني وممارستهم هذه الكمية من العنف، تساؤلات كثيرة حول أسباب هذا السلوك ودوافعه. وفي الواقع يعود هذا الخيار إلى أسباب عميقة في طبيعة هذا النظام وتكوينه، وأهم هذه الأسباب هي:
1 – منطق النظام في النظر إلى السلطة كملكية خاصة أبدية:
تنطلق السياسة العميقة للنظام من أن الاستجابة لمطالب الحراك ستظهره بمظهر الضعف، وستجر خلفها مطالب أخرى لن يستطيع التنبؤ بها وتجلب الخطر على نظامه. وهذه هي فلسفة النظام في التعامل مع أي مطلب.
مبدأ السلطة إلى الأبد: تكمن أسباب رفض النظام بإصرار إبداء أي مرونة أو تجاوب، مع مطالب المتظاهرين، في أنه ينطلق من رفضه المطلق إجراء أي تغيير في طبيعة الحكم، ولو كان بالتدريج، وأن أبعد ما يقبل به هو بعض التعديلات الشكلية التي لا تبدل شيئًا في طبيعة النظام القائم، وسيطرة النخبة الحاكمة ومصالحها على الحكم والمال والأعمال. وموقفه هذا ينطلق من حقيقة أن أيّ استجابة لمطالب الحراك، حتى لو كانت ستحول بشار الأسد إلى بطل قومي، ستُضعف قبضة الأسد ونظامه على السلطة، وأن هذا سيفتح الطريق لقوى الشعب والمجتمع أن تنمو، وسيؤدي ذلك في النهاية، ولو بعد حين، إلى ارتخاء قبضة النخبة الحاكمة على السلطة، ولن يكون بإمكان النظام توريث السلطة لابن بشار الأسد “حافظ أسد الثاني”، تقليدًا لكوريا الشمالية. وهذه مسألة يعرفها من هم قريبون من دوائر صنع سياسة نظام الأسد، وقد ترجمها شعار (الأسد للأبد).
الخوف الدفين: يعلم النظام أنه استولى ويستولي على السلطة بمنطق “الغلبة” المستندة إلى القوة الصلبة أي السلاح، وأن المجتمع يعاديه ضمنًا، خاصة بسبب استيلائه على السلطة السياسية واستيلائه على الثروة، وعلى المكانة الاجتماعية للنخب التقليدية التي تنتمي إلى المكون الرئيسي السني المكون لغالبية الشعب السوري، وأن هذه “الاعتداءات” لن تُنسى، وهو ينتظر ساعة استرداد السلطة من فئة “اغتصبتها بقوة السلاح”. لذلك رفض نظام البعث-الأسد أن يتيح أي إمكانية لنمو قوة المجتمع السوري. فطبق نظامًا شموليًا قيّد الحريات العامة في التعبير والتنظيم، وصادر السياسة، وسيطر على الفضاء العام، وأمّم الإعلام، وسيطر على الاقتصاد، وقمع كل شكل من أشكال التنظيم والتعبير خارج الأطر التي حددها بشكل ضيق.
قرار الحل الأمني لم يكن وليد اللحظة: لم يكن خيار الحل الأمني ردة فعل على خروج الحراك للشوارع، ولم يكن قرارًا وليد لحظته، بل كان مُتَخَذًا مسبقًا، وتم التحضير له جيدًا. وقد برز هذا بوضوح في تصريحات مسؤولين سوريين قبل انطلاق الحراك، كان أبرزها تصريح رامي مخلوف الذي كُلّف بالتصريح (كونه رجل أعمال لا صفة رسمية له) إذ قال في مقابلته مع جريدة نيويورك تايمز، في أيار/ مايو 2011: ”إن النظام قرر أنه سيحارب حتى النهاية….. إن النخبة الحاكمة في سورية، والحلقة الضيقة التي في السلطة، سوف تقاتل حتى النهاية… ولدينا كثير من المقاتلين… ولا استقرار في إسرائيل بدون استقرار سورية”.
لقد تم تحضير الحل الأمني مسبقًا، ووضعت سيناريوهاته بالتشاور مع إيران وروسيا، وتم اعتماده منذ امتداد الربيع العربي إلى مصر ثم ليبيا، خاصة أن تدخلًا عسكريًا غربيًا قد بدأ في ليبيا، الأمر الذي أغضب الروس كثيرًا، فقرروا التشدد في التمسك بسورية حتى النهاية.
2 – جذور الحل الأمني تكمن في طبيعة نظام البعث-الأسد:
تكمن الجذور العميقة لعنف نظام البعث-الأسد في طبيعة هذا النوع من الأنظمة العسكرية، ليس في البلدان العربية وحسب، بل في بلدان العالم. فهذه الأنظمة تعطي ذاتها حقًا مطلقًا وغير مقيد في استخدام العنف ضد “أعدائها”، دون أن تبدي أي مساحة للتسامح.
إن استخدام الجيش والأمن لقمع أي احتجاج شعبي هو جزء من تاريخ سلطة البعث-الأسد، وبدأ ذلك بقمع أحداث حماة في نيسان/ أبريل 1964، ثم قمع أحداث الإخوان المسلمين بين 1975 و1982 التي اختتمت بمجزرة حماة في شباط/ فبراير 1982 التي ذهب ضحيتها ما لا يقل عن عشرة آلاف شهيد مدني من أهالي حماة، مع تهديم أجزاء كبيرة من المدينة. ثم قمع تظاهرات القامشلي 2004، وقبلها حصار تل الزعتر في بيروت، حزيران/ يونيو 1976 وغيرها. هذا عدا عمليات الاغتيال العديدة التي كان أبرزها اغتيال رفيق الحريري.
يشبه هذا السلوك الدموي لسلطة البعث الأسد سلوكَ الأنظمة العسكرية العربية، مثل نظام صدام حسين في العراق، والقذافي في ليبيا، وبن علي في تونس، وعلي صالح في اليمن، والبشير في السودان، وحتى عبد الناصر، وإن كان بمعدل أخف، ومن جاء بعده، ويستمر الآن مع سلطة السيسي الانقلابية.
يضاف إلى هذه السمة العالمية للأنظمة العسكرية، غلبة الطبيعة الأقلوية للضباط الذين آلت إليهم سلطة انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، بعد معارك من التصفيات بين مجموعات الانقلابيين المتصارعة، لتنتهي السلطة إلى مجموعة من ضباط من الأقليات، وخاصة المجموعة العلوية، ممن يختلط لديهم البعد الطبقي بالبعد الفئوي، ضد الفئات المسيطرة تقليديًا على السياسة والاقتصاد والمجتمع، ومن ثم انتهت السلطة إلى يد حافظ الأسد، بعد انتصاره على صلاح جديد، وزجّه في السجن هو وغالبية قيادة الدولة والحزب حتى مماتهم، فاستفرد الأسد بالسلطة منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 1970.
3 – شخصية حافظ الأسد القمعية:
تميل طبيعة شخصية حافظ الأسد ذاته نحو الاستبداد المطلق، وبشار صورة باهتة عن والده. وقد احتكر الأسد كل السلطات دون استثناء، سواء التي منحه إياها دستور 1973، وهو من حدد محتوى ذاك الدستور التي احتكر بموجبه السلطات كافة، أو ما فرضه هو بفعل الترهيب. حيث حصر السلطات المدنية والعسكرية كافة بيده هو شخصيًا، بسبب توجسه من الانقلابات العسكرية. وقد أحاط نفسه بنوع من القدسية جعلت له مكانة مرعبة. ومنح نفسه ألقاب “القائد الخالد إلى الأبد”، و”الأب القائد”، و “قائد المسيرة”، و “سيد الوطن”.. وغيرها، وسمى سورية “سوريا الأسد” وتم نشر صوره وتماثيله بشكل مبالغ فيه في كل مكان. وكان يسمي بعض إجراءاته -مثل زيادات الرواتب- “عطاءات” ومكرمات، وصارت الانتخابات “مبايعة”، أي إنه نزل بالسوريين إلى مستوى “الرعية” وهو السلطان، وكان يردد قناعاته في جلساته الخاصة: “إن لم نستطع أن نقود، فسنحكم”، إي إن لم يرض بنا الشعب السوري برغبته فسيرضى رغمًا عنه. وكان يهتم بالخضوع والامتثال والطاعة أكثر مما يهتم بنيل المحبة، ويكافئ المبالغة في إبراز الطاعة، ولكنه كان يعاقب بتطرف أي تعبير علني عن عدم المحبة، وأجبر السوريين على النفاق، فما يهمه هو إبراز الخضوع والطاعة. وكان التخويف سلاحه، مستخدمًا في ذلك مختلف الأدوات من الناعمة حتى أشدها خشونة، ليخلق شخصية سورية اتباعية، في مواجهة الشخصية الإبداعية.
كل هذا شكّل عقلية شاملة لنظام حافظ الأسد برمته. وهذا ما ورثه بشار الأسد مع وراثة السلطة عن والده الذي رتبها خلال حياته، ونفذت في يوم وفاته. وبشار لم يأت بشيء جديد من عنده، وهو يطبق النهج الذي أسسه والده، وأصبح نهجًا شاملًا لنظام حكم الأسد، وعقلية معشعشة في تفاصيل بنية النظام. لقد ورث مؤسسة الحكم عن والده، وورث عنه كثيرًا من صفاته، ولكن مع فارق كبير في الكفاءة، فالكفاءة لا تورث. وقد أصبح نظام الحكم في سورية مع بشار الأسد “دكتاتورية بدون دكتاتور”. هذه هي العبارة التي ترددت في سورية بعد وفاة الأسد الأب.
4 – التكوين المذهبي لسلطة الأسد:
ينتمي الأسد إلى طائفة صغيرة، لا يزيد عددها عن 10% من سكان سورية، وتتمركز في جبال العلويين في الساحل، وتتسم بالفقر، وهي طائفة كان لها حصة هامشية من ملكية الأرض والمال والسلطة، فلا ملكيات أرض كبيرة، ولا رجال أعمال كبارًا أو حتى من الحجم المتوسط، ولا مناصب عالية أو متوسطة تذكر في وظائف الدولة، ومناطقها مهملة، بينما كان لأبنائها وجود ملموس في الجيش منذ أيام الانتداب الفرنسي، حيث وجد العلويون في الجيش فرصة عمل وتحقيق دخل. وقد بدأت فئات من الطائفة تشعر منذ 1963 بطعم السلطة وتنال نصيبًا متصاعدًا منها، فقرّر الأسد الاعتماد عليها، بل مصادرتها لحسابه.
ولكي ينفذ الأسد كل ذلك، كان لا بدّ من سلب إرادة الطائفة وجعلها تابعة له، فعمل أولًا على هدم أي مرجعية تقليدية سابقة لها (مثل رجال الدين الكبار والعائلات التقليدية البارزة بين العلويين، مثل بيت خيربيك وبيت إسماعيل وبيت الأحمد وبيت حيدر) كي لا يكون لها سوى حافظ الأسد، بوصفه مرجعية وحيدة، ولا يكون لها أي قرار مستقل عنه. ثم تعمد ألاّ يخلق فرص عمل لأبنائها في مناطق عيشهم، بل دفعهم ليأتوا إلى دمشق، وعمل على توريطهم معه.
لأن إجراءات البعث بين 1963 و 1965، مثل مصادرة الأراضي والتأميم، إضافة إلى السيطرة على السلطة السياسية، قد جردت التخب التقليدية التي كانت تحوزها من ثروتها وسلطتها السياسية، ومن مكانتها الاجتماعية، وقد كانت نخبًا سنية في معظمها؛ فقد رأى حافظ الأسد أن السنّة في سورية هم مصدر الخطر على سلطته، وهي الفئة التي تشكل غالبية المجتمع السوري، مع دعم إقليمي من محيط سني واسع، واستدعى ذلك أن يكون على مستوى عال من اليقظة والاستعداد الدائم لأي مواجهة، وأن يحصر امتلاك القوة المادية في يديه، وأن يكون له جماعته المخلصة التي تربط مصالحها ومصيرها به وبسلطته، فكانت الطائفة العلوية هي وجهته، وقد استغل شعورها التاريخي العميق بالاضطهاد والمظلومية التاريخية التي تعرض لها العلويون (النصيريون كما هي تسميتهم في الأصل) فاتبع الأسد سياسة تأمين مجموعة من المزايا لعدد كبير من أبناء الطائفة، وجنّد أفرادها في مفاصل القوة الصلبة في جهازي الجيش والمخابرات، وعمل على تكوين مكاسب مادية واسعة لأفرادها، عبر الوظائف الحكومية، وعلى تكوين مجموعة من بينهم من كبار رجال الأعمال وصغارهم، وعلى خلق كوادر تتسنم الكثير من مفاصل الدولة من بين أفرادها، وجعل كل ذلك بمنزلة رشوة للطائفة، وقد نظّم هذا الأمر على نحو يعرفه الجميع. فأصبح معظم ضباط الجيش والأمن وقيادات الدولة الفاعلة من العلويين، إضافة إلى أعدادهم المسيطرة في شركات النفط والخطوط الجوية وقطاع الإعلام والسلك الدبلوماسي وأساتذة الجامعات وغيرها، وأصبح جزءٌ كبيرٌ من موظفي الدولة من أبناء الطائفة، بما يفوق نسبتهم في المجتمع مرات عدة. وقد أدت سياسة الأسد تجاه الطائفة إلى تحولات جوهرية في طبيعة هذه الطائفة، بحيث تحولت من طائفة تتسم بمعظمها بالعلمانية، ويتبنى شبابها أفكارًا منفتحة وتقدمية، إلى “طائفة سلطة”، بات غالب شبابها يرون مصلحتهم المباشرة في استمرار سلطة بيت الأسد، وينظرون إلى الأسد نظرة تقديس.
قام الأسد بقمع حركات قادها الإخوان المسلمون بين سنوات 1975 و1982 انتهت بمجزة حماة، فبدا أن مسؤولية جرائم النظام تقع على الطائفة برمتها، وشكل ذلك قناعة غذاها الأسد بأنه في حال ذهاب سلطة الأسد، فإن العلويين سيتعرضون للانتقام، أو على الأقل سيخسرون كل هذه المغانم التي حصلوا عليها. هذا الواقع جعل كل علوي تقريبًا في أجهزة الأمن والجيش يرى أن الحراك موجه ضده، وأنه يستهدفه شخصيًا، وهذا يفسر السلوك الهمجي لهؤلاء في التعامل مع المعتقلين ومعاملتهم كأعداء شخصيين، بدلًا من سلوك منضبط وفق ضوابط الواجب الوظيفي للموظف العمومي المستقلّ عن الشخص.
ودرءًا لسوء الفهم، نوضح أن المستفيدين الكبار جدًا، من أبناء الطائفة، هو عائلات الأسد والمقربون منهم، يضاف إليهم بضعُ عشرات من المسؤولين الكبار، وبضع عشرات الآلاف من كوادر الدولة العليا والوسطى، ولكن من جهة أخرى بقي الجزء الأكبر من أبناء الطائفة يعملون كحراس بسطاء فقراء للنظام وقياداته، وحراسًا شخصيين على بيوت وأملاك كبار الضباط والمسؤولين ورجال الأعمال من أبناء الطائفة، بل كانوا خدمًا في بيوتهم، وبقيت الفئات الواسعة من أبناء الطائفة ومناطقها فقيرة ومهمشة، كبقية فئات المجتمع السوري، وكان من المشاهد المألوفة في قرى العلويين مشاهدة قصر كبير يعود لضابط كبير، تحيط به بقية بيوت القرية الفقيرة، وينطبق هذا على بلدة القرداحة ذاتها، مسقط رأس الرئيس الأسد ومقر السلطة الفعلية في سورية. وبقي جزء كبير من أبناء الطائفة يعمل في الزراعة والحرف والمهن الحرة، ويعاني ما عاناه بقية فئات الشعب السوري في ظل سلطة البعث/ الأسد. كما وقف جزءٌ بارزٌ من أبناء الطائفة ضد سلطة الأسد، ودفعوا أثمانًا غالية من حياتهم سجنًا وتشريدًا، وطالت موجة الاعتقالات الأولى جماعة صلاح جديد، ثم كانت موجة الاعتقالات الثانية التي شملت “البعث الديمقراطي” و “رابطة العمل الشيوعي” التي كانت تضم في عضويتها علويين بالدرجة الأولى، ثم إسماعيليين ومسيحيين ودروزًا وقليلًا من السنة، وقد وضعهم حافظ الأسد في السجن فترات قاربت العقد والعقدين من الزمن وأكثر، من دون أي إدانة قانونية عليهم، وليس ذلك إلا لأنهم دعوا لمحاربة الفساد وطالبوا بنظام ديمقراطي، كما كان لهم نصيب في معارضة بشار الأسد، فقد كان ثلاثة من بين العشرة الذين اعتُقلوا في أيلول/ سبتمبر 2001 من الطائفة العلوية، وهم عارف دليلة، وحبيب عيسى، وحبيب صالح.
لقد أوقع الأسد الجزء الأكبر من الطائفة العلوية في ما يسمّى “فخ المصير المحتوم” المرتبط بحكمه. وهو الفخ الذي ما زال الأسد الثاني يوقعها فيه بعد نحو تسعة أعوام من انتفاضة شعب سورية ضد حكمه، ولم تستطع الطائفة أن تفك أسرها بعد من هذا “المصير المحتوم”. وهي بذلك تشبه أجزاءً كبيرةً من بقية الطوائف المسيحية والدرزية والإسماعيلية، وجزء كبير من الطائفة السنية، فأقسام كبيرة منها تقف إلى جانب نظام الأسد خشية من البديل. من جهة أخرى، فإن فئات غير قليلة من أبناء الطائفة تعلن عداءها سرًا أو جهارًا لنظام الأسد، وتسهم في نشاطات المعارضة، ويمكن فهم ظروف أبناء هذه الطائفة التي تقع تحت تهديد مضاعف لأي موقف معارض لنظام الأسد يصدر من أي من أفرادها، ويمكن أن نتوقع موقفًا معارضًا أوسع من جزء كبير من الطائفة يدعم ذهاب الأسد وانتقال السلطة، لو أتيح لهم قدرٌ من حرية التعبير بدون انتقام عظيم من جهة، ولو اتخذت القوى الفاعلة في المعارضة موقفًا واضحًا مطمئنًا لما بعد ذهاب الأسد، بدلًا من ترهيب الطائفة العلوية مع جميع الأقليات الدينية والمذهبية والقومية، والجزء الأكبر من السنّة، بمظاهر الأسلمة المتزايدة كل يوم للانتفاضة السورية، ورفع شعارات استعادة الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية، وبالأخص بعد قدوم جهاديين تكفيريين قتلة من مختلف أصقاع الأرض، تصدرت أعمالهم وصورهم نشرات الأخبار.
5 – الدعم الإيراني:
لعب موقف كل من إيران وروسيا دورًا حاسمًا بدفع نظام الأسد إلى أن يتخذ الحل الأمني كاستراتيجية وحيدة في مواجهة الثورة، ولولا هذا الدعم، ما تجرأ على اتخاذ هذا الخيار، ضمن شروط الربيع العربي مطلع 2011، بل كانت الضغوط من قادته من كبار الضباط العلويين الممسكين بالسلطة ستبرز وتدفعه إلى اتخاذ نهج آخر أكثر مرونة واستجابة. ولكن إيران بالدرجة الأولى كان لها الموقف المتشدد أكثر من موقف روسيا. فقد غدت سورية جزءًا رئيسًا من استراتيجية إيران الإقليمية، ومن تشكيل الذراع الشيعي الممتد من إيران عبر العراق فسورية ليصل إلى لبنان، حيث يسيطر “حزب الله” على السلطة هناك، بفضل السلاح والمال الإيرانيين. وأي تغيير في طبيعة النظام السوري ستؤثر سلبًا على سيطرتها على لبنان أيضًا. لذا سعت إيران منذ البداية إلى دعم النظام وتشجيعه على التشدد، ودفعته إلى مواجهة التظاهرات بالعنف المطلق، ووعدته بكل نوع من المساعدة، وقد بدأت ترسل “مستشاريها” قبل آذار/ مارس 2011. ثم أرسلت له الميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية، إضافة إلى ميليشيا “حزب الله” اللبناني، وقوات “فيلق القدس” الإيراني. وقد استعملت إيران نفوذها في أوساط النظام الذي توسع في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تحت حكم بشار الأسد، أكثر بكثير مما كان في إبان حكم حافظ الأسد. وقد علمت إيران أن دخول الأسد في مواجهة مع شعبه سيجعله أضعف وفي حاجة أكبر لها، وأن ذلك يمكنها من مد نفوذها إلى قلب المجتمع وأجهزة الدولة السوريين، دون أن يستطيع بشار الأسد الاعتراض، وهذا ما حصل فعلًا.
6 – الدعم الروسي:
قدّمت روسيا دعمًا سياسيًا مطلقًا للنظام، منذ اليوم الأول لانطلاقة الاحتجاجات، وقدمت له غطاءً سياسيًا في مجلس الأمن، وحمته من أي قرار في مجلس الأمن مستخدمة الفيتو 14 مرة، وطمأنت روسيا بشار الأسد أنه لن يكون في سورية تدخل عسكري على غرار ليبيا، كما نقلت له أن “إسرائيل” ليست مع إسقاط نظامه. وهذا ما يفهم من الشهادة المتلفزة التي قدمها الفنان جمال سليمان، عضو مبادرة محمد سلمان، إذ نقل ما قاله لهم بشار الأسد حين اجتمع وفدٌ من المبادرة الوطنية معه لأربع ساعات، في تشرين الأول/ أكتوبر 2011.
يشرح برهان غليون، في كتابه (عطب الذات)، سبب الدعم الروسي اللامحدود لنظام دمشق، بأن الحرب في سورية شكلت فرصة لروسيا للعودة للساحة الدولية، وفرصة لمواجهة الغرب، وإظهار إرادة موسكو أخيرًا، بعد أن لطختها العنجهية الغربية بالوحل، وأرادت موسكو أن تستعيد احترامها وتفرض وجودها عليه، وكانت سورية هي المناسبة لفعل ذلك، وقد أغرى تردد أوباما وسياسة الولايات المتحدة المتخبطة والانكفائية معًا بوتين بالهجوم، خاصة أن رؤية بوتين هي مثل رؤية أوباما، وهي أن “التغيير في سورية لن يفتح إلا للفوضى”. وكانت استراتيجية موسكو هي استمرار الحرب في سورية، وكانت تضغط على النظام لتعطيل أي مفاوضات، فحرب سورية هي حرب روسيا بالدرجة الأولى، لكسر جدار العزلة والتهميش الذي بناه الغرب من حول روسيا. لذلك يرى غليون أنه من المستحيل تعديل موقف روسيا تجاه الصراع في سورية، الذي كان على حساب دماء الشعب السوري.
ثم ليس أدل على موقف روسيا تجاه دعم النظام من تدخلها العسكري، في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، عندما شعرت روسيا بأن خطر السقوط يهدد النظام، الذي لا يمكن أن يتم بدون التشاور مع أوباما، ، وقد صرح لافروف في مؤتمره الصحفي السنوي، في 17 كانون الثاني/ يناير 2017، الذي خصص للحديث عن نتائج عمل الدبلوماسية الروسية في عام 2016، بالقول: “إننا واثقون من أن قرارنا كان صائبًا، عندما استجبنا لطلب حكومة سورية الشرعية، علمًا بأن عاصمة هذه الدولة العضو في الأمم المتحدة، كان يفصلها آنذاك أسبوعان أو ثلاثة أسابيع عن السقوط بأيدي الإرهابيين”. إن هذا الموقف المعلن يشير إلى قوة الدعم غير المعلن الذي قدمته روسيا إلى نظام الأسد، على امتداد سنوات الصراع، وتشجيعه على حله الأمني، فقد أرسلت قوتها العسكرية لتسهم بقوة في هذا الحل الأمني.
7 – تراخي المجتمع الدولي في مواجهة القمع الوحشي للنظام:
شكّل تراخي المجتمع الدولي، والولايات المتحدة بالتحديد، أهم عامل مشجع للنظام وللروس والإيرانيين للمضي بالحل الأمني المدمر. فلم يرتق أداء المجتمع الدولي، وخاصة مجلس الأمن، إلى مستوى مواجهة جرائم ضد الإنسانية يرتكبها النظام السوري ضد شعبه، على نحو همجي غير مسبوق في التاريخ الحديث، إذ استعمل كل الأسلحة التي جهّز جيشه بها “لمواجهة إسرائيل”، الذي قارب تعداده (سنة 2011) 350 ألف جندي يضاف إليهم قرابة مئة ألف رجل أمن في مختلف أجهزة الأمن والشرطة، يضاف إليهم “الشبيحة”، بما في ذلك استخدامه للأسلحة الكيميائية في آب/ أغسطس 2013 ضد غوطة دمشق. ولم يرتفع فعل المجتمع الدولي عن الاستنكار والإدانة، وفرض عقوبات دبلوماسية وسياسية على نظام لا تردعه مثل هذه العقوبات الخفيفة.
لعبت الإدارة الأميركية، والرئيس أوباما تحديدًا، دورَ الممانع لاتخاذ إجراءات أقوى، بدلًا من ذاك التراخي، وذلك لأكثر من سبب مثل: أن الوضع في ليبيا تحوّل إلى فوضى، بعد إسقاط نظام القذافي عسكريًا، بدلًا من قيام نظام ديمقراطي بديل فيها. ولعب ذلك دورًا في تكوين قناعة لدى أوباما بأن سورية ستواجه المصير ذاته، في حال سقوط نظام الأسد حربًا على يد معارضة سورية مشتتة ومشرذمة وغير مؤهلة لقيادة سورية ما بعد الأسد، وتسودها توجهات إسلامية عمومًا، مع فصائل إسلام راديكالي قوية تلقى دعمًا إقليميًا. كما أن أوباما -من طرف آخر- حرص على عدم إزعاج إيران التي أرادها أن توافق على إبرام الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، فأراد أن لا يسقط حليفها الأسد حربًا.
ثمة فرضية تقول إن المجتمع الدولي لم يكن بحاجة إلى التدخل العسكري، لوقف “الحل الأمني” وفرض تطبيق إعلان جنيف 2012، ووضع سورية على طريق الانتقال السياسي، فقد كان مجرد تهديد الولايات المتحدة بالسماح لفصائل المعارضة بامتلاك مضادات للطائرات كافيًا لإجبار روسيا والنظام وإيران على تنفيذ بيان جنيف الذي مثل حلًا أمثل لانتقال سياسي منظم في سورية، يحافظ على الدولة ومؤسساتها ويمنع الفوضى، فمضادات الطيران تُخرج طيران النظام من المعركة، وتهدد بسقوطه عسكريًا، أمام فصائل المعارضة التي امتلكت تفوقًا قتاليًا على الأرض، وسيطرت، منذ صيف 2012، على معظم الأراضي السورية، ولم يكن تنظيم (داعش) قد ظهر حينذاك، ولم تكن “جبهة النصرة” تشكل سوى فصيل صغير، ولم يكن الدمار والقتل قد بلغا مستويات مرتفعة بعد.
وتتمة الفرضية هي أن الإدارة الأميركية استعملت تهديد السماح لفصائل المعارضة بامتلاك مضادات للطائرات، ما لم تضغط روسيا على النظام للقبول بتطبيق بيان جنيف وبدء انتقال سياسي حقيقي، ولكن روسيا وإيران والنظام لم يرضخوا لهذا التهديد، التزامًا منهم بسياسة “كل شيء أو لا شيء”، وضمن منطق شمشون: إن كان لا بد من سقوط النظام، فلتذهب سورية إلى الفوضى مثل ليبيا. وهنا اعتمد أوباما استراتيجية لا انتصار عسكريًا لأي طرف، وهكذا تمُددت سنوات الصراع واستُكمل تدمير سورية، ماديًا ومجتمعيًا، في كارثة إنسانية هي الأكبر ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ثمة فرضية مكملة للفرضية السابقة، وهي أن الدول الداعمة للمعارضة تعلم هذا الوضع جيدًا، والتزمت بتعليمات أوباما بعدم توحيد المعارضة عسكريًا، كي لا تكون قادرة على تحقيق نصر عسكري، وعملت على لجم اندفاعتها، وعدم ربط العسكري بالسياسي، وهو أمر ضروري لقيادة أي معركة عسكرية على الأرض، وحتمي من أجل نجاح المفاوضات السياسية مع الطرف الآخر. لذلك تم تشكيل غرفتي عمليات (موك) في الأردن، و(موم) في تركيا؛ للسيطرة على فصائل المعارضة المسلحة، عبر ربط تزويدها بالمال والسلاح والذخيرة بهذه الغرف، وبذلك لم تدخل تلك الفصائل في أي معركة إلاّ بعد موافقة إحدى هاتين الغرفتين، وقد قامت هاتان الغرفتان بمهمتهما خير قيام.
خاتمة:
اجتمعت كلّ هذه الأسباب لتصنع الكارثة السورية التي لم تنتهِ فصولها بعد، بالرغم من أنها قد دخلت عامها العاشر، وما زال السوريون يدفعون الثمن على يد نظام مستبد، تدعمه إيران وروسيا، يدفعونه قتلًا وسجنًا وتدميرًا وتهجيرًا، على نحو غير مسبوق في التاريخ الحديث، وسط سماح دولي بحدوث هذه الكارثة، وبذلك تفقد الدعوات الإنسانية للمجتمع الدولي صدقيتها، وتزداد الحاجة إلى نظام دولي جديد يحمي الشعوب من بطش أنظمتها. مركز حرمون