الحياة الخفية لـ إيوريديس جوزماو: سوناتّا الألم والفقد/ حسن أبومازن
“ميلودراما إستوائية” بهذا الوصف تم تسويق الفيلم البرازيلي “الحياة الخفية لـ إيوريديس جوزماو” لمخرجه “كريم عينوز”، والذي فاز بالجائزة الكبرى لمسابقة “نظرة ما” للعام 2019 والتي تعتبر ثاني أكبر المنافسات في مهرجان كان السينمائي الدولي بعد جائزة السعفة الذهبية.
المخرج البرازيلي ذو الأصول الجزائرية “كريم عينوز”، يحوي سجله الإبداعي العديد من الأعمال الفنية الموزعة بين أفلام روائية طويلة وقصيرة، وأفلام وثائقية وبعض المسلسلات التليفزيونية، وقد سبق له الحصول على جائزة “منظمة العفو الدولية” ضمن فعاليات مهرجان برلين السينمائي في دورته الـ 68 عام 2018 عن فيلمه الوثائقي “مطار تيمبلهوف المركزي“.
درس “عينوز” الهندسة المعمارية في البرازيل قبل التحاقه بقسم الدراسات السينمائية في جامعة نيويورك، ليلتحق بعد حصوله على شهادة الماجيستير ببرنامج الدراسات المستقلة في متحف ويتني للفن الأمريكي، وقد سبق له المشاركة في مهرجان كان السينمائي مرتين، الأولى عندما قدّم فيلمه الروائي الطويل الاول “مدام ساتا” ضمن مسابقة “نظرة ما” عام 2002، ليعود بعدها ثانية في عام 2011 بفيلمه “الجرف الفضي” والذي عُرض ضمن مسابقة ” نصف شهر المخرجين”.
فيلم عينوز الجديد “الحياة الخفية لـ إيوريديس جوزماو” مقتبس من رواية أولى بنفس الاسم للروائية “مارثا بيتاليا” وحققت الرواية نجاحًا ضخمًا قبل أن يعدها عينوز للسينما بمساعدة كاتبي السيناريو موريلو هاوسر وإنيس بوتاجاري، والفيلم من بطولة كارول دوارتي وجوليا ستوكلر في أول أفلامهما الروائية الطويلة، كما شهد الفيلم حضور ملفت للنجمة “فيرناندا مونتنيجرو” والتي تحمل في جعبتها ترشيح وحيد لجائزة الأوسكار لأحسن ممثلة في دور رئيسي عن فيلم “وسط البرازيل“ 1998 للمخرج ذائع الصيت والتر ساليس.
اختار المخرج “ريو دي جانيرو” في خمسينيات القرن العشرين موقعًا لأحداثه، يحكي الفيلم قصة الأختين “إيوريديسي” ابنة الـ 18 عامًا وشقيقتها “جيدا” التي تكبرها بعامين، ومعاناتهما في ظل مجتمع ذكوري يمارس قهره ضد المرأة في إطار نظام أبوي صارم، إيوريديسي “كارول دوارتي” الخجولة الأكثر عقلانية من أختها، وتجيد العزف على البيانو وتحلم بالسفر إلى النمسا لدراسة الموسيقى في كونسيرفتوار فيينا، أما جيدا”جوليا ستوكلر” العنيدة والأكثر حرية وانطلاقًا تتعرف على بحار يوناني يعدها بالزواج لتهرب معه ذات ليلة دون أن تخبر أحدًا بما في ذلك أختها.
تتمحور الأحداث اللاحقة حول إيوريديسي التي تنصاع لوالدها وتتزوج ابن شريك أعماله، ليتعطل حلمها بالسفر إلى النمسا، فجأة تعود “جيدا” للمنزل بعد زفاف أختها بقليل، تحمل جنينًا في أحشائها بعد أن تخلى عنها عشيقها قبل الزواج، لتستطيع بالكاد العودة مرة أخرى للبرازيل، يخفي عليها والدها زواج أختها ويخبرها أنها سافرت للنمسا ثم يقوم بطردها من المنزل، لتواجه بعدها صعوبات الحياة كأم وحيدة تصارع ظروفًا مجتمعية قاسية لا تعترف بها ولا بابنها، تحاول مرارًا أن ترسل خطابات لأختها في النمسا ظنًا منها أنها هناك، وهي لا تدري أن إيوريديسي تحيا قريبًا منها في نفس المدينة.
ويبقى جمال فيلم “الحياة الخفية لـ إيوريديس جوزماو” في أن المخرج استطاع توظيف بعض العناصر كرسائل “جيدا” مثلاً بشكل مؤثر دراميًا، كما حرص على عدم حدوث اللقاء ليُبقي المشاهد حتى آخر مشهد يُمنّي النفس بلحظة درامية آسرة عندما تلتقي الأختان.
لا يـوجـد رجـال صـالـحـون:
عانت “جيدا” مرارًا من خيباتها المتكررة ممن صادفها من رجال، بداية من والدها قاسي القلب، وعشيقها الذي لا يقل انحطاطًا ولا دونية عن الكثير ممن قابلتهم بعد ذلك، تقابل في طريقها “فيلومينا” العاهرة المتقاعدة وتحيا معها في نفس المنزل، ويقوما على رعاية ابن “جيدا” الوحيد، كانت فيلومينا أم حقيقية لـ “جيدا” وولدها، وقبل موتها بقليل أقنعت “جيدا” بأن يتبادلا الأسماء وذلك لضمان انتقال ملكية المنزل لها مستقبلاً، وهكذا تصبح “أنّا مارجاريدا جوسماو” مجرد اسم منقوش على رخامة قبر تقف أمامه “جيدا” أو “فيلومينا” وفقًا لهويتها الجديدة، وتضع باقة من الزهور الصفراء على قبرها الافتراضي، في نفس اللحظة التي تعزف فيها إيوريديسي مقطوعة “شوبان” الآسرة وذلك خلال تجربة الأداء التي قد تحملها بعيدًا، هناك إلى فيينا، وهي تتخيل أختها معها ويرقصان على أنغام موسيقى خفية.
“كحلم يقظة مشبّع بالصوت والموسيقى والألوان، لتتناسب مع عمق مشاعره”
جاي لودج “فارايتي”
بداية من افتتاحية الفيلم ومشاهدها الموحية وسط غابة كثيفة حيث يظهر المحيط وفي الخلفية يظهر تمثال “المسيح الفادي” الشهير في ريو دي جانيرو في وقفته الأبدية على قمة جبل “كوركوفادو“، ندرك أننا إزاء تجربة بصرية مختلفة لمخرج مختلف، له العديد من المساهمات الفنية في المعارض الفنية الدولية كـ بينالي متحف ويتني، وبينالي ساوباولو، عزز من ذلك تعاونه مع مديرة التصوير الفرنسية “هيلين لوفارت” صاحبة التاريخ الطويل والأفلام المهمة كفيلم “أمي” للفرنسي كريستوف أونوريه، وفيلم “لمّا شفتك” للفلسطينية آن ماري جاسر، وكذلك التجربة المهمة “بينا” مع المخرج الألماني “فيم فيندرز”، ولها أيضًا تجربة مهمة استطاعت أن تجذب أنظار محبي السينما في عام 2018، عندما تعاونت مع المخرجة “أليس رورفاكر” في الفيلم الإيطالي الرائع “سعيد كـ لاتزارو” والذي نال إعجابًا جماهيريًا ونقديًا وحاز على جائزة أفصل سيناريو من مهرجان كان السينمائي في نفس العام.
تعمّد “عينوز” استخدام المرايا والأطر في كثير من المشاهد، ليمكن المشاهدين من رؤية شخصيات فيلمه كبورتريهات تفضح أزمتها النفسية، وتؤطر حصارها في ظل مجتمع بطريركي أبويّ يعتبر أن المرأة خلقت كي تكون زوجة مطيعة وربة منزل تربي الأولاد وكفى، وبالطبع لا يمكنها أن تحلم بالعزف في مسارح فيينا العريقة، ولا حتى أن تعمل بين الرجال في تلك الوظيفة الشاقة في حوض إصلاح السفن.
وكعادته في أفلامه السابقة طرح “كريم عينوز” موضوع حقوق المثلية في إطار التلميح ودون الإفصاح، حيث جاء على لسان “جيدا” في إحدى رسائلها لأختها أن فيلومينا أصبحت أمي وأبي وأختي، البعض فسّر ذلك بأن هناك علاقة تجمع ما بين “جيدا” و”فيلومينا” التي كانت تأويها في منزلها.
أورفيـوس كـ أنثـى:
تعتبر أسطورة أورفيوس من أكثر الأعمال الملهمة لمخرجي السينما منذ نشأتها وحتى الآن، أفلام مثل “ثلاثية أورفيوس” للفرنسي جان كوكتو و”أورفيوس الأسود” لـ مارسيل كامو، و”التانجو الأخير في باريس” للمخرج بيرناردو بيرتولوتشي، كلها أفلام اعتمدت على أسطورة أورفيوس كمرجع درامي لحبكتها، وفي العام الماضي عُرض فيلمان تناولا الأسطورة بشكل عصري وبطريقة غير مباشرة؛ الأول فيلم “بورتريه لسيدة تحترق” للفرنسية سيلين سيكاما، والآخر هو فيلمنا هذا “الحياة الخفية لإيوريديسي جوسماو”.
وفقًا للأسطورة، “يوريديس” زوجة أورفيوس تتعرض للدغة أفعى قاتلة وهي تهرب من عشيقها “أريستايوس”، فتموت على أثرها، يحزن زوجها كثيرًا لموتها ويبكيها شعرًا وغناءً، ينجح أورفيوس في إقناع “شارون” المكلف بنقل الموتى للعالم الآخر في توصيله للعالم السفلي، وبعد اجتيازه للمشاق والصعاب ينجح في سحر وفتنة “هادس” إله العالم السفلي بموسيقاه، والذي يسمح له في المقابل بالهبوط إلى مثوى الأموات واستعادة زوجته، شريطة ألا يلتفت وراءه وينظر لها، وفيما هما خارجَين من العالم السفلي وفي آخر لحظة ينقض أورفيوس هذا الشرط الشيطاني ويفقد زوجته للأبد.
قد تبدو التماثلات بين شخصيات الفيلم وتلك التي في الأسطورة غير جلية على نحو مباشر، ولكم عند تحليل الفيلم سوف يتضح أن هناك صلات عديدة مع البناء المثيولوجي للأسطورة، بداية من اسم البطلة الذي يتطابق مع اسم زوجة أورفيوس “يوريديس” ولكن بنطقه في اللغة البرتغالية، وكذلك من مجموعة المشاهد الأولى في الفيلم حيث تظهر الأختان وهما تجلسان على حافة جرف صخري وتنظرا للمحيط الواسع، ثم تفترقا وتفقد كل منهما أثر الأخرى في إشارة بليغة للفقد في الأسطورة القديمة، وبالطبع لا يمكننا أن نعتبر “أنتينور” زوج إيوريديسي مرادفًا لشخصية أورفيوس في الأسطورة، فـ “أنتينور” الزوج الشبق الذي يعمل كمحاسب في أحد البنوك، لا يمكن اعتباره بمثابة دليل يهدي زوجته طريق الخروج من عالم “ريو دي جانيرو” القاسي، ولا حتى سندًا لها في تحقيق حلمها كعازفة بيانو ماهرة.
أما “جيدا” فيمكننا اعتبارها الصورة الأنثوية من أورفيوس، فهي من البداية كانت تدفع أختها للأمام وتساندها في حقها الشرعي في الحلم، حتى إنها فكرت في تزوير توقيع والدهما إذا ما رفض إلحاقها بكونسيرفتوار فيينا، بل حتى يمكننا أن نعتبر إيوريديسي نفسها مرادفًا لشخصيتي “يوريديس” و”أورفيوس” لما لديها من صفات تشبههما، كذلك تشابهت شخصية “فيلومينا” مع حارس العالم السفلي وهي التي كانت بمثابة الراعي والملاك الحارس لـ “جيدا” بعد أن رفضها المجتمع وتركها وحيدة.
أخيرا تجلت براعة “كريم عينوز” في استطاعته أن يقدم لنا تحفة بصرية وميلو دراما ملهمة ببساطة ويسر، سائرًا على درب أستاذه “والتر ساليس” في تصويره للبيئة الغنية بالألوان والحياة، ليلفت نظر العالم أجمع إلى السينما البرازيلية في عامها الاستثنائي والتي نجحت في أن تحصد فيه جائزتين مهمتين من مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته السابقة، وليتركنا نحن كمشاهدين نحيا مع “جيدا” ورسائلها التي لم تصل، ولقاء تمنينا أن يحدث، ونظرة كنظرة أورفيوس لحبيبته “يوريديس” كانت السبب في فقدانها للأبد.
لمشاهدة الفيلم اتبع أحد الروابط التالية