روايات تشيماماندا نجوزي أديتشي المترجمة للعربية
——————
نصفُ شمسٍ صفراء/ فاطمة ناعوت
خلال السبعة وعشرين عامًا التي قضاها نلسون مانديللا في السجن، كان يقتلُ الوقتَ بقراءة الأدب النيجيريّ ذي الطبيعة شديدة الخصوصية والثراء. حتى أنه وصف متعته بقراءة رواية “الأشياءُ تتداعى” Things Fall Apart للنيجيري “شينوا آشيبي”، الذي لُقِّبَ ب “أبو الأدب الأفريقي الحديث”، قائلاً: “برفقته تتهاوي جدرانُ المعتقل”. وقد راهن آشيبي على روائية نيجيرية شابة، لافتة الموهبة بحق، اسمها تشيمامندا نجوزي آديتشي، من مواليد نيجيريا 1977 . استطاعت تشيمامندا، عبر روايتين بالإنجليزية، حصْدَ قلوب ملايين القراء من أرجاء العالم، وكذا حصد العديد من الجوائز الأدبية الرفيعة. روايتها الأولى “الخُبيزة الأرجوانية” 2003 ، فازت بجائزة “الكومنولث” لأفضل كتاب أول لكاتب 2004 ، ثم صدرت روايتها الثانية، التي نقدمها بالعربية هنا، “نصفُ شمسٍ صفراء”، “Half of a Yellow Sun ” عام 2007 ، لتفوز بجائزة “الأورانج”، وتبيع ملايين النسخ.
تقع أحداثُ الرواية قبلَ، وأثناء، وبعد، الحربِ الأهلية النيجيرية-البيافرية، التي تُعرف عالميًّا بحرب بيافرا. وهي نزاع مسلّح استمر من 1967 حتى 1970 ، في محاولة من ولايات الجنوب الشرقيّ النيجري الاستقلال عن الدولة الاتحادية في نيجريا، وإعلان جمهورية بيافرا، التي اتخذت من رمز “نصف شمس صفراء” شعارًا لها وعَلمًا مستقلا يكافحون من أجل رفعه على أرضهم. ولذلك أهدت تشيمامندا روايتَها لجديها اللذين قضيا في الحرب، وإلى جدتيها وأبويها الذين حكوا لها أهوال الحرب، ثم أخيرًا “للحب” الذي تطمحُ في أن يسود العالم.
حاول سكان إقليم بيافرا، على مدى سنواتٍ ثلاث، الانفصالَ عن نيجيريا وتكوين دولة مستقلة خاصة بعرقية الإيبو. لكن تلك الجمهورية الانفصالية لم تحصل إلا على اعتراف عدد قليل من الدول هي: هايتي، الجابون، كوت ديفوار، تنزانيا، وزامبيا. وقد دعمت إسرائيلُ الانفصاليين بإمدادهم بالأسلحة سوفييتية-الصنع التي استولت عليها من العرب، وكذلك دعمت البرتغالُ الانفصاليين نكايةً في نيجيريا التي دعمت من قبل استقلال المستعمرات البرتغالية في أفريقيا.
الجميلُ واللافت، فنيًّا، في هذه الرواية الفاتنة، أنها، وبالرغم من كونها رواية سياسية، وتطرح فترةً دامية زاخرة بالمذابح والانتهاكات الإنسانية، على مدى صفحات طوال (540 صفحة )، إلا أن الكاتبةَ نجحت في انتزاعها من الجفاف السياسيّ والبرود الأيديولوجي بأن تناولتها من وجهة النظر الاجتماعية والإنسانية. والأجمل أن كل أحداث الرواية تقريبًا جاءت على لسان صبيٍّ صغير خادم أسود، ومن خلال عينيه اللتين تريان ما يجري وتحاولان أن تفهما ما الذي يحدث في العالم، ولِمَا. خلال تلك الرواية بوسع القارئ، غير الأفريقي، أن يتلصص على ذلك العالم شديد الخصوصية لمجتمع القارة السوداء؛ من أساطيرَ وطقوسٍ وغرائبيات. حتى أن الكاتبة طعّمت روايتها، الإنجليزية، بالعديد من الجُمل المكتوبة بالدارجة المحكية الإيبوية، التي يتحدث بها سكّان بيافرا من قبائل الأيبو Igbo . (ميزنا الكلمات الأفريقية بالحرف المائل).
الصبيُّ الصغير الأسود آجوو، تأخذه العمّة ليعمل خادمًا عند البروفيسور النيجيري أودينيجو، أستاذ الرياضيات بجامعة نسوكا. وفي بيت البروفيسور سوف سيتنصت الصبيُّ على السيد وزائريه من زملائه الأكاديميين يتحدثون حول المجازر والانتهاكات وحُلم الاستقلال. وتمر الأيام ويكبر الصبيُّ يومًا فيومًا، فيكبر وعيه بالعالم، ويكبر معه وعينا، نحن القراء، بالقضية التي حملها شعبٌ يحلم بالحرية والاستقلال. احتفتِ الكاتبةُ بالأشياء الصغيرة التي تصنع الحياة اليومية للمواطن الأفريقي، سواء القرويّ الأُميّ البسيط، أو البرجوازيّ المتعلِّم من أبناء الطبقة الوسطى، وكذلك طبقة الانفتاحيين الأثرياء من جامعي المال. وعبر تلك اليوميات تُسرِّب الكاتبةُ في مكر فنيٍّ رفيع، وفي غفلةٍ من القارئ، مفرداتِ قضيتها السياسية والاجتماعية الكبرى: صراع ثنائيات الثراء والفقر، الجوع والتخمة، العلم والجهل، وهنا ملمح موهبة آديتشي وسرّ فتنة طرحها السرديّ.
والجميل أيضًا، مضمونيًّا، هو أن الكاتبة لم تقع في ثنائية الأبيض والأسود، الخير والشر، النقاء والتلوّث، كما فعل العديد من الكتّاب الكلاسيكيين. فقد جعلت أبطالها الطيبين يرتكبون خطايا عابرة، كما جعلت الأشرار يأتون أعمالاً رفيعة ونبيلة. وهنا ملمح واقعيّ، لكنه لم يتكرس إلا في الكتابة ما-بعد-الحداثية، التي فضّت النزاع بين الأبيض والأسود واحتفت بملايين الدرجات من الرماديات بينهما.
خمسةُ أشخاص وطفلة صغيرة هم شخوص العمل الرئيسيون. قصة حبٍّ رفيعة نشأت بين بروفيسور أودينيجو، الذي سيتخذ لقب “السيد” طوال الحكي؛ بما أن الراوية الناطقَ هو آجوو الخادم الصغير، وبين أولانا الشابة النيجيرية المثقفة. وبعد زواجهما لن يقدَّر لها أن تنجب، وفي ذات الوقت سيقع أودينيجو في نزوة عابرة مع خادمة والدته، بترتيب دبرته الوالدة، بتوسُّل طقوس السحر الأفريقي، لكي تُفرّق بين ابنها وبين حبيبته المثقفة، لأنها تؤمن، عبر موروثها الشعبي، “أن المثقفات عواهرُ جَدِباتٌ كأراض بور لا يصلحن للزواج والأمومة”. تُسفر تلك النزوة عن مولد طفلة، سوف تموت أمها فورًا وتربيها أولانا، واهبةً إياها اسم “بيبي” بمعنى “طفلة”، بالإنجليزية. وهنا رمزٌ ودّتِ الكاتبةُ أن تطرحه بعدم تعيين اسم محدد لها، وكأنها الأملُ والحلمُ الذي يتبناه شعبٌ يائس للحصول على هوية تخصه. سوى أن هذه الهوية خرجت عرجاء، حيث لحظة الحب التي صنعتها لم تكن سويةً، ليس فقط لأنها ولدَت سفاحًا، ولكن الأهم لأنها لم تكن نتاج حبٍّ بين الأبوين. فالأبُ مسحورٌ بنباتٍ مشعوذ، والأم مُرغمةٌ مقهورة مدفوعة لما لا تريد بسبب قلّة الحيلة والعوَز الماديّ والجهل. في حين أولانا، التي تمثّل المبادئ والثقافة والشباب، سوف تحتضن الطفلة وتربيها كابنتها.
من جانب آخر سنتتبع خيطًا مختلفًا يخص توأم أولانا. اسمها كاينين لكنها نقيضُ توأمتها. شرسةٌ ساخرةٌ لا تؤمن بالثورة ولا بالقضية البيافرية. سيدة أعمال تدير شركاتها وتسعى لجني الأموال، على أنها في الأخير سوف تناضل في سبيل القضية مثل بقية شعبها. تقع في هوى صحفي وباحث بريطانيّ، هو ريتشارد تشرشل، الذي تبنى قضية بيافرا كأنه أحد أبنائها. وكتب مخطوطة كتاب وضع له عنوان “العالم كان صامتًا ونحن نموت”، يحمل إدانةً لكل العالم الذي وقف يتفرج، صامتًا، على المذابح التي صنعها النيجيريون المسلمون من قبائل الهاوسا في البيافريين. وفي الفصل الأخير من الرواية، سيكتشف فجأة أن تلك القضية لا تخصه، وأنه ليس جزءًا من “نحن” في عنوان كتابه، هو غريب عنهم بشعره الناعم وعينيه الزرقاوين، حتى وإن أحب كاينين السوداء ذات الشعر الجعد. ولذلك سنكتشف مع السطر الأخير من الرواية، أن الذي سوف يكتب هذا الكتاب، ليس إلا آجوو، الخادم الأسود الصغير، الذي كبر الآن، مع الحرب، وكبرت معه أحلامه ومراراته، بعدما شهد تقتيل أفراد أسرته واغتصاب شقيقته وتشويه أطفال قريته. وسوف يهدي كتابه: “إلى سيدي، رَجُلي الطيب!” وهي الجملة التي كان البروفيسور أودينيجو يناديه بها منذ كان طفلا: “أهلا بك يا رَجُلي الطيب!”
فاطمة ناعوت
—————————–
قراءة في “ نصف شمس صفراء “/ غادة سعيد
قليلة هي الروايات التي تحرضك على إتمامها بعد أول سطر.. وتستهويك إلى درجة كتابة قراءة لها، وتجد نفسك أمام أنامل لا تتوقف… رواية “ نصف شمس صفراء “، ترجمت إلى خمس وثلاثين لغة وبيعت منها حوالي ثمانمائة ألف نسخة. وهي للكاتبة الشابة شيما ماندا نغوزي أديشي، النيجيرية من عوالم واقعية، ثراء النصوص توفر – للقارئ ضربا من الخيال- فضلاً على الواقع بذاته، ليبدو بسلطته مرجعاً أثيراً بحيوات نابضة، وحكايات متصلة ومنفصلة في آن واحد، لكن خيطها السردي يمتد بحرير لغتها وكثافة هواجسها، وتيمناتها المتواترة أيضاً ، ومنها تجارب المهاجرين النيجيريين في أمريكا، وانعكاس الحرب الأهلية النيجيرية على المصائر البشرية.
يتميز أدب أديتشي بتأثرها البالغ بأجواء الحرب التي مر بها مجتمعها، إذ نجدها في معظم أعمالها كعدو حاضر يؤثر على المجتمع مما يؤدي إلى إصابة المجتمع بالعديد من الأمراض. وتتعرض لمواضيع تمس المرأة في قصة مهمة جدا “,”الانتقال إلى الألق“,” والمعايير المزدوجة التي يتعامل من خلالها المجتمع النيجيري مع المرأة، كما اهتمت بمواضيع مثل القهر الجماعي لها ولقضايا المهمشين واللاجئين.
تعرضت أديتشي في عملها (نصف شمس صفراء) لتجارب مؤلمة لامرأة شابة من قبائل الإيجبو في نيجيريا – حيث تنتمي (Adaobi ) وعائلتها في وقت الحرب الأهلية النيجيرية في أواخر الستينيات من القرن الماضي حينما طالب إقليم بيافرا بالاستقلال عن نيجيريا. الآمال والأحلام البديهية للأسرة حول مسألة استقلال دولة بيافرا في شرق نيجيريا بعد انفصال المنطقة عن بقية البلاد، تنتهي بخيبة الأمل.
ووصفت المجازر اليومية والجوع والمرض الذي يجعل العديد من أعضاء أسرة Adaobi يطالب بالعودة إلى حكم نيجيريا ومن ثم تتحطم آمال بيافرا. على الرغم من أن أديتشي ولدت بعد سبع سنوات من انتهاء الحرب، حيث ذكرت أنها “,”شعرت دائما بالرعب العميق الذي وقع على أهلها بسبب الأعمال الهمجية التي جرت مع إحساسها الكبير بالشفقة على المظلومين“,” .
على الرغم من ذلك، فإن خلقها للشخصيات والأحداث يشعر القارئ أنها كانت شاهدة على الحرب رأتها رأى العين، حيث أثرت الحرب بشكل دائم على هوية الأجيال من قبائل الإيجبو، ويرى أثر هذا بشكل لا يمحى في قوة البطلة Adaobi ، حتى بعد استسلام بيافرا. وقالت إنها ترفض الارتباط برجل من قبائل الهوسا بالرغم من كونه كان بعيدا في إنجلترا خلال الحرب.
ترجمة “ نصف شمس صفراء “ إلى العربية، أظهر نمطا من القص بخصوصيته، ووقف على أدب جديد يمثل حساسية لافتة، ويغري باكتشاف فضاءات خصبة، يتعانق فيها الواقع مع الخيال، مع الأساطير، وإذا كانت شيما ماندا تختار أماكنها برموزها وحيوات أبطالها الواقعيين، فهي تذهب فيما وراء الحرب الأهلية النيجيرية، لتسرد وقائع يغلفها التمرد أو الأسى. ومواكبة الفضاءات الإنسانية تنشد مقاربة فردوس مفقود، لكنه الجحيم الذي يستحق «نصف اغماضة ولكن باتساع» لتجعل من أغاني «الاغبو» دالة جذرها الافريقي الحي، وكخلفية لأحداثها، وكذاكرة للمذابح ومدى ما تلقيه على النفوس من قلق وتوجس، لتنشئ سيراً أخرى لناس مازالوا على قيد الحياة ، تتنازعهم «الهوية…. وهو شيء وقفت عليه مجموعة من الشعوب العربية وتتقاطع مع في الخصائص، و ذلك مرده اولا الى الاستعمار، و ثانيا الى الانتقال للعيش في المدن الحديثة كما مر من المستعمر، عبر مراحل تاريخية واقتصادية، و التي لم تتوفر شروطها في دول العالم الثالث… المُستعمرة.
الألم كما في نصف شمس صفراء التي حملت عنوان مجموعتها… الألم الذي تراهن الكاتبة عليه «نحول ألمنا إلى أمة عظيمة، سنرفع من ألمنا مجد إفريقيا» فيما تبدو أغاني «الاغبو» ومقولاتهم كحوافز نصية موزعة بإحكام لتكثف رؤيتها بما يجري من أحداث ووقائع… هي ريشة النسر الخبير الناضج تظل دائماً نظيفة، هذا العنوان الدال سوف نراه بظلاله الكثيفة في متونها الحكائية، وفي متابعتها لصيروات شخصياتها«تتمادي» أو العائلة أو مطاردة أحلام عصية، أو صور الجحيم الذي خلع الأرواح ،وبددها في فضاءات «بيافرا» نصف شمس صفراء لا تزين ربطة عنق، إنها مجاز الجحيم الذي تبرع الكاتبة في وصفها كحقيقة طاردة لأوهام الظفر بالفردوس، أو استدعاء الزمن المحلوم به، خارج وقائع الحرب وفظائعها وأهوالها«كانوا بشراً مثل أولئك الذين قتلوا الخالة ايفيكا».
كانوا بشرا مثل الذين أجهضوا الأطفال وهم في بطون أمهاتهم، تقول بطلة شيما ماندا وهي تتعثر بجسد جندي نيجيري، وتتساءل عن طريقة موته وكيف كان شكل حياته، فكرت بعائلته..زوجة تقف في انتظاره خارج المنزل وعيناها مصوبتان نحو الطريق ، نحو أخبار عن زوجها تتحدث الكاتبة عن ملح سوريالي وجد في نيجيريا ، وكان سبب اجتياز سعيها إلى الحدود ، وهي ترصد انتقال نيجيريا من السير على جهة الطريق اليسارية إلى السير على جهة اليمين، ماذا يعني ذلك هل أصبح الشعب نيجيرياً مرة أخرى ؟!
ثمة ما تثيره – قصصها الأخرى- في انتقالاتها بين صور الموت وصور الحياة، من قضايا لعل أبرزها ليس الحديث عن الأوبئة والفقر والفساد، ومآسي الأطفال ومحنة العلماء فحسب، بل عن المفارقات ذات الطابع «التراجيدي- الكوميدي» وجوهرها السعي لإرضاء الغربيين كما في «أنت في أمريكا» كما يحدث مع المهاجرين الافريقيين الذين يرون الانفتاح المثير في أمريكا ، تقول مغتربة «إنها ليست شيئاً مثل الوطن (نيجيريا) هذه هي أمريكا..لتقارن في أنماط العادات والتقاليد والأمزجة، من خلالها بطلتها «أكيوننا» المهاجرة والمسحورة بأجواء أمريكا ، والتي تعتقد أن كل شخص فيها يمتلك سيارة وبندقية،أمريكا فرصة للأعمال والأحلام، الآخر الذي نفعل كل شيء لارضائه، لتعود وحيدة إلى وطنها بعدما غادرها ذلك الشيء حول رقبتها…
يتدفق السرد لدى شيماماندا وهي تبرع باستخدام ضمائر السرد وأساليبه توزع ذاكرتها الروائية على تحولات شخصياتها ، تؤرخ لمن تعرفهم، أو تسمع عنهم، لعل سردها بتلك الطرق المباشرة أو الكنائية يستبطن سيرتها بشكل موارب، وسيرة شعبها ، لترسم صورة كلية لافريقيا السوداء على الخصوص، بتأريخ وجدانها الجماعي وصوغها لمحكيات مألوفة في تراث تلك الشعوب ، بيد أن ميزتها الباذخة في تشكيل رؤيتها لعالم لا يسيره السحر، أو الشعوذة، أو الأساطير، أو لعنة الحروب، بل تسيره جذورها الضاربة في عمق تاريخ وثقافة وحضارة، رغم شتات الأرواح، وتوتر لغة صادمة تعكس توتر الروح لتنسج حكاياتها- فتثري معرفتنا بثنائية الألم والشجن- فنقرأ كتابة مغايرة، ومغامرة عن عالم آخر يتشظى بصيرورة الهواجس الابداعية..يكاد يشكل من جديد كما الأمل.
————————-
نصف شمس صفراء
لم يكن من قبيل الصدفة أن تصف صحيفة «واشنطن بوست» رواية الكاتبة النيجيرية تشيماماندا نجوزي أديتشي الجديدة بعنوان «نصف شمس صفراء بأنها» رواية أبدعتها ابنة تشينوا أتشيبي المنتمية إلى القرن الواحد والعشرين»، حيث تعيد إبداع لخطة حبلى بالأحداث من التاريخ الإفريقي الحديث، هي الحرب الأهلية النيجيرية التي استمرت ثلاث سنوات في ستينات القرن العشرين وما واكبها من عنف هائل.
وفي هذه الرواية تقوم أديتشي بتقمص مدهش وبراعة القاص التلقائي بنسج حياة ثلاث شخصيات يتم اكتشافها في الاضطرابات الهائلة لمرحلة الستينات من القرن العشرين، فهناك أوجو الفتى البالغ الثالثة عشرة من عمره الذي يلتحق بالعمل خادماً في دار أستاذ جامعي مليء بالنزعة الثورية.
وأولانا هي الخليلة الجميلة للأستاذ الجامعي، والتي تخلت عن حياتها المترفة في لاغوس لتحيا في مدينة جامعية متربة من أجل كاريزما حبيبها الجديد، وريتشارد هو شاب انجليزي خجول ينطلق في أعقاب توأم أولانا، وهي شخصية غامضة ترفض أن تنتمي إلى أحد غير نفسها.
ومع تقدم القوات النيجيرية وحتمية هرب هؤلاء الثلاثة للنجاة بحياتهم، فإن مثلهم العليا تتعرض للاختبار بقسوة، شأن ولائهم أحدهم للآخر. هذه الرواية ذات الطابع الملحمي الطموح تعد عملاً مميزاً يدور حول المسؤولية الأخلاقية، وحول نهاية الكولونيالية، وحول الولاءات العرقية، وعن الطبقة والعرق، والطريقة التي يمكن للحب أن يعقد بها هذه الأمور كلها.
وتستحضر أديتشي، بصورة متألقة، الوعد وخيبات الأمل المدمرة التي وسمت هذا الوقت وذلك المكان، حيث تجلب لنا إحدى أقوى وأجمل الصور الروائية التي تدور حول إفريقيا الحديثة التي قُدِّر للقراء أن يعرفوها. في الرواية ينجو أوجو، الذي لا يتجاوز عمره الثالثة عشر عاماً من التجنيد في صفوف جيش بيافرا، ونتابع التوأم أولانا وكينيني اللتين تنحدران من عائلة ثرية وذات معارف ممتدة.
وتصفي الحياة السياسية المركبة قوة استثنائية على حبكة الرواية، وتبدو العديد من أجزائها مروعة حقاً، وبصفة خاصة الأجزاء التي تتناول القضاء على أقارب أولانا وكينيني. ولكن هذا العمل الملحمي الممتد له جوانبه العاطفية الحارة أيضاً، فأولانا المتمردة هي خليلة أودينيجبو، الاستاذ الجامعي المليء بالحماس لكل ما هو مناهض للكولونيالية.
بينما ترتبط أختها كينيني بعلاقة عاطفية مع ريتشارد، الوافد البريطاني الذي قدم إلى نيجيريا لتأليف كتاب عن فن الايجبو ـ أوكو، والذي توشك علاقته مع كينيني على التمزق عندما يقضي ليلة سكرى مع شقيقتها أولانا. وتحفل الرواية بالإنجازات في رسم الشخصيات والوصف، وبصفة خاصة وصف تأثير وحشية الحرب على الفلاحين والمثقفين على السواء.
ويجد القارئ، في نهاية المطاف نفسه أمام درس تاريخي متقد بالحيوية في قالب روائي بحيث يستغرق في متابعة تفاصيله وصولاً إلى السطور الأخيرة من هذا العمل الملحمي الممتد. ومن المهم أن نلاحظ أن الرواية على الرغم من أنها ليست عملاً جدلياً، خلافياً، حافلاً بالطروحات النظرية، فإن مؤلفتها لا تتردد في توجيه الاتهام إلى العالم الخارجي في ضوء لامبالاته بهذه الحرب الوحشية، وتسبر أغوار الغرور والجهل اللذين استداما هذا الصراع على امتداد ثلاث سنوات.
ويلفت نظرنا أيضاً أن الشخصيات والمشاهد الطبيعية يجري تصويرها على نحو متوهج بالحيوية، والتفاصيل يتم توظيفها لإحداث تأثيرها الذي يمس القلب، وتتوقف طويلاً عند الجنود الذين ينتظرون تسليحهم، فيمسكون بالعصي المنحوتة على شكل بنادق، وتتابع الأم التي تهرب من مذبحة حاملة رأس ابنتها المفصول عن جثتها، وقد تدلت خصلات جميلة من الرأس الدموي.
وقد كان من الطبيعي أن يثير عمل ملحمي على هذا القدر من الطموح اهتمام الكتاب والنقاد والقراء على السواء. ها هو الروائي النيجيري الكبير شينوا اتشيي يبادر إلى القول: «إننا لا نربط عادة الحكمة بالمبتدئين، ولكن ها هنا كاتبة جديدة منحت هبة الرواة القدامى.
وتشيماماندا نجوزي أديتشي تعرف ما هو على المحك وما الذي يتعين عليها القيام به. وتجريبها فيما يتعلق بالانجليزية ولغة الايجبو هو مثال جدير بالتوقف عنده. والكاتب الأقل جرأة وكفاءة من شأنه أن يتجنب التعقيد كلية، ولكن أديتشي تعانقه لأن روايتها تحتاجه. وهي لا تعرف الخوف، وإلا لما اقتحمت رعب الحرب الأهلية النيجيرية. لقد جاءت إلى الساحة مسلحة بكل ما تحتاجه من أدوات».
والروائية الأميركية جويس كارول أوتيس تشارك أتشيي إعجابه بانجاز أديتشي، فتبادر إلى القول: «رواية أديتشي الجديدة مكتوبة على نحو يتدفق بالحيوية والطاقة. وهذه الرواية في ذكائها المتعاطف كما في قدرتها على التصوير الحميم هي خلف على مستوى رفيع لكلاسيكيات القرن العشرين مثل رواية شينوا أتشيي (الأشياء تتداعى) ورواية في. إس. نايبول (انعطافة في النهر).
وبدوره يقول الناقد إدموند وايت: «هذه الرواية الثانية لأديتشي تستحق أن ترشح لجائزة بوكر. وما يستعصي على النسيان فيها هو أن الأحداث السياسية لا تسرد بطريقة جافة، وإنما يتم الشعور بها عبر الحياة المعاشة وعبر وجع التجارب الحساسة.
وبقدر ما أعرف فإنه من غير المألوف أن تفلح مؤلفة شابة في أن ترصد بمثل هذه الدقة مشاعر رجل، ولكن أوجو شخصية متحققة تماماً، حيث يتبدى لنا رجلاً طموحاً، مخلصاً، شجاعاً، مليئاً بالنوازع الجنسية، لا يشكو، ويجمع بين البراعة وسعة الحيلة.
عندما أفكر في كيف أن عدداً كبيراً من الكتاب الأوروبيين والأميركيين أعادوا سرد موضوعات الخيانة والطفولة التعسة في ضواحي المدن، فإنني أنظر بعين التقدير والحسد لهذه الشابة من إفريقيا التي تسجل تاريخ بلادها. إنها محظوظة، ونحن ـ قراءها ـ أكثر حظاً».
وتقدير الرواية لا يتوقف عند هذا، وإنما يمتد إلى آفاق أبعد، حيث يقول بنيا فانجا ويناينا، مؤسس صحيفة «كواني» والفائز بجائزة كين للكتابة الإفريقية عن هذه الرواية: «مما يدخل السرور على النفس قراءة نثر تشيماماندا الرقيق الحافل بالأصداء.
ونحن نرى كيف يتم اختبار انتماء كل شخص في أمة جديدة، ونكتشف أن نبل الهدف ليس بالعملة الرائجة في هذا الصدد، وإلى أي ذروة من القوة يمكن أن يحلق حبنا، وبأي قدر من السهولة يمكن أن نقتل، وإلى أي مدى يمكن أن تصل إنسانيتنا عندما تكرس الحرب نفسها لتجريدنا من الإنسانية.
وهذه الرواية عمل طموح أعدت أبحاثه على نحو يرقى للكمال ويتسم بالعمق والنفاذ، عمل ملحمي، مفعم بالثقة، وأديتشى تأبى أن تشيح عن هدفها الذي تسعى إليه ولو للحظة واحدة». وبغض النظر عن هذه الآراء، ومع التقدير لمن طرحوها فإن هذه الرواية تظل بحكم موضوعها والأفق الذي تطمح للتحليق إليه ورحابتها الهائلة عملاً جديراً بأكثر من قراءة واحدة.
لحم كل يوم
«السيد مجنون قليلاً، فقد أمضى سنوات أكثر مما ينبغي في قراءة الكتب فيما وراء البحار، وحادث نفسه في المكتب، ولم يرد التحيات الموجهة إليه دوماً، وله شعر أكثر مما ينبغي. قالت عمة أوجو هذا بصوت خفيض، وهما يسيران على الدرب. وأضافت: «لكنه رجل طيب.. وطالما أنك تعمل بشكل جيد، فسوف تأكل بصورة جيدة، بل انك ستأكل اللحم كل يوم».
لم يصدق أوجو أن أي أحد، بمن في ذلك هذا السيد الذي كان بسبيله إلى الإقامة معه، يأكل اللحم كل يوم. وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يخالف عمته فيما ذهبت إليه، لأنه كان أكثر اختناقاً بالتوقع من أن يفعل ذلك. كانا قد سارا طويلاً، منذ ترجلا من الشاحنة في المرآب، واشتعلت شمس الأصيل متوهجة في قفاه.
ولكنه لم يكترث بذلك، فقد كان على استعداد للمشي ساعات أطول في شمس أكثر اتقاداً، فلم يكن قد رأي أي شيء يشبه الشوارع التي بدت لهما بعد أن اجتازا بوابات الجامعة، شوارع بالغة النعومة ومرصوفة بالقطران بحيث أنه تاق إلى أن يلصق خده بها.
لن يستطيع أبداً أن يصف لأخته أنوليكا كيف أن الدور هنا مطلية بلون السماء، وتتراص جنباً إلى جنب مثل رجال مهذبين متأنقين، وكيف أن الأسوار النباتية التي تفصلها قد شذبت على نحو مسطح تماماً في أعلاها بحيث بدت كما لو كانت موائد ملفوفة بأوراق الشجر».
——————————
(أمريكانا): رواية عن الشتات الأفريقي لـ شيماماندا نغوزي أديتشي
تحكي لك بعض الروايات قصةً هائلةً ، بينما تجعلك روايات أخرى تغيّر وجهة نظرك نحو العالم المحيط بك . تستطيع رواية ( أمريكانا ) للكاتبة النيجيرية شيماماندا نغوزي أديتشي أن تفعل الاثنين معاً . وهي ، في الحقيقة ، قصة حب – حكاية صبي وفتاة أحب أحدهما الآخر ، عندما كانا طالبين في إحدى مدارس نيجيريا ، إلا أن حياتيهما تتخذان مسارين مختلفين ، حينما يسعيان وراء مصيريهما في أمريكا وبريطانيا – لكنها ( أي الرواية ) تقدّم لنا تأملاً عميقاً في المواقف الحديثة التي يبديها الناس تجاه العِرق ، وتمتد أحداثها على مساحة ثلاث قارات متباعدة ، وتتناول مواضيع الهوية ، والفقدان ، والعزلة .
إن ( أمريكانا ) هي الرواية الثالثة التي أبدعتها أديتشي ، ونشرتها في مطلع سنة 2013 .. هذه الكاتبة مدحها الكاتب النيجيري شينوا أتشيبي ، صاحب ( الأشياء تتداعى ) و( مضى عهد الراحة ) ، الذي فارق الحياة منذ مدة قصيرة ، قائلاً : « ليس من المألوف أن ترافق الحكمة الكُتاب المبتدئين ، لكن هي ذي كاتبة جديدة تتحلى بموهبة كُتاب القصة المتقدمين في السن . إنها تعرف ماذا تعني المغامرة ، وكيف تتصرّف حيال هذه المغامرة . إن الكُتاب المترددين وقليلي الخبرة يتحاشون التعقيد بكل ما تعنيه هذه الكلمة ، لكن أديتشي تتبنى هذا التعقيد لأن قصتها تحتاج إليه .. لقد تجلت لنا موهبتها كاملة لا تشوبها شائبة» .
في قلب روايتها الجديدة ( أمريكانا ) ثمة شابة نيجيرية تُدعى ( إيفيميلو ) ، تهاجر إلى أمريكا لتكمل دراستها بعد البكالوريوس ، وتحقق الشهرة بوصفها مؤلفة مدوَّنة تحمل اسم ( ريستينث Raceteenth ) ( كلمة Race الإنكليزية تعني : عِرق ) ، أو ملاحظات متنوعة عن سود أمريكا ( الذين كان يُطلق عليهم في ما مضى اسم [ الزنوج ] ) ، ولما كانت سوداء غير أمريكية ، تعلن مؤلفة المدوَّنة عن علاقتها بصديق أمريكي أبيض ، ومن ثم بصديق أمريكي أسود ، وتكشف من خلال مدونتها تعقيدات حياة جميع الأفارقة في ظل حكم باراك أوباما .
لكن هذه الشابة النيجيرية تتحرق دوماً للقاء حبيب طفولتها ( أوبينزي ) الذي لم يحصل على البطاقة الخضراء التي كان يتمنى الحصول عليها ، لكنه يستقر في لندن ، ويضطر إلى ممارسة الأعمال المنافية للقانون ، ويُبعد عن بريطانيا لأنه بات أجنبياً غير مرغوب فيه بسبب زيجة مزيفة . وعندما يؤوب إلى لاغوس تتحسن ظروفه المعيشية ، لكن ثروته الجديدة اعتمدت على تملّق رجال محليين ذوي نفوذ يسكنون هناك . ولا تبدأ حياته بالتحسن إلا عندما تعود ( إيفيميلو ) إلى نيجيريا ، وقد غدت الآن امرأةً أمريكية ( أمريكانا ) ، وهي نفسها كانت قد أُبعدت منذ عهد قريب عن بلدها ، لكنها أيضاً تدرك أنها أصبحت مؤخراً قادرة على سبر أغوار الأمور الجارية في بلادها .
تستخدم الكاتبة النيجيرية صاحبة ( نصف شمس صفراء ) قصة حب عتيقة الطراز كوعاء لأحداث روايتها الثالثة ( أمريكانا ) ، لكنها أبدعت عملاً استثنائياً ، أشبه بالأشكال الهندسية مختلفة الألوان ، التي يعرضها لنا المشكال ( الكاليدوسكوب ) . ينظر هذا النص الروائي إلى العِرق من جميع الزوايا : البراعة الشكلية للمواد المنشورة في المدونة تجيز لها بذكاء أن تكتب مقالات قصيرة تضاهي كتابات كونديرا ؛ كل واحدة من هذه المقالات القصيرة تثري ثيمات السرد الروائي ، أما وجهة نظرها الشخصية في معنى أن يكون المرء أسود في أمريكا ، فمليئة بالتبصر الجديد والحكمة العظيمة .
إن بطلة الرواية ( إيفيميلو ) شابة موهوبة ذات أفكار قوية ، أما صديق طفولتها ( أوبينزي ) فقد كانت له انطباعات وآراء رومانسية عن الغرب ، هذه الانطباعات والآراء تشكلت تحت تأثير قراءاته لأدب غراهام غرين ، ومارك توين ، وجيمس بولدوين .
وحين تنال ( إيفيميلو ) الموافقة على إكمال دراستها العليا في فيلادلفيا ، تغتنم هذه الفرصة . وبعد مضي سنوات عديدة ، يمضي حبيب طفولتها ( أوبينزي ) ، هو الآخر ، بعيداً ، باحثاً عن حياة أفضل ، لكن ليس في أمريكا ، بل في بريطانيا .
في هذه المرحلة تحديداً تبدأ أوديتشي فعلاً في فتل عضلاتها كروائية : الإحساس بالانسلاخ الذي يشعر به الاثنان في بلدين يمتلكان تاريخين مختلفين تمام الاختلاف ، ولهما بنيتان طبقيتان متباينتان ؛ هذا الإحساس تصفه الكاتبة النيجيرية بصورة تنم عن الدراية والخبرة ، فشيماماندا التي نالت جائزة الأورنج سنة 2007 ، تمتلك عيناً استثنائية ، فريدة ، تؤهلها لسرد تفاصيل التفاعل الاجتماعي في إطار نوع محدد من النخبة الليبرالية .
وتتخلل الرواية حوارات بين الأفارقة المهاجرين والغربيين تنم عن سعة إطلاع الكاتبة النيجيرية الشابة وبراعتها السردية وذكائها الحاد . هي ذي تكتب لنا في الرواية التي نتناولها الآن ، متحدثةً عن الأجانب الذين صار الأفارقة يعيشون إلى جوارهم ، وبينهم : « إنهم يفهمون الفرار من الحرب ، الفرار من ذلك النوع من الفقر الذي سحق أرواح البشر . لكنهم ما كانوا ليفهموا لماذا يلجأ أناس على شاكلة أوبينزي ترعرعوا في أسر ميسورة الحال ، وكانوا حسني التغذية ، لكن الاستياء هو الذي استوطن ذواتهم ، وكان مقدّراً لهم منذ الولادة أن يوجهوا أنظارهم إلى مكانٍ آخر غير وطنهم الأم ، لماذا ينزعون إلى ممارسة الأفعال غير المشروعة ، والمحفوفة بالمخاطر ، مع أنهم لم يجوعوا ، ولم تتعرض النساء منهم للاغتصاب ، ولم يهربوا من المدن المحترقة ؛ بل كانوا منساقين وراء رغبتهم المتأججة في اختيار أسلوب العيش الذي يروقهم ، وسعياً وراء الحقيقة التي لا غبار عليها . «
عندما تهاجر هذه الشابة إلى أمريكا ، تجد صعوبةً في الحصول على عمل جزئي يستغرق بعض ساعات اليوم ، ويرفضون طلبها العمل في مهن وضيعة من مثل نادلة في مطعم أو مقهى ، أو ساقية في حانة ، أو أمينة صندوق في شركة أو متجر . ويتحدث زملاؤها في الجامعة معها ببطء موجع ، كما لو أنها لا تتمكن من فهم اللغة الانكليزية الأصلية .
وفي النهاية تبدأ ( إيفيميلو ) بالكتابة عن تجاربها في المدوَّنة التي تنشئها . وتضيف الرسائل الالكترونية التي تصل إلى مدوّنتها بُعداً آخر للخطة التي رسمتها ، وتجعل القارئ قادراً على فهم الطريقة التي تنظر فيها ( إيفيميلو ) إلى ذاتها ، وكيف ترغب أن تقدّم نفسها إلى العالم الخارجي .
يوجد موضوع يتكرر في المدوّنات ألا وهو تسييس الشَعر الأسود – كيف كان الناس يتوقعون من النساء أن يسرّحن تجاعيد شعرهن الطبيعية بالمواد الكيمياوية السامة ، أو يحبكن خصلات شعر غيرهن مع شعرهن كي يجعلن أنفسهن مطابقات لنماذج بيضاء تبعث على الارتياح .
في الحقيقة ، كُتبت معظم وقائع الرواية بطريقة الاسترجاع ( الفلاش باك ) ، عندما ضفرت ( إيفيميلو ) شعرها في صالون تجميل في نيوجيرسي استعداداً للذهاب إلى وطنها الأم نيجيريا ، بعد أن أمضت خمس عشرة سنة في أمريكا ؛ هذه الحقبة الزمنية شهدت فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية .
إن إحدى غوايات ( أمريكانا ) هو فؤادها العميق ، الخافق ، ذو العواطف غير المكبوتة . فبوسعك أن تتحسس عاطفة أديتشي وإيمانها ينبضان تحت كل فقرة من فقرات هذه الرواية المكتوبة بقدرٍ متساوٍ من الغنائية والمعرفة الواسعة .
إن ( امريكانا ) رواية عن تجارب الشتات الأفريقي – وهي أمور يمكنها أن ترويها طالما أنها عاشتها وخبرتها ، هي التي تقسم وقتها بين الولايات المتحدة ونيجيريا . وأروع اللحظات هي عندما تكتب أديتشي بتفاصيل باهرة عن وقائع ربما جرت لها بوصفها امرأة نيجيرية مقيمة في أمريكا . لكن بطلة روايتها ( إيفيميلو ) تتخذ قراراً واعياً ، وتعود إلى وطنها ، متخليةً عما يُسمى بـ ( الحلم الأمريكي ) .
وهكذا تمزج أديتشي في روايتها هذه بين تيار ما بعد الحداثة ، وتيار ما بعد الكولونيالية ، من خلال موضوعات أصبحت شائعة في روايات كتابنا المعاصرين ، وهي موضوعات الهجرة ، والاغتراب ، والهوية ، والآخر ، والاندماج الثقافي في المجتمعات الجديدة ، واكتساب القيم والمبادئ الغربية ، أو كما يسميها هومي بابا ( الهجنة ) ( التي من شأنها أن تذوّب الأفكار العنصرية والشوفينية ) ، والبحث عن الذات ، والحاجة إلى فهم الآخر ، والتمزق بين العوالم المختلفة ، والتمسك بالجذور ، والتأقلم .. تلك الموضوعات التي صرنا نجدها في كتابات الروائيين العراقيين المعاصرين ، من مثل رواية إنعام كجه جي الأخيرة ( طشاري ) ، ورواية دنى غالي ( عندما تستيقظ الرائحة ) ، وكذلك روايتي علي بدر ( مصابيح أورشليم ، رواية عن إدوارد سعيد ) ، و ( حارس التبغ ) . كما يجدها القارئ في كتابات الأدباء الذين ينحدرون من أصول آسيوية وأفريقية وعربية ، ومنها مجموعتا الكاتبة الهندية جومبا لاهيري ( ترجمان الأوجاع ، 1999، ترجمتها المترجمة المصرية مروة هاشم ، ونُشرت في مشروع كلمة ، 2009) ، و ( أرض غير مألوفة ، 2008 ) ، وروايتها ( السمي ، 2003 ) ، التي تحولت إلى فيلم سينمائي سنة 2007 ، أخرجته المخرجة الهندية ميرا نير ، وكذلك في رواية ( بريك لين ) للكاتبة البنجلاديشية مونيكا علي ( أبوها بنغلاديشي وأمها انجليزية ) ، التي صدرت ترجمتها العربية عن سلسلة ( إبداعات عالمية ) / الكويت ، سنة 2009 ، بترجمة الكاتب والمترجم المصري عبده الريس .
***
كانت أديتشي تكافح طوال سنوات حياتها كي تتم مقارنتها بشينوا أتشيبي . كلاهما نيجيري ، وكلاهما ينتمي إلى قبيلة ( الإيبو ) ، وكلاهما تلقى تعليمه في معاهد متشابهة ، على الرغم من أن أديتشي أصغر منه بسنوات كثيرة ( أديتشي الآن في السادسة والثلاثين من عمرها ، بينما كان أتشيبي في الثانية والثمانين حينما توفي سنة 2013 ) . ومن الغريب أنهما أقاما في المبنى السكني نفسه – فقد انتقلت أسرة أديتشي للإقامة في الدور السكنية التابعة لجامعة نسوكا التي كان أتشيبي قد أقام فيها من قبل ، ومن ثم غادرها . أن يتقاسم كاتبان شهيران من بلد سكانه 163 مليون نسمة الحجرات نفسها هو نوع من المصادفة لا يستطع أي منهما أن يفلت منها في كتاباته .
قالت شيماماندا عندما ضيّفتها ( جمعية الكتاب الأمريكان ) سنة 2008 : « أصبحت حقيقة إقامتي في المنزل الذي سكنه أتشيبي قبلاً أهم حقيقة يعرفها الناس عني . يسألونني دوماً ما هو شعورك وأنتِ تسكنين في منزل أتشيبي ؟ وكنت أجد نفسي أتذكر الأمور : أفيق من النوم ليلاً ، وأذهب إلى الحمام ، وأقف بالقرب من السلّم ، وأنصت إلى الأشباح التي تهمس في أذني الأسرار ، أسراراً عن حبكة الرواية ، وشخصياتها ، وتراكيب جملها . حسناً ، لقد أنجزتُ ذلك . فهذا جزء من خيالي ، لكن الشيء الذي لا ينتمي إلى خيالي ، والذي كنت متأكدة منه هو إنني لن أكون كاتبة إن لم أكتب من أجل أتشيبي» .
تكتب أديتشي في أكثر من جنس أدبي ، فقبل ( أمريكانا ) ، نشرت النيجيرية المولودة في الخامس عشر من أيلول ( سبتمبر ) 1977 روايتين ؛ الأولى ( الخبازى الأرجوانية ، 2003 ) التي فازت بجائزة أفضل أول كتاب في سنة 2005 ضمن جوائز كتاب دول الكومنولث ، كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر البريطانية ، أما روايتها الثانية (نصف شمس صفراء ، 2006 ) فقد حازت جائزة الأورنج الخاصة بالسرد الذي تبدعه النساء سنة 2007 .. هذه الرواية صدرت بالعربية سنة 2009 ، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، بترجمة الشاعرة والمترجمة فاطمة ناعوت .
فضلاً عن ذلك ، نشرت شيماماندا سنة 1997 مجموعة شعرية حملت عنوان ( القرارات ) ، ومسرحية واحدة بعنوان ( من أجل حب بيافرا ، 1998 ) ، وكذلك مجموعة قصصية حملت عنوان (الشيء الذي يخنقك ، 2009 ) . نالت هذه المجموعة الاستحسان ، وجعلتها تتبوأ منزلتها اللائقة بوصفها واحدة من الكتاب الأفارقة الواعدين جداً ممن ينتمون إلى جيلها ، فيما عدّتها جريدة ( النيويوركر ) واحدة من أفضل المؤلفين ممن تقل أعمارهم عن أربعين سنة .
تضم هذه المجموعة 12 قصة قصيرة ، تدور معظم أحداثها بين نيجيريا والولايات المتحدة الأمريكية ، تُظهر الكاتبة من خلال سردها القصصي البارع أقدار الأبطال الذين يختارون المزاوجة بين حياتين مختلفتين ، وهويتين متباينتين . وعبر صفحات هذه المجموعة كانت عينا الكاتبة مفتوحتين دوماً على المفارقة الساخرة بين الوضع المتردي والفاسد في بلدها نيجيريا ، حيث يعاني المواطنون من غياب الحرية ، وتدني التعليم . فالنيجيريون الطموحون ما إن يحصلون على تأشيرة الدخول حتى يغادرون بلادهم ذاهبين إلى بريطانيا أو الولايات المتحدة ، أو على الأقل يقصدون غانا لمواصلة تعليمهم هناك ، فحال المدارس فيها أفضل نوعاً من المدارس النيجيرية . إن إبطال وبطلات أديتشي في مجموعتها هذه أشخاص متعلمون حالمون ، شديدو التناقض ، لكن الصوت الحاضر في جميع قصص الكتاب هو صوت المرأة ، حيث آثرت الكاتبة أن تروي قصصها بصيغة الشخص الأول ؛ أما نهايات قصصها فمفتوحة على احتمالات وتأويلات لا حصر لها ، كما تركت المؤلفة الكلمات والمصطلحات بلغة اليوروبا والإيبو ، لتتيح للقارئ حرية فهم المعاني على وفق ما يشاء .
أما رواية شيماماندا الثانية ( نصف شمس صفراء ) فقد تناولت ( حرب بيافرا ) التي استمرت بين سنتي 1967 و1970 ، وأُزهقت خلالها أرواح أكثر من مليون شخص . وبيافرا هي إحدى ولايات الجنوب الشرقي من نيجيريا ، حاولت الاستقلال عن الدولة الاتحادية ، وإعلان جمهورية بيافرا ، التي اتخذت من رمز « نصف شمس صفراء « شعاراً وعلماً لدولتها المرتقبة .
وعن مبررات كتابة هذا العمل الروائي ، تقول شيماماندا في حوارٍ معها : « كنت أريد أن أتذكر الحرب . أريد أن أتذكر الناس الذين لقوا مصرعهم . أريد أن أتذكر تلك الحقبة الزمنية العصيبة من تاريخنا . لا أريد أن أفعل ذلك وحدي . أود أن نتذكر جميعاً تلك المأساة الرهيبة . لقد شوّه الإعلام صورة أفريقيا . لكن هذا الإعلام عينه اهتم بحرب بيافرا ، ولأول مرة شاهد الناس الأطفال الأفارقة على شاشة التلفاز . إنه شيء مقلق وموجع عندما لا يستطيع الأفارقة أنفسهم أن يساعدوا بعضهم.
—————-
علي عبد الأمير صالح
————————–
لتحميل روايات الكاتبة من الروابط التالية
رواية زهرة الكركدية الأرجوانية تشيماماندا نجوزي أديتشي
أمريكانا تشيماماندا نغوزي أديشي
ذاك الشيء حول عنقك
علينا جميعا أن نصبح نسويين – تشيماماندا نجوزي أويتشي
===================