حكاية الكهف “الآن” والنهاية اللاتراجيديّة للمقالات/ اعمار المأمون
دخلت منذ عدة أعوام مركز بومبيدو في باريس، لحضور معرض استرجاعي للسوريالي رينيه ماغريت. تمشيت بين اللوحات مدّعياً تأملها كوني شاهدت أغلبها على الشاشة. تأكدت من حجم لوحة “هذا ليس غليوناً”، واكتشفت أن لها عدة نسخ، لا مجرد لوحة واحدة. معلومة جديدة تضاف إلى مقدمة مقال كهذا الذي أكتبه.
علق في ذاكرتي من المعرض لوحة بعنوان “الشرط الإنساني”، حجمها كبير نسبياً، و هي إعادة إنتاج لمجاز الكهف الأفلاطوني، إذ نشاهد ضوء النار بجانب الكهف، أما نحن، المقيّدين بالسلاسل، فنواجه باب الكهف ونرى الخارج ذا المكونات التي لم تثر اهتمامي حينها: جبلان وسماء، لكن بينهما لوحة لا نميّزها أولاً، كونها بلا إطار، أي تتطابق مع المشهد الذي تصوّره، وكأنها تعليق على قدرة الفن وأسلوب تلقينا له، واقعياً كان أو سوريالياً. بالطبع هذا التأويل مرتجل، خصوصاً أن لوحات ماغريت توظف هذا النوع من “الحذلقات الدلالية” التي يمكن تأليف كتب وأبحاث سيميائية عنها، كما فعل الفرنسي ميشيل فوكو في كتاب له بعنوان “هذا ليس غليوناً”.
الحدث الشخصي السابق، واستخدام ما اختبرته في المكان مع تعليقات حولها، بعضها جدّي والآخر ليس كذلك، أظنه يفعّل مفهوم الحوار، أي أني أكتب عن حدث واقعي حصل خارج النص، وأنقل علاقتي مع هذا الحدث ضمن وسيط هو “المقال” الذي يدّعي الجدية، لتقديم ما هو “عقلاني” وذو معنى، موظفاً “العمل الفني” والمعارف المختلفة لتكديسها “منطقياً” أمام قارئ ما، لأقول له إن مثال الكهف الأفلاطوني متكرر عبر التاريخ، وموجود في كتاب “الجمهورية” الذي لم أقرأه، لكن أعرف أنه على شكل حوار بين أفلاطون وسقراط وشخص ثالث.
هذا الكهف “وجدته” أيضاً في رواية الأمريكي ديفيد فوستر والس “مزحة لا نهائيّة- infinite jest”. والاس الذي انتحر عام 2008، هازئاً من الكتابة والتسلية نفسها، قدم لنا في هذه الرواية تعليقاً لا متناهياً على “التسلية السيئة”، وهو العنوان الأول الذي اختاره للرواية قبل الحالي، المهم حالياً أن واحداً من أبطالها، موظف في شركة اتصالات، مُدمن متقطّع للماريجوانا، يعاني مع إدمانه، الذي حوله إلى طقس فرداني ينقطع فيه عن العالم بأسره، ليجلس عدة أيام كي يدخن كل ما اشتراه.
يكتب والس عن بطله بصيغة الغائب، فـ “هو” يتأمل ذبابة وظلّها على الجدار. الكهف في مثالنا هذا هو غرفة النوم، و”هو”، بعد أن وعدته إحداهن بأنها ستشتري له الماريجوانا، يجلس في غرفة المعيشة ويفكر بطقوس الاستعداد للـ “تحشيش”، لكنه أولاً يسجّل رسالة منمّقة على مجيبه الصوتي، يقول فيها إنه سافر لأمر طارئ ولن يستطيع الذهاب إلى العمل، أي سينقطع عن العالم ولا يريد تبرير السبب.
يشتري الطعام والشراب المفضلين لديه أثناء “التحشيش”، وينتظر تلك التي أوصاها أن تحضر له الماريجوانا. لا نعلم الزمن الذي مضى و”هو” ينتظر أثناء القراءة، لكننا نعلم أنه كان يتأمل حشرة تدخل حفرة في الجدار وتخرج منها، أثناء ذلك نستمع لما يدور في عقله: تساؤلات تافهة عن آداب الاتصال ولباقة التعامل مع الآخرين، بينما يتأمل الهاتف بانتظار أن يرن أو الباب أن يطرق، كي تعلن صاحبة الماريجوانا وصولها، أو على الأقل حصولها على ما طلبه.
يطرح “هو” أسئلة عن سبب تأخرها، فهل يتصل بها أم لا؟ هل يبدي أنه متشوّق جداً للحصول على الماريجوانا أم لا؟ خصوصاً أنه لن يراها بعد الآن، فما إن تُحضر له المطلوب حتى يطردها من منزله، لكنه لن يتحرك الآن من مكانه خوفاً من أن يمر بجنب الهاتف ويغويه الاتصال.
يتسرب ضوء التلفاز من باب غرفة النوم نصف المغلق أو نصف المفتوح، “قضية الثالث المرفوع التي ناقشها للمصادفة سقراط”. ظلال تتحرك وتتدفق على الأرض تتسلسل من شق الباب، ذات الظلال التي يشهدها أسرى كهف أفلاطون و”هو” ما زال ينتظر. لا يرى ما على التلفاز، فقط نور وظلال تتحرك ويحاول تخمين ما تعنيه، لكن لا يهم، فلا شيء سيتغير سوى الانتظار. تعبر رأسه فكرة الاستمناء، يقاومها، كونه سيستمني طوال الوقت أثناء رحلة الحشيش، لا داع للبدء الآن، هو ينتظر فقط “علامة” من الخارج ليبدأ انقطاعه الكلي عنه.
والاس في هذا الوصف، يصف فردانيتنا التي فرضتها الشروط التي نختبرها “الآن”، وفردانيتنا هنا تعني القدرة على توفير أقصى طقوس المتعة الذاتية دون الحاجة لأي آخر، وكأننا مقيدون بالسلاسل كما في الكهف الأفلاطوني، نتأمل تدفق ظلال الشاشة وما عليها من معارف وهمية تدّعي تمثيل الواقع. أثناء ذلك نحفّز طبقة أخرى من “وعي” بديل يتمثل بشريط المخيلة الاستمنائي وميوعة الرأس الممتلئ حشيشاً، لكن كل هذه الظلال والألوان والصور المتحركة لا تعدنا بشيء. هي شديدة العدميّة.
العالم لن يتغير كوننا لا نتحرك من الكهف، وبالرغم من إحساسنا العميق بأن العالم ربما قد يتغير، لكن لا سيناريو واضح للتغير تقدمه هذه الظلال، خصوصاً ضمن الحياة اليومية وفي ظل الحجر الصحي “الآن”. أصبحت الآداب العامة ومهارات التواصل أشكالاً من الأداء الثقيل، غير مقنعة، لا جمهور لنختلف عنه أو نرتجل أمامه، مجرد شاشات أخرى، ذاتها التي نتسمر لساعات أمامها كي يتدفق خلاله ما نحب وما لا نحب، ندخن أو نمارس تسالي أخرى، دون أن نتزحزح خارجاً.
الكهف في عالمنا هذا، عالم الكسل والبقاء في المنزل والتباعد الاجتماعي، أُلغي منه “السجناء” الآخرين، لنتواصل فقط مع ظلالهم، كحالة بطل والس، ينتظر رنين الهاتف أو قرع الباب. لا مساحة لأي آخر في الكهف/ الغرفة، خصوصاً أن الظلال حالياً أو تمثيلات الواقع، تبشرنا بالخراب فقط وترسم الآخرين كأعداء لدودين.
هي ساخرة عقيمة، العالم لن يتغير مهما حاولنا: الحيتان تنتحر، الجليد يذوب، آباء يقتلون بناتهم. أما لوحة ماغريت في كهفه، فيمكن النظر إليها كأنها نسخة مخرّبة شديدة الكمال، كأعمال الطبيعة الميتة التي انتشرت في العصور الوسطى ويمتلأ بها متحف فن العصور الوسطى في لشبونة، الذي للمصادفة، كان فارغاً حين زرته، ركضت وحيداً بين عشرات الصالات التي تبدأ بلوحات عن عذابات القديسين وتنتهي بلوحات لفواكه ميتة. كهف كبير، الظلال في إطارات لوحاته تعد بالعذاب والموت دون أي وعد بالخلاص.
النهاية اللاتراجيدية للمقالات
يطرح إدوارد سعيد في كتابه “العالم والنص والناقد” مفارقة ساخرة حين الحديث عن “المقال”، ويرى أن مقالته والمقالة بشكل عام كحامل للنقد، تشابه مصير سقراط. هي ليست تراجيدية، أي لا نهاية داخلية لها، ولا تتوقف إلا بحدث خارجي لا ينتمي لها، كحالة سقراط الذي تجرع السم، ويشير أن دنيوية أحاديث الأخير، أي تناولها للمواضيع الراهنة، تختلف كلياً عن حياته التي انتهت بالصورة التي نعرفها.
سنتساذج، أو بدقة، سأتساذج وأطرح ذات السؤال: هل مصير مقالاتي، والمقالات المنشورة يومياً، ساخر، أي غير تراجيدي؟ أطرح هذا السؤال آخذاً بعين الاعتبار ما يشير له سعيد، وهو أن المقال، كحامل نظري ونقدي، يجهز لأدواته من قبل أن يكتب ويمهد لها، يوظف الأدب والفن ليقترح موقفاً جمالياً أو معرفة ما، لكن في ذات الوقت هو يدّعي العقلانية، دنيوي يمحّص المنتجات النصية لجعلها تنتمي للآن، للعالم وشروطه، وكأن المقال وعد بحوار آني من نوع ما بين النص والقارئ.
ادّعاء العقلانية ومسايرة ما يحدث “الآن” يحوي افتراضاً أن المعلومات عن الحدث الذي يتم تناوله غير كافية، والقارئ لا يدرك الشروط التي ظهر فيها الحدث، بل من الممكن أنه قارئ مشوّش، لم يدرك بدقة ما حدث، أو على العكس، قد يكون في صميم الحدث لكن هناك ما أعماه، ليأتي كاتب المقال بأدواته التي لا تنتمي للواقع: روايات، أعمال فنية، حذلقات لغوية واصطلاحات، ليحاول قول إن ما حدث ليس بهذه البساطة، بل هناك ما هو خفي، هناك قواعد رسخت أو كسرت ولا بد من الإشارة إلى ذلك.
كاتب المقال لا يمتلك نظرية، بل أدوات ومرجعيات يحركها في سبيل “الآن”، سواء أكان هذا الآن حدثاً في العالم الموضوعي أو الأدبي أو حدثاً ذاتياً، كأن يقرأ الناقد كتاباً (هذا موجود في مقالاتي التي يتضح فيها ما أقرؤه) أو يزور متحفاً. لكن ماذا لو كان كاتب المقالات، مشابه لبطل فوستر، أو فوستر ذاته الذي سينتحر فجأة، الذي تتسلل الظلال، الكتب، الأفلام، اللوحات من غرفة نومه، بينما هو ينتظر شيئاً ما من الخارج، مقيداً بغرفته، مدخّناً، مستمنياً، حاقداً على آداب الحوار والحديث، لا تراجيديا في مقالاته، بل نقاشات فكرية واقتباسات وحذلقات ومحاولات للتواصل والحوار، كي يحصل على ما يريد ثم ينقطع عن العالم.
ربما يفترض سعيد أن كاتب المقال مُحاور، يحاول عبر المقال أن يُحدّث قارئه، ممهّداً للجديد أو متنبئاً به، لكن ما الجديد الذي نحاول قوله، لا على المستوى الأدبي والنظري، بل على المستوى اليومي؟ يبدو الأمر وكأننا نخلق شرائط أو تسالي مختلفة النوعية، نقدم فيها بياناً متكرراً عن انهيار العالم، ونشير إلى صوره الكاذبة. نصنّع تسليتنا الخاصة الفردانية كجزء من الآداب واللياقة العامة، لا همّ فكري ولا سعي للتغير، بل نشيد رديء أو متقن للإشارة إلى الخراب.
لكن ماذا لو كان كاتب المقال أشبه بواحد من شخصيات والاس “متحدث محترف”، يُجيد خلق نقاش مثير في أي موضوع كان، لأن ببساطة هذا عمله، أي أن يكون بارعاً في تكوين الحجج والعلاقات كونها جزءاً من وظيفته؟ سواء كان “يتحدث” عن أفكار تاريخية كـ “جسد السيادة المريض: تأملات في الرئيس المهدد بالموت”، أو يناقش الأحداث الراهنة، كأن يكتب عن “انتحار 500 حوت وضرورة الشفقة كخاصية إنسانوية”. ما يعني أن الإطار النظري والعقلاني الذي ندّعيه، ربما ليس إلا احترافاً، لباقة مفرطة، رسالة صوتية كتلك التي سجلها بطل والس، ليخبر من يحاول الاتصال به أنه سينقطع عن هذا العالم، أو كسقراط، سيترع السم قريباً.
رصيف 22