العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح/ محمد جمال باروت
محمد جمال باروت: العقد الأخير في تاريخ سوريّة، جدليّة الجمود والإصلاح/ ياسر مرزوق
تحت عنوان “قراءات” في جريدة “الوفد” المصرية، استوقفتني الإشارة لكتاب اليوم، محمد جمال باروت يصف سوريا في ظل حكم بشار الأسد، ولدى قراءة الكتاب أخذت صفحاته الثمينة تأخذني إلى حقائق وأرقام يجهلها، حتى أبناء الداخل السوري، فكان لابد من إدراجه في صفحتنا اليوم…
“على غرار ما حدث ويحدث في البلدان العربية الأخرى التي تجتاحها رياح التغيير، فإن الشباب شكّلوا عماد هذه الأحداث التجمعات. ولقد بدأت هذه الأحداث بشكل سلمي طارحةً مطالبَ ديمقراطية جامعةً، إضافةً لمطالب تنموية وديمقراطية، وطنية ومحلية، وهو ما عبّر عنه رمزياً شعار “حريّة”، بينما كان بعض هذه المطالب ثقافياً محافظاً. ولكن التظاهرات كلها كانت تُجمِع على الحرية. ثم أخذت هذه الحركة تتسارع بوتائر “دراميةٍ” داميةٍ ومفجعةٍ كاشفةً عن حجم “الاحتقان” العام المتراكم و”المكبوت” والمتفجّر الآن، والمنفتح على احتمالاتٍ شتّى قد تنوس بين المخرج الوطني التوحيدي نحو التحول الديمقراطي، والإصلاح المؤسسي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الشامل، والتمزق الإثني الأقوامي والطائفي، وفي مستوى معيّن من تطور الأحداث ربما يتدخّل لاعبون خارجيون في مجرى التطورات بشكل مباشرٍ أو غير مباشر لتحقيق أهداف أخـرى لا صلة لها بتطلعات حركات الشباب إلى الديمقراطية والتنمية، وقد تتصل بتصفية حساباتٍ جيو- سياسيةٍ مع النظام السياسي السوري، ودوره الإقليمي، واحتمالاتٍ أخرى غير مرصودة الآن بسبب اتّساع مساحة عدم” التيقن” منها. علاوة على حصة “المفاجآت” في مثل هذه الحالات. الواقع أنّ مؤشرات دخول سورية إلى ما يمكن تسميته “قوس الأزمات” قد بدأت بشكلٍ متفرقٍ وجزئي ما بين 2001 و2004، من خلال الصدامات بين بدو السويداء وحضرها التي ظلّت تغطي معظم سنوات النصف الأول من القرن العشرين، وصدامات بين إسماعيليّين وعلويّين ظلّت تستعاد أحداثها على طريقة “المعاد” في اللاّشعور الجمعي ومدّخراته التقليدية الموروثة في صورة صراعات مذهبية- طوائفية قديمة كامنة، وبين عرب وأكراد في مدينة القامشلي التي تتّسم بارتفاع حدّة التوتر الاثني- الأقوامي. وكان أبرز هذه “الأزمات” وأكثرها حدّةً أحداث آذار 2004 في القامشلي. وتكمن عوامل ما حدث في القامشلي في طائفةٍ متعددةٍ ومختلفةٍ من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإثنية والسياسية. غير أن تلك الأحداث عبّرت على المستوى الظاهر، عمّا يمكن وصفه تساقط الآثار “الجيو- بوليتيكية” لعملية احتلال العراق في الفضاء الاجتماعي السوري الذي يتّسم تاريخياً ببنيته الإثنية والثقافية التعددية. يقابل ذلك بروز بعض مظاهر الاحتجاج المدنية السلمية الجديدة في سورية في فترة ما بين 2001 و2004، كاعتصام عمّال بسبب تأخر رواتبهم، واحتشاد سائقي تاكسي الخدمة العامّة أمام مبنى أحد المحافظين احتجاجاً على قرارات “إدارية” “مجحفة” بمصالحهم، واصطفاف بعض سكان العشوائيات في مواجهة محاولة إزالة بعض المخالفات أو المنازل. واقتصرت الظاهرة الحديثة في التجمّع على حشود الشباب وناشطي اللجان الديمقراطية الجديدة، وبعض ناشطي أحزاب المعارضة “الديمقراطية” حول مباني المحاكم إبان جلسات محاكمة بعض الناشطين”، بهذه الأسطر القليلة يصف “محمد جمال باروت” إرهاصات الثورة السورية وأبعادها.
كتابنا اليوم الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتابٌ جديد للباحث “محمد جمال باروت” عنوانه: “العقد الأخير في تاريخ سوريّة: جدليّة الجمود والإصلاح” محاولةٌ لتفسير الدّوافع الحقيقيّة للأحداث الجارية في سوريّا اليوم، ومساهمة بحثيّة مهمّة في عمليّة اكتشاف المقدّمات الموضوعيّة والعوامل الجوهريّة التي أدّت إلى اندلاع حركة الاحتجاجات في سوريّا في 15 آذار 2011، ويتتبع مسار التحول في سوريا من دولة اشتراكية في اقتصادها إلى النموذج “النيو- ليبرالي” وتهميش المناطق والفئات الاجتماعية لمصلحة حفنة من رجال الأعمال والمنتفعين الجدد المرتبطين بالسلطة.
“اندلعت في سورية في أواخر شباط العام الماضي، اعتصامات وتجمعات، بعضها منظّم بطرائق عمل الشباب، كالاتصال المباشر ومواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية، وبعضها تجمهري عفوي. وقد جرت هذه الأحداث في المدن الصغيرة وفي بعض مراكز المدن الكبيرة في المنطقتين الوسطى والساحلية، بينما بقيت المدن المليونية الكبرى بمنأى عنها تقريباً” وإن كانت الشرارة قد انطلقت من العاصمة دمشق، إلا أن انتشارها الأكبر وقع في المدن الصغيرة والمتوسطة الطرفية والمهمشة.
وقد حدثت فصولها الأعنف في المدن الطرفية، ولاسيما في درعا ثم في دوما، والتي تعاني في مجملها، ولاسيما درعا وريف دمشق، التهميش المتعدد الأبعاد، وتعسف السلطات المحلية وسلطاتها الكبيرة الاعتباطية غالبًا، ومحدودية تساقط آثار عملية النمو الاقتصادي عليها، وتدني مؤشرات تنميتها البشرية، وانتشار البطالة والفقر، وارتفاع أعباء الإعالة العمرية والاقتصادية فيها، لكن ما يجمعها إلى حركات الشباب في مدينة دمشق هو أن قوامها البشري ينتمي إلى الشريحة العمرية الشابة بتعريفها النمطي “15-24 سنة” أو الموسع “15-35 سنة” التي تعتبر أكثر الفئات حساسيةً وقابليةً للمبادرة، والتي تنتشر في صفوفها أعلى معدلات البطالة، كما ينتمي قسم منها إلى شريحة شابة عصرية متفاعلة مع رياح الثورات في البلدان العربية الأخرى.
وكاتبنا “محمد جمال باروت” باحثٌ مشارك في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، ويتولّى في المركز مسؤوليّة اقتناء الموادّ العلميّة للمكتبة، ويشرف كذلك على عمل الباحثين المساعدين، إضافةً إلى إنجاز موضوعاته البحثيّة الخاصّة به. وقد شارك الأستاذ جمال في تأليف أكثر من ثلاثين كتابًا مؤلِّفًا، أو مؤلِّفًا مشاركًا، أو مؤلِّفًا أساسيًّا.
عمل الأستاذ جمال في مجالات بحثيّة متعدّدة مرتبطة بالتّعليم؛ والتّنمية البشريّة؛ والتّنمية والسكّان؛ والهجرة الخارجيّة السّورية؛ والاستشراف المستقبلي لمسارات التّنمية، في سورية في العديد من الوكالات الوطنيّة والدوليّة. وعمل أيضًا مديرًا ومستشارًا في عدّة مشاريعَ لبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي في سورية ولصندوق الأمم المتّحدة للسكّان وللمنظّمة الدولية للهجرة.
وقد كان الكاتب مدير مشروع سوريا 2025، الذي انتهى في أواخر 2007، وكان المؤلّف الرّئيس لتقرير الهجرة السوريّة الدوليّة. وقد عمل الكاتب أيضًا باحثًا مقيمًا في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في حلب. وحاضر في عام 2008 في كلّية القدّيس أنطونيوس في جامعة أكسفورد في المملكة المتّحدة، وعمل أستاذًا زائرًا في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس.
يتألّف الكتاب من قسمين: الأوّل ركَّز في المنهجيّة المركّبة “تاريخيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وسكانيّة وسياسيّة”، أي أنّه استخدم العلوم الاجتماعيّة والعلوم السياسيّة كوحدة مترابطة في الوصف والتّحليل لفهم العلاقة بين التّنمية والتغيّر الاجتماعيّ، وسلّط الضّوء على اختلاف الرّؤى بين الدّاعين إلى تحرير الاقتصاد السوري والدّاعين إلى تصحيحه، وشدّد على ظاهرة رجال الأعمال الجدد الذين دعموا برنامج “اللّبرلة” الاقتصاديّة، ومعادلة “نموّ أكثر وتنمية أقلّ”. أمّا القسم الثاني فقد اتبع ما يدعى بـ “التأريخ المباشر” في مقاربات التاريخ الجديد، وهي مقاربة تبحث في تأثير التاريخ على مجريات التاريخ المباشر وأبعاده المختلفة، لبناء مؤشرات تفحص تطور الأحداث في سوريا نحو الثورة، وتوثق ديناميات الحراك الاحتجاجي والتطورات التي أدت إلى العنف، كما يتناول الكتاب الدور التركي في الثورة وطبيعة المعارضة السورية في الداخل والخارج وموقف الطبقة البرجوازية من الثورة وإشكاليات الانتقال الديمقراطي في مجتمع مركب الهوية.
يتحدّث الكتاب عن سوريّا خلال العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، وعن علاقة التّنمية بالتغيّر الاجتماعيّ، ويعرض مسار عمليّة التغيّر السياسيّ في سوريّا منذ ما قبل اندلاع حركة الاحتجاجات بقليل، وبالتّحديد منذ19 / 2 / 2011، وهو اليوم الذي اندلعت فيه تظاهرة حيّ الحريقة في دمشق، ويرصد خلال هذه الفترة ما يسمّيه “ثورة المجتمعات المحليّة” أي ثورة المدن المتوسّطة والصّغيرة، علاوةً على الأحياء الشعبيّة والعشوائيّة في المدن الأخرى، ثمّ يقارن الزّحف السلميّ للأطراف نحو المركز، مثل زحف أطراف دمشق على ساحة العباسيّين، بالزّحف الفلاحي شبه المسلّح مثل غزو جبل الزاوية لمدن متوسّطة مثل أريحا وجسر الشغور ومعرّة النعمان. وفي هذا السّياق حاول الكاتب أن يستقصي الفاعلين الاجتماعيّين والسياسيّين الحقيقيّين لهذه الثّورة، وأن يعثر على تفسيرٍ لقدرة هؤلاء على تأمين الوهج والاستمرار لهذا التحرّك الشعبيّ الواسع.
ويذكر المؤلف أن بدايات العمل في هذا الكتاب بدأت في أواخر العام 2010 في شكل بحث علمي موضوعي مكثف عن تاريخ سوريا الراهن، لكن المؤلف لم يبدأ في كتابته وإنجاز فصوله الأولى إلا في نيسان 2011، حيث بدأت تتسع رقعة الاحتجاجات في سوريا وتجذر شعاراتها المطالبة برحيل النظام، ما أدى إلى تحويل فكرة الكتاب من بحث في التاريخ إلى بحث في أسباب الثورة السورية.
وكتابنا لا ينتمي للنوع الممتع من القراءة، فالكتاب من الثراء بحيث لا يمكن إغفال فقرة أو جدول أو إحصائية، والكتاب أكاديمي من الطراز الأول، وكعادة باروت يبتعد كل البعد عن الإنشاء والتعابير العاطفية، ولعل أكثر ما يميز الكتاب هو اعتماده لإحصائيات صادرة عن هيئة التخطيط في سوريا ووزارتي الإسكان والزراعة وإحصائيات الأمم المتحدة، مما يمنحه مصداقيةً عالية، فهولا يبشر بموقف سياسي وإنما يطرح بموضوعية أشكال موازين القوة بين النظام والمعارضة محللاً خطاب السلطة الذي قبل الانتقال من نظام تسلطي إلى نظام نصف تسلطي، أو بعبارة أخرى أن النظام السوري الحالي يعيد إنتاج النظام المصري في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، الذي تم دون ثورة، ولكنه لم يحل دون أن تقوم في مصر في نهاية المطاف.
ويضع المؤلف في نهاية كتابه سيناريوهات لمستقبل سوريا بين التمزق أو الانهيار أو التسوية التاريخية.
يستقصي الكتاب الوضع الاجتماعي الاقتصادي السياسي في العقد الممتد منذ ما بعد تولي بشار الأسد السلطة خلفاً لوالده حافظ وصولاً إلى بدايات الثورة السورية في العام 2011. وهو يقدم تحليلاً مدعماً بالإحصاءات والبيانات لتراجع دور الدولة الاجتماعي وأدائها الاقتصادي ومعدلات التنمية وضمور المجتمع المدني وغيرها من العوامل التي مهدت الطريق للانفجار المجتمعي ضمن موجة الثورات العربية. وبما أن باروت عمل خبيراً في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سورية ما بين 2003 و2010، فإنه من قلة قليلة من الباحثين التي كانت على اطلاع دقيق على عوامل الغليان والإحباط في مختلف مناطق البلاد.
من الكتاب:
حافظت السياسات التحريرية التسلطية على الإطار الكلي المستقر للاقتصاد السوري على حساب نموذج النمو المناصر للفقراء، الذي تبنته الرؤية المؤسسية للخطة الخمسية العاشرة، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب القطاعات الإنتاجية، وأنتجت مزيداً من البطالة، وتعميق الفجوات في الدخل، ورفعت معدل الفقر، واختلت عملية التنمية، لما فيه مصلحة إنعاش المراكز وتهميش الأطراف، وتعزيز نمو المدن المليونية وشبه المليونية، بينما ظلت المدن المئة ألفية مهمشة، تسودها حالات الفقر المادي والإنساني، وتمثل الإخفاق التنموي الأخطر منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا بالعجز عن ردم الهوة التنموية بين المدن المليونية والمدن المئة ألفية من جهة، وبين المراكز والأطراف من جهة أخرى، الأمر الذي أدى إلى خلق فجوات التنمية المناطقية في سورية. حصدت المدن المليونية ثمار النمو، بينما حصدت المدن المئة ألفية والصغيرة أشواكه.
لتحميل الكتاب من الرابط التالي
العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح/ محمد جمال باروت
أو من الرابط التالي
العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح/ محمد جمال باروت