وراء الباب… البحث عن الهاوية المحتملة/ عمار المأمون
يذكر د. عبد الرزاق بنّور، مترجم كتاب “تحقيقات فلسفية” للنمساوي لودفيغ فيغنشتاين، أن الأخير يستخدم أمثلة حسابية وموسيقية في بناء حججه اللغوية وألعابه، كونه عمل كأستاذ في المدرسة الابتدائية، إلى جانب كونه مولعاً بالموسيقا الكلاسيكية ويجيد العزف على البيانو، لكن في الفقرة 84 من الكتاب، والتي يطرح فيها سؤالاً عن قاعدة تتحكم بكل القواعد، يضرب فيغنشتاين المثال التالي: “يمكنني جيداً أن أتصور شخصاً ما، كلما هم بفتح باب بيته تملكه شك بأن هوة فُتحت وراء الباب، ويريد أن يتأكد من ذلك قبل أن يتخطى عتبة البيت (بإمكانه في بعض الأحيان أن يثبت شكه)، لكن بالنسبة لي لن يراودني شك في هذه الحالة”.
هذا المثال الغريب من نوعه وربما المبتذل، يحوي عناصر سردية، رجل يمتلك منزلاً يعلم ما في داخله، منزلاً اعتاد عليه، لكن في كل مرة يقف أمام الباب حائراً، وبالرغم من يقينه بأنه سيدخل منزله كما في كل مرة، تظهر صورة الهاوية في عقله، ذاك الاحتمال البعيد يصبح قضية تحتمل الصواب أو الخطأ. هل يمكن لهذا الشخص عوضاً من أن يدخل منزله المألوف، أن يسقط في حفرة لا قرار لها، لذا يقرر التأكد، لكن كيف يتأكد الرجل؟ لا يجيب فيغتشاتين عن ذلك، يترك الشك مفتوحاً، وجود الهاوية لا يمكن حسمه بشكل تام.
يبدو المثال السابق صالحاً لفيلم رعب غير تقليدي، أو مزحة كافكاوية ثقيلة: شخص استيقظ في غرفة نومه ووجد نفسه حشرة، وآخر وجد نفسه متهماً أمام محققين يأكلان غداءه، وربما، آخر كما في مثال فيغنشتاين، أراد الدخول إلى منزله فسقط في الهاوية، منزله الذي لابد له من العودة إليه أصبح سقوطاً لا متناهياً.
يفترض الشك الذي ينفيه فيغنشتاين أن المنزل فقد القدرة على خلق الحس بالأمان، وخسر أيضاً قدرته المادية على أن يكون فضاء خاصاً، ففي لحظة لايقين، استُبدل المنزل بهاوية تبتلع كل شيء. هذه الهاوية لا تظهر لحظة الدخول فقط ثم تختفي، بل تمتد في الزمن دائماً، كل ما هو في “الداخل” سقط، ولم يبق سوى صاحب المنزل على العتبة، هل يدخل أم يبقى خارجاً؟
لا يحدد فيغنشاتين محتويات المنزل، لكن في مكان آخر من ذات الكتاب، وحين حديثه عن “الداخل”، يشير إلى وجود ساعة ومصباح، عنصران لا يمكن الاستغناء عنهما لعلاقتهما مع “الخارج”: الساعة لضبط تدفق الزمن، والمصباح للتحكم بالنور والعتمة. وكأن داخل المنزل هو العالم بأبسط مكوناته، الوقت والضوء، هذا العالم المألوف، والمتيقن منه عبر هذين الجهازين، يمكن أن يسقط في الهاوية إن نحن دخلناه، أو سقط وبانتظار أن يبلعنا.
لحظة الشك والالتباس
يظهر من الحكاية السابقة أن فيغنشتاين ربما يستدعي لحظة الشك شديدة اليومية، التي نتجاهلها بصورة دائمة. لبس يصيب يقيناً نعرفه دون أن ندري مصدره. يشير سيغموند فرويد إلى هذا النوع من “النسيان” و”التلبك” في كتابه “علم النفس المرضي للحياة اليومية -1901″، والذي إثره ننسى شيئاً كان يقيناً لدينا، نعرف بدقة كل تفاصيله لكننا نعجز عن استعادته في اللحظة التي نريد، ربما هذا بدقة ما يحصل قبل فتح الباب، إذ ينهار التكوين الرمزي لداخل المنازل، ويسقط “الداخل” في هوتنا الذاتية.
يذكر فرويد عدداً من هذه الحالات التي يخذلنا فيها “المسلّم به”، ويظهر الشك لثوان معدودة، وكأن “اليقين” الفردي مجرد مخاطرة تم الاعتياد عليها، لكن في لحظات محددة، تعود للظهور فجأة، دون أن نعلم لماذا. يضرب لنا فرويد مثالاً بأنه حين كان يزور بعض مرضاه في منازلهم في بداية عمله كمحلل نفسي، كان يقف أحياناً أمام باب المريض، وعوض أن يطرقه أو يقرع الجرس، يخرج مفتاحه، ليستدرك أنه ليس أمام منزله، ويضيف في ملاحظة: “بالطبع لا أقرع أبداً جرس منزلي”.
تضيء حكاية فرويد على جانب جديد من الشك اليومي، وهو استبدال يقين بآخر لحظة الوقوف أمام “باب” المريض الذي أصبح منزلاً جديداً لثوان فقط، ثم فقدان هذه القيمة، وكأن ما وراءه سقط في الهاوية، والأكثر إثارة للمفارقة هو تأكيد فرويد أنه لا يقرع أبداً جرس منزله.
ما وراء الباب محكوم بيقينيات الأنا، تلك التي تظهر في علامات يومية لا تنتمي إلى تكوين الباب نفسه، وهي المفتاح والجرس، هذه الهنيهات القليلة من فقدان اليقين بأن المنزل منزل، تفعّل الهاوية، وينهار “الداخل” في صدمة عبثية تفعَّل بمجرد أن يقف المرء أمام باب فضائه الخاص.
هذه الصدمة العبثية الآنية يشير إليها البير كامو لاحقاً، بوصفها المفارقة بين التنظيم الشديد لجهودنا لاكتشاف معنى العالم، وبين عدم اكتراث العالم بأن يقدم لنا تفسيراً عن ذاته، وهنا تظهر هذه الصدمة التي يمكن أن تحصل في أي مكان وفي أي لحظة، وتزداد شدة أمام باب المنزل، كوننا نمتلكه ونعرف بدقة تفاصيله وما فيه، هو الأكثر “تنظيماً” كوننا أسياده، ولو كانت هذه السيادة ساذجة.
الخوف الناتج عن الصدمة ربما سببه اكتشاف عدم القدرة على “تنظيم” و”امتلاك” أشد الفضاءات التي نسعى لها أو برمجنا كي نمتلكها، المنزل، والشك بفقدانه لثوان يفعّل الهاوية، ما يعني حسب كلمات كامو في “الثائر”: “بداية زمن المنفى، والبحث اللانهائي عن التبرير”، إثر ذلك تظهر “النوستالجيا الخالية من الهدف”، ويظهر لاحقاً السؤال الأشد قسوة وكسراً للقلب: “أين بإمكاني أن أشعر بأني في منزلي؟”.
هيمنة الخوف بعد الشك
نقرأ في رواية “الغثيان” لجان بول سارتر عن الرعب من الأبواب والمنازل وراءها، فالراوي يرتعد أمام باب منزله، وضمن سلسة من الأفعال “المسلم” بها التي يذكرها الراوي، يظهر الخوف الدفين واضحاً، ذاك الذي لا يمكن وصفه إلا بالكلمات، إذ يقول الراوي أثناء شكه فيما حوله: “كنت أدخل غرفتي مرة، ثم وقفت لبرهة قصيرة لأني شعرت بشيء بارد في يدي، شيء أخذ انتباهي، وكأن له شخصية، فتحت يدي، نظرت: كانت ببساطة قبضة الباب”.
يتكرر هذا الاستغراب والخوف على طول الرواية، لا ذكر للهاوية هنا، لكن هناك تحذير من شيء ذي شخصية استبدل كل “الداخل” بحس بارد في اليد، هذا الحسب بالبرود أو الخوف من المفترض أن ينفيه المنزل بمجرد الاقتراب منه أو الرغبة بدخوله، لكنه على العكس يكشف عن المسافة الهائلة بين المنزل والـ”أنا”، وكأن هناك مخاطرة في كل مرة نتخطى فيها عتبة منزلنا الشخصي.
ربما لابد من التعايش مع هذا الشك الدائم، الهاوية القريبة جداً والبعيدة عنا بمقدار باب، دائمة الحضور، نراها في صور الخراب، هناك دوماً باب ما في مكان ما، يقف صاحبه أمامه ووراءه اللاشيء، دمار ابتلع “المنزل” وترك الباب، دمار حقق لحظة الشك وجعلها يقيناً، لن نناقش هذه الصور، بل نفكر بالهاوية وأساليب نفيها: هل نطرق الجرس قبل دخول منزلنا؟ أو نتلمس قبضة الباب وبرودتها؟ أم نخاطر بالدخول وننفي كل شك بالسقوط؟
رصيف 22