كيف أصبحنا هكذا/ رشا عمران
حين كنا صغاراً، كانت الشوارع أماكن اللعب الخاصة بنا. لم تكن التسالي المنزلية قد وصلت إلى سورية، ولم تكن الألعاب الإلكترونية التي تجعل الأطفال منعزلين كل في غرفته قد اخترعت بعد. كان الشارع وأسطح العمارات أماكن تجمع أولاد الحارة، تجمعنا حتى وقتٍ متأخر من النهار، وربما حتى أول الليل. لم نكن نخاف أو نخشى شيئاً. لم تكن فكرة الشارع مرعبة أصلاً، لا خوف من الخطف ولا من التحرّش بالأطفال، ولا من الاغتصاب، ولا من شيءٍ. كان عالماً من البراءة لم تلوثه خيالات جنسية مريضة. وعلى الرغم من أن مدارسنا الابتدائية في دمشق ذلك الوقت لم تكن مختلطة، لم يكن الشارع يمانع في اختلاطنا. كانت التلفزيونات نادرة في البيوت. كان البث يبدأ في الثانية عشرة ظهراً ببث تجريبي، ثم تبدأ البرامج في السادسة مساء وتقفل في الثانية عشرة ليلاً. ولم يكن لكل ما يتعلق بالدين أي وجود تلفزيوني سوى نصف ساعة من التلاوة المباركة للقرآن الكريم عند بدء البث، بصوت عبد الباسط عبد الصمد، ونصف ساعة في الختام.
كان ذلك قبل البث الفضائي وطفرة المحطات التلفزيونية التي تكاثرت بعد مدة، قبل أن يبدأ انتشار الغزو المبثوث، ليس إلى البيوت وغرف النوم فقط، بل إلى العقول تحديداً. ظهرت محطات البورنو التي كان بثها يبدأ في تركيا وقبرص بعد العاشرة ليلاً، وانتشرت سيرتها في سورية. كنّا كبرنا قليلاً، وأصبحنا في المراهقة. الأسطح التي كانت مكاناً للعب والشغب صارت ممتلئة بناقلات الإرسال (الهوائي)، التي كان يلتحم بها المراهقون والشبان الأكبر سناً، بعد العاشرة ليلاً في محاولات توجيهها بالاتجاه الذي ينقل عروض البورنو من قبرص وتركيا. في هدأة تلك الليالي، كان من المعتاد أن نسمع كلمات بصوت عالٍ: “لساه مشوش، راح البث تماماً، أيوه ثبته هيك”.. كان هذا أقصى ما يمكن أن يحفّز الخيالات الجنسية لدى المراهقين المحرومين من توجيه الهوائيات، الجالسين في بيوتهم يحسدون الواقفين على الأسطح، والذين سيقضون سهرة خيالية ولو مشوّشة. لم تكن المراهقات أيضاً بعيداتٍ عن هذا الخيال، كان حديثنا في اليوم التالي، نحن المراهقات، يتركّز معظمه حول ما نسمعه من “رفقاتنا” الشبان، عن أعاجيب البورنو المشوّشة البث، وكان سؤالنا دائماً: هل هذا قانوني، وهل سينتقل هذا ليصبح قانونياً في بلادنا؟ بعد سنوات قليلة، اشتهرت محطة بورنو تركية، كانت بثها صافياً تقريباً، كان اسمها كلمة سر عن سهرة أمس.
كان القانون السوري يمنع استخدام الصحون اللاقطة. ولهذا تأسست، بعد انتشار الفضائيات، شركات صغيرة كانت تنقل البث الفضائي عبر “كابل” مقابل اشتراك شهري، فكان المشتركون جميعاً يشاهدون البرامج التي على مزاج أصحاب الشركة، كانت الفضائيات تبث أربعاً وعشرين ساعة متواصلة. بدأت الشوارع تفرغ شيئاً فشيئاً من الأولاد وصخبهم. كانت برامج التلفزيونات الخاصة بالأطفال بديلاً عن الشوارع، وتزامن استخدام الصحون اللاقطة مع بدء انتشار الفضائيات التي تنقل الأحداث العالمية على الهواء مباشرة، وانتشار المحطات الدينية وبرامج الدعاة، وانتشار ظاهرة الفيديو كليب مع نوعٍ جديد من الأغاني التي كانت توصف بالهابطة، وإنشاء محطّات خاصة ببث هذا النوع من الفن الذي فيه العري والإيحاءات الجنسية.
كانت برامج الدعاة تحثّ على التحجب ومنع الاختلاط، محذّرة من عذاب الآخرة للسافرات والمختلطات، وما إن تضغط بإصبعك على جهاز التحكّم، حتى تظهر لك “مغنيات” شبه عاريات، يعزّزن الخيال الجنسي المريض الذي اشتغل الدعاة على تكوينه لدى المراهقين الذكور.. هل كان كل ذلك مصادفة؟ من الغباء بمكان اعتبار هذا الغزو في بلادنا مصادفة. رصدت مبالغ طائلة لهذه الفضائيات، وأصبح الدعاة الفضائيون من أغنى أغنياء العرب، واتضحت لاحقاً علاقتهم المباشرة بأجهزة أمنية محلية وإقليمية. كان الهدف تخريب أجيالٍ عربية، وبقاءها مغيبة ومهمومة بالشاغل الجنسي والتحريم، لتبقى بعيدةً عن القضايا الوطنية والتحرّرية والديموقراطية، بما يعزّز بقاء السلطات الاستبدادية متحالفةً مع مؤسساتٍ دينيةٍ لديها من الفساد ما لدى السلطات السياسية. وترافق ذلك مع فشلٍ في بنيان الدولة العربية، ومع إهمال التنمية والتعليم والصحة، ومع مزيدٍ من الإفقار الذي يترافق دائماً مع التجهيل والتغييب .. اصطدم ذلك كله بأحلام تحرّرية مع بداية الربيع العربي لدى شبابٍ استخدم التقدّم التكنولوجي بشكل صحيح ومفيد، فكانت النتيجة ما نحن فيه اليوم من هزائم مريعة، سياسياً وحضارياً وأخلاقياً.
العربي الجديد