ماذا وراء ارتفاع وتيرة الكذب السياسي؟/ رشيد الحاج صالح
على الرغم من أن “الكذب السياسي” يُعدّ أحد أركان ” البروباغندا ” الأسدية وأشباهها من أنظمة المنطقة، شهدنا في السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في استخدام هذا النوع من الكذب، حتى باتت الأكاذيب التي يتضمنها أي لقاء صحفي مع بشار الأسد، أو خطاب لحسن نصر الله، أو حديث لعبد الفتاح السيسي، أو أي تصريح لوزير سوري أو لبناني، أكثر من أن تُعدّ، لدرجة يمكن القول معها إن كلامهم أصبح مجرد تسويق لمجموعة من الأكاذيب، وجديد هؤلاء اليوم -وهو موضوعنا الذي سنفرد له هذا المقال- هو “الكذب السياسي الساذج”، أي قول أكاذيب لا يمكن تصديقها، هم متيقنون أن لا أحد يصدقهم، وأن أكاذيبهم مفضوحة، وعلى الرغم من ذلك يكذبون من دون أدنى شعور بأن هذا الكذب المفضوح يحط من قيمتهم، أو يقلل من مكانتهم بين مؤيديهم.
ولكن لماذا يكذب هؤلاء بهذا الشكل؟ وما الذي يجبرهم على ترديد عدد من الأكاذيب الساذجة التي لا يصدقها أي شخص، سواء أكان معارضًا أم مواليًا؟ أكاذيب قد تثير السخرية والضحك لشدة غرابتها وبعدها عن الواقع.
يقول بشار الأسد في خطابه أمام مجلس الوزراء السوري بتاريخ 22 حزيران/ يونيو 2017: “كنت أقف على الإشارة الضوئية قبل الحرب وما زلت، واليوم يُضاف إليها وقوفي على الحواجز”. وفي رده على صحفية أجنبية سألته عن دور والده حافظ الأسد في وصوله إلى السلطة، يقول: “والدي لم يتحدث معي في السياسة أبدًا، هو لم يعمل أبدًا على تأهيلي لمنصب الرئاسة، كما أنني دخلت إلى عالم السياسة على الضد من رغبة والدي”. ومن ذلك أيضًا قوله لتلفزيون “الدنيا” في جواب عن سؤال حول البدايات السلمية للثورة في سورية: “في الأسبوع الأول من الاضطرابات والأحداث سقط لنا عدد من الشهداء من قوى الأمن والشرطة”. ومن ذلك أيضًا وصف مفتي سورية أحمد حسون لقاسم سليماني في مجلس عزائه بأن الرجل “ما رفع يده ولا سلاحه في وجه مسلم يومًا”.
حتى رفعت الأسد أخذ يغريه الكذب السياسي الساذج فصرّح بكل وضوح، في جواب سؤال عن مَن يأمر وحدات الجيش السوري بقصف وتدمير المدن السورية وقتل المدنيين، بأنه “-من دون شك- وزير الدفاع.. لأن الرئيس بشار ليس عسكريًا بالمعنى العسكري”. ليس ذلك فحسب، بل إن رفعت الأسد يقول ذلك في الوقت الذي يقدّم نفسه بأنه معارض لبشار، ويريده أن يرحل عن السلطة. وعلى قاعدة “ما حدا أحسن من حدا” يستمر رفعت الأسد في ترديد الكذب الساذج لدرجه أنه أنكر أي علاقة له بـ “سرايا الدفاع”، وأكد أنه لم يزر حماة يومًا، وقال: “لم يكن هناك في سورية سرايا دفاع، ولم أكن يومًا قائدًا لسرايا الدفاع”.
أما جديد حسن نصر الله فهو قوله بعد تفجير بيروت الأخير، وما نتج عنه من تدمير لقسم من بيروت: “إننا في حزب الله لا نسيطر على المرفأ، ولا نتحكم بالمرفأ، ولا نتدخل بالمرفأ، ولا نعرف ماذا يجري بالمرفأ، وما هو موجود في المرفأ”.
وطالما أن الحديث عن الكذب السياسي الساذج فلا بد من التعريج على تقليعات نظام عبد الفتاح السيسي، ولا سيّما الضجة التي عصفت بوسائل الإعلام المصرية حول تمكن مراكز البحوث العسكرية في الجيش المصري من اكتشاف جهاز عجيب قادر على معالجة “أي نوع فيروس في جسم الإنسان، جهاز يكتشف ويعالج فيروس الإيدز، فيروس سي، وهناك تجارب حاليًا عليه لكشف وعلاج إنفلونزا الخنازير، كما أنه يعالج (مرض الصدفيّة)، ويجعل جلد المريض مثل جلد ولد (بيبي) حديث الولادة “، وذلك بحسب د. سالي مصطفى أستاذة الكبد، وعضو في مشروع القوات المسلحة المصرية. أما الدكتورة إحسان حنفي حسين، وهي أيضًا باحثة في الجيش المصري، فتضيف أن الجهاز ذاته يكتشف ويعالج أيضًا “مريض السكر، ومرض السرطان (الكانسر)، لأن الجهاز هو (أنتي بكتيريال)”، أي مضاد حيوي للفيروسات. وذلك على الرغم من أن مرض السرطان ليس فيروسًا بالأساس. وأصبح هذا الجهاز اختراعًا وطنيًا كبيرًا، فدخلت التلفزيونات المصرية في نقاش طويل حول استثماره عالميًا، وكيف أنه سيُدخل مصر إلى عالم الاختراعات والتكنولوجيا الطيبة من أوسع أبوابه، على الرغم من أن الموضوع كله في النهاية مجرد كذب من النوع الساذج. ولا ننسى كذبة اعتقال الجيش المصري لضباط في الأسطول السادس الأميركي، ومحاصرته للأسطول، لمنعه من القيام بأي تحرك ضد مصر قبيل الاقتحام الشهير لميدان رابعة، وما نتج عن ذلك من خضوع أوباما للتهديد، وقبوله بعدم التدخل حفاظًا على أرواح الأميركيين الأسرى.
لا نريد أن نستمر في سرد هذا النوع من الأكاذيب، وهي جميعها مقاطع تلفزيونية موثقة، لأنها أكثر من أن تعد، ولكن نريد أن نتوقف عند سبب لجوء هؤلاء لهذه الأكاذيب المفضوحة حتى أمام مؤيديهم. وهنا نريد أن نقدم أربع نقاط لتفسير هذا النوع من الكذب:
أولًا، هذا الكذب يتأسس على مبدأ القوة، فالكاذب يكذب بطريقة مفضوحة لأنه أقوى من المطلوب منهم أن يصدقوا كذبه. حتى إنه يمكنه أن يعاقبهم إذا ما تجرأ أحدهم على فضح هذه الأكاذيب أمام الرأي العام. فالصحافي الذي كشف كذبة الجهاز العجيب القادر على اكتشاف وعلاج الفيروسات، وسخر من هذا الاختراع، أُغلِق برنامجه، واضطر في النهاية إلى مغادرة مصر. والسوري الذي يتجرأ على القول لبشار الأسد إنك تكذب ولا تقف بسيارتك تنتظر على الحواجز العسكرية مثل عامة الناس، بالتأكيد، سيتعرض لعقوبة لا أحد يعرف ما هي، ولذلك فإن من العبث التفكير بتكذيب الرئيس أصلًا.
ثانيًا، يصف علماء النفس الكذب بأنه ظاهرة نفسية أكثر منه ظاهرة عقلية أو أخلاقية. فالتوتر النفسي العالي للكذاب يجعله لا يشعر حتى بسذاجة كذبه، فهو يعاني توترًا نفسي يضعف قدرته على التركيز العقلي، وهذا الأمر يجعله لا يفكر جيدًا فيما يقوله. فالأكاذيب التي أوردناها يعيش أصحابها ضغوطات نفسية كبيرة وأزمات سياسية تجعلهم يفقدون جزءًا مهمًا من تركيزهم العقلي، لدرجة أنهم لا يبالون بما يتكلمون. فمن الناحية العقلية البسيطة يعرف الطاغية جيدًا، في قرارة نفسه، أن المستمعين لكلامه يعرفون أنه يكذب، ولكن حالة الخوف الشديد من أن الأمور قد تخرج عن سيطرته، تجعله يردّد بعض الأكاذيب الساذجة.
فالخوف هو أكبر سبب للكذب الساذج، والخوف هنا هو الخوف من المستقبل، ومن أن الأمور قد لا تجري على هوى الخائفين، فمثلًا، إذا تبين أن لحزب الله علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتفجير بيروت فهذا أمر لا يعرف أحد نتائجه حتى حسن نصر الله، وهذا الأمر يدفعه للمخاطرة بتقديم كذبة ساذجة تجعله لا يعرف شيئًا عن المرفأ، ولا سيما أنه يستطيع تمرير هذه الكذبة، لأنه يستطيع التلاعب بكل الوقائع والسجلات في المرفأ.
ثالثًا، يكذب الطغاة أكاذيب ساذجة لأن لديهم شعورًا داخليًا قائمًا على الاستخفاف بذكاء الموالين وعموم الناس. وذلك لأن احتقار الناس وعقول الناس أمر من بديهيات الطاغية، وجزء من إستراتيجياته السياسية العامة. فالناس ليسوا هم مصدر سلطته، وهو -على أي حال- يحكمهم بقوة السلاح وحنكة أجهزته الأمنية، فلماذا يقيم لهم وزنًا في كلامه أمام الكاميرات. ولا سيّما أن الناس هم أيضًا يعرفون مصدر قوة الطاغية، ولذلك يعرفون حدودهم جيدًا، ولذلك يعتقد الطاغية أن لا بأس من ترديد بعض الأكاذيب الساذجة عليهم، كنوع من التذكير بقيمتهم الحقيقية.
وهذا سيتبعه أن الطاغية لا يشعر بمسؤولية أخلاقية تجاه شعبه، ولذلك لا يشعر بأي حرج من ترديد مثل تلك الأكاذيب الساذجة أمام ذلك الشعب، فمثلًا، لم يكن بشار الأسد في وضع يجبره على الكذب والقول بأنه يقف على الحواجز أثناء قيادته لسيارته. كلامه أتى من شعور داخلي بأن من يستمع إليه من الوزراء، وهم كبار أركان دولته، ليس لهم أي وزن ولا أي قيمة بالنسبة له، ولذلك هو لا يشعر حتى بأنّ عليه أن يراقب كلامه عندما يتحدث معهم. هم ببساطة لا يتجرؤون على تكذيبه، ولا على مجرد التفكير بذلك. وهذا ما يزيد من شعورهم باحتقارهم لأنفسهم، ولعلّ هذه إحدى الرسائل المبطنة التي يريد الرئيس إرسالها لوزرائه. مثلما أن كذب حسن نصر الله هو في النهاية نوع من الاستخفاف باللبنانيين، لأنه يعرف جيدًا أنهم لا يصدقونه، ولكنه يعرف أيضًا، أو هكذا يُعتقد، أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا إزاء هذا الكذب.
المهم في الكذب، من جهة ثانية، ليس في أنه يقول أشياء غير واقعية، بل في أنه ينجح في خداع الآخرين. فالكذاب -بحسب أرسطو- ليس من يتملك القدرة على الكذب، بل من لديه ميل نحو الكذب، أي من لديه إيمان باستخدام الكذب كوسيلة في الحياة تساعده في خداع الآخرين. وخداع الآخرين يعني امتلاك القدرة على إضعافهم، وعلى توجيههم بالاتجاه الذي يريده لهم الكذاب. ويبدو أن هذه النقطة تُعدّ من النقاط المهمة التي تقف وراء الاستخدام المفرط للكذب، ولا سيّما أن أشخاصًا مثل بشار الأسد وحسن نصر الله خبروا الفوائد الجمّة التي يجنونها من وراء الكذب السياسي، فالهدف من وراء كذب حسن نصر الله هو تقديم رواية للتفجير تقول بأنه مجرد أمر “عرضي” أو إهمال من قبل بعض الموظفين، لا أكثر، واستبعاد كل الاحتمالات الأخرى التي لا تصب في مصلحته، ولذلك هو يعتقد في قرارة نفسه أن الأمر يستحق الكذب، حتى لو كان من النوع الذي يصعب على الآخرين أن يصدقوه. فالزعيم -كما يقول مكيافيللي- يميل إلى أن يخدع الشعب إذا كان الأمر يتعلق بمصلحة عليا، أو بتجنب خطر كبير. ويمكن اختزال السياسة برمتها عند حسن نصر الله بأنها العمل الحثيث على خداع الآخرين، وعلى الاستمرار في الخداع، ولعل هذا ما يفسر خطاباته الطويلة بعد كل حدث كبير يلمّ بلبنان.
رابعًا، يبني الطغاة المنظومة المعرفية لمجتمعاتهم على قاعدة تقديم الاعتقاد على التفكير. والاعتقاد هنا يستلزم الولاء. ويُعدّ الولاء للرموز -بحسب ألكسندر كواري- وعلى رأسهم الزعيم، من أهم الأفكار التي يتم تأسيس السياسة عليها. حتى إن الولاء في هذه المجتمعات يشبه الولاء في التنظيمات السرية. وعلى ذلك فإن الموالي -أو عضو العصابة- لا يشعر بالحرج إذا سمع زعيمه يكذب، بل على العكس قد يشعر بالقيمة والمكانة لأنه على دراية بالحقيقة التي ينكرها الزعيم أمام الآخرين. يزيد ولاء أفراد العصابة وتقديرهم لزعيمهم عندما يرونه يكذب من أجل مصلحة العصابة وطموحاتها، أو من أجل تجنيبها بعض المشاكل. فكلام حسن نصر الله حول عدم معرفة حزبه لما يجري في المرفأ هو كذبة، ولكنه يبقى محط تقدير أعضاء الحزب لأن زعيمهم يكذب لأنه يفكر بمصلحة المجموعة. إن أعضاء حزب الله تتعزز عضويتهم عندما يدركون أنهم أصبحوا من المكانة بحيث يعرفون ما لا يعرفه الآخرون، بل يعرفون ما يجهد الزعيم على إنكاره أمام الآخرين.
لعل هذا ما يفسر أن تلك الأكاذيب، وعلى الرغم من سذاجتها واستخفافها بالجمهور، تلقى صدىً طيبًا بين الموالين، على الرغم من إدراكهم أنها كذب لا شك فيه. فمثلًا، الموالون يعرفون جيدًا أن بشار الأسد كذب عندما قال إن هناك قتلى من الأمن الشرطة سقطوا في أول أسبوع من الثورة. ولكن ولاءهم لزعيمهم يجعلهم يعجبون بكذبه، لأنه يقدم تفسيرًا لما يجري، يدعم مصالح الجماعة، ويدين الطرف الآخر.
ما نريد قوله في النهاية، إن الكذب السياسي الساذج وصل إلى مستويات عالية، على الرغم من أن مسار التطور الطبيعي للمجتمعات الحديثة يسير بعكس ذلك، بمعنى أن ارتفاع وعي الناس وتطور التكنولوجيا وحرية الوصول إلى الحقائق والمعلومات لا بد أن يؤدي إلى تراجع مستويات الكذب السياسي الساذج. هذه المفارقة يمكن فهمها بالعودة إلى ارتفاع مستويات الخوف من المجهول، الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وما انخفاض ضغط الدم الذي تعرض له بشار الأسد أثناء إلقائه كلمة ليس لها أي قيمة أمام من ليس لهم أي قيمة، إلا دليل على ذلك الخوف، فالدكتاتور أجبن ممّا نعتقد، كما كان يردد الكواكبي.
مركز حرمون