أستطيع فقط أن أكتب “بنت.. إلى حد البكاء”/ سيدرا علي الشهابي
سيدرا علي الشهابي، بنت المعتقل في سجون النظام السوري تبوح بوجعها:
ربما كان عمري عندها ثمانية أعوام، أو أقل، سمعتُ أنهم يتعرضون للتعذيب في السجون.. كنتُ أعلم أنه كان معتقل قبل ولادتي، فاستغليت أنه في الغرفة الثانية، وسألتُ أحدهم ما إن كانَ كُلَّ من يُعتقل يتعرض للتعذيب.. عندما لم ينفي، استنتجت أن أبي أيضاً تعرَّض للتعذيب.
رحتُ إليه، لففته وأنا أجهش بالبكاء؛
عندما سألني لماذا أبكي إلى هذا الحد، تحججتُ أن المقعد قرطَ إصبعي.
قبل أن يعتقل الإعتقال الأخير.. قبل ذلك بمدة كانَ يعلم أنه من الممكن أن يُعتقل بأي لحظة، تخفّى هو أيضاً في أوقات. أذكرُ مرة التقيتهُ في شارع بيتنا فركضتُ إليه أتسائل أين كان اليومين الماضيين، لا أذكر ما أجاب، لكنه سألني ما إن كنت أحمل الهاتف الذي فيه الشريحة الأُخرى.. كان معي، فبدَّل الشريحة بسرعة، قبّلني وذهب؛
كنتُ أفتقده ولم أفهم لماذا لا يستخدم هاتفه..
بعد سنينٍ فهمتُ أن ذلك كان لأسبابٍ أمنية..
أذكرُ يومها تمنيتُ لو لم تكن الشريحة معي، ربما لصعدَ إلى المنزل وبقي أكثر قليلاً.
أيضاً أذكرُ مرة وردَ فيها خبراً لأبي عن حملة اعتقالات ومداهمات ستحصُل بعد ساعات في المخيم، خرجنا يومها جميعاً من المنزل، وكان ذلك أيضاً بالنسبة لي مجرد “مشوار”.
يومها، لم يكن ليخطر في بالي، ولم أكُن أضَع إحتمال، ولا حتى قليلاً أن أفقده يوماً.
بعد إعتقاله، عرفتُ لأول مرة من أحد طلابه أنه اعتقل من المدرسة التي كانَ يُدرس فيها، وعندما كان يهرُب، أطلقوا النار على ساقيه وضربوه ليوقفوه.. بكيتُ عندما عرفتُ ذلك كثيراً.. لم أكن أتخيل أنه من الممكن أن يطلقون النار عليه، ولا حتى أن يضربَ أحدٌ ما أبي.
في الصف الخامس، في المدرسة في سوريا، سألني الطالب الذي يجلس أمامي، أينَ هوَ والدي، قلتُ له مُعتقل.سألني لماذا، ماذا فعل؟.. قلت له لا شيء، فسأل لماذا اعتقلوه؟ولأننا كنا في الحصة، وكنتُ أودُّ بشدّة إخباره عن أبي، أخذت ورقة وكتبتُ عليها اسم الصفحة التي كانَ أصدقائه قد أنشأوها ليكتبوا عنه فيها.
كان عنوان الصفحة “الحرية للكاتب علي الشهابي” عندما أعطيته اياها، همستُ له ابحث على هذه الصفحة، هنا مكتوب كل شيء، أخذ الورقة.. جزء من الثانية، ثم استدار، وأعادَ الورقة لي فوراً: لاا خديها، شو حرية ما حرية!
حاولتُ أن ألح عليه، سألته لماذا؟ فقط اقرأ! لكنه لم يقتنع.. قال “لاا يستر عأختك!”
ابتسمت وقلتُ له: “ما عندي أخت.”
بعد اعتقال أبي في بضعة أشهر، مررت مع أمي جانب القصر العدلي، كانَ هناك نساء يجلسن بجانبه، سألتهم أمي عما يفعلون، فوقفت إمرأة وتكلمت مع أمي، وأنا بجانبهما أنصت..
قالت أن جميعهن، أولادهن أو أزواجهن مفقودين، وهم ينتظرونهن هنا، لأنه عندما يفرجون عنهم، يأتون بهم إلى هنا..
سألت أمي لماذا ينتظرون هنا؟ فقالَت لها أن هناك منهم من تهجر من مناطقه، ويخشون أن يخرج ابنهن ولا يعلم أين يذهب.. ثم قالت -وهنا كانت صدمتي- أن بعضهم يخرج فاقد للذاكرة من كثر الضرب، والتعذيب؛ وبعضهم يخرج “مجنون” ولا يعلم شيئاً، ولا أينَ يذهب..
صُعقت مما قالته، وتسائلت ما إن كان مُمكن أن يكون أبي الآن فاقد للذاكرة، ما إن كان ربما الآن لا يتذكرني!
كنتُ أعلم أنه تعرض للتعذيب سابقاً، لكني شئت أن أظن، أن هذه المرة الأمر مختلف.
ثم ما كان يخطر على بالي من تعذيب، لا يُمكن أن يصِل حدَّ إفقاد أحدهم الذاكرة!
كان عمري ١١ سنة، ذهبت يومها إلى المنزل وبحثت عن شهادات معتقلين، وقرأت وقتها مصطلحات مثل الشبِح، والكرسي والألماني، والدولاب.. إلخ.
هنا بدأتُ أكتشف ما يمكن أن يكون يتعرَّض له الآن.
أمقت المثل الغبي القائل “قلبي على إبني، وقلب إبني عالحجر.”
بابا.. قلبك على بنتك، وقلب بنتك عليك. ♡
موقع نواة