سورية وأزمة التعبئة الشعبية والتمثيل السياسي/ حيان جابر
يتسم مستقبل سورية بالغموض المفتوح على مئات الاحتمالات، ومن ضمنها قراءات أو تحليلات ذات وجاهة كبيرة، ترجح عودة فاعلية وحركية الشارع السوري، من خلال تصاعد الحركة الاحتجاجية المعيشية والاقتصادية والاجتماعية من جهة، والحركة الوطنية من جهة ثانية، لمواجهة قوى الاحتلال المتعددة. وهو ما يعيد التأكيد على ضرورة الاستفادة من دورس المرحلة السابقة، بما يخص الثورة، التنظيم، واستقطاب الشارع وتعبئته في معركة سياسية وربما عسكرية قد تطول، وهو ما سأركز عليه في هذا المقال، ولا سيّما بما يخص العوامل الداخلية السورية، وعوامل قوى الثورة (إن جاز التعبير) الداخلية والتنظيمية والاستراتيجية. وذلك عبر توصيف وتحليل الحركة الاحتجاجية السورية وبناها التنظيمية.
أزمة تمثيلية:
نجح نظام الأسد، طوال سنوات سيطرته، في قتل الحياة السياسية السورية بشقيها؛ التنظيمي ممثلًا بالأحزاب والمنتديات وحرية التعبير والرأي والرأي الآخر؛ وكذلك العملي ممثلًا بالحركة النضالية الشعبية كالنضال النقابي، والفئوي، والتنافس الحزبي. وهو ما لمسنا نتائجه بعد اندلاع الثورة السورية التي افتقرت إلى جسم “حزب” يمثلها سياسيًا، ويقود حركتها، ويتحكم في إيقاع الاحتجاجات بين التصعيد أحيانًا والتهدئة أحيانًا أخرى، فضلًا عن كثير من الأمور التي ما زالت تتطلب هيكلًا، أو هياكل سياسية تنظيمية قادرة على تعبئة الشارع، وتحظى بثقته المطلقة أو شبه المطلقة. وهو ما افتقدته الثورة السورية ويفتقده السوريون حتى اللحظة، إذ لم تشهد الثورة السورية أي حدث، ولو كان بسيطًا، يوحي بقدرة هذا الطرف السياسي أو ذاك على تعبئة الشارع السوري، أو جزء كبير منه، مماثل لما شهدنا حدوثه في ثورات عربية أخرى، وأبرزها الثورتان السودانية والتونسية.
إذًا، بمقارنة مسار الثورة السورية بمسار الثورة التونسية والسودانية، نلحظ بوضوح فشل القوى والتجمعات السياسية السورية؛ الشيوعية واليسارية والليبرالية واليمينية ممثلة بقوى الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان المسلمون؛ في توجيه الحركة الاحتجاجية الشعبية، وفي ضبط إيقاعها منذ اليوم الأول، كما فشلت في حشد الجموع السورية لأي من النشاطات التي دعتهم لها. على نقيض قوى الحرية والتغيير السودانية التي تمكنت -من خلال تغلغلها في الشارع السوداني- من فرض ذاتها كرقم صعب في المعادلة السودانية، يصعب على أي طرف تجاوزه أو تجاهله، فقد نجحت في فرض إغلاق شامل لغالبية المدن والبلدات السودانية، وأدارت اعتصام القيادة العامة بشكل جيد، وغير ذلك من النشاطات والفاعليات الثورية الناجحة. وعلى الرغم من وضوح بُعد النخب السياسية السورية عن نبض الشارع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فإن هناك من يصرّ على اعتبارها أزمة قوى يسارية وديمقراطية فقط، وينطلق من ذلك لدعوة اليساريين والديمقراطيين إلى التعلّم والاستفادة من نجاح قوى الإسلام السياسي السوري في تمثيل وتعبئة السوريين، استنادًا إلى فرضية وهمية أثبتت الوقائع خطأها، تدعي أن شعارات قوى الإسلام السياسي تتمتع بجاذبية وحضور راسخ في اللاوعي السياسي والاجتماعي الشعبي، لا سيما في البلدات الصغيرة والأرياف.
وعليه، لا بد من التمييز بين جاذبية الخطاب الاجتماعي من جهة، والخطاب السياسي من جهة ثانية، إذ يتمظهر الأخير من خلال نجاحه في تمثيل الشارع وقيادته، كما شهدنا في التجربة السودانية أخيرًا، إذ كان نجاحًا واضحًا وغير قابل للتشكيك، من خلال التفاف شعبي كبير، وامتثال شعبي للقرارات والدعوات. في حين يتمظهر الخطاب الاجتماعي في اللغة اليومية والعادات، بل في تحديد هوية وطبيعة النخب الثقافية والعلمية، ممثلة برجال الدين مثلًا. حيث تستند قوى الإسلام السياسي إلى جاذبية الخطاب الاجتماعي الديني فقط، في حين لا يظهر أي تأثير في الشارع السوري لخطابها السياسي، وعليه؛ كان من المفترض على قوى الإسلام السياسي السورية البناء على جاذبية خطابها الاجتماعي في فرض خطابها السياسي، لكنها فشلت في ذلك فشلًا ذريعًا، لا يقل عن فشل القوى الديمقراطية الليبرالية واليسارية، وعليه، لم ينجح الخطاب النخبوي في تعبئة الشارع السوري تمامًا، كما لم ينجح الخطاب الديني في ذلك، بالرغم من سهولة وصوله إلى الشارع السوري عبر عشرات القنوات الإعلامية الداعمة له، وعبر المنابر الدينية المتعددة وأولها الجوامع.
العسكرة والبحث عن السلاح:
انتقلت الثورة السورية نحو العسكرة، بفعل عوامل عديدة، نذكر منها عنف ودموية النظام السوري الذي يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية؛ في تعاطيه مع المسيرات والتظاهرات السلمية، وإصرار المنابر الإعلامية والسياسية المستندة إلى جاذبية خطابها الاجتماعي المحسوبة على قوى الإسلام السياسي، على عسكرة الثورة بغرض استدعاء تدخل خارجي، أو لاستحالة إسقاط النظام السوري سلميًا، فضلًا عن تدخلات خارجية سعت وكرّست جهودها لذلك. وبغض النظر عن أسباب العسكرة وتحليلها، لا بد من إدراك انعكاسات العسكرة على وعي وحاجات وأولويات أي مجتمع يخوض معركة عسكرية طاحنة، كالتي فُرضت على الشعب السوري. فمن خلال دراسة عسكرة نضالات شعبية في دول مغايرة، وعبر التدقيق في تجارب التجمعات الشعبية السورية المختلفة على امتداد الساحة السورية، نلحظ هامشية التمثيل السياسي في هذه المرحلة لصالح أولوية القدرات والإمكانيات العسكرية، وهو أمرٌ منطقي بحثًا عن حماية الذات والعائلة والأصدقاء أولًا، ورغبة في إلحاق أكبر ضرر ممكن بالخصم أو العدو أو المعتدي.
إذًا، للعسكرة توازناتها الخاصة بها، توازنات لا تقوم على قوة الخطاب السياسي وقدراته التمثيلية والتعبوية، بقدر ما تقوم على قدرات كل طرف من الأطراف في النواحي العسكرية اللوجستية والأساسية؛ من طبيعة وكمية الأسلحة، إلى الكفاءة التدريبية، وأحيانًا المردود المالي، لا سيّما في الحالات التي تشابه التجربة السورية، التي تحوّل فيها العمل العسكري من عملية كفاحية بحتة، إلى مهنة تدرّ المال ولو بحده الأدنى الكافي للمعيشة. طبعًا لا أقصد التقليل من تضحيات المقاتلين ولا سيّما الفقراء والوطنيين منهم، بقدر ما ألفت انتباه القراء إلى إصرار النظام السوري على انتهاج صراع تدميري ودموي، حطم قدرة البلدات الثائرة الاقتصادية، لتشح مصادر العمل الطبيعية، إن لم نقل إنها قد اختفت كليًا، وهو ما استغلته الدول الخارجية، في خلق مصادر تمويلية مشبوهة تؤمن لجزء من السوريين المحاصرين داخل مناطق سيطرة قوى المعارضة المسلحة حدًا أدنى من المال الكافي للحياة، في مقابل العمل أو الالتحاق بالجمعيات والمنظمات والكتائب التابعة لها.
وعليه، فقد أصبح الالتحاق بهذه الجمعيات أمرًا واقعًا مفروضًا بحكم الحاجة إلى مواجهة إجرام قوات النظام أولًا، والحاجة المالية إلى تأمين حاجات البقاء الأساسية ثانيًا، وبالتالي أصبح الالتحاق بالكتائب والفصائل المسلّحة الأقوى والأقدر على إمداد الملتحقين بها بالسلاح والتدريب والمال المشروط، وهذه حقيقة فرضتها الظروف والأوضاع السورية، وعليه، فهو لا يعكس قدرة خطاب هذه الفصائل والكتائب على اجتذاب الحشود الشعبية، بل على العكس فقد شهدنا، في بعض الحالات، وربما في كثير من الحالات، كيف عبّرت الحواضن الشعبية عن رفضها التام لهذا التوجه الخطابي، بشقيه الاجتماعي والسياسي. وبغض النظر عن مدى صحة ملاحظتي الأخيرة، فإن النقطة المهمة من كل ذلك، تتمثل في ضرورة التمييز بين دوافع انتماء أو التحاق كتلة شعبية كبيرة وضخمة بقوى سياسية محددة في مرحلة النضال السلمي، وتقيدها بخطابها وتوجيهاتها ودعواتها النضالية من ناحية، وبين حاجة المجتمع المحلي إلى الالتحاق بقوى مسلحة أو هياكل ومنظمات مجتمعية في مرحلة العسكرة المتوحشة لدوافع البقاء والاستمرار، بغض النظر عن مدى توافق الملتحقين مع خطابها وتوجهاتها، وهي الحالة الأكثر رواجًا في سورية.
حق الأحزاب والقوى في العمل السياسي:
تخوض الأحزاب والقوى السياسية في الدول الديمقراطية صراعًا سياسيًا ديمقراطيًا حضاريًا، عبر آليات ووسائل سلميّة، وضمن منظومة قانونية تضمن حق جميع القوى بشروط التنافس المتساوية. وهو ما يحتاج إلى إشراف السلطة القضائية على العديد من النواحي والقضايا، كالتمويل والمؤسسات الإعلامية. وتخضع علاقات القوى والأحزاب السياسية الخارجية لكثير من التدقيق والتفنيد، من أجل ضمان استقلاليتها عن أي طرف خارجي، والتأكد من تمثيلها مصالح الشعب والوطن بدلًا من تمثيل مصالح قوى خارجية، وإن كانت من أشد حلفاء الدولة ذاتها. طبعًا لكل قاعدة استثناءات وانحرافات وتجاوزات، يصعب كشفها ومحاسبتها بحكم ميزان القوى العالمي أو الداخلي، لكن بشكل عام لا خلاف نظريًا على أهمية هذه الضوابط، وهو ما يجبر الجميع على الالتزام بها، أو على ادعاء ذلك، على الأقلّ.
كان لا بد من هذه الإشارة السريعة إلى مبادئ العمل والتنافس الحزبي الديمقراطي والوطني، قبل الولوج إلى حيثيات العمل السياسي السوري؛ وبالذات المعارض منه وبجميع تنوعاته. لا سيما في ظل الإرباك والتشويش الذي يعتري البعض عند أي نقاش يمس بنية الأحزاب والنشاط الحزبي في سورية، الذي يتبدى في الخلط بين بعض المفاهيم، مثل حق الأحزاب في العمل السياسي من جهة، ومصادر التمويل، والمال السياسي من جهة أخرى. فمن خلال مراجعة العمل الحزبي الثوري، منذ بداية الثورة السورية حتى اللحظة، نلحظ أوجه خلل عديدة وكثيرة قد يصعب علينا حصرها في فقرة أو حتى مقال واحد، لكننا كي لا نُطيل سوف نحصر النقاش في النقاط الثلاثة التي أشرنا إليها آنفًا وهي:
حق الأحزاب في العمل والتعبئة السياسية:
لا يستقيم العمل الديمقراطي والنشاط الحزبي دون الإقرار الواضح والصريح بحق جميع القوى والأحزاب في العمل السياسي، وفق قواعد ناظمة ومؤطرة لخطاب الأحزاب وبرامجها وآلياتها، طبعًا قد تختلف هذه القواعد من دولة إلى دولة، لكنها غالبًا ما تؤكد على حظر نشاط الأحزاب ذات الميول الدينية والعرقية العنصرية، التي تكفر أو تستبعد أحد مكونات المجتمع، سواء أكان مكونًا قوميًا أو اثنيًا أو طائفيًا، فالقاعدة الأهم في العمل الديمقراطي تقوم على مبدأ الاعتراف بالآخر، والشراكة معه في بناء الوطن والحفاظ عليه وتنميته وتطويره. لذا يذهب البعض -وأنا منهم- إلى اعتبار العلمانية ركيزة أساسية في البناء الديمقراطي، فمن غير الممكن تأسيس دولة ديمقراطية حقيقية دون فصل الدين عن الدولة، وصيانة حق الأفراد في ممارسة طقوسهم الدينية أو الامتناع عنها، والمساواة بين جميع أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، والمساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، وضمان الحقوق الجماعية ثقافيًا، فضلًا عن حق المجموعات القومية في تقرير مصيرها على أراضيها الوطنية.
طبعًا من حق الشعب السوري وحده تحديد المعايير والضوابط التي تحكم النشاط الحزبي، بين مكوناته السياسية الحالية والمستقبلية، ومن الواضح -في ظل الظروف السابقة للثورة والراهنة اليوم- أن تحديد هذه المعايير بين مكونات المجتمع السوري أمرٌ صعب؛ لكونها تحتاج إلى كثير من الحوارات والنقاشات الجدية والهادفة، في أجواء من الاستقرار والحرية والحق في العمل والنشاط السياسي، وهو ما لم يتوفر في سورية في ظل سلطة الأسد، كما لم يتوفر فيها أو في أي من المناطق الخاضعة للمعارضة، بعد اندلاع الثورة. لذا، في ظل غموض مبادئ العمل السياسي الحزبي، يصبح من الصعب خوض نقاش تفصيلي عن حق هذا الحزب في العمل، أو عن مدى تعارضه مع مبادئ العمل السياسي، لكن من المهم اليوم عدم التراخي مع الطروحات الإقصائية، ولا سيما تلك التي تمارس إقصاء جسديًا يصل إلى حد القتل والتصفية. وهو ما ينطبق على غالبية قوى الإسلام السياسي الفاعلة في سورية اليوم.
مصادر التمويل:
لكل حزب أو مجموعة سياسية مصادرها المالية المتنوعة التي يفترض أنها مصادر وطنية داخلية ناتجة عن تبرعات مؤيديها من مواطني الدولة ذاتها، وذلك بغرض الحد من تبعية الأحزاب للممولين الخارجين، سواء كانوا جماعات أم أفرادًا، وبغرض ضمان حد أدنى من عدالة التنافس السياسي. ففي ما يخص السبب الأول لا تلعب الدول دور الجمعيات الخيرية أو حتى التعاونية كي تمنح أموالها لأحزاب دول أخرى دون مقابل صريح لهذا التمويل، سواء أكان المقابل سريعًا وواضحًا أو بعيد المدى ومستتر. وبالتالي، فإن الأحزاب السورية الممولة من الخارج تخرق المبادئ الأساسية في النشاط والعمل الوطني، مما يجعلها موضع شك في قدرتها على تمثيل مصالح السوريين وحقوقهم، ويجعلها موضع شبهة بالحد الأدنى، كونها تتلقى أموالًا من دول خارجية أو أفراد غير سوريين. وهو ما يقودنا إلى السبب الثاني، أي انتفاء عدالة المنافسة الحزبية، فمن المستحيل، على أي قوى حزبية ممولة داخليًا من خلال تبرعات مؤيديها، أن تنافس قدرات وإمكانيات الأحزاب والقوى الممولة خارجيًا، ولا سيّما الحاصلة على تمويل دول بذاتها. وهو ما ينطبق على نشاط وتمويل غالبية قوى الإسلام السياسي السورية المدعومة من قوى خارجية بشكل علني، إن لم نقل جميعها، ويجعلنا نتيقن مجددًا من كونها لا تمارس حقها المصان بالمنافسة السياسية أو النشاط السياسي الداخلي، بل على العكس تقوض إمكانية الآخرين في التنافس السياسي.
المال السياسي:
لا يمكن نظم الحياة الحزبية والمجتمعية الديمقراطية دون البحث عن حلول للحد من نفوذ المال السياسي، الذي يمثل امتدادًا للفقرة السابقة، أي التمويل، غير أن الوضع السوري بتعقيداته وتداخلاته العديدة ومدى توسع نفوذ المال السياسي إلى درجة لعب أدوار في غاية السوء، جعلني أفصل بين كلا الفقرتين، لإبراز حجم الخلل الذي اتبعه البعض، ولا سيما قوى الإسلام السياسي ذات القدرات المالية الضخمة، بفعل الدعم والتمويل الخارجي عبر بعض الدول. فمن ناحية نظرية، لا يمكن الاختلاف على وجود تباين في القوة المالية بين حزب وآخر، وفق حجم قاعدته الجماهريته وتموقعها الطبقي، حيث تتميز طبقات اجتماعية محددة بقدرات مالية أكبر، وبقدرة أكبر على التبرع للحزب ومؤسساته.
ونظرًا إلى انتشار وشعبية بعض قوى الإسلام السياسي، أو معظمها، في أوساط رجال الأعمال من تجار وصناعيين ومستثمرين في القطاعين السياحي والمالي؛ يسهل تفهّم قدرات تيارات الإسلام السياسي المالية، بغض النظر عن مصادرها المالية الأهم من دول خارجية، لكنّ ما يصعب علينا قبوله أو حتى الإقرار به هو وسائل هذه القوى في توظيف المال السياسي الذي يفترض المنطق السياسي أن تعمد إلى استثماره في مجالات اجتماعية عامة، بحيث تفيد في جذب الفئات الشعبية المفقرة التي يمكن أن تحلّ تلك الاستثمارات معاناتها وأوجاعها، من خلال تقديم حلول جماعية، ولو كانت مناطقية أي محصورة بمنطقة محددة، أو أن تنشئ استثمارات تجارية ربحية، بغرض الحفاظ على حد أدنى من تمويل الحزب يقيها الخضوع لمطالب الممول، وخلق فرص عمل جديدة تفيد السوريين. لكن ذلك -بكل أسف- لم يحصل، وإنما تم ويتم توظيف المال السياسي في استغلال حاجات الناس وظروفهم الصعبة، لا سيما بعد اتباع النظام نهجًا دمويًا في قمع الثورة والشعب السوري؛ إذ عمدت قوى الإسلام السياسي إلى ربط الدعم المالي أو حتى الاجتماعي بمدى خضوع الفرد والأسرة المدعومة لسياسات الحزب العامة والخاصة. وفرضت على كثير من الهيئات والجمعيات والمؤسسات الإغائية والإعلامية نهجًا خطابيًا ذا نزعة يمينية، وحصرت نشاطاتها في الأوساط الشعبية الداعمة للحزب، وحظرتها عن غيرها من الفئات الشعبية، فتم التعامل مع جميع الملفات الإغاثية والخدمية بنظرة سياسية لا تكترث لتراتبية الأولويات المجتمعية. وبذلك المنطق، رُبط تمويل القوى والمجموعات العسكرية، وفُرضت تسميات لها ذات مدلولات إسلامية، وبرامج وبيانات إعلامية يمينية، وحُرف المسار العسكري بما يخدم ويعزز نفوذ قوى الإسلام السياسي أو إحداها، فكثرت معارك المجموعات العسكرية المعارضة الجانبية فيما بينها، وتم تهميش معركة المعارضة مع النظام وحلفائه من قوى طائفية ودولية.
وعليه، كلّما شدد النظام السوري هجماته العسكرية الدموية على منطقة من المناطق، وأحكم قبضته عليها وفرض حصارًا إجراميًا على سكانها؛ توغلت قوى الإسلام السياسي ذات القدرات المالية الضخمة في استغلال الصعوبات التي يتعرض لها سكان هذه المنطقة، لفرض قادة وميليشيات ميدانية موالية لها، على السكان والفصائل الموجودة فيها. كما رُبط الدعم الغذائي والإغاثي بذلك أيضًا، لتستغل هذه القوى همجية النظام وإجراميته في فرض أجندتها الخاصة، وأجندة داعميها الخارجيين، على حساب مصلحة سورية والسوريين. وهو ما يحتاج إلى إدانة وفضح ورفض سوري واسع وعريض، لأنه سلوك مشين ومدان ولا يعبّر عن حق هذه الأحزاب في العمل السياسي الداخلي، بل هو -مع الأسف- سلوك يتطابق مع سلوك النظام السوري والميليشيات الطائفية المتحالفة معه، من حيث استغلال ظروف الطبقات الشعبية الأشد فقرًا، لفرض نفوذهم عليها أولًا وعلى سائر السوريين ثانيًا.
عن قواعد العمل السياسي:
لا يمكن الحديث عن أوجه قصور العمل السياسي السوري، في الآونة الأخيرة، من دون تقديم تصور مستقبلي، ولو كان بسيطًا ومختصرًا، عنه، ولا سيّما إن كنا من المقتنعين بأن الصيرورة الثورية السورية مستمرة حتى زوال جميع القوى الاستبدادية والإجرامية والطائفية، وحتى كنس قوى الاحتلال الخارجية والداخلية، وصولًا إلى بناء دولة العدالة والحرية والمساواة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وعليه يصبح من المهم الإجابة عن كيفية العمل الحزبي في الأوساط الشعبية، حتى يتمكن هذا الحزب أو ذاك من تعبئة الجماهير في خضم هذه المعركة المهمة في تاريخ سورية، ومن تمثيل الشعب السوري أو الكتلة الأكبر منه سياسيًا. وهو ما سوف أحصره في نقطتين فقط، على الرغم من تعدد النقاط المهمة بهذا الخصوص، هما الأهمّ حاليًا -من وجهة نظري- سوريًا وعربيًا عمومًا، وهما:
محاكاة الأزمات الاجتماعية سياسيًا:
عادةً ما تسعى الأحزاب إلى معالجة قضايا المجتمع، ولا سيما في الأوساط أو بالأصح في الطبقات الاجتماعية التي تدعي تمثيلها، وتتباين الطبقات الاجتماعية التي تمثلها الأحزاب من مجمل الطبقات المفقرة إلى فئة محددة منهم (فلاحون، عمال) وصولًا إلى تمثيل الطبقة الوسطى، كالمهندسيين والأطباء والمحامين… إلخ، وانتهاء بتمثيل الطبقات المهيمنة اقتصاديًا أو ماليًا، كالتجار والصناعيين والإقطاعيين… إلخ. غير أن نجاح الأحزاب، بغض النظر عن الفئة أو الطبقة الاجتماعية التي تمثلها، يجب أن يستند إلى دعم شعبي واسع، ويستدعي هذا الأمر من الحزب النجاح في إقناع الطبقات المفقرة ذات الحجم الأكبر في المجتمع، بقدرة الحزب وبرنامجه السياسي والاقتصادي على حل مشكلات المجتمع. وبالتالي يجب أن ينطلق الخطاب الحزبي من معاناة ومشكلات وأزمات المجتمع، وبخاصة المفقرين منه، من أجل تقديم حلول لها استنادًا إلى برنامج الحزب ورؤيته، فكلما نجح الحزب أو الخطاب الحزبي في إبراز قدرة برنامجه السياسي والاقتصادي على حل المشكلات والصعاب؛ حظي بتأييد شعبي أوسع.
وعليه؛ تحتاج الساحة السورية إلى تحليل وحل مشكلات وأزمات المجتمع السوري التنموية والاقتصادية والقانونية، برؤى وبرامج متعددة تعكس تنوع الأحزاب التي تطرحها، حتى يتمكن الشعب السوري من فرز هذه القوى والجهات، انطلاقًا من منطقية طرحها أو عدمه، عوضًا من جعل القدرات المالية والعسكرية اللاعب الوحيد في تحديد هيمنة ونفوذ هذا الطرف أو ذاك، في كامل سورية أو في إحدى مدنها وبلداتها.
الانخراط الجماهيري:
يُعدّ النضال السياسي والاجتماعي الحاملَ الوحيد لأي مشروع سياسي، إذ يجب أن ينخرط الحزب -ممثلًا بقيادته وقواعده- في النضال اليومي، ولا سيما في الأزمات المجتمعية العامة، كما يحصل في خضم الحراك الثوري، أو حتى في التحركات الفئوية والمهنية كالنضال المهني والنقابي. ويُعد ذلك الفرصة والسبيل الأنجع لتواصل البنى الحزبية مع الطبقات الشعبية، والتفاعل والحوار معها، بغرض نشر برنامج الحزب وتطويره وفق تطور الحوار والتفاعل مع الشعب، كما يُعدّ الاختبارَ الحقيقي للحزب وقيادته وكوادره، الذي سوف يرفع من قيمة الحزب أو يقضي عليه، شعبيًا وجماهيريًا. فالنضال الاجتماعي السياسي هو التجسيد الفعلي للبرنامج السياسي، وهو التعبير عن مدى كفاءة الحزب في تحليل الواقع واستنباط الحلول العملية له، ويقدم كذلك نموذجًا عن مدى كفاءة الحزب في إدارة المعركة الإعلامية والسياسية والاجتماعية، بما يخدم المصلحة العامة، ويحد من قدرات الخصم ممثلًا.
وبعد عرض موجز عن أوجه قصور عمل القوى والأحزاب السورية ذات التوجهات اليمينية واليسارية والليبرالية، نجد من الضرورة في المرحلة القادمة من الحركة الثورية السورية، القادمة لا محالة، عاجلًا أم آجلًا، أن ننبذ جميع محاولات الهيمنة، وفرض قوى مرتبطة بالخارج أو ذات دعم سخي منه، ونبذ أي مظهر من مظاهر استغلال المال في خدمة التوجه السياسي. وذلك عبر فرض التزام شامل بقيم المنافسة والنشاط الحزبي الديمقراطي. والأهم من ذلك الاستفادة من تجاربنا السياسية الفاشلة، على طول الفترة الماضية، وبناء عمل حزبي جماهيري يتصدر ساحات النضال السياسية والاجتماعية.
مركز حرمون