“الثورة المستحيلة”.. مقدمة الطبعة الإسبانية/ ياسين الحاج صالح*
يتجنب هذا الكتاب بقدر كبير التحليلات الجيوسياسية، الرائجة في مقاربة بلدان “الشرق الأوسط” في الأوساط الغربية، الحكومات واليمين القومي واليسار الأنتي إمبريالي. هذا لأنه يغيب عن بلداننا، وسوريا بخاصة، تناول شؤونها من داخل ومن تحت، والنظر إليها كمجتمعات مركبة حية، كنساء ورجال، كمدن وبلدات وأرياف، كبرجوازية مركزية ذات نفاذ امتيازي إلى الموارد الوطنية، وكمراتب واسعة من جمهور مستباح سياسياً ومفتقر مادياً ومزدرى ثقافياً، كشباب بلا مستقبل يحلم بالهجرة، كنشطاء سياسيين يناضلون في شروط شاقة من أجل حياة سياسية في البلد، كإفقار سياسي عام دفع قطاعات واسعة من السكان إلى الْتماس السياسة في الدين، كحكم سلالي أبدي مفروض بالعنف ومحارب بنشاط للتغيير والمستقبل، لا يترك للسوريين غير الماضي يقيمون فيه، كنساء محتقرات يغتصبن في المقرات الأمنية وينبذن اجتماعياً وعائلياً، كإغلاق للداخل الوطني وجعل البلد سجناً كبيراً تديره نخبة مافيوية بالغة الثراء، كلّية الحصانة، تعيش مثلما يعيش المليارديرات في الغرب.
وفق التحليلات الرائجة في الغرب ولدى قوى الأمر الواقع لدينا، تبدو مجتمعاتنا، بالأحرى، صناديق مغلقة، وهناك شخص اسمه (فيما يخص سوريا) بشار الأسد، يمسك بمفتاح صندوقه الخاص، “سوريا الأسد”، الذي تقيم فيه كائنات متماثلة، لا عيون لها ولا وجوه ولا أسماء، يطعمها بشار ويرعاها ويحميها، وهي من جانبها تحب أن يدوم هذا الوضع “إلى الأبد”.
يريد الكتاب القول إن في سوريا مجتمعاً، إنّ البلد ليس صندوقاً لا بنية داخلية له، إن للسوريين وجوهاً وعيوناً وملامح وأسماء وسيراً وتورايخ، إن هناك سكاناً وفقراً ومطالبات سياسية، إن لنا تاريخاً في النضال من أجل امتلاك السياسة في بلدنا، وامتلاك بلدنا ذاته. التفكير الجيوسياسي الذي يتكلم على عواصم ورؤساء ومواقع جغرافيا وحروب ودول سيدة… لا يقول أشياء مهمة عن حياتنا وعن حريتنا، لكنه بالفعل يقول أشياء مهمة عن سحقنا وإذلالنا. ليس الجيوسياسي ما يفسر واقع سوريا، على العكس؛ إن بنية سوريا، دولة ومجتمعاً، وفي إطار تاريخي يمتد نصف قرن من حكم الأسرة الأسدية، هي ما يسهم في إضاءة وقائع المجال الشرق أوسطي، القائم على تجريد الدول المحلية للسكان من السياسة وتقرير مصيرهم، وعلى تجريد الدول ذاتها من السيادة في المجال الدولي (تعرض وجها سيادياً في الداخل، وجه الاستثناء الأبدي، المميت، ووجهاً سياسياً حيال الخارج القوي فقط). إغلاق الملعب الداخلي في سوريا، ومعاملة السوريين بنهج الحملات التأديبية الاستعمارية، هو من بين أشياء أخرى جعلت بلدان الشرق الأوسط محرومة من دواخل اجتماعية وسياسية حية، ومستعصية تالياً على الديمقراطية.
ليس مرد ذلك إلى الدين والثقافة، كما يقول الخطاب الذي يتقاسم مع الخطاب الجيوسياسي شرح المنطقة، أعني الخطاب الثقافوي الذي لا يكف عن الكلام عن إسلام وأصولية وطوائف وشيعة وسنة و”عقلية عربية” و”حضارة إسلامية”، وبقية النفايات الجوهرانية والعنصرية. ليست هويتنا الثقافية المفترضة هي ما يحدد واقعنا التاريخي، إن هذا الواقع هو ما يحدد الهوية الثقافية، هذا كي نتكلم بلغة ماركسية، مشدودة النظر إلى التحت الاجتماعي والاقتصادي للسكان، وليس إلى فوق أثيري كأننا بالونات منفوخة بالهواء. ليست بلداننا استثناء من الديمقراطية لأننا مسلمون، بل لأن الشرط الاستعماري، المضاد جوهرياً للديمقراطية بطبيعة الحال، مستمر هنا: بفضل الدعم الغربي الأعمى لدولة استعمارية عنصرية مثل إسرائيل، تعامل المنطقة حولها كحقل صيد مباح، ولا تكف عن إبادة الفلسطينيين سياسياً، ثم بفضل وقوع حوض النفط العالمي في دول عائلية قليلة السكان، أدرجت في نظام الأمن القومي الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وقت قريب. الاستثناء من الديمقراطية هو ما جعل بلداننا إسلامية، وليس العكس، أعني هو ما جعل من الإسلام إيديولوجية سياسية وحدّاً للفقر السياسي. دولة الأسديين التي تقوم جوهرياً على فلسطنة السوريين هي استمرار بنيوي لإسرائيل في الشرق الأوسط، وليست عدواً لها إلا من باب بلاغة إيديولوجية بلا أي رصيد واقعي.
هذا الكتاب الذي كتب نصفه في سوريا قبل خروجي منها في خريف 2013 هو وثيقة نضالية، كاتبه منخرط في الصراع ومنحاز جداً، وإن أكن حاولت قدر المستطاع أن أوفّر معطيات وتحليلات تخاطب قارئاً حسن النية ومنفتح الذهن، يريد أن يعرف. لا أطلب من قارئ الإسبانية، ولا أتوقع منه أن يسلّم بما أقول، أرجو فقط أن يجد في هذا الكتاب ما يحفز على معرفة المزيد عن سوريا والسوريين، عن تاريخنا المعاصر وعن صراعنا المخذول من أجل التحرر. لا نختلف في شيء أساسي عن غيرنا. لدينا مشكلات كثيرة، كان يمكن ألا يكون النظام الأسدي أسوأها، لولا أنه طوال جيلين من تاريخه (أطول من حكم فرانكو بأكثر من عشر سنوات سلفاً)، حال بيننا وبين معالجة مشكلاتنا الأخرى، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية والحقوقية. لا نستطيع المبادرة إلى تكنيس شارع أو تنظيف نهر ملوث، أو الاجتماع في بيت خاص للنقاش في شؤون عامة، أو تشكيل جمعية لقراءة الكتب، أو جمعية أخرى لمحاربة الطائفية. وبطبيعة الحال، لا نستطيع تشكيل حزب سياسي أو نقابة عاملين في حقل ما أو منظمة حقوقية. لقد كنا “عبيداً” سياسياً. “سوريا الأسد” والنظام الشرق أوسطي والشرق الأوسط، نظام دولي فرعي وليس مجرد إقليم جغرافي، يقومان على العبودية السياسية. وأول التحرر من الاستعمار والنضال ضد الإمبريالية هو كسر قيود هذه العبودية. كانت الثورة السورية ثورة عبيد من أجل الحرية وتقرير المصير. وقد حطمت على يد النظام المحلي والنظام الشرق أوسطي، وبمشاركة القوى القائدة في النظام الدولي. لذلك فإن التحرر السوري هو قضية دولية، وهو قضية المستقبل.
البداهة تقضي بأن لا حلول محلية لمشكلات عالمية، ولا حلول في الماضي لمشكلات المستقبل. العالم والمستقبل، أو العالم- المستقبل هو المشروع الذي يُقرِبنا من بعض، يوحدنا. سوريا المتحررة هناك، في ذاك المشروع.
*كاتب سوري
بوابة سوريا
لتحميل الكتاب من الرابط التالي
الثورة المستحيلة/ ياسين الحاج صالح