الكنز الذي وعدتنا به حنّة أرندت/ نجيب مبارك
بعض الفلاسفة والمفكرين تنطبق على أعمالهم مقولة “صالحة لكلّ زمان ومكان”، ومنهم “الفيلسوفة” والمنظّرة الألمانية حنّة أرندت، واحدة من أكثر المفكرين السياسيين تأثيرًا في القرن العشرين. إذ ما تزال بعض أطروحاتها السياسية والاجتماعية، التي لعبت دورًا حاسمًا في تجاوز الفكر السياسي الكلاسيكي، صالحةَ لقراءة وفهم عالمنا المعاصر، لأنّها تقدم أجوبة عن كثير من أسئلتنا الراهنة.
سنحاول هنا، على ضوء فلسفتها المتجدّدة، قراءة بعض مظاهر الأزمة التي نعيشها حاليًا بسبب كورونا.
التفكير في الأزمة
أوَّل ما تثيره هذه الجائحة في الأذهان هو كلمة “أزمة”. لقد كتبت أرندت عن مختلف مظاهر الأزمة في المجتمع الحديث، لأنّها شخصيًّا عاشت الكثير من الأزمات، لعلّ أبرزها ذلك الخروج المثير من ألمانيا سيرًا على الأقدام في عام 1933، بعد أن اعتقلتها المخابرات النازية لفترة في معسكر غورز، حيث تمكّنت من الفرار إلى مرسيليا، ثمّ منها إلى لشبونة، وأخيرًا وصلت إلى نيويورك في الولايات المتحدة، بعد ثلاثة أسابيع من الإبحار في ظروف قاسية. وبمجرد وصولها، اضطرّت إلى تعلّم لغة جديدة، هي اللغة الإنكليزية، وتطلّعت إلى أن تجد لها مكانًا في المنفى، لتحفر اسمًا بارزًا في تاريخ الفكر السياسي الحديث، هي التي رفضت دائمًا أن يُصنّفها البعض “فيلسوفة”، وفضّلت أن توصف بـ”المنظِّرة السياسية”، لأنّ عملها يركّز “ليس على الإنسان الفرد، بل على البشر، الذين يعيشون على الأرض ويسكنون العالم”. ومن المدهش أنّها بدلًا من أن تستسلم لأزمةٍ داخلية طويلة، جرّاء ما تعرّضت له في حياتها السابقة، قرّرت أن تكرّس حياتها بالكامل لدراسة هذا العالم الجديد، من خلال التفكير في أزماته بعمقٍ، من أجل اقتراح الحلول المناسبة لها. هكذا، صارت الأزمة مفهومًا رئيسيًّا تتمحور حوله كلّ أعمالها الفكرية، الموزَّعة بين 17 مجلدًا باللغتين الألمانية والإنكليزية، بحسب آخر طبعةٍ تستعدُّ الجامعة الحرّة في برلين لنشرها هذا العام.
يمكن القول إنّ مصطلح الأزمة بالنسبة لحنّة أرندت يصف أيّ حدث له تأثير على حياتنا، يعزلنا عن العالم ويحرمنا من التجربة. لقد أرسلت البشرية الإنسان إلى الفضاء، ومنذ ذلك الحين لم تعد تعرف أين تضع قدميها. تقلّصت بالتدريج سلطة الأستاذ والأب والسياسي، لأنّنا لم نعرف كيف نخلق ونربط علاقة ذكيّة (وليس علاقة رفض أو هوس) مع التاريخ والتقاليد. لهذا، يجب أن نأخذ كلمة الأزمة على محمل الجدّ. إنّ تشخيص أرندت واضح: عالمنا الحديث برمّته يعيش في أزمة، بمعنى أنّ الأفراد الذين يتشكّل منهم هذا العالم، لم يعودوا يعرفون مكانتهم في التاريخ وفشلوا في بناء عالم مشترك.
إنّ الأزمة هي لقاء مباشر وغير مسبوق بين الذّات والأشياء الأساسية التي عادةً ما تحجبها الأفكار الجاهزة والأحكام المسبقة. وهي تجبرنا على “كسر الأقنعة” (بالمعنى الحقيقي) من خلال العودة إلى طرح الأسئلة ذاتها، حتّى قبل أن نحاول تقديم إجابات عنها: ما الذي يجري؟ وماذا يحدث لنا؟ هذه هي نقطة البداية لكلّ من يشرع في التفكير خلال أزمة من الأزمات. وهي أيضًا منطلق لأيّ شكل من أشكال التربية والتعليم، يكون هدفه الأسمى هو تكييف الأطفال مع هذا العالم الذي يتحمّل فيه الكبار المسؤولية. تقول أرندت: “في الأساس، لا يتعلَّم المرء أبدًا إلّا في عالم لم يعد في متناوله أو حين يكون على وشك الخروج منه”.
فيروس شمولي
لا يختلف فيروس كورونا عن كثير من “الفيروسات” الشمولية التي عرفها التاريخ المعاصر، وإن اختلفت المصادر والدوافع والمظاهر والأهداف، بحكم أنّه كائن مجهري يتحرّك في مستويات تنفلت ظاهريًّا من المراقبة والقصدية والتحكّم، على الأقلّ حسب ما نعرف عنه حتّى الآن. لكن، مع ذلك، هذا لا ينفي أنّه فيروس يريد أن يحكم ويفرض سيطرته على جميع البشر. وفي الواقع، هو يستوفي تمامًا كلّ المعايير المحدِّدة للشمولية، أو “التوتاليتارية” بمصطلح آخر، كما شرحتها أرندت جيّدًا في كتابها المرجعي “أسس التوتاليتارية”، المنشور عام 1951. فهو في مسعاه لتشتيت الجماهير والهيمنة عليها، يشبه ذلك الحزب الوحيد الذي يجعل الدولة (العالم في حالتنا) رهينة لأيديولوجيته المروعة، المتمثّلة أوّلًا وأخيرًا في الفتك بلا أدنى شفقة أو ضمير، والقتل بلا حسيب أو رقيب. ولأنّ أساس وجود هذا الحزب “الوبائي” هو الإرهاب ونشر الرعب في كلّ مكان، وما يشكّل أسلوبه الفريد في فرض الهيمنة هو ما تسمّيه حنة أرندت “الشمولية”، القائم بالضرورة على معسكرات الاعتقال أو الإبادة، فإنّه يبدو موفّقًا حتى الآن في مخطّطه المرعب، حيث وضع البشرية كلّها داخل معسكر واحد، باتّساع كوكب الأرض، وفي زمن قياسي، مع فارق بسيط هو أنّنا صرنا معتقلين بشكلٍ فرديّ في منازلنا.
تفاهة الشر
من يتابع ما يجري هذه الأيام في البرازيل مثلًا، وما حدث قبلها في بريطانيا والولايات المتّحدة، حيث انتشر الفيروس بشكلٍ مفاجئ وسريع، بسبب الفشل في التدبير والتأخّر في اتخاذ القرارات المناسبة في حينها، من طرف رؤساء دول وحكومات هذه البلدان، يدرك إلى أيّ مدى يكون الدفاع عن عافية الاقتصاد وحمايته من الانهيار، على حساب صحة المواطن وحياته، مكلّفًا ومدمّرًا لآلاف الأسر والأفراد. لقد أظهرت النتائج الكارثية أنّ الأمر لا يختلف عن أيّ جريمة أخرى في حق الإنسانية. إنّ ما يفسّر العدد الهائل للضحايا كلّ يوم في هذه الدول، هو استهانة حكوماتها واستهتارها بخطورة الوباء في البداية، ثمّ اقتناعها الخاطئ بأنّ “مناعة القطيع” كفيلة بمواجهته على المدى المتوسط، متوقّعة أن يختفي الفيروس تدريجيًّا من تلقاء نفسه بعد وصوله إلى الذروة، ما سيدفع الناس إلى امتلاك مناعة جديدة ضدّه في المستقبل، ويجنّب هذه الدول ميزانيات ضخمة قد تصرفها على البحث العلمي. لكن، سرعان ما تبيّن خطأ هذا التقدير وفداحة النتائج المترتّبة عليه. ومثل هذه القرارات الخاطئة واللّامسؤولة تذكّرنا بما وصفته حنة أرندت “تفاهة الشر”، في كتابها “أيخمان في القدس”، وهو وصف ينطبق تمامًا على ما يحدث اليوم في هذه الدول، إذ يكفي أن نقوم بتغيير بعض الشخوص، بحيث يصير النظام الرأسمالي هو قائد الحزب النّازي، والرؤساء (أمثال ترامب وجونسون وبولسونارو) هم المرؤوسون المكلّفون بتنفيذ القرارات والأوامر، نيابةً عن هذا النظام الوحشيّ وأيديولوجيته التوسّعية.
لقد أطلقت أرندت تعبير “تفاهة الشر” لوصف ما قام به أدولف أيخمان النازي في زجّه وتحشيده لليهود في معسكرات الإبادة “الهولوكوست”، بصورة لا تتضمّن شرًّا متجذّرًا في ذاته، بل لتفاهته وعاديته. لأنّ السلطة التوتاليتارية تجعل مرتكبي الجريمة، بإيعاز منها، لا يشعرون بفظاعتها ومأساويتها، وإنّما يعتبرونها أمرًا عاديًا. وما دام مرتكب هذه الجرائم ليس سوى أداة تنفيذ، فهو لا يعي مسؤوليته تجاه الإنسانية، وإنما يهتمّ فقط بتنفيذ القرارات الإدارية، فيما يشبه الطاعة العمياء. إنّ التفاهة هنا تكمن في استقالة العقل والضمير عن تحمُّل المسؤولية بوعي، لأنّ من يقوم بهذه المجازر، أمثال أيخمان وغيره من جلاوزة الأنظمة الشمولية، ليسوا سوى جزء صغير وتافه من ماكنة البيروقراطية التوتاليتارية، التي لا تدع لهم مجالًا للإحساس بإنسانيتهم، ومن ثمّ لن يُنتظر منهم أبدًا خدمة ما هو إنساني. وهذا ليس تسويغًا لأفعالهم الإجرامية، بل إدانة لهم بعد أن أصبحوا كائنات فاقدة للمعنى.
الكنز والفسحة الزمنية
في مقدمة كتاب “أزمة الثقافة” (1954)، تشير حنة أرندت إلى “الكنز” الذي يكتشفه المرء بداخله بعد أيّ كارثة تاريخية. هذا الكنز هو بمثابة دخول مفاجئ في “فسحة زمنية” لم تكن منتظرة، تسمح للرجال والنساء الذين تخلّوا عن عادات الماضي وجمّدوا مشاريع في المستقبل، باستخدام حُرّيتهم بشكلٍ جذريّ. وقد لاحظت أرندت أنّ لهذا الكنز طابعًا منفلتًا، لأنّ مَن اكتشفه هم جيل المقاومة الذين شهدوا اندلاع الحرب العالمية الثانية، حين سارع كلّ واحد من هؤلاء، خلال فترة التحرير، إلى “نفض رائحة هذه السّنوات الأساسية” من حياتهم. وهذا الوضع لا يختلف كثيرًا عن حالتنا الراهنة. صرنا نعيش مع فيروس كوفيد 19 كارثةً تاريخية، سحبت كلّ واحد منّا بعيدًا عن عاداته ومشاريعه. لقد طُردنا من كلّ الفضاءات المفتوحة التي نقضي فيها جلّ أوقاتنا – المكاتب وقاعات الاجتماعات، المقاهي والمطاعم والحدائق والمنتزهات، المصانع التي لا تهدأ عجلاتها وهي تخطّط لمنتوجها القادم، بل حتى المساجد والكنائس التي كانت تعجّ بالمؤمنين- كلُّ هذه الفضاءات المألوفة والمبتذلة أُفرغت من البشر، وأُقفلت أبوابها فجأةً في وجوهنا، فدخلنا جميعًا فيما تسمّيه أرندت “فسحة زمنية”، شعارها الوحيد هو: البقاء في بيوتنا.
“تقول حنة أرندت: “في الأساس، لا يتعلَّم المرء أبدًا إلّا في عالم لم يعد في متناوله أو حين يكون على وشك الخروج منه””
رغم الوضع الاستثنائي الذي نعيشه منذ شهور، فهذا لا يعني مطلقًا أنّ العمل توقّف بشكلٍ نهائيّ خلال الحجر الصحي. لقد دعا كثير من المثقفين إلى استغلال هذه الأزمة للتفكير في العالم الذي نريد بناءه غدًا، أو نرغب أن يعيش فيه أبناؤنا من بعدنا، لكن يبدو أنّنا وصلنا إلى ما كانت تخشاه حنّة أرندت قبل ستّين عامًا، أي ما وصفته بـ”التّمجيد النظريّ للعمل” في المجتمع الحديث، إلى درجة لم يعد فيها أحد يستطيع القيام بأيّ شيء آخر في حياته سوى العمل. لذلك، نشهد اليوم مرحلة من التّدجين المزدوج: ليس فقط لأنّنا قبلنا طواعية المكوث في منازلنا، ولكن أيضًا لأنّنا حافظنا على وتيرة الإنتاج والانضباط في العمل عن بعد. وبعبارة أخرى، لقد تنازلنا عن بعض حرّياتنا للحفاظ على مصدر رزقنا، وبالتالي لإنقاذ حياتنا، وهي حياة ما زلنا – للمفارقة – نؤمن فيها بأنّنا سنكرّس معظم أوقاتنا للعمل، تمامًا كما كان حالنا في السابق. لهذا، لا يمكن أن نصدّق من يبشّرنا بأنّ عالم ما بعد كورونا سيكون مختلفًا، أو أنّه سيعرف تغييرات جوهريّة كبرى، ما دُمنا بعيدين في الواقع عن ذلك الكنز الّذي وعدتنا به حنّة أرندت.
ضفة ثالثة