الوظائف المتعددة للطاولات الشفافة والفصاميّة/ عمار المأمون
أعيد هنا ترتيب نصّ لسركون بولص، نُشر في صحيفة العرب بترجمة خالط الجبيلي. النص أو “المقال غير المنشور”، كتبه بولص في سان فرانسيسكو، في نيسان عام 2007، ظهر في مجموعة سركون بولص الشعريّة “شاحذ السكاكين”، ويبدأ بالتالي: “أنا هنا. تنطوي هاتان الكلمتان على كلّ ما يمكن قوله، فأنتَ تبدأ بهاتين الكلمتين وتعود إليهما، و’هنا’ تعني على هذه الأرض، على هذه القارة، لا قارة أخرى، في هذه المدينة، لا مدينة أخرى، وأنا أدعو هذا العصر عصري أنا، بل وهذا القرن وهذه السنة. فلم أُمنح مكاناً غير هذا المكان، ولا زمناً غير هذا الزمن. وألمس طاولة مكتبي كي أدفع عن نفسي ذلك الشعور بأنّ جسدي مصيره الفناء. وهذا الأمر في حد ذاته جوهري، لكن بالرغم من ذلك، فإن علم الحياة يعتمد على الاكتشاف التدريجي للحقائق الأساسية”.
العلامات في النص تشير إلى المكان والزمان، إلى وضعية كان يشغلها بولص حينها وهو يطرح أسئلة عن “أناه”، يتملك فيها جسده وزمنه، لكن علامة الفناء التي يشير لها تظهر في لحظة محددة بصورة أخرى. الاختبار الذي يقوم به ليدفع شكّه الداخلي بمصيره الحتمي، يختزل بفعل واحد “ألمس طاولة مكتبي”. الغرض الوحيد الذي يقضي على شكّ بولص هو الطاولة، يكتفي بلمسها ليؤكد لنفسه أنه الآن حاضر ولاحقاً سيتلاشى، وكأن الطاولة، سطحها وتكوينها، علامة على الحضور، الجلوس إليها يعني الوعي التامّ بالزمان والمكان، يقين ما يتحرك داخل الجسد الذي يختزل العالم والمدينة والزمان في هذه الجلسة.
هذا اليقين الذي تولده الطاولة، يرتبط بسطحها كمساحة للجهد الفكري والفني بل والإنساني. الطاولة أشبه بالصفحة البيضاء، نصبّ عليها جهدنا. هي تحمله وتتيح لنا التعامل معه، ولغيرنا أن يشاهده.
نتلمس ذلك حين ندخل مركز الفنّ المعاصر، ضاحية إيفري في باريس، 49 طاولة ممتدة ضمن مساحة 3 صالات. على كل طاولة، نشاهد عملاً فنياً أو مجموعة أعمال أرسلها أصحابها إلى الصالة، في إطار معرض “حياة الطاولات”. مساحة العرض هي سطح الطاولة المشابهة لتلك التي يعمل عليها الفنان، ليبدو المعرض أشبه بورشة هائلة تركها أًصحابها بعد أن انتهوا من إنجاز أعمالهم الفنيّة ونظفوا طاولاتهم، أما نحن الزوار فأشبه بمتلصصين على الأعمال قبل عرضها، سواء كانت منحوتات، تخطيطات أو لوحات لم تعلّق بعد.
ما يهمنا حقيقة هو الطاولة ذاتها، غرض عملياتي ومساحة مفاهيميّة، هي السطح الأملس الذي يختزل مساحة العرض في “حياة الطاولات”، والذي في سياقات أخرى قد يتحول إلى خشبة للعب، يجلس إليها أحدهم لـ “يؤدّي” أمامنا، لتتحول إلى فضاء مصغّر للاستعراض، جوهره الكلمات والأدوات البسيطة على سطحها.
هذه الصيغة تظهر بشكلها الأقصى مع فرقة “تسلية إجبارية”، إذ أنجز أعضاء الفرقة البريطانية عرضاً بعنوان “الأعمال الكاملة: شيكسبير على سطح الطاولة”، ويقدم فيها كل واحد من المؤدين مسرحية لشيكسبير وهو يجلس على طاولة خشبية لا تثير الاهتمام، تحوي أغراضاً يومية، ممالح، ألواناً، زجاجات فارغة، مبيدات حشريّة. تتحول على الطاولة، وبفعل الحكاية، إلى شخصيات تتفعّل في مخيلتنا وتتحرك على الطاولة، تلك المساحة المفتوحة على اللعب والحوار أو حتى التجاهل، إذ يمكن ببساطة عدم النظر إلى الطاولة والاستماع للحكاية فقط.
هذا اليقين واللعب الذي تفعله الطاولة له نقيضه، فهناك طاولات عقيمة لا يمكن مسّها أو تعديلها، كونها فقدت وظيفتها لأن سطحها غير صالح للاستخدام، فقط للتأمل. طاولات ذات سطوح لا يمكن “تنظيفها” كونها ستفقد قيمتها، هذه الطاولات يشير لها جيل دولوز وفليكس غوتاري، في كتابهما “ضد أوديب”، وينعتانها باسم “الطاولات الشيزوفرانية”، كونها تولّد “الرغبة” لكن لا تمثلها. هذه الأسطح تحوي رسوم المصابين بالشيزوفرانيا والفصام، طاولات مليئة بأوراق وخربشات ذات ترتيب خاص لا يدركه إلا صاحبها، ووظيفة سطح الطاولة هي أن يحتوي هذه “الرغبات” دون أن يمثّلها. هي ليست بطاولة، ننفي جنسها هنا، لأن فعل تراكم الأشياء والرسومات عليها يؤدي إلى تلاشي وظيفتها، إذ لا يمكن تحريكها ولا فهمها، فقط إدراك وجودها. هي طاولة بلا وظيفة، خزان للرغبة اللاواعية الذي لا يمكن ترتيبه، فقط تلمّس أعراضه.
هذا الشكل من الأسطح التي يهدد مسّها وظيفتها الاستعراضية يتجلى فيما يسمّى “الطبيعة الميتة”. جيوفاني بابلو كاستيلي، الفنان الإيطالي الذي اشتهر في القرن السابع عشر، عرف بإنتاج لوحات من هذا النوع، إذ نشاهد في أحد لوحاته طاولة على سطحها تفاح ورمان ودراق ونبيذ وتين، ما كان نضراً وغضاً، يحرك حليمات اللسان والذوق، يبدو في لوحاته مَنسياً ويعتليه العفن، وأي تحريك للطاولة يعني القضاء على التعفّن الذي يتم على سطحها ويجمع مكوناتها. الزمن هنا هو ما “يفعّل” عملية التحلل، اليقين بالزوال تفعّله الطاولة، كحالة بولص السابقة، هو لمس الطاولة ليتأكد ويختزل الزمن، وإن استمر، وهذا ما يشير له، سيتيقّن من فنائه. بالعودة للوحة، نحن أمام طاولة بلا وظيفة “عملية” ضمنها وغير مرئيّة، نتلمس فقط آثارها وشكلها النهائي، ذاك المتغير. هي طاولة لا يمكن الجلوس إليها، أو الأكل من على سطحها، هي تفقد “إنسانيتها”، مع ذلك تحافظ على رغبتها بالتغيّر.
ألعاب الطاولة
الجلوس على الطاولة دعوة للآخر، كل من هو وحيد على طاولة ينادي ولو بصمت من هم حوله. تتكرر دوماً القصائد عن رجل أو امرأة يجلس/تجلس وحيداً/ة على الطاولة، يتأمله/ها متلصص ما من بعيد، وتتفعل مخيلة المتلصص: لماذا وحده/ا على الطاولة؟ وكأن الطاولة فضاء مشترك لا مكان فيه للوحيدين، ولابد من اثنين أو أكثر لأجل حوار، شجار، تفاعل ما.
حتى الصمت مقبول بين اثنين على ذات الطاولة، أما الفرد وحيداً يعني أنه يكتفي بذاته ومخيلته، والأفضل ألا يكون مرئيّاً. الوحيد على الطاولة يراهن على زواله، قلق بولص من الفناء يمتدّ في هذه الحالة، خصوصاً إن كانت الطاولة بلا كراس، عالية، للوقوف فقط، دعوة عامة للمارة بأني هنا بصورة مؤقتة ولن أبقى. احتمالات الحوار أشد لدى من يقف، ينفتح كليّاً على فضول الآخرين، أما من يجلس وحيداً فكمن يختبئ وراء جدار شفاف، خصوصاً أن طاولة المطعم أو المقهى مفتوحة على الاحتمالات، مساحة بانتظار التكوين المرتبط بالقائمة وبما نطلبه. هي سطح التماس الأول مع احتمالات الاستهلاك وترتيبه وكميته وإيقاعه، والوحيدون عليها علامة على شرط العصر الذي نحن فيه، لا مكان للولائم ولا المآدب. كن وحيداً ثم أرحل، تغنّى بفردانيتك علناً، ثم ارحل.
الكثير من الألاعيب اللغوية ترتبط بالطاولة، تحت الطاولة، فوق الطاولة، طاولة الحوار، طاولة التشريح، طاولة العشاء، كلها تفترض أن الطاولة مساحة للحوار، الذي قد ينتهي “بقلب الطاولة” وتغيير شكلها الفيزيائي، ما يعني تحريرها من وظيفتها كمكان للجلوس و”العمل”. هي تختزل الفضاء العام وتحرر اللغة، وقلبها يعني الصراخ أو الصمت. هناك تقليد يقول إنه من المعيب أن نجلس صامتين على الطاولة، لا بد من حديث ما، من حوار يجمع من جلسوا، وإلا لم الطاولة بالأصل. الرغبة بالطعام فقط دون حوار تحمل صورة مأساوية. حزينون أولئك الذين يأكلون ويشربون على الطاولة بصمت.
الطاولة والفزع
سببت إجراءات التباعد الاجتماعي أزمة حول الطاولة في المقاهي العامة، فالمفترض أن نبقى على مسافة متر من بعضنا البعض، لكن المجتمعين حول طاولة واحدة ومن يألفون بعضهم، يكسرون هذه القاعدة، يتكدسون متجاوزين المسافة القانونية، بل وتلك التقليدية، وذلك كيلا يقتربوا من الجالسين على الطاولة الأخرى. كتل مصغرة من البشر تجمع أفرادها ثقة وهمية أساسها إعلان كل واحد غياب المرض من جسده، هذه الثقة يقابلها شكّ بأولئك الجالسين على الطاولة المقابلة، المتهمين بالعداوة.
نحن لا نثق بهم لأننا لا نعرفهم، وحتى لو اعترفوا بصحتهم فلن نصدقهم، وهنا المثير للاهتمام: أول قوانين التباعد الاجتماعي التي فرضت على المؤسسات ترتبط بالطاولات، لا بد من مسافة متر بين كل طاولتين، ما يفتت فضاء المقهى أو المطعم ويحوله إلى ما يشبه الجزر المعزولة. لكل طاولة جماعتها، فضاؤها الخالي من العدوى على أساس الثقة. لا مجال للاختلاط، وإن حصل، فالكل يقف ويتعزز التباعد بين كل أفراد الجامعة بسبب اختلاط أحدهم مع الغريب، ذاك الجالس على الطاولة المجاورة.
طاولة وفقط طاولة
أنجز المعماري والمصمم السويسري كوربوزييه عام 1929، طاولة باسم LC6، هي جزء من مجموعته للتصميم الداخلي. وكمعظم تصاميم كوربوزييه هي شديدة الوظيفيّة، هي طاولة فقط، لوح زجاجي وأربعة أرجل، تمنع اللعب تحتها. سطحها يحمل ما عليه ولا يجعله مركز التحديق بسبب الشفافية، التصميم المستوحى من عالم الطيران وأرجل الطاولة الدقيقة، تجعل سطحها وكأنه يطفو، سطح مؤقت يعطي الانطباع بالثبات لأنّه يكشف كل شيء.
لا مجال لتعديل الحذاء، للمداعبة، لترتيب الثياب أسفله، فالجالسون حولها مكشوفون لبعضهم البعض، كل حركاتهم مرئيّة، وهنا نستعيد طاولة دولوز الشيزوفرانية التي تظهر أمامه طاولة كوربوزييه كقرين: سطح شفاف ويطفو يتسع لكل شيء دون أن يخزن شيئاً، نظيف دوماً، يدّعي الهشاشة، لكنه صلب بسمك 5 سم، ولو لم يحتو شيئاً. هو يكشف أجساد الجالسين على الطاولة ويجعل أجسادهم جزءاً من تكوين الطاولة المتغير في كلّ مرة بسبب اختلاف الجالسين.
رصيف 22