دمشق ليست المسكن
كتب زميل سوري “يعيش في دمشق” هذا النص مع سينابس
غدت صورة المدينة التي لطالما رمزت للثقافة الشاميّة الأنيقة مُنقسمة بين عَوز الفقراء والابتذال الصارخ لثراء الحرب.
تستدعي دمشق تصوّرات نمطية متنوعة في كثير من الأحيان بحيث تبدو كأنها خالية من السكان الحقيقيين. يتخيلها من هو خارجها حطام مدينة خالية من أي حياة بفعل الانتشار الكثيف لصور الحرب والدمار حولها، فيما لا يزال البعض يحتفظون بحنينهم لصورتها كمدينة تاريخية بأزقة ضيقة وعرائش ياسمين تتهدّل في بيوت عريقة راقية. ويرى آخرون منها حياة الليل المزدهرة والمطاعم الفارهة الموحية بعودة سوريا إلى الحياة الطبيعية ولو بشكل يصعب تصديقه. غير أنّ معظم السكان، وأنا منهم، لا يلقون بالاً لمثل تلك التوصيفات فهم مشغولون بإيجاد حلول للتعايش مع صدمات تغيّر مدينتهم من يومٍ لآخر.
مرّت دمشق، كإحدى أقدم المدن المأهولة، بنصيب وافر من الاضطرابات عبر القرون. إلا أنّ سكانها اليوم يرَون حجم ووتيرة ما تمر به من تغيّرات أمراً غير مسبوق، ولا رجعة عنه، ما يُرغمنا على تكيّف مستمر، متمسكين بأيّ ثوابت قد تزوّدنا بإحساس من الاستقرار. لهؤلاء منّا الذين لا يزالون مصرّين على كَون دمشق موطنهم، ما الذي يعنيه تعلّقنا بمكان لم نعد قادرين على تمييزه؟
مدينة مهاجرين
لعدة قرون، عُرفت دمشق بقابليتها على استيعاب الوافدين. تشكّلت المدينة منذ أكثر من أربعة آلاف عام كواحة تنحصر بين حدود طبيعية، تقع التلال الفاصلة بين سوريا الحالية ولبنان غربها، وتقبع بادية تمتد إلى العراق شرقها. أحاط بهذه المستعمرة القديمة أشبه ما يكون بدائرة مزدهرة الخضرة تفرّعت عن جبل قاسيون وعُرفت بالغوطة. جغرافية كهذه جعلت من دمشق محوراً للتجارة بين شرق آسيا والمتوسط وأبقتها على مَدى التاريخ راسخة كمركز حضاري بينما يتغيّر حكّامها تباعاً: من سريان ففارسيين ثم يونان، مصريين ورومان وعرب، سلاجقة ومماليك، فعثمانيين وفرنسيين.
لقد تشكّلت المدينة بفِعل موجات الوافدين ورُؤى الحكّام المتوالين عبر مئات السنين. في القرن الثاني عشر، وصلت موجات من الفلسطينيين الفارين من الحروب الصليبية لتستقر شمالي شرق دمشق، فولد حي الصالحية. خلال العهد المملوكي نما جنوب المدينة باستقرار تجار الماشية والحبوب القادمين من حوران، فنشأ حي الميدان. ومع بداية القرن السادس عشر أنشأ العثمانيون مقرّهم الإداري في ساروجة، شمال غرب المدينة القديمة، ليضيفوا مستوى جديداً للتنوع الحضاري القائم. مع الانتداب الفرنسي إثر الحرب العالمية الأولى، تأسس حي الشعلان غرب المدينة، ليؤوي النخبة الكولونيالية الجديدة. وتبعته أبنية طابقية أخرى بشرفات مستديرة خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، لينشأ حيّا المالكي وأبو رمانة الحديثان في الشمال الغربي.
غدا التنقل والهجرة من السّمات الجوهرية لهوية المكان، الأمر الذي يتضح في حالة حي “المهاجرين” حيث استقرّ اللاجئون البلقان، فارّين من الحرب التركية الروسية نهاية القرن التاسع عشر. يرتبط هذا الحي اليوم بدمشقيي الطبقة الوسطى العليا الفخورين بشدّة بحيّهم. بعض أحياء المدينة الأقدم تحمل أسماء أتت من مناطق بعيدة، كساروجة التي سُميت باسم أمير مملوكي، وسوق مدحت باشا الذي يحمل اسم والٍ عثماني، وساحة شمدين المسماة تيمّناً بأحد أعيان الأكراد.
على غِرار ذلك، تحمل عائلات مرموقة ألقاباً غير محلّية: المُفتي الرّاحل لسورية انتمى لعائلة كفتارو ذات الأصول الكردية المعروفة، ويقال إنّ لعائلة العظم العريقة أصولاً تركية. حتى المجموعات ذات الهويات المتمايزة تأثّرت بشدة بعالميّة المدينة، حيث اندمج الأرمن ممن هاجروا إلى المدينة في القرن التاسع عشر في نسيجها المتنوع جغرافياً ولغوياً، أكثر بكثير مما فعل نظراؤهم في حلب وبيروت، بينما ترك أكثر الشركس ممن وفدوا إلى المدينة في الفترة عينها لسان آبائهم رمّةً.
تسارع توسع المدينة المتتالي والعضوي هذا بصورة هائلة في النصف الثاني من القرن العشرين، حيثُ أطلقت الحكومات البعثية المتتالية حملات طموحة لبناء الدولة والإصلاح الزراعي. استولى حكام دمشق الجدد على مساحات من الأراضي الزراعية في الغوطة وأجزاء من مركز المدينة العثماني، ليُفسحوا المجال لبناء مجموعات متزايدة من القواعد العسكرية، الأبنية الإدارية والوحدات السكنية الخاصة بطبقة الموظفين متسارعة النمو. أزيلت أجزاء من عمارة المدينة العثمانية المميزة، لتستبدل بأبنية حكومية على الطراز السوفييتي، وطريق عريض سمّي بشارع الثورة. نشأ في منتصفه “سوق الحرامية” وهو سوق شعبي لبضائع مستعملة يقال بأنها مسروقة بالغالب، وكأنما ليبرز أكثر فأكثر عنف البيئة العمرانية الجديدة المتكونة في قلب المدينة.
تزامنت الإنشاءات الحكومية مع طفرة في البناء العشوائي غير المرخص في الغالب، والذي بدأ بمعظمه وافدون جُدد. شكّلت موجات من اللاجئين الفلسطينيين تجمعات سكنية فقيرة على محيط المدينة، انضمت اليها مجموعات من أهالي الجولان – الذين ما زالوا يعرفون بالنازحين حتى اليوم – المهاجرين إثر الاحتلال الاسرائيلي لأراضيهم، فيما جذب جهاز الدولة المتنامي حشوداً من العاملين ليشغلوا وظائف في القطاع الحكومي، العسكري والمخابراتي، ممن بنوا لأنفسهم منازل في الضواحي العشوائية المتزايدة حول دمشق. تضاعف عدد سكان المدينة ثلاث مرات بين الستينات والثمانينات إثر هذه الهجرات، في عملية دفعت العديد من السكان خارج أرضهم بينما جذبت عديداً آخرين إليها.
أين ذهبت البساتين؟
في التسعينيات وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة، سرّعت الخصخصة توسع المدينة العشوائي. بدأ بعض رجال الأعمال باستيراد حافلات النقل الصغيرة، ما أدى لتسهيل التنقل بين قلب المدينة وأطرافها، وساهم بالنتيجة في إحداث طفرة عمرانية في بساتين الغوطة. هجر فقراء المدينة وأبناء طبقتها المتوسطة الدنيا أحياءهم القديمة المركزية إلى تلك الضواحي الجديدة ذات الشقق الأرخص نسبياً. وما تبقى من دمشق كواحة تحوّل تدريجياً إلى متاهة من الهياكل الإسمنتية الباهتة.
كانت النتيجة بيئة عمرانية متنافرة، بعناصر مفككة مكتظة وغير مألوفة لبعضها بعضاً. يتبدى مثال صارخ في حي المزة، وهي منطقة على الحافة الجنوبية الغربية للعاصمة، كانت الدولة قد صادرت أجزاء منها لبناء مبانٍ إدارية ومساكن للموظفين الحكوميين. بينما تحولت بمعظمها إلى منطقة تؤوي الطبقة المتوسطة العليا والبورجوازية البيروقراطية الحديثة، نشأ فيها حي المزة 86 – المسمى تيمّناً بالقاعدة العسكرية في المكان عينه سابقاً – كحي عشوائي يضم بمعظمه ضباط صف من ذوي الرتب المتدنية في الجيش والمخابرات.
تحولت دمشق أكثر فأكثر إلى مدينة مجموعات منقسمة حسب محددات طبقية وطائفية ومناطقية. استمرّت العائلات السنية التي سكن أجدادها المدينة لقرون بالافتخار بأنفسهم كدمشقيين أصيلين. ورغم اختلاط هؤلاء بالنخبة السياسية ذات الأصول الريفية، إلا أنهم استمروا بالنظر إليها بشك، إن لم يكن بازدراء. تشارك سكان الغوطة الأصليون مع مهاجري الأرياف والمدن الأخرى وأبناء مركز المدينة الأكثر فقراً الأطراف مستمرة الاتساع ببنائها المخالِف والمعروفة بالعشوائيات، بينما تناثرت على التلال المحيطة للمدينة تجمّعات سكنية من المهاجرين المُرتبطين بقوّات الجيش والاستخبارات. وقد دَرج بعض الدمشقيين على وصفها امتعاضاً بالمستوطنات.
تفجّر الفشل في إدماج عناصر العاصمة المتنوعة عام 2011 حيث تحوّلت الأحياء الطرفية التي عانت لعهود من التهميش والاستملاك إلى نقاط تظاهر مشتعلة، كما في حالة منطقة برزة. فيما لعبت جارتها عش الورور، والتي تؤوي عائلات من العاملين في الاستخبارات، دوراً معاكساً. انقلبت التظاهرات إلى قتال شوارع ثم إلى قصف أدى إلى رغبة كلّ من الطرفين في إنهاء الآخر.
اقتلاع جماعي
مع تصاعد العنف، أعيد تشكيل المدينة وقاطنيها من خلال عمليات تشريد متعددة ومتراكبة. كان الدمار نصيب الضواحي الثائرة التي تم تجويعها بالحصار ودكّها جراء القصف. أمّا الأبنية الاسمنتية التي حلّت يوماً محل البساتين الخضراء في الغوطة، فتحوّلت إلى رُكام، حتى لم يعد سكان مناطق كداريا على الطرف الجنوبي الغربي للمدينة وجوبر على شرقها قادرين على تمييزها.
في المقابل، أُعيد تشكيل المناطق المستقرة بشكل أقل درامية. بتصاعد التوتر الاجتماعي وتردّي الأحوال الاقتصادية،غادرت الطبقة الوسطى والعليا البلاد بمعظمها، فيما تبعثرت الطبقة الدنيا، بفرار من استطاع جمع الموارد اللازمة للرّحيل منها، هرباً من العنف وخشية التجنيد الإجباري أو الانخراط في الصراع المُميت.
مقابل كلّ من رَحلوا، قدِم كثيرون آخرون، ليتضخم التعداد السكاني بشكل يستنزف مساكن المدينة وبُنيتها التحتية. توافد سكّان المناطق المشتعلة في الغوطة نحو الضواحي الأكثر أمناً نسبياً كجرمانا وصحنايا، جنوب شرقي وغربي المدينة. حتى المناطق شبه المحاصرة والواقعة تحت سيطرة المعارضة كقدسيا وبرزة استقبلت نازحين من مناطق أخرى، ببساطة لأنها كانت عرضة لقصف أقل شدة من غيرها. وفيما تبعثر سكّان دمشق وريفها، توافدت مجموعات أخرى من الأطراف السورية وبخاصة الشمال الشرقي، إذ حوّلت معارك التحالف الأمريكي ضد الدولة الإسلامية الرقة ودير الزور إلى مدينتين غير صالحتين للسكن. ولئن انتمى معظم القادمين إلى الطبقة الدنيا المفقرة أكثر فأكثر، إلا أن المدينة استقبلت رجال أعمال وملاكاً استبدلوا طبقتها البورجوازية بأخرى.
وقعت دمشق في حال من التغيّر المستمر، تعصف بالمغادرين والوافدين الجدد، وما يلي هذا من اختلال اقتصادي. أصبح الاكتظاظ نَمط المدينة الدائم، يلفظ أولئك الذين ما زالوا قادرين على الفرار. استفاد أصحاب العقارات من سوق ضاغطة الطلب، يواجه فيها المهاجرون إلى المدينة أجوراً استغلالية، تصل إلى حدّ تأجير شقة في حي متواضع بدمشق منتصف 2019 بما يُعادل مئتين وخمسين دولاراً شهرياً – ما يزيد عن ثلاث أضعاف راتب الموظف – رغم عدم احتوائها على مطبخ أو نوافذ! يُطالب المؤجّرون بأجر عام أو نصف عام مقدّماً، وبالعملة الصعبة أحياناً، بينما يتكسّب أصحاب المكاتب العقارية من وضع كهذا: يرفعون الأجر ما لم يبدِ المستأجر موافقته الآنية على عرضهم.
نظام منبعث
وبينما يكافح السوريون للعيش رغم الدمار، تزيد السلطة من عدم استقرارهم: تناقض ما تنادي به من إعادة العاصمة إلى الحياة الاعتيادية، فتمنع سكاناً من العودة إلى منازلهم وتقتلع آخرين استطاعوا البقاء في أمكنتهم خلال سنوات الحرب.
غالباً ما يُشير المهجّرون إلى عدم قدرتهم على العودة لبيوتهم، بسبب أعمال النهب الهائلة التي تعرّضت لها على أيدي القوات الموالية. في مناطق كمخيم اليرموك جنوب المدينة، حوّلت السرقات المُفرطة الأبنية التي سلمت من التدمير إلى أخرى غير صالحة للسكن، كمثيلتها التي تعرّضت للقصف. شهدت دمشق أعمدة الدخان المتصاعدة من هذه المنطقة، لأشهر تلت دخول قوات النظام إليها في أيّار 2018. لم تكُن تلك الأدخنة مرتبطة بأيّ معارك، وإنّما بتذويب الأغلفة المطاطية لأسلاك تمديدات الكهرباء النحاسية، كي يُعاد بيعها كخُردة معدنية. بقيت المنطقة بمعظمها محظورة على سكانها الممنوعين من العودة، والمقتنعين أنّ هذا قد ينتهي بعد أن يتم التقاط كل حطام يمكن بيعه منها. كما قامت السلطات بتنفيذ سلسلة أخرى من التدمير بذريعة التطوير. يتبدّى مثال صارخ عن هذا في حي القابون شمال شرقي المدينة، حيث أطلق النظام “خطة تنظيمية” للمنطقة بُعيد إعادة السيطرة عليها في أيّار 2017، تطلّبت تدمير أجزاء واسعة من مبانيها التي صمدت خلال النزاع. وبحجّة أنّ تلك المناطق غير قانونية ومهددة بالسقوط، تم تهديم مبانٍ كبيرة نظامية لم يمسّها القصف وكانت صالحة للسكن. يعتقد السكان ممن انتزعت ممتلكاتهم هناك أنّ الدّافع لهذه الخطة التنظيمية ما هو إلا معاقبتهم على التمرّد ومكافأة محاسيب النظام. وهو انطباع تعزّزه منشورات إعلامية يقف فيها موالون شامتون أمام مبانٍ أزيلت حديثاً.
ويتضّح مثال أكثر إبداعاً لهذا التدمير المتعمّد والإخلاء القسري في مشروع “ماروتا سيتي”، الكتلة المُزمع إنشاؤها جنوب غربي دمشق كأكثر المشاريع العقارية رفاهاً في تاريخ المدينة. بداية العام 2014، بدأت السلطات مشروعها هذا باستملاك وهدم منازل أهالي حي المزة بساتين. يسوّق النظام المشروع على أنه مثال لإعادة الإعمار، رغم أنّ المنطقة لم تُدمّر أصلاً في الحرب، وكانت لا تزال آهلة بسكّانها الأصليين حينما مهدتها أرضاً بلدوزرات محافظة دمشق.
إعادة توزيع مجتمع
لئن صممت بعض الاستملاكات بغرض الربح، فإن غيرها تبدو استدراكاً لهشاشة استراتيجية اكتُشفت خلال الحرب. في العام 2016 على سبيل المثال، أدّى قطع تمديدات نبع عين الفيجة، خلال فترة سيطرة المعارضة عليه، إلى حرمان الأحياء الرئيسية في العاصمة من المياه لأيّام. في العام 2018 وبعد استعادة النظام للمنطقة، قام بمصادرة ممتلكات سكنية وتجارية لإقامة ما يُسمى “حرَم النّبع”، مُقصياً بذلك السكان عن الوصول إلى البلدة وإلى ضفاف النهر، ليمنع بهذه المنطقة العازلة أي تهديدات مستقبلية.
في العام نفسه ولإقامة ما يُدعى “الحزام الأخضر”، أزالت محافظة دمشق عدداً من العقارات السكنية والتجارية – بما في ذلك وبشكل مثير للجدل: مسجداً- على طول طريق المتحلق الجنوبي الذي يفصل أحياء مركزية في المدينة عن الرّيف الملاصق ويصل دمشق بمطارها الدولي وطريق دمشق حلب الحيوي. تجلّت الحساسية الكبيرة للمنطقة إثر تحوّل هذا الطريق السريع إلى خط النار بين قوّات المعارضة والنظام خلال سنوات الحرب.
طبّقت السلطات، بالإضافة إلى الاستيلاء على مناطق بأكملها، أشكالاً مركّزة من المصادرات ضد أعدائها الحقيقيين أو حتى المتوقّعين. حيث تستعمل القانون التي أصدرته لمكافحة الإرهاب بشكل جائر للاستيلاء على أُصول معارضيها وأقربائهم المباشرين. طريقة ليست بجديدة، إذ سبق أن استعمل حافظ الأسد مثيلها لمصادرة ممتلكات مناصري الإخوان المسلمين في الثمانينيات.
يواجه الأفراد الساعون لاستعادة أملاكهم المحجوزة مصيراً قاتماً، إذ غالباً ما تمتنع الجهات العسكرية عن إجابة طلبات فك الاحتباس، دون إمكانية محاسبتها قانونياً. الدخول في متاهات الفساد الإداري هو الطريقة العملية المُتاحة لاسترجاع الممتلكات، لعدم توفّر مسار قانوني متاح لاستعادتها. في مُعظم الأحيان يقوم رجال الأمن أو أولئك المرتبطون بهم بشراء الممتلكات من أصحابها بأقل من قيمتها بكثير، ثم يستعملون علاقاتهم التي تشتمل على سلسلة من الوسطاء والسماسرة لإزالة الحجز عنها، ومن ثم بيعها بالسعر الحقيقي. بالنسبة للمالكين الأصليين، تبدو هذه الطريقة هي الطريقة الوحيدة لاستعادة بعض مما كانوا يملكون.
تعتمد آخر طريقة لتطهير العاصمة من المعارضين على “الموافقات الأمنية”، وهي أُذونات رسمية مطلوبة لعدّة أمور أهمها عمليات الشراء والبيع. تزخر المرويات حولها بقصص عن الامتناع عن تزويد مجموعات محدّدة بهذه الموافقات، بُغية إخراجها من المناطق المركزية في المدينة. يُعتبر أهالي داريا المنطقة الثائرة مثالاً على ذلك، حيث رفضت طلباتهم للاستئجار في مُعظم مناطق دمشق وبشكل مُمنهج، ما يُجبرهم على الاستقرار أبعد فأبعد على أطراف المدينة، إن لم يكُن خارج سوريا كلها. قوبل أهالي دير الزور برفض مقابل لسكنهم في المدينة عام 2018، بما يُعتقد أنه بغية دفعهم للعودة إلى مناطقهم الأصلية المدمّرة.
في مُطاردة
في حين يلعب النظام دوراً منظّماً باجتثاث سكان المدينة، يعمد المواطنون أنفسهم للتأقلم مع صعوبات العيش بشكل يحرم آخرين استقرارهم. يدفع حجم اليأس كثيرين إلى منافسة مريرة على أهم سلعة في سوريا اليوم: المسكن. على سبيل المثال وفي منطقة الغوطة الشرقية المُفرغة من سكانها، عمد كثيرون ممّن فقدوا مساكنهم إلى احتلال أخرى، كثيراً ما تكون لجيرانهم. يُضاف إلى هذا احتلال يقوم به عناصر الجيش والدفاع الوطني. حينما يعود أصحاب المنازل الأصليون لبيوتهم، قد لا يستطيعون انتزاعها من محتلّيها محاسيب السلطة، بينما يمكنهم إخراج الفئات الأضعف اجتماعياً، أولئك الذين سيصبحون مهجّرين مرة أخرى.
أشكال أخرى من التعدّي على الممتلكات تكاد تتحوّل إلى صناعة قائمة بذاتها، حيث يتم تزوير أوراق ملكية البيوت الفارغة من سكانها، وإعادة بيعها لآخرين، وعادة ما يكون المشتري غير واعٍ بالصفقة، ومُفترضاً قيامه بعمل قانوني. تعتمد أعمال كهذه على سلسلة من عناصر الأمن والموظفين الحكوميين وتجار العقارات. تتبع آلاف دعوات الاحتيال العقاري سيناريوهات كهذه، عالقة في نظام قضائي فاسد قلّما يحقّق العدالة لأصحابها. تصل جرأة مزوّري صكوك الملكيات إلى إعادة بيع العقار عينه عدة مرات، رغم أنهم لا يملكونه أصلاً.
يزداد تعقيد هذا السوق العقاري الكافكاوي بفعل أنّ كثيراً من مالكي الصكوك القانونية قد فقدوها، إما بسبب ضياعها خلال الحرب أو لكونها أُجريت في دوائر عقارية تقع تحت سلطة معارضة يعتبرها النظام غير مشروعة. تتطلّب إعادة الحق بالملكية إجراء عقد جديد مع المالك السابق للعقار في محاكم الدولة السورية. في كثير من الحالات، لا يتم الوصول إلى ملاك سابقين، لأنهم قُتلوا أو تركوا البلاد. أما إذا كانوا موجودين، فهم غالباً ما يطمحون لابتزاز الملاك الجُدد مقابل تأكيد بيع ممتلكاتهم التي تمت سابقاً.
لعجلة الابتزاز هذه آثار مُهلكة على السوريين، الآخذين أكثر فأكثر في الدخول في منافسة تكرّس قلّة الثقة والأمان. تجري المعارك القانونية حول التوثيق العقاري بين أفراد العائلة أنفسهم، حيث يؤلب السعي لتأمين ملجأ أقرباء ضد بعضهم بعضاً. وفي الوقت عينه، تتقوّى بفعل هذا كله فئة من السماسرة والمحامين ممن يعتاشون على يأس الآخرين. كثيراً ما تتشكى النساء الباحثات عن منزل للإيجار من تحرّش المالكين وأصحاب المكاتب العقارية الذين يخفضون الأجرة مقابل ممارسة الجنس أحياناً مع بعضهن.
كما يسبّب الاكتظاظ السكاني أشكالاً أخرى من المنافسة. بعكس ما نتج عنه سابقاً من هروب سكان الأحياء المركزية إلى أخرى طرفية ما قبل الحرب، عاد كثيرون خلالها إلى قلب المدينة الأكثر استقراراً. رجع دمشقيون إلى بيوت عائلاتهم القديمة التي كانوا تركوها لمنازل أحدث في الضواحي، محشورين في مساكن ضيقة إلى حد غير صحي في كثير من الأحيان.
لم تؤدِّ الكثافة الحاصلة إلّا إلى ازدياد التوتر بين الأقرباء والجيران، ممن يتشاركون مساحات ضيقة في ظروف صعبة. تزيد من هذا عودة تدريجية لبعض السوريين ممّن كانوا في الخارج. النسبة الأكبر من العائدين هي من دول الخليج، مدفوعين للرّجوع إلى سوريا بتردي ظروف عملهم هناك. يبرّر بعض السوريين عدم رغبتهم بعودة أقربائهم، والسخط عليهم إن فعلوا، بانتزاعهم ملجأهم المؤقت وإعادتهم لحالة البحث السابقة.
أدّى انحشار المجموعات المهاجرة من كل أنحاء البلاد في المدينة إلى تشكيل نسيج اجتماعي متنافر وغير منسجم. يلوم فيه الدمشقيون الطبقات الأكثر ضعفاً من الوافدين على كل مشكلاتهم الاجتماعية، من الخدمات المترهلة إلى الشوارع المتسخة. كما تظهر تراتبية غير معلنة لتفرق بين القادمين الجدد، فعلى سبيل المثال، قد يحترم الدمشقيون المحلّيون المهجّرين من الأرياف المُحيطة أكثر مما يحترمون أولئك القادمين من دير الزور مثلاً، مُلحقين بهم صفات مُسيئة كالتخلف أو قلّة النظافة.
بلاد مع وقف التنفيذ
تُحاصر هذه الضغوط التي لا تكلّ سكان العاصمة وتجعلهم في حال من التقلّب الدائم. اليوم، تبدو المدينة التي استقبلت لقرون مهاجرين توّاقين للاستقرار والحياة محطّةً مؤقتة أكثر من أي وقت مضى. يركّز معظم أهلها على خلاصهم اليومي، متسائلين أي مصيبة ستحدق بهم في اليوم التالي. أما أولئك الذين يفكرون باستقرار حقيقي، فهم غالباً ما يسعون للهروب من البلاد.
تتخذ هذي الحال المؤقتة أشكالاً عدة، كالطرق التي يلجأ إليها الناس لترميم ممتلكاتهم المدمرة. كثيرون يهدفون لتحقيق الحد الأدنى من المعيشة لا أكثر، فيُصلحون غرفة واحدة كل مرة، بدلاً من محاولة إعادة بيوتهم لما كانت عليه. يجهز السكان بيوتهم بأدوات منزلية أو صحيّة من النوع الرديء والرخيص، غالباً ما تكون من أدنى النوعيات المستوردة من الصين أو إيران، أو المشتراة مُستعملة من أسواق تُباع فيها بضائع سُرقت من سوريين آخرين. هذا التقشّف لا يعكس فقط المقدرات المحدودة للسوريين اليوم، بل كذلك تخوفهم من أنّ إظهارهم لأي ارتياح مادي لن يجلب إلا السرقة أو الاستغلال.
حتى أولئك الذين يعمدون إلى شراء الممتلكات، إنما يفعلون ذلك لحسابات آنية فحسب لا تكترث بالمستقبل. السوريون الأقل مقدرة يعتبرون شراء منزلٍ طريقة للنجاة من سوق الإيجار المتوحش لا استثماراً مستقبلياً. في كثير من الأحيان يستدين المهجّرون الفقراء المال من أقربائهم في الخارج، لشراء شقق صغيرة متهالكة، عندما لا يرون أملاً في العودة لمنازلهم ولا يستطيعون تحمل عبء الإيجار الشهري. لكن اعتياد الحلول المؤقتة هذا يترُك علاماته الدائمة على النسيج العمراني للمدينة. يستجيب المالكون للاكتظاظ والطلب الواسع على المسكن بتغيير مواصفات عقاراتهم فيحوّل البعض الشقق ذات الغرف الواسعة والأسقف العالية إلى أُخرى صغيرة الحجم. فيما يقوم أصحاب المحلات بتحويلها إلى شقق صغيرة تتكيف وواقع الحال. لم تكن المساحات المتواضعة مُغرية للسوريين قبلاً لكنها اليوم مرغوبة لرخص ثمنها. للمفارقة أنه وفي الوقت الذي يغرق الاقتصاد السوري في حالة يرثى لها، فإن سوق العقارات لم يكن يوماً بحال أفضل.
مصير مدينة
بالنسبة للدمشقيين، الاستمرار والتكيف مع ما أصبحت عليه المدينة صراع نفسي أيضاً. والأسس التي ترتكز عليها هويتها اضمحلّت حتى غدت عصيّة على التمييز، مُرغمة سكانها ومن هاجروا إليها على التأقلم مع مزيد من التشريد والانعزال.
غدت صورة المدينة التي لطالما رمزت للثقافة الشاميّة الأنيقة مُنقسمة بين عَوز الفقراء والابتذال الصارخ لثراء الحرب. تنتشر المطاعم الفارهة لتختفي معالم أقدم. تترجّل النخبة الجديدة من سيارات دفع رباعي بنوافذ مُعتمة، لتنفق بتعجرف ما يفوق راتب موظف على وجبة واحدة، فيما تتكاثر على الطرف الآخر من الطيف محال الألبسة المُستعملة لتلبي حاجة أغلبيّة تُنتزع منها قدرتها الشرائية كل يوم. الحِرف التقليدية كصناعة الأخشاب تُجاهد للبقاء، فيما تستولي محلّات البضائع الرخيصة المستوردة على ما بقي من أسواق المدينة الهشّة.
تتفاقم المشكلات التي سبقت الحرب، فتتدهور الخدمات العامة أكثر وتكبُر الوصمة تجاه الفقراء وتزداد المدينة اكتظاظاً. تُلفظ الفئات الأضعف إلى أطراف أبعد فأبعد، مساهمة في تضخم عمراني عشوائي تدّعي السلطات مكافحته. فيما تتمظهر مشكلات أخرى لم تكن بنفس الانتشار، كالمخدرات والجريمة والدعارة وعمالة الأطفال.
لقد كثّفت الحرب تدهوراً بيئياً في مدينة لطالما كانت فرادتها وثيقة الصلة بتاريخها كواحة خضراء. تآكلت بساتين الغوطة التي عُرفت دوماً بكونها رئة المدينة، بسبب النهضة العمرانية في القرن العشرين. ومنذ العام 2011، واجهت المساحات الخضراء المتبقيّة اعتداءً ذا شقّين: فيما كانت قوّات النظام والروس تقصفها من الأعلى، كان الجنود الموالون والمسلّحون يسرقون أشجارها لبيعها كحطب تدفئة. هذا قبل أن يبدأ غيرهم من المتنفّعين باقتلاعها للبناء كيفما اتفق. بالإضافة للدلالة الرمزية المروّعة لهذه التحوّلات، فإن لفقدان أجزاء واسعة من الغوطة كبساتين خضراء آثاراً واقعية بعيدة، من التغيّرات الملحوظة في درجة الحرارة ونوعية الهواء، إلى انحسار الإنتاج الزراعي، والتصحّر والجفاف اللذان لربما يشكّلان التهديد الأكبر لمستقبل المدينة.
يُواجه الدمشقيون هذا الاضطراب الهائل بتمسّك أكبر بالماضي. بعضهم يتمسك بهويته بطرق لا شعورية، فيُظهرون ولعاً أكبر بفخرهم المحلّي الذي يقارب الشوفينية أحياناً. يؤكّدون على اختلافهم بإصرار أكبر من قبل: أصدقاء وأقرباء يتنافسون على أكثر الوصفات أصالة ودمشقيّة، وفي أحيان يتحدثون بلهجة محلّية أعمق. فيما تنشر صفحات الفيسبوك صوراً تحنّ إلى دمشق في فترة ما قبل البعث، وتمارس حُفنة من المبادرات نشاطات تداوم فيها على زيارة ما تبقى من بساتين ومعالم أثرية. آخرون يسترجعون تاريخ مدينتهم ويدرسونه، يراقبون تغيّرها ويحكون قصتها. بهذا، يبدون مصمّمين على حفظ الماضي، ليؤسّسوا من خلاله غداً أفضل لمدينتهم.
*- عن موقع: سينابس