حكاياتُ نافذةٍ سورية… أطفال الحاوية والجنين المذبوح ومصفاة الوقود المعطّلة/ مناهل السهوي
ما الذي يحكمُ علاقتنا بأوطاننا؟ أهو الانتماء، الحبّ أم ما يقدمه لنا هذا الوطن؟ وإن لم يستطع تقديم شيء سوى الأسى، هل يستطيع الحبّ الحفاظ على علاقتنا به؟
نعلم أن ما يقدمه الوطن هو الشكل الذي يختاره المسؤولون له، شَكلُ سوريا اليوم مشوّه ومخيف ولا يمنح أبناءه الأمان، شكلٌ يحفّز الخوف، والهجرة والرغبة في التخلي عن البلد. انكسارٌ تلو انكسارٍ يعيشه سوريو الداخل تحديداً، انكسارات ما عادت قابلة للعد، كأنّها حياةٌ متواصلة من الصفعات.
يوم عادي؟
من شُباك المستشفى أراقب نساءً وأطفالاً يتحلقون حول حاويةِ القمامة، ليس من المعتاد رؤية إطلالاتٍ كهذه لمستشفياتٍ سوريّة، لكن يصادف أن يقع أحد المستشفيات الخاصة في منطقة جرمانا في واحدة من أكثر المناطق فوضى.
يتلقف الأطفال أيّ كيس قمامةٍ يُرمى ثم يبحثون فيه عن كلّ ما يمكن بيعه، يجب أن يسبقوا وصول سيارة جمع القمامة لتأمين مصروف يومهم من بيع هذه المواد. تُعاين سيدة عبوة بلاستيكية فارغة وتشمُّ أثر ما فيها ثم تودعها في كيس أسود قربها، يشمّ طفلٌ آخر بقايا وجبةِ طعامٍ ويضعها في كيس نضيف.
تعتاش الكثير من الأسر على بيع هذه المواد بمبالغ لا تكفي لشراء وجبة واحدة، وتجمع ما تبقى من طعام صالح للأكل. ما زال كثيرون يرمون الطعام، إنه شيء لا يصدق وسط هذا الفقر كله.
تذهب أسرة وتجيء أخرى متناوبة على حاوية القمامة، ثم يأتي أطفال لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات. ليست المهنة بجديدة لكنها باتت أكثر انتشاراً خلال السنة الماضية وباتت المنافسة أكثر حدّة حتى راحت نساء يتلقفن أكياس القمامة من الناس مباشرة قبل وضعها في الحاوية.
في مكانٍ آخر، يتشاجر طفلان على حاوية قمامة، يتهم الأول الثاني بأنه يتبعه ليأخذ الحاوية الأفضل التي وجدها هو قبله، يتشاجر الطفلان، ويحاول أحدهما منع الآخر من سحب عبوة بلاستيكية من الحاوية قائلاً: “هذه لي”، يحاول رجلٌ تهدئة الطفلين لكنهما يتابعان كأنهما ما سمعاه، كأنّه غير موجود، المكان الوحيد الذي يهمُّ الطفلين هو الحاوية حيث غداء عائلتيهما ورزقهما ومعركتهما الأهم.
ما الرزق الذي قد تقدمه لنا حاوية قمامة؟
إنّها ما تبقى من فضلات الآخرين، ما يرمونه لأنهم لا يحتاجونه، وما يُرمى ثمين لعائلات أخرى، فقنينة بلاستيكية تكمل وزن الكيس إلى كيلو كامل فتستطيع استبداله ببعض ليرات تشتري بها الخبز، وعلب الكرتون تُجمع أيضاً. الحاويات ثمينة جداً للعائلات الفقيرة، عائلات تصحو باكراً جداً متوجهة إلى حاويات القمامة التي تقع في مناطق ذات وضع اقتصاديّ لا بأس به، فليست كلّ القمامة متشابهة. حتى داخل منطقة واحدة هناك أحياء وضعها الاقتصادي جيد وأخرى فقيرة، أحياء لا ترمي شيئاً يستحق الجمع وأحياء قمامتها ذات منفعة اقتصادية.
لسنا بخير
على السرير المجاور في غرفة المستشفى امرأة من مدينة “البوكمال” في الشمال السوريّ، تسرد صديقتي كيف قتل تنظيم الدولة “داعش” سبعة أفرادٍ من عائلتها في يوم واحد، وأنا عند النافذة أراقب الخارج وأسمع جيداً حديث الداخل، ترفع أصابعها السبع وتعيدها: “7 في يوم واحد!” كي نسمع أكثر وندرك العدد فربما نحن البعيدين من أشكال موت كهذه لا ندرك سريعاً معنى أن تفقد سبعة من أفراد عائلتك في يوم واحد!
تروي حادثة قتل التنظيم امرأة حاملاً من عائلاتها وكيف حرص التنظيم على إخراج الجنين من خاصرتها بعد موتها. على الجهة المقابلة يغوص طفل في حاوية القمامة، ويخرج كيساً أبيض ويمزقه من وسطه. تتابع المرأة المهجّرة من مدينة البوكمال، أن التنظيم حرص على أن يكون الجنين ميتاً: “لا يريدنا التنظيم أحياء، نحن شيعة ويجب القضاء علينا من وجهة نظره، ليس التنظيم وحده من فعل ذلك، الكثير من الأزواج طلقوا زوجاتهم لأنهن من الطائفة الشيعية، لم يتذكروا أنهم سنّة متزوجون من نساء شيعيات إلّا حين جاء التنظيم”، وتختم بقولها: “لكن زوجي لم يطلّقني، نحن نعلم أن كلّ هذا لا معنى له، ويجب أن نحمي أبناءنا من الموت”.
يتلقف الأطفال أيّ كيس قمامةٍ يُرمى ثم يبحثون فيه عن كلّ ما يمكن بيعه،
يجب أن يسبقوا وصول سيارة جمع القمامة لتأمين مصروف يومهم من بيع هذه المواد.
يتابع أطفالٌ نبش القمامة، وتتابع المرأة الجالسة قرب طفلها على السرير روي أحزانها داخل غرفة صغيرة في المستشفى، ويبدو ما يحدث طبيعياً لولا أنك تراقبه من النافذة المغبرة للمستشفى.
لسنا بخير، يحتاج السوريون أن يقولوا لأيّ غريب لسنا بخير، ينظر السائق إليّ في المرآة ويردد: “ليش لتبعديها؟ أنا مش ملاقي أكل”، يود السوريون أن يتحمل أي غريب كتفاً عنهم، فبائع الخضار يشعَرك بأنك المسؤول عن ذبول خضرته التي يجب أن تشتريها بسعر عالٍ كيلا يخسر قيمتها، وسائق الأجرة يشرح لك كيف أن مصفاة الوقود في سيارته لا تعمل جيداً وهذا ما يسبب تقطع مسير السيارة وتوقفها وسط الازدحام، مردداً يجب أن أغير المصفاة وينظر نحوك في الوقت ذاته، أنت الذي يجب أن تكون جزءاً من إصلاح المصفاة. في الحقيقة السوريون لا يعرفون على من يلقون اللوم وحتى ولو عرفوا عدوهم جيداً، فماذا بعد؟
كلّ شيء يسير كما خُطط له بلا زيادة أو نقصان، بكامل هيبة الفقر واللاإنسانية، وفي أماكن أخرى يعرفون جيداً على من يلقون اللوم، لكنهم اليوم أضعف من أي وقت مضى ولا قوة لهم على أيّ مواجهة، يعلمون أن البلاد ضاعت وما عادت تصلح للعيش، يقولها السائق العجوز، ثم يكررها بعدما صمتنا كأنّها صدى لعبارة قيلت قبل عام: “هالبلد ما عادت بتصلح لنعيش فيها”.
أصمت ويصمت، وأتخيل بلاداً أخرى تصلح للعيش، حيث لا يعدّ تبديل مصفاة الوقود في السيارة حملاً ثقيلاً وحيث يمكن أن نرمي الخضر الذابلة بلا ندم، ويسمعنا الآخرون من دون أن يجدوا ألمنا مكرراً ومخاوفنا ساذجة.
الآخر ملامٌ بنظر السوريّ، فيصرخ العجوز المنتظر أمام مؤسسة السورية للتجارة وفي يده بطاقة ذكية متسخة، بالواقفين أمامه بصوته الضعيف؛ “لك صفّوا متل الخلق”، ثم يفقد الأمل بعدما لم يلتفت إليه أحد ويردد “بهايم فالج لا تعالج”. كذلك لا يلتفت أحد إليه كأنهم ما سمعوا إهانة وكأنهم اعتادوا ذلك الشعور بالإهانة. من الجهة المقابلة أعاين الوجوه، وأحاول في كلّ مرة أن أجد وصفاً لهذه الوجوه، أفشل دوماً ولا ينتابني سوى الخجل، هذه البلاد ما عادت تصلح للعيش، نعم ندرك ذلك وكل منّا متيقن من أن بلدنا باتت خراباً وأياماً قاسية تلاحق الفقراء والجياع والمرضى.
أيهربُ شعب كامل من أرضه؟
لكن ما الحلّ؟ أيهرب شعب كامل من أرضه؟ وأي بلاد غريبة ستستقبل الملايين؟ هناك من يودُّ البقاء حقاً، فهو يحبُّ هذه البلاد وإن بدت قاسية الآن فلأنها مظلومة مثلنا وكسرها الزمن والأوغاد، ونحن نحبها لكنها ليست صالحة للعيش ولا للفرح. إنّها بلاد تمتصّ أرواحنا وتتغذى على صبرنا، الذي لا ينتهي، الصبر الذي صار على شكل لا مبالاة وقبول بالأقل الذي لا يكفي. في الجهة الأخرى، يتوق آخرون لمغادرة سوريا، إنّها بلاد تجعلنا خائفين على الدوام، خائفين من الجوع والحاجة وفقدان أساسيات الحياة، خائفين من قول نريد حياة أفضل لأطفالنا، هل هناك اليوم سوريٌّ في هذا العالم الشاسع يشعر بالرضا؟ يبدو ألا أحد تقبل حتى الآن حياته، حتى الذين في الخارج تنهشهم الغربة والبعد من عائلاتهم. لكلٍّ حكاية الأسى خاصته.
يصارع من في الداخل فكرة أنه عالق، عالق في بلد يعاملك كإنسان درجة عاشرة في أفضل الأحوال، وحين يردد السوريون اللحظات التي يعاملون فيها بازدراء على الحدود وفي المطارات، يشعرون بأن هذا الكوكب لا يريدهم، هذا الكوكب هو لكلّ الناس ما عدا السوريين. نرحب ببعضنا بعضاً، كفاقدي الشيء ذاته، الكرامة والحياة اللائقة. يحنو السوريون على بعضهم كآباء فقدوا أطفالهم، لكنهم لا يستطيعون ان يكونوا أكثر تسامحاً مع بعضهم حين يتعلق الأمر بالحياة، فيقاتلون بشراسة لبيع منتجاتهم بالسعر الأفضل وللحصول على أجرة عتال جيدة، والحصول على أجرة السيارة الأعلى، فهم لا يملكون إلا بعضهم ليعيشوا بكرامة. ولهذا تحديداً يقول البعض إن السوريين أصبحوا وحوشاً لكن الحقيقة ليست إلا دائرة مفرغة من الضغط للحصول على أفضل سعر، فأنت الذي تدفع اليوم لعامل الباطون سعراً مرتفعاً، غداً ستأخذ ثمن ما تبيعه بسعر عالٍ أيضاً. يتحمل السوريون أن يكونوا طرفين من الخسارة والربح، من المقايضة للحصول على سعر جيد ومن المقايضة والخروج بخسارة قيمتها بعض المئات من الليرة السورية.
تحوي غرفة من سريرين في المستشفى حكايات أكثر مما نتوقع، ومن النافذة تبدو المشاهد مكررة، وبينما تحتاج الأجساد الرعاية والراحة في المستشفى، تجلس على كرسي الراوي، وتروي وجع السوريين الذين ترافقهم حكاياتهم كأطفالهم، وحين يخرجون إلى الشوارع تتناثر حكاياتهم وتضيع وسط زحمة الألم أو في كيس أبيض يمزقه طفل وسط الحاوية فلا يجد فيه سوى القاذورات فيرميه جانباً ويتابع بحثه.
درج