عن تدمير المدن وبنائها: اللعبة الدموية للهدم وإعادة الإعمار/ ناصر الرباط
تدمير المدن ظاهرة قديمة تعود إلى بداية عصور الانتقال من البداوة إلى التمدّن في الشرق في الألفية الرابعة قبل الميلاد. فقد حفظت لنا الرقم والكتابات والأساطير المحكية في مصر وبلاد الرافدين وعيلام والشام والهند روايات شتى لمدن دُمّرت بأكملها أو جزئياً وقتل أهلها أو استعبدوا أو هجروا لأسباب مختلفة. فتدمير المدن كان تاريخياً عقاباً إلهياً أو ملكياً لمن فسقوا أو شذّوا عن الطاعة أو وضعهم حظهم العاثر على طريق جيش بطاش وقائد طموح لتوسيع سلطته.
كلّنا سمع بقصص عاد وثمود ومدائن صالح وبمدن الفيضان التي جاء ذكرها في التوراة والقرآن والتي دمّرها الله لفسقها وفجورها أو لعنتها واستهزائها برسله. وغالبنا قرأ أو شاهد مشاهد تدمير المدن العاصية أو الثائرة أو المقاومة لهيمنة الآشوريين أو الفراعنة أو الفرس الذين نقشوا تدميرهم لها على جدران قصورهم ومعابدهم في لوحات معبرة وحية. بل لا بدّ وأنّ أصداءً من تدمير المدن على يد الغزاة المغول في القرن الثالث عشر قد وصلت لنا كلّنا في الروايات التاريخية والقصص الشعبي لفداحتها، حتى أن العديد من أشهر مدن فارس اختفت من الوجود ولم تقم لها قائمة بعد ذلك مثل مرو والري ونيسابور. وكذلك الأمر بالنسبة لتيمورلنك الغازي المسلم في القرن الرابع عشر الذي يقال إنه كان يدمّر المدن في إيران والعراق وسورية والهند ويخلف جبالاً من الجماجم قرب خرائبها في حين أنه كان يجبر الحرفيين والبنائين والعلماء من مواطنيها على الهجرة إلى عاصمته سمرقند لبنائها.
زادت الأمور حدة وتعقيداً في العصور الحديثة بسبب التطوّرات الهائلة في تقنيات واستراتيجيات التدمير من جهة، ودخول عوامل جديدة مقرونة بالإصلاح الفلسفي والقانوني الحداثيين اللذين أعادا صياغة تعريفات الفرد والجماعة والدولة والسلطة وغيرها من مفاهيم الحكم بالإضافة إلى صعود الاقتصاد إلى أعلى درجات الأهمية في تقييم الدولة الحديثة وقياس مكانتها الدولية. وارتفعت وتيرة وفعالية تدمير المدن ارتفاعاً هائلاً وبشكل لا سوابق تاريخية له خلال الحرب العالمية الثانية وحروب التحرّر من الاستعمار بعدها حتى الحروب المعاصرة في فيتنام وأفغانستان والعراق وفلسطين. ولكن تدمير المدن لم يعد دلالة على عقاب عسكري أو ردعاً لشذوذ آثم من سلطة إلهية أو مدنية فقط، بل أصبح جزءاً من لعبة سياسية-اقتصادية تهدف ليس فقط إلى زرع الخوف وتسريع الهزيمة، كما كانت الأمور سابقاً، بل أيضاً إلى حصد الأرباح. وظهرت ثنائية متلازمة من التدمير وإعادة الإعمار كجزء من دورة اقتصادية يستفيد منها لاعبون من الطرف نفسه، بعضهم يستفيد من صناعة أدوات التدمير وبعضهم الآخر يستفيد من ميزانيات إعادة البناء.
على هذا الأساس أصبح تدمير المدن أولاً وقبل كل شيء عملية استثمارية معمارية ومدنية وسياسية، لا تقل أهمية عن تشييد المدن بالأساس. بدأ هذا التوجه مع الثورة الصناعية في أوروبا التي غيّرت وجه المجتمع والاقتصاد والعمران. فلم يعد التدمير مقتصراً على مخلفات الحروب والثورات، ولكنه أصبح أيضاً فعل تخطيط عمراني، خاصة في المدن التي توسّعت وتغيّرت وظائفها مما أدى إلى إزالة أجزاء كبيرة منها، أحياناً بدون رضا ساكنيها وغصباً عنهم، مثلما حدث لباريس في سبعينيات القرن التاسع عشر على يد البارون هوسمان الذي امتد تأثير نظرياته في التخطيط إلى مختلف أصقاع العالم.
أعطانا هذا الفعل في ما بعد المصطلح الحاسم “قتل المدينة” Urbicide الذي ظهر في الصحافة الأميركية في بداية ستينيات القرن العشرين بعد سلسلة مدمرة من المشاريع العمرانية الأميركية الكبرى في عقد الستينيات، وخاصة في مدينة نيويورك. كان لهذه التطوّرات آثار هائلة ليس فقط على العمارة والعمران، بل، وربما بنفس الدرجة من الأهمية، على هوية المدن وذاكرتها، وعلى تنظيم وتراتبية المناطق والأحياء في المدينة الواحدة وتوفير الخدمات الحضرية لها، وعلى العلاقة المعقدة بين المدينة والنظام السياسي المهيمن والقيم الأخلاقية والدينية الناظمة للعلاقات الإنسانية في الفراغ المبنيّ.
لذا، فإن أي نقاش حول إعمار المدن اليوم في العالم العربي المنهك بحروبه الداخلية في العراق وسورية وليبيا واليمن وفلسطين طبعاً، ولكن أيضاً في غيرها من الدول التي لم تعان من حروب داخلية، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المسارات التاريخية والسياسية والأيديولوجية التي أدّت إلى تدمير المدن في المقام الأول وإلى سياسات الهوية والانتماء التي أطرت إعادة تشكيل المدن، سواء أكان ذلك بفعل حرب أم إعادة تخطيط، ثم حاولت جني ثمارها.
وبالتالي، فإن أي عملية إعادة إعمار يجب أن تعتمد على مجموعة من القيم الاقتصادية والتاريخية والجيوسياسية والإيديولوجية والجمالية والتذكارية، وكذلك على السجلات المتاحة لاستعادة حالة العمران السابقة للتدمير، بما فيها من توزّع السكان وحقوق الملكية وتوفير الخدمات. هذه الشروط مستقلة معرفياً ومتغيّرة تاريخياً، ولديها أيضاً مسارات خاصة بها وتعقيدات منهجية وأخلاقية قد تتداخل أو لا تتداخل مع فكرة إعادة الإعمار نفسها.
وفقاً لذلك، يجب ألا تكون إعادة الإعمار تدخلاً تخطيطياً أو معمارياً فقط، مهما كانت مزاياه العمرانية والجمالية، أو مشروعاً عقارياً استثمارياً سيدرّ أرباحاً فائقة على المستثمرين. بل يجب أن تكون مشاريع شاملة واعية بالعمليات التاريخية والسياسية والنظرية التي تطوّرت من خلالها المدن المرام إعادة بنائها ومستجيبة لها. ويجب أيضاً أن تأخذ بعين الاعتبار التأثير الهائل الذي تمارسه مفاهيم شاملة مثل الذاكرة الجمعية والتراث والعنف والدمار وكيفية تشكل الهوية التي أصبحت اليوم أجزاء مؤسّسة للجهاز المفاهيمي لكل من فكرتي الدولة القومية والعمارة، مع الدعوة إلى أخلاقيات راسخة وعادلة ومستنيرة تؤطر التدخل قبل البدء به فعلياً.
* مؤرّخ ومعماري مقيم في الولايات المتحدة
العربي الجديد