سرديات التاريخ وتراكم الخراب/ حسان الأسود
يبدأ كثير من الأشخاص كلامهم عادة بجمل توصيفيّة عن حتميّة انتصار الشعوب، وأحيانًا تكون هذه العبارات خاتمة خطاباتهم أو جدالاتهم السياسية، وكأنّ ثمّة وقائع تاريخية، تثبت بشكل قاطع الدلالة انتصار الخير دومًا، أو إنصاف المظلومين، أو تحقق العدالة البشريّة في نهاية أيّ صراع.
الحقيقة أنّ تاريخ البشرية ليس قصّة مشتهاة نرويها كما هي في الأفلام، أو كما يروق لنا أن نتخيّلها. التاريخ لحن موسيقيّ طويل جدًا، يكون صاخبًا أحيانًا، وفي أحايين أخرى هادئًا حدّ التوتر والسكون، ويكون تارة خلّابًا متناغمًا، وأخرى نشازًا خارج الذائقة الجمالية. صحيح أنّ كلّ لحن يروي حكاية، لكنّ حكاية التاريخ ليست من صنع البشر وحدهم، حتى إن كانت تروي قصّتهم. البشر في التاريخ كما هي آلات الموسيقى بالنسبة لأي لحن أو معزوفة موسيقية، هم فاعلون ومفعولٌ بهم، وهم مصدر القصّة وغايتها، لكنّهم ليسوا وحدهم صنّاعها بالمطلق. ما يصنع لحن التاريخ هو فعل الطبيعة وفعل حركة لا إراديّة من البشر جماعاتٍ وأفرادًا، وهي أفعال غير مُدرَكة ولا مقصودة في أغلب الأحيان، إنّها قوانين خارجة عن إرادتنا، وإن كنّا نحن موادها وبنودها، وغالبًا نحن محلّ عقوباتها ومطرحها. ليس التاريخ سرديّة واحدة، إنه سرديات متعددة تحكي روايات الجماعات المختلفة، وتصف الوقائع والحقائق كأنها معزوفة كلّ واحدة منها.
“يختلف التاريخ عن غيره من العلوم في أنّ العلوم كلها نثرية، في حين أن التاريخ يمكنه أن يكون شعريًا، لأنه يتعامل مع البشر ووقائعهم وتفكيرهم وقصصهم وأساطيرهم أيضًا. ويكمن التناقض بين النثري والشعري في أنّ علم التاريخ يطرح السؤال (ماذا حدث فعلًا؟). وهذا السؤال يتضمّن دينامية تطوّر لا تتوقف، وهي البحث عن الأدلّة والحقائق. ومع أنّ التاريخ الإنساني يعرف حالات كثيرة لا يهمّ فيها كثيرًا ما حدث بقدر ما اعتقد الناس، وما يعتقدون أنه حدث، لكن سؤال التاريخ يظلّ دائمًا (ماذا حدث فعلًا؟)، بغض النظر عن قدرته على توفير الإجابة. وهذه القدرة على إيجاد التوتر المستمر بين السعي إلى معرفة (ماذا حدث فعلًا؟) والإدراك أنّ ثمة زوايا مختلفة للنظر، وأنّ إعادة إنتاج ما حدث لن تطابق يومًا ما حدث فعلًا، هي من أهمّ محركات علم التاريخ.”[1]
يعتقد الماركسيون بوجود قوانين ثابتة تحكم الكون والطبيعة والمجتمعات أيضًا. هذه القوانين، بحسب اعتقادهم، ثلاثة، أولها قانون نفي النفي، فلا شيء يبقى على حاله، بل كل الوجود في حالة تغيّر مستمر ودائم. وثانيها قانون وحدة وصراع الأضدّاد، فالأشياء في الطبيعة تشكّل وحدة متكاملة، من ضمنها الإنسان ومجتمعه البشري، ولا يتوقف الصراع بين أطراف هذه الوحدة، فبعضها ينفي الآخر ثم يعود ليصبح هو ذاته نفيًا أو ما نفاه من قبل. ثالث القوانين هو قانون تحوّل التراكمات الكميّة إلى الكيف الجديد، فالتراكم يصل في لحظة ما إلى نقطة لا تعود فيها الأشياء هي ذاتها، بل تتحوّل إلى جواهر أخرى، مختلفة في طبيعتها وخصائصها عن الكينونة التي انطلقت منها.
لكنّ ماركس ذاته، الذي تنبّأ بانتصار البروليتاريا نتيجة تحليله المستند إلى صراع الطبقات في المجتمع الرأسمالي، لم يكن يتوقع أن تتطوّر الصناعة فتخلق طبقة متوسطة كبيرة وحاملة لقيم وثقافة هذا المجتمع، وأن تتحسّن الأوضاع المعيشية للطبقة العاملة، فيتحوّل النضال السياسي الذي حكى عنه إلى نضال مطلبي. تغيّرت طبيعة المجتمعات في الأنظمة الرأسمالية نحو مزيد من الليبرالية والديمقراطية، وأنتج التعامل مع التكنولوجيا واقعًا جديدًا وأفرادًا أكثر مشاركة وتفاعلًا، كما لعبت الأحزاب والكنيسة أدوارًا مهمة في هذه النقلة، وبات قطّاعا الصحّة والتعليم مرفقين مهمين يقلّصان المسافات بين الطبقات.
مع ذلك، وعلى الرغم من التطوّر الكبير الذي شهدته الإنسانية في القرنين الماضيين، في نظرة الإنسان إلى ذاته، وفي تقسيمات البشر وتصنيفهم بين أحرار وعبيد، أو ملّاك وأقنان، والانتقال من مفهوم الرعايا إلى مفهوم المواطنين المتساوين بالحقوق والواجبات، لم نصل إلى درجة يكون فيها توزيع الثروة والأجور، على سبيل المثال، مستندًا إلى معايير عادلة حقًا. مَنْ قال إنّ من العدل أن يحصل لاعب كرة قدم شهير، أو ممثلة متوسطة الذكاء وقلية الثقافة لكنّها فائقة الجمال، على مليارات الدولارات من عملهما، بينما يحصل مفكّر أو فيلسوف، أو بروفيسور في علم الاجتماع أو في علم الأوبئة أو في الفيزياء، قدّم من النظريات والأبحاث ما لا يقدّر بثمن، على مردود مادي أقل بكثير منهما، ولا يتناسب مطلقًا مع ما يقدّمه من خدمات للبشرية؟
بغضّ النظر عن صحّة قوانين الماديّة التاريخية وقوانين الديالكتيك -التي يؤمن الماركسيون بها- من عدمها، وبخاصة أنّ “نقد التاريخانيّة يتلخّص في رفض إخضاع وقائع التاريخ لمقولات نظرية أيديولوجية تُصاغ على شكل قوانين وحتميات تاريخية تسير بالتاريخ موضوعيًا لتحقيق غاية عليا ميتافيزيقية كلّية ثاوية فيه، تحملها إلى غاياتها حوامل و(ذوات تاريخية) مثل الروح أو الأمة أو التكنولوجيا أو العرق أو الطبقة…إلخ.”[2] فإن تجربة البشر الطويلة أثبتت أنّ الحياة أعقد من أُمنيات البشر ونظرياتهم عنها، فلم يكن النجاح حليف القضايا العادلة باستمرار، ومن قال إنّ الحق لا بدّ أن ينتصر في النهاية، لم يكن يدرك أنه لا نهاية للتاريخ، فالتاريخ عمليّة دائمة مستمرة لا تنتهي. تلك مقولات رغبويّة تصدر عن قراءات ثيولوجية للوجود والمجتمعات والإنسان الفرد ودوره في هذا الكون. هي ذاتها النظرة الخلاصية التي حكت بها جميع الأديان السماوية، ولم يثبت أنّ مقولاتها قد تحققت في الأرض، حيث لم نصل بعد إلى تلك اللحظة التي تُملأ فيها عدلًا بعد أن كانت -مذ عرفها الإنسان- مملوءة ظلمًا وجورًا، وإنّ تحققها في الحياة الآخرة غير قابل للقياس، إلّا باعتبارات إيمانيّة خارجة عن نطاق الإثبات والتأكيد العلمي.
إنّ هذه الحال تراكم للخراب، وهو خراب عميم مستدام في بلدان الشرق الأوسط الحزين، حيث لا تتراكم المعارف والخبرات، بل يتراكم الفساد والاستبداد والقهر، وهي الأشياء التي نراها ونعيشها منذ أعوام طوال. وبالمقابل هناك سرديّات المقاومة والممانعة والانتصار على مشاريع الإمبريالية والصهيونية والمؤامرات الخارجية، أليس من حقّنا التساؤل، هل كانت بلادنا ستغرق في هذه المستنقعات أكثر مما هي عليه الآن، لو كانت المؤامرات المحكي عنها قد انتصرت علينا؟ لا شكّ بأنّ أيّ من تيودور هيرتزل أو بن غوريون أو شارون ما كان ليحلم أو يتخيّل يومًا ما وصلنا إليه بأيدينا، وما ركزناه في أوطاننا ومجتمعاتنا من أسس دعم واستمرار “إسرائيل”.
هذا هو إنساننا في المشرق البائس، لا يسمع إلّا لحن الحروب، وهذي عواصمنا، من صنعاء إلى بيروت، مرورًا ببغداد ودمشق والخرطوم والقاهرة وطرابلس، لا تروي إلّا سرديات التاريخ المزوّر، ولا تعيش غير تُراكم الخراب والدمار.
عزمي بشارة – الدين والعلمانية في سياق تاريخي – الجزء الثاني، المجلد الثاني – ص 30
المصدر السابق – ص 38
ملاكز حرمون