مرثية لأمي ووداع متأخر/ ياسين الحاج صالح
رحلت أمي، عجاجة الحسين، في 25 نيسان 1990، وكنت مع أخوين لي في السجن، فلم نكن في وداعها. هذه مرثية لها، بعد ثلاثين عاماً من الغياب.
كانت قد انقضت ست سنوات ونحو ثمانية أشهر على رحيلك حين خرجتُ من السجن. زمن طويل. لم أجد البيت حين وصلت إلى الرقة في الحادية عشرة ليلاً، سألتُ عنه في الشارع مرتين، وفقط الشخص الثالث هو من أرشدني إليه. هل كان يضيع مني لو كنتِ هناك؟ كنت على الأقل بذلت جهداً أكبر لإبلاغكم أنه أطلق سراحي، ممنياً النفس بفرحة لقائك، بحضنك وقبلاتك. لم أشعر بالحاجة لذلك في غيابك. باكراً صباح اليوم التالي قصدنا قبرك، خالتي يازي ورفعة وخالد. أردتُ أن أسلّم عليك. وقفنا دقائق. كان الجو بارداً في ذلك الصباح قبل نهاية العام بعشرة أيام. بصوت باكٍ، قالت أختك الوحيدة: إنتو قتلتوها!
أخذنا خالد بعدها في سيارته في جولة، مررنا على الجسر الشرقي على الفرات. كان ماء أقل يسير شرقاً.
كان مصطفى وخالد قد خرجا بعد غيابك بنحو عام وثمانية أشهر. مصطفى تزوج، وكان له ولدان وقت خروجي من السجن، صاروا خمسة في النهاية. رفعة كانت تزوجت أيضاً، ولها ولدان وقتها. صاروا أربعة. مجموع أولاد ابنك وابنتك يعادل أولادك التسعة. حملتِ أنت وولدت 11 مرة. عبد الله، أول من أنجبت، مات في أيامه أو أسابيعه الأولى. وكذلك التوأمان عفيفة ولطيفة، وكانتا أكبر مني مباشرة. إبراهيم، زوجك وأبونا، تزوج بعدك بعام. سمى ابنه البكر عبدالله، على اسم أبيه واسم ابنكما البكر الذي لم يعش. أنجبت زوجته ابناً ثانياً سماه عبد الرحمن.
ورغم أن أصغر أبنائك، فراس، كان في التاسعة عشر وقت زواج أبينا، وجدنا بعد بناء إبراهيم عائلة جديدة أننا أبناء عجاجة أكثر. أمنا التي رحلت وهي دون الستين.
بكرك محمد كان متزوجاً قبل غيابك، وكان لديه سَميِّي ياسين ثم مي. قالت لي رباح إنك كنت تلومينها على العناية بمي الصغيرة وتطلبين عناية أكثر بياسين. وقت خروجي من السجن قبل نهاية 1996 كان لمحمد ورباح ابنة أخرى، مايا، وبعد ذلك جاءت يارا. مي تزوجت قبل أربعة أعوام، ومايا تزوجت قبل أقل من عامين. لبِكرك اليوم حفيد، ابن مي، اسمه آدم.
لديك أنت اليوم 24 حفيدة وحفيداً، أنجبتهم ابنتك الوحيدة وستة من أولادك. عشيرة كاملة.
ابناك اللذان أمضيا سنوات في السجن انفصلا عن زوجتيهما. ثالثهم، هذا الذي يخاطبك من وراء ثلاثين عاماً له قصة رهيبة. والنسمة فراس، أصغر أبناءك، له قصة رهيبة أخرى.
*****
ما كان صعباً في شهوري الأولى بعد السجن هو أنك لم تكوني هناك. أصحو من نومي وحيداً في البيت. الشباب في أعمالهم، ورفعة مع عائلتها في بيتها، وأنا مثل غريب في بيت بلا نساء. أسأل نفسي إن كنت قبل السجن أنال رعاية مميزة منك. أتذكر وقت كنت أعود إلى البيت من الجامعة في حلب أني كنت مدللك. كنت تعدين لابنك النحيل أطيب ما يحب من طعام بعد استيقاظه صباحاً. أخجل أن أسألك: هل فعلت مثل ذلك لأبنائك الآخرين؟ أعتقد أنك ربما فعلت لمن كان يعود من الخدمة العسكرية، أو للكبير الذي صار طبيباً، أو للصغير الذي كان طفلاً ثم مراهقاً وقت غيابك، فَرجلاً شاباً في غيابي، أو للفتاة الوحيدة، أو للزوج الذي يقول أولادك إنه كان يتوجه بما تشيرين عليه، وإن أعطيته دوماً الصدارة والواجهة. أخجل أن أسأل إن كنت حصلت على امتياز خاص، أخجل لأني أشعر أني فعلت أشياء كثيرة من أجل أن أحصل على امتياز وإشغال أفضل موقع عندك.
تذكرين وقت أخذني أبي إلى الرقة في بداية العام الدراسي 1970/71، كنت في الصف السادس وكان يُحتمل أن يسجلني في مدرسة في المدينة، فأبقى فيها مع إخوتي محمد ومصطفى وصالح. غيّر رأيه لسبب ما لحسن الحظ، ولم أعش مع إخوتي في الرقة إلا في العام التالي. وقتَ عُدنا إلى الجرن قلتِ لي: بكيت عليك! حسّبْتك رح تضل هناك! كم أثّر فيَّ ذلك. كان أول اعتراف بالحب من طرفك. كنت لا تزالين تحملين وترضعين وترعين عائلة من ستة وقت بدأت أتذكر، ثم سبعة ثم ثمانية ثم تسعة، ولم تكن هذه الحياة الممتلئة بصنع الحياة ورعايتها بالمعنى الحرفي للكلمة تترك فرصة للتمييز. كان الحب لا يتميز عن الحياة، حباً للكل، لحياة الكل. وجدتِ مع ذلك الوقت لتعبري عن حبٍّ للابن الأخرق لن ينساه وهو حي.
*****
كان ربيع 1981 وقتَ زُرتِني لأول مرة في السجن مع أبي. كانت هذه تجربة جديدة عليك وعلى أبي. وعليّ طبعاً. كان إخوتي قد ماطلوا لثلاثة أشهر أو أربعة قبل أن يبلغاكما بأني اعتقلت. أسقط في أيديهم في النهاية، وكان لا بد من الاعتراف. في الزيارة كنتما قويين: لا دموع ولا شكوى ولا ضعف. كان هذا عظيماً، وأقدر أنكما اتفقتما عليه قبل الزيارة لشد أزر الابن السجين، وأنك ربما انفجرت باكية بعد مغادرتكما. ابراهيم لا بد أنه سيبذل جهداً كي لا يبدو متأثراً. لم يكن ثمة مجال لقبل أو أحضان أو لمسات للأيدي مع رابع أولادك الذي كان وقتها في العشرين.
كانت الزيارة لعشر دقائق بالكاد ويفصل بيننا، السجين والزائرون، شبكان حديديان، بينهما مسافة نحو متر واحد يتمشي فيها سجان جيئة وذهاباً. قال أبي: أيام السجن معدودات! كثف ابراهيم خبرة بشرية عابرة للأزمنة. كانت معدودة فعلاً: 5813 يوماً، منها 3425 شهدتِها أنت، وزرتني خلالها عشرات المرات قبل أن تزوري معي ابناً آخر، ثم ابنين. كنا معاً في سجن واحد وجناح واحد، لحسن الحظ السيئ!
أعطيتماني كلاكما في زيارتكما الأولى مالاً، كان يتناوله السجان ويتفحصه قبل أن يسلمني إياه على الطرف الآخر من الشبك. وقت عدت إلى مهجعي وجدت أن المبلغ 1200 ليرة، ما يكفي في السجن وقتها لخمسة شهور أو ستة. كنت موسراً في السجن، وأخويّ كذلك، طوال سنوات حياتك.
سُجنّا لأننا كنا ضد حافظ الأسد. ربما كنت لتشرحين الأمر بهذه الصورة لو سُئلتِ. كان هذا هو لب الحقيقة. سَجَنَ الطاغية الحقود كثيرين وقتل كثيرين، وجعل من نفسه فوق الدولة وفوق البلد، وولى ذوي قرباه المناصب الحساسة، فخلق مشكلة كبيرة نخوض في أوحالها المدماة اليوم بعد رحيلك بثلاثين عاماً. ما لا تعلمينه يا سيدتي أنه أورث ابنه الحكم بعدك بعقد.
لكنك تعرفين أساس المشكلة. وقت قتل ابن ابن عمك في حماة 1982، وكان في جيش النظام، وكنت في عزائه، لمحتِ صورة حافظ الأسد معلقة على باب أو جدار قريب، هجمت عليها، انتزعتها من الجدار ودستها بقدميك، وأنت تصرخين: يا كلب! يا كلب! غطت عليك النسوة الأخريات ولم يتسرب الأمر. لو عُرف لكان أتباع الكلب اعتقلوك وعذبوك وأهانوك، لكنت سجينة مثل ابنك، ولخبرتِ وضعاً لا يُصدَّق، ولم تكن لك خبرة سابقة فيه.
هذا ما وقع لكثيرين. وجدوا أنفسهم أمام أوضاع لا يعرفون كيف يتصرفون حيالها. تصرفوا وفق إحساسهم بالعدل، أو حسهم السليم. ولم يكن هذا هو الدليل الصحيح إلى مقتضى السلوك في زمن حافظ الأسد. سُحقوا. كان هناك كائن جديد اسمه دولة الطغيان والتمييز والأبد، شيء متوحش وبهيمي. في سنوات الشباب من عمري كان الناس يفكرون في أي شيء كمرحلة تعقب شيئاً ويعقبها شيء ينبغي أن يكون أفضل، وبين السابق واللاحق تتابع ضروري. وفي عمري اليوم يا أمي، وأنا اليوم في مثل عمرك وقت رحلت، فقدنا هذه القناعة. لم نعد نملك ذلك الإيمان المعزي بأن ما سيأتي بعد المتوحش والبهيمي هو شيء أكثر إنسانية أو أقل بهيمية فحسب. نعمل من أجل ذلك دون ضمان مسبق غير عملنا نفسه.
البهيميون انتقموا منك بعد 22 عاماً من الرحيل. حطموا شاهدة قبرك ودونوا شهادتهم بأنفسهم عليها. كانوا يعرفون أن «من خلّف ما مات»، وأن حياتك مستمرة في معارضي الكلب من أبنائك، وأرادوا قتلك من جديد، وقتلهم. كانت أختك قد رحلت قبل سنوات وقتها، فلم يتسن لي أن أقول لها أن من لاحقك بعد الرحيل ودنَّسَ قبرك، ومن كان سجن أبناءك، هو القاتل. وكم قتل من بعدك يا أمي!
*****
تعملّتُ أشياء في السجن. قرأتُ كتباً وعشت بين أناس متنوعين، من رفاقي وغير رفاقي، وخرجت في السادسة والثلاثين. هذا زمن طويل، يتجاوز السنوات التي عشتُها في كنفك، ولداً صغيراً، ثم على تقطعٍ مراهقاً. تعرفين سجناً واحداً كنت فيه، سجن حلب المركزي في المُسلميّة، ولا تعرفين سجنين آخرين، قضيت فيهما مجتمعين أقل من الأول، بالكاد خمس سنوات. في عدرا قرب دمشق، وفي تدمر الذي ربما سمعتِ أطرافاً من سيرته المروعة.
تتذكرين أنك وأبي كنتما تلوماني على تخريب عيني بقراءة الكتب في عطلة الصيف، وقت كنت في الإعدادية. وفي وقت لاحق ربما ظننتما أن الكتب خرّبتني كلياً. لا يخلو الأمر بصراحة. إلا أن ابنك الذي يقترب من الستين لا يزال يظن أن هذا تخريب جيد. وهو اليوم حريص على نصيبه من تخريب غيره.
لا تعرفين أني صرت كاتباً. فضلتُ الكتابة على الطب، وفكرتُ فيها كتعويض محتمل عن سنوات السجن. مرة في السجن في مساء شتوي بارد ومعتم، وكانت الكهرباء مقطوعة، سألت نفسي: ماذا أريد أكثر من أي شيء آخر؟ وكان جوابي هو المعرفة، أن أعرف وأن أكتب. هل كان الأمر يستحق؟ هل كان التعويض عادلاً؟ ولا بأي حال يا سيدتي. لا شيء يعوض غيابك، ولا شيء يعوض غيابي عنك سنوات الشباب تلك. لكن هناك تقليل من الخسارة، وهناك خسارة دون تقليل. الكتابة تقليل من الخسارة.
ربما بدوت لك حين غبت شخصاً يضيع عمره، وعمرك. ليتني قلت لك إني أفضل الكتابة على الطب، إذن لربما فكرت بأني ربما أتعلم شيئاً غير تضييع عمرين. لولا السرطان لكان يمكن أن تعيشي إلى اليوم، ولكنتِ في نحو التسعين. ولكنتُ وضعت بين يديك كتابي عن السجن. قلت فيه إن السجن كان طفولة ثانية، وإن طفولتي الأولى لم تؤهلني للحياة بصورة مُرضية. هل يزعجك ذلك يا سيدتي؟ سامحيني. ربما ما كنت لأقوله لو كنت حاضرة وقت خروجي من السجن. إذ لعدت ذلك الولد يستأنف بصورة ما طفولة ومراهقة انقطعتا. لم أعد إلى طفولتي ومراهقتي بعد السجن، فكأنهما ضاعا إلى الأبد. هذه دائرة لم تكتمل. ستتبعها دائرة ثانية، ثم ثالثة.
لكن في غيابك، وكم كان حاضراً ذلك الغياب في شهوري الأولى في الرقة بعد السجن، اضطر من كان عليه أن يصير في النهاية رجلاً لأن يسند سنوات غيابه هو إلى سجل مغاير، لغيابك مكانه الطبيعي فيه، مكان الفطام: سجل السجن. وفي غيابك استقر أمري على أن أكون ابناً لأم أخرى، جافية: السجن نفسه.
هناك امرأة أخرى كانت تنزعج بالفعل من شيء قلته في ذلك الكتاب نفسه عن الحنين إلى تلك الأم الأخرى: امرأتي سميرة الخليل. سأحدثك عنها لاحقاً. لم يُرضِ سمور، وكانت نفسها في السجن لأكثر من أربع سنوات، أن زوجها كان يتملكه حنين إلى ما يمتنع الحنين إليه: سنوات الخوف والحرمان. بدا لها في ذلك شبهة احتجاج على الحاضر، حياتنا المشتركة. لم يكن كذلك بالقطع. كان شوقاً بالذاكرة إلى تجربة مُغيِّرة.
أردت في السجن وبعده أن أتغير، ألا أكف عن التغير. لم أكن أعلم كم يمكن لهذا أن يكون مأساوياً.
*****
لا يتذكر الأولاد ميلادهم. أنت تتذكرين ولاداتك بالتأكيد. أظن ذاكرة النساء مشدودة نحو الحياة والحب، وربما ذاكرة الرجال نحو تجارب قاسية يحدث أن ينجوا منها. ليس للرجال تجربة قاسية ومُغيِّرة، وحبيبة، تعادل الولادة، وهم ربما يبحثون عن المخاطر من أجل ذلك: كي يلدوا. لعلي أفهم الآن احتجاج سميرة على حنيني إلى السجن: النساء يحتجن أقل من الرجال إلى السجن من أجل أن يتغيرن. يتغيرن بالحب أكثر، وبالولادة.
كنت تقولين إني ولدت في الصيف بعد الحصاد، لكني مسجل في شباط. ميلادي الضائع هذا قلّما عرفتُ كيف أتعامل معه.
ورغم طفولتيّ المزعومتين، فإن من تعرف الطفولة فعلاً هي أنت. قبل حين سمعت من امرأة ألمانية، لها ابنة وابن بالغين اليوم، أن الأطفال في أعوامهم الباكرة للأمهات، وأن الرجال لا يستمتعون بالأطفال إلا وهم في عمر أكبر. لا أعرف إن كان هذا صحيحاً، لكني متأكد أننا في سنواتنا الباكرة كنا أبناءك أنتِ أكثر من أبناء أبراهيم: تلديننا وترضعيننا وتنظفيننا. كان لديك دوماً رضيع في حضنك أو مُكوراً على ظهرك أو في السرير، وأنت تقومين بأعمال البيت. في الكوارة ينام الرضيع، والأم تتحرك وتعمل، فكأن الكوارة رحم خارجي. اليوم يا أمي أرى نساء يحملن أطفالهن في حمالة خاصة على الصدر. ورجال كذلك. لكن هذا في الشارع، وليس في البيوت. الكوارة المعقودة الطرفين على الجبين كانت حلاً لتقوم المرأة بعملين أو ثلاثة في الوقت نفسه: تكنس البيت وترش أرضيته بالماء، تخض اللبن، ترد الماء من البئر، وتحمل على ظهرها الصغير الذي كان قبل قليل في بطنها. وربما تقطع عملها لترضعه، أو لتنظفه وتناغيه، بينما هي تُمهِّده.
ألا يكفي ذلك للتفكير في عدم عدالة نِسبة الأولاد للآباء؟ في هذه النسبة سلطة هي التي جعلت من زواج الرجل بأكثر من امرأة أمراً بديهياً في نظره. لو كانت نسبتهم للأم، لكان زواج المرأة بأكثر من رجل هو البديهي. لا تُحبّين هذا الكلام، أعرف. قبلتِ أن للمرأة دوراً ثانوياً مقابل الرجل. كانت الطبيعة هي ما تقضي بذلك في نظرك، لكن ابنك لم يعد يقبل هذا.
رغم ذلك، قالوا لي إنه وقت كنت تتأهبين للرحيل، وعينك على الجدار الذي علقت عليه صور أبنائك الثلاثة الغائبين، أوصيت بالفتاة الوحيدة، رفعة. قلتِ إننا، مصطفى وخالد وأنا، «زلم»، و«ما ينخاف عليهم». لقد فكرت كنسوية عند الضرورة.
قالوا لي كذلك أنك فضلت أن تدفني في الرقة، كي تكوني قريباً من أبناءك.
أبناءك لم يبقوا في القرب يا أمي.
*****
كنت تصحين باكراً، قبل شروق الشمس، تخبزين، وتجهزين الفطور، شاي حلو وجبنة بيضاء وتمر، أو دبس وحلاوة، ثم زيت وزعتر في وقت لاحق. تلُمّين الفِرش، تلبسينا ثيابنا وترسلينا إلى المدرسة. وفي غيابنا ترتبين البيت وتنظفينه، وتجهزين الغداء، وتحملين الماء إلى البيت من بئرنا القريب قبل أن يجف، فتأتين بالماء في سطل على رأسك من مكان أبعد، وتجهزين الغداء ثم العشاء. وفي الصيف تحلبين نعجاتنا مرتين في اليوم، وتسخنين الحليب ثم تتركينه يبرد قليلاً قبل أن تخثريه، وصباح اليوم التالي تخضين اللبن الخاثر وتصنعين منه الزبدة، وتتركين اللبن العيران للشرب، أو تصنعين منه «عيش لبن» مع القمح المسلوق. وعند المساء تمدين فرشنا، وتفكين حزامك، «تتحلّلين»، وقد تقولين: يا ويلي، انهد حيلي!
بهذه الأعمال المتكررة يوماً بعد يوم صنعتِ بيتاً. وقع عليك أن تكوني غير حرة كي تعطي حياة لهذا العدد الكبير. لم تكوني رهينة البيت، لكن الذهاب بعيداً كان من اختصاص الرجل.
عائدين من المدرسة في سنوات الطفولة، تكونين في انتظارنا والغداء جاهز: خبز الصاج الذي خبزته إنت، و«الخاثر» الذي أعددته أنت من حليب غنم تحلبينها أنت، وبيضة مشوية أحياناً شويتها أنت على طرف جمر الحطب الذي خبزت عليه. كنت أتبرم من تناول الأشياء نفسها تقريباً كل يوم. في السجن فقط، ثم بعده، صار خبز الصاج ولبن الغنم مثال أشهى طعام في العالم.
كنت أراك تتجملين، تضعين الكحل على رموش عينيك الجميلتين، بلون حدقتيك الأزرق المخضر، وتفرقين شعرك بعد الاستحمام بمشط تغمسين أسنانه في زيت الزيتون. وتُحنِّينه بين وقت وآخر. في حياة الشظف، كانت هذه أفعال كرامة، ارتفاع بالحياة عن الضروريات وتكريم للنفس.
*****
في الصيف تحصدين مع أبي ومع أولادك الأكبر، وبعد الحصاد تحتطبين، تحملين على ظهرك «سفير» القمح أو في الخريف حزمة من أعواد القطن على ظهرك إلى البيت. ومتى كان موسم سلق القمح ثم دق الحنطة في الجرن، ثم صنع البرغل من الحنطة المدقوقة على الرحى. كنت تدقين بالميجنة الخشبية القمح الذي سبق سلقه وتجفيفه، تبللينه بقليل من الماء وتنهالين عليه بالميجنة، ثم تخرجين منه الجواش.
بم كنت تفكرين وأنت تعملين طوال الوقت؟ ماذا كنت تقولين لنفسك؟ هل كان الزوج يراك ويقدرك؟ هل كان يقول ذلك؟ تفكرين في صورة بيتك وأولادك في القرية؟ وفي وقت لاحق تبكين مشتاقة للأولاد الغائبين في المدارس في الرقة، أو في الجامعة أو الجيش؟ هل يأكلون جيداً؟ هل هم مرتاحون؟ هل الحياة لطيفة معهم؟ لا يُطلعونك على عوالمهم، يريدون أن يكونوا مختلفين عن أمهم وأبيهم. تفكرين في أمك العجوز التي توفيت وقتَ كنتُ أنا في البكالوريا، في أخيك عويد الذي لم يكن يصوم وليس فقط لا يصلي، ولا حتى في المناسبات، يدخن ويسعل طوال الوقت، قبل أن يتوقف عن التدخين، ويصير عابداً زاهداً صائماً مصلياً، صوفياً، و…يموت.
كنت تبكين في الجنائز مع النساء. كانت أصوات النعي النسوية الحزينة تقطع القلب فعلاً. يا له من اختراع رهيب ذلك البكاء المنغم، «النِّعّاوة»، وخاصة حين يصدر من امرأة فاقد.
كان يحُرُّ قلبك أن قدراً من العزلة ضُرب على بيتك، واجهتِهِ مع زوجك بالتعالي، وزرعتما في أولادكما هذا التعالي. كان الأولاد عزاءك وعزوتك. وإبراهيم الذي بعد «جهْلة» مبكرة ونية معلنة بالزواج من جديد قبل ولادتي، عاد رجل العائلة الذي يعتني ببيته ومِلكيته وأولاده، فلم تعودي مُلوّعة من هذه الجهة. وكان فخوراً بنظافة أولاده، وبأن أم محمد تبقي البيت مفتوحاً للدرّاب والضيف العابر. مرة كنا مدعوين مساء إلى قرية الفارس المجاورة للجرن. كان بين المدعوين أبي وعمي محمد وآخرون، وبينهم أنا، وكنت أخذت البكالوريا لتوّي. ونحن في بيت مضيفنا حلّ رجلان يعملان بائعين جوالين على عربة. قالا إنهما قدما من شمال، ومرا بقرية الجرن، واستضافتهما في بيتها الواقع غرب القرية امرأة ليرتاحا ويتناولا طعاماً. قالا إنها امرأة بمئة رجل. أبي الذي عرف أنك المعنية عاود سؤالهما عن موقع البيت الذي استُضيفا فيه، ليعلم الجميع أن امرأته هي موضع الثناء. كان فخوراً، وشعرتُ من جهتي بالحرج. هل أبلغك لاحقاً بما سمع؟ هل عبر لك عن تقديره لك وسعادته بما فعلتِ. أما أنا فلم أخبرك. أتحرج من التعبير العاطفي. يا لغباء قلب المراهق!
وفي الأفراح كنت تهلهلين، وتنقلين الفرح. كانت «هلهولتك» من الأطول نفساً بين النساء.
لم تدخني يوماً. لكن أذكر في أمسية من صيف عام 1979 أو 1980، في بيتنا المعمر حديثاً في الرقة، انك كنت تدخنين سيكارة، ربما ضيافة من أحد أبنائك. بدوت لي مستمتعة بها، وكان وجهك مضيئاً. كانت تلك حقبة ذهبية قصيرة، أعقبت تخرج محمد طبيباً، وكنت أنا في الجامعة، وتسير حياة أبنائك الآخرين على نحو يَسرُّك.
شعرتُ وقتها أنك كنت سعيدة. تتعبين أقل من قبل، والمتاعب المادية أقل من قبل. كنت في نحو الخمسين وكانت الحياة تبتسم لك. صورتك وأنت تدخنين تلك السيكارة النادرة ترمز في ذاكرتي لتلك السعادة. أحببت ذلك منك، ولم أقل لك أني أحبه. لم أكد أقول لك شيئاً.
*****
هل تذكرين أنكما ضحكتما علي، أنت ورفعة، حين ساءلت خالد الذي كان يدمدم شيئاً ما: شجعد (ماذا) تتكركم؟ كان الصحيح: تتدركم!
كنت ربما في الخامسة عشر، لكن كأني لم أكن أجيد الكلام. كنت أقرأ وأكتب كلمات، لكن لا أتكلم، أو بالأحرى لا أُعبّر. أردتِ ذات مساء أن أروي لكم قصصاً كنت تعرفين أني أقرأها، ولعلي أنا من تبجح بقراءتها أمامك. لم أنجح. ظننتِني بخيلاً. لكن ما كنت متكلماً، ولم أكن أستطيع أن أروي.
كان بودي أن أتكلم، أن أكون راوياً لك لمرة واحدة على الأقل وأنت تستمعين. أن يكون لدي ما أعطيه لك، ما تأخذينه وتقبلين به.
لم يحصل. ولم يحصل أن عبرت لك. كنت عصبياً لأني لا أجيد التعبير، الكلمات تستعصي عليّ.
ولأني لا أُعبّر فلم أقل لك كم كان قاسياً أن أذهب وأنا في الحادية عشر إلى الرقة من أجل المدرسة. لم أقل لأننا لم نكن نعبّر، لم يكن لما نقوله صلة بما نحس به. كان إبراهيم الذي لا يطيق التذمر يُصعِّب علينا الأمر، ويُطبِّع دفن المشاعر في النفس.
لكنك لا بد أنك عرفت كم كان الأمر قاسياً من فرحتي بوجودك في غرفتنا المستأجرة وأنا عائد من المدرسة بعد ظهر يوم من أسابيعي أو أشهري الأولى فيها. ظل حلمي كل يوم على درب العودة من المدرسة بعدها أن أجدكِ هناك.
هل كان في شتاء العام نفسه أم شتاء العام الذي تلاه أن بكيت بكاءاً مراً وأنا في انتظار البوسطة التي ستأخذني إلى الرقة بعد عطلة كنت فيها عندك في القرية؟ لم تأت البوسطة يومها. كان شتاءاً ماطراً والطرق موحلة، وانقطع السفر. لكنك عرفتِ، وأنا سعدت بالبقاء، وخجلت لأني بكيت.
لم أعبر عن خجلي، لم أكن أعبر.
كنا نتكلم طبعاً، نطلب أو نأمر أو نبلغ أو نشكو أو نتفاخر أو نغتاب أو نشتم، لكن ليس لنعبر لبعضنا عن حب أو شكر أو أسف، أو لنروي حكاية أو نسرد حدثاً بتفاصيله وببساطة. هذا ليس لأننا نخجل، نخجل لأننا لم نألف التعبير، لأننا تركنا الحب والشكر للطبيعة، طبيعي أن تحبيننا وأن نحبك، طبيعي أن الأم مشكورة، لذلك لا نقول شكرنا.
سامحي ولدكِ الذي كان ينفعل لأنه لا يعرف كيف يتكلم. لقد صار كاتباً في النهاية لأنه لا يجيد التعبير، وليس لأنه يعبر جيداً.
*****
بالقول إن السجن كان طفولة ثانية، هل كنت أهرب من الطفولة الأولى؟ أرفض العودة عليها، أو ربما أنقم على أنها قطعت بقسوة أكثر من مرة واحدة، وأنه برحيلك أثناء غيابي ضاعت فرصة وصل ما انقطع؟
إذن، سأتكلم على طفولة ثالثة.
في الطفولة الأولى كنت أنت الشخص الرئيس. لم أعرف ذلك إلى حين انفصلت عنك بعد ما يزيد قليلاً على أحد عشر عاماً في كنفك. كان في سبق خوض محمد ومصطفى وصالح التجربة نفسها ما يهونها بعض الشيء، وكذلك أني كنت ألقاك بين حين وآخر وأقضي الصيف كله إلى جانبك.
ومن كان الشخص الرئيس في التجربة المكونة الثانية، السجن، غير حافظ الأسد، سجاننا العام؟ عشت الطفولة الثانية أسيراً عند العدو. هذا الذي حبسني وقَتَلك.
وكان لي في الطفولة الثالثة امرأة رعتني مثلما فعلتِ أنت في الطفولة الأولى. هناك أوجه تماثل غير قليلة بين الطفولتين الأولى والثالثة، منها أنهما بدايتان كبيرتان، تشاركهما في ذلك الطفولة الثانية، ولكليهما بعد ذلك علاقة بالكلمات والكتب، ولكن يجمعهما بخاصة الحب، حبكما، ثم أنهما بترتا بتراً مؤلماً معاً بعد وقت متقارب: واحدة وأنا في الحادية عشر عام 1971، والثانية بعد نحو 11 عاماً أيضاً في عام 2013.
اسمها سميرة، وهي من حمص.
أبوح لك بسر؟ منذ ما قبل خروجي من السجن كنت أنصح نفسي بعدم الزواج لأني تعرفت جيداً على هذا البري المتوحد الذي لا يهدأ باله ولا يستقر هو على حال. صار البري متوحداً أكثر في السجن، مثلما كان يلعب وحيداً في أبكر سنواته، على ما كنت تقولين لي.
لكن سميرة دخلت خلوة المتوحد، وسحبته منها. قلت لها بعد نحو عامين: نتزوج؟ قالت: نعم!
عشنا في بيت واحد بدءاً من 5 أيلول 2002.
أتكلم على طفولة ثالثة لأن سميرة عملت على إعادة تربية البري الذي صرته خلال العشرين الثانية من العمر. ولم يكن ذلك بالعمل اليسير والحق يقال.
كنتُ وقتها أصير كاتباً. سميرة رافقت الخطوات الأولى.
كم كنت ستحبينها!
*****
سميرة غابت قبل أكثر من ست سنوات. خطفها وغيبها مدافعون عن الله. قبلها بشهور غاب فراس، خطفه وغيبه مدافعون آخرون عن الله. رحيلك كان باكراً جداً، ولكنه وفَّرَ عليكِ الآلام الأقسى. لا يجب أن يحدث ذلك في أي وقت، ولا بخاصة وأنت جدة وترين أحفادك يشبون أمام عينيك. إبراهيم رحل بعدك بنحو 21 عاماً، في وقت أنسب كيلا يرى غياب سميرة التي أَحبَّها كثيراً. ولا غياب صغيركما المدلل فراس. فراس تزوج قبل رحيل إبراهيم، وسمى صغيره الوحيد إبراهيم. إبراهيم الصغير وأمه غدير يعيشان اليوم في هولندا.
ومن بعد فراس وسميرة تناثر أبناؤك في البلدان.
سميرة غائبة منذ 2352 يوماً. وفي غيابها يعود البري برياً من جديد. المتوحد الذي كان أعز ما يريد هو أن يعرف، أُدين بأن لا يعرف عن أكثر من يعز عليه.
أكتب لك لأني أحاول أخيراً أن أُعبّر، أن أروي لكِ قصة. أعرف أنها ليست مبهجة، وقد تبدو قصة لعنة بالأحرى. لكنها على وفرة ما فيها من غيابات قصة مستمرة لا تنتهي. ولا هي تروى مرة واحدة. ومن كان يستعصي عليه الكلام في صغره لا يجد ما يكفي من الك
موقع الجمهورية