إن اعترضت دمشق/ عروة خليفة
نشرت حسابات الممثل ياسر العظمة على فيسبوك ويوتيوب قصيدته، إن رضيت دمشق، في شهر آب (أغسطس) الماضي، ثم تبع ذلك نقاش واسع حول تجنّب القصيدة انتقاد النظام بشكل واضح، بعد أن فَضَّلَ العظمة توجيه ذلك الانتقاد بشكل مستتر على عادته. منذ ذلك الوقت، قرّرتُ الكتابة عن العلاقة الملتبسة بين النظام، بالتحديد حافظ الأسد، ومدينة دمشق. كان ذلك نابعاً من ملاحظة الاختلاف الشديد بين كيفية تلقي الدمشقيين، أو «الشوام جوى السور»، لمقاصد تلك القصيدة، وكيفية تلقي باقي السوريين لها؛ كان ما يعتبره الشوام موقفاً واضحاً، يراه آخرون موقفاً مستتراً وبلا أي معنى، كما كانت أسماء عائلات المعلقين على فيديو القصيدة بمجموعها تعبر عن سجلات نفوس مدينة دمشق، ومن شبه المؤكد أنّه لم تغب كُنية واحدة منها عن التعليقات.
مضى نحو شهرين منذ ذلك الوقت، بثّ فيهما ياسر العظمة حلقات من برنامجه الذي افتتحه بتلك القصيدة، ومن ثمّ أعلن عن توقفه لاحقاً كي يتفرّغ لتصوير مسلسل تلفزيوني جديد، أما أنا فيبدو أنني حققتُ رقماً قياسياً جديداً في الريثمة قبل أن أدخل في موضوع المقال، ولكن لا يهم؛ «يلي ببيت أهله على مهله».
نهاية الستينات، عندما ظَهر الخلاف بين صلاح جديد وحافظ الأسد بشكل واضح للعيان، لم يكُن للقيادة الحزبية فرصة الانتصار على وزير الدفاع حافظ الأسد، الذي أحكم قبضته على الجيش وجزءٍ من أجهزة الأمن، خاصةً بعد انتحار رجل صلاح جديد الوفي عبد الكريم الجندي، مؤسّس مكتب الأمن القومي الذي صُمِّم للإشراف على كافة أجهزة الأمن، وأول رئيس له.
بحلول خريف العام 1970، كان الأسد قد زج رفاقه السابقين في السجون أو أرسلهم إلى المنافي، مثبّتاً سلطته على سوريا التي كانت على أعتاب مرحلة شديدة الطول، اعتُبرت في وقتها من قبل كثير من أبناء المدن بالذات تغييراً في العلاقة المتقلبة التي سادت بينهم وبين قيادات حزب البعث اليسارية. وتقول الرواية إنّ تجار الحميدية (الحمدية باللفظ الشامي الدارج) قد علّقوا لافتةً على باب السوق الشهير، كُتب عليها «طلبنا من الله المدد… فبعتلنا حافظ الأسد»، وهو موقف يبدو شديد التفاؤل من تجار كانوا حذرين في التعامل مع الأنظمة الجديدة، بعد خبرتهم الطويلة بالانقلابات التي اعتاد الجيش السوري على تنفيذها كل بضعة أعوام (عام 1949 قام الجيش بثلاثة انقلابات).
خرج الأسد من الجامع الأموي منتصراً بُعيد تنصيبه رئيساً بشكل رسمي للبلاد ربيع العام 1971، مبتسماً وملوحاً لتجار سوق الحمدية الذي يواجه باب الجامع الكبير؛ كان ذلك تنصيباً لسلطان جديد على الشام.
لم يُعرَف عن حافظ الأسد إقامة صداقات مع نخب مدينة دمشق قبل سيطرته على الحكم، بل كان المقربون منه يميلون لأن يكونوا من الموظفين متوسطي المرتبة، ومن أسر ريفية. قد يكون اللواء محمد علي ظاظا ابن مدينة دمشق، ورئيس شعبة الأمن العسكري الذي وقف إلى جانب حافظ الأسد في انقلابه، أحد الاستثناءات في محيط الأسد خلال الستينات. فاروق الشرع، الذي يروي عن علاقته مع حافظ الأسد في مذكراته التي نشرت عام 2015، كان مثالاً جيداً على نوع الأشخاص المقربين من حافظ الأسد خلال الستينات.
كان هذا الوسط من الأصدقاء القدامى خزّاناً جيداً للمناصب الحكومية، فقد تولى محمد علي ظاظا الدمشقي منصب وزير الدفاع في أول وزارة يشكّلها الأسد إثر توليه منصب رئاسة الجمهورية رسمياً، فيما انتظر فاروق الشرع وقتاً أكثر، حتى العام 1980، ليُعيَّنَ في منصب وزير دولة للشؤون الخارجية، ومن ثمّ وزيراً للخارجية عام 1984. للعائلة مكانة هامّة أيضاً، لكن أصدقاء الأسد ومحاسبيه كانوا أوائل من تسلموا مناصب حكومية وأمنية في عهده.
بداية السبعينات، كانت الانقلابات المتعددة منذ الأربعينات، ومن ثمّ الوحدة وبعدها انقلاب البعث عام 1963، كلها كانت قد أدت إلى تراجع دور أعيان المدن من السياسيين، وهي النخبة التي حكمت البلاد منذ الاستقلال (قبله أيضاً) عن الانتداب الفرنسي عام 1946، وشكّلت الحزبين الرئيسيين في البلاد؛ الحزب الوطني وحزب الشعب.
وهكذا كان سهلاً على الأسد اعتبار التجار ورجال الدين الفئتين الممثلتين لمجتمع المدينة، بينما لم يكن صناعيو دمشق كذلك، الأمر الذي يعود بشكل رئيسي إلى إجراءات التأميم التي قامت بها حكومة الوحدة، ومن ثمّ حكومات البعث المتتالية، ما جعل معظمهم خارج البلاد، أو بلا رأس مال كافٍ ليحافظوا من خلاله على مكانتهم الاجتماعية.
وفي حين عَيَّنَ الأسد دمشقيين من خارج هاتين الفئتين في مناصب حكومية، مثل محمود الأيوبي ومحمد علي ظاظا، كان يقع على التجار ورجال الدين تمثيل المجتمع الأهلي للمدينة. أصبح هؤلاء، مع زوال أي تأصير للسياسيين من الأعيان وكذلك الصناعيين الكبار، عماد مجتمع المدينة ووجهاءَها، وهو ما قد يكون تعبيراً عن مزيج بين رغبات حافظ الأسد والأمر الواقع الذي وجده لدى تسلمه الحكم بداية السبعينات.
كانت لافتة سوق الحمدية إياها تعبيراً عن تفاؤل فئة التجار بالضابط الجديد، بينما تتضارب الروايات حول اعتبار موقف أحمد كفتارو مفتي البلاد المؤيد لانقلاب حافظ الأسد ممثلاً عن موقف رجال الدين الدمشقيين في تلك الفترة. سيتعرض كل ذلك لامتحانٍ صعب منذ نهاية السبعينات، عندما انخرط الأسد في إنهاء كل القوى المعارضة له في البلاد، من اليسار (المكتب السياسي ورابطة العمل الشيوعي) ومن اليمين (الإخوان المسلمون).
بداية الثمانينات، توجَّهَ عددٌ من رجال الدين، من بينهم الشيخ محمد فؤاد شميس والشيخ كريم راجح والشيخ محمد عوض والشيخ أسامة الرفاعي والشيخ جمال الدين السيروان، إلى حافظ الأسد للتظلّم بخصوص معلمين في ثانويات مدينة دمشق، تمّ نقلهم إلى وظائف إدارية في مدن بعيدة بعد أن تمّ تصنيفهم على التيار الإسلامي، من بين هؤلاء الأساتذة معلمون مشهورون لطلاب المدينة على مدى عدة أجيال مثل تيسير العيتي وهشام الناشف. كان رد حافظ الأسد بأنّه لا يعارض التيار الديني، بل إنّ رفاقه في الجيش يسمونه الشيخ نتيجة تدينه، فردَّ عليه الشيخ شميس: «إي نعم هيك عم يسمع الشعب كمان، إي والله (بما إنك) صرت شيخ إذاً خوذ لفتي»، وقام وألبسه عمامته، تنفيذاً للسخرية الشامية «تعا لبيس طربوشي». صمت حافظ الأسد، وانتهى ذلك اللقاء.
لم تكن هذه الحادثة تمثيلاً عن اعتراض تام لدى رجال الدين الدمشقيين على حافظ الأسد، إلّا أنّ كتلة وازنة منهم، مثل جماعة زيد والمشايخ المرتبطين بالتيار الإسلامي مثل حسن حبنكة، وقد كانوا الأكثر حضوراً في الوسط المشيخي وقتها، قد أظهروا اعتراضاً بطريقة أو بأخرى على حافظ الأسد، وهو ما زاد من أهمية علاقته بمشايخ مثل كفتارو والبوطي، وبالطبع بمنشدي الأموي الشهيرين الذين حافظوا على التقليد القديم في إسباغ ألقاب الفخامة والعظمة على السلطان تحت قبة المسجد.
من ذاكرة التشبيح.. “الرئيس المؤمن” وفرقة المدائح النبوية!
كان التجار الدمشقيون خلال السبعينات والثمانينات أكثر ليناً من زملائهم وجهاء المدينة الآخرين، وقد كان قيام بدر الدين الشلّاح بإفشال محاولات إضراب جزء تجار دمشق خلال الثمانينات، وذلك تضامناً مع تجار حلب ومدينة حماة، مثالاً تقليدياً عن التحالف الذي أقامه شطرٌ مهمٌ من تجار المدينة مع النظام، الذي وفرّ البنية السياسية والاقتصادية ليحافظ هؤلاء على مكانتهم وموقعهم الثابت، على الأقل حتى بداية التسعينات التي شهدت ولادة نظام اقتصادي جديد في البلاد.
بداية التسعينات، بعد إصدار قانون الاستثمار رقم 10، كانت الفرص تلوح أمام تجار دمشق وصناعييها الأقدم للعودة مجدداً إلى العمل، حيث اعتبر ذلك القانون، بغضّ النظر عن نصّه، موافقة من حافظ الأسد على عودة النشاط الصناعي والاستثماري إلى البلاد. ضمن تلك الظروف، تمت الدعوة لانتخاب مجلس إدارة جديد لغرفة صناعة دمشق، وقد نجح لعضوية مجلس الإدارة رياض سيف الصناعي والسياسي السوري المعروف. وكانت النية انتخاب سيف لرئاسة مجلس إدارة غرفة الصناعة، لكن وصلت رسالة من محمد ناصيف تمنع هذا الخيار بشكل تام. حاول الصناعيون الاختفاء حتى موعد جلسة الانتخابات لتجنّب الضغوط، لكنّهم عند حضورهم إلى تلك الجلسة اكتشفوا أنّ أبو وائل كان قد عقد انتخابات «غيابية»، وحدّدَ المناصب في غرفة الصناعة.
محمد ناصيف (أبو وائل) لم يكن مسؤولاً فقط عن العلاقة بمشايخ مدينة دمشق كما أظهرت عدد من المراجعات، بل كان أيضاً مشرفاً على نشاطات صناعييها وتجّارها، ويقول مصدر للجمهورية، عمل طوال ثلاثين عاماً في وزارة التربية، إنّ وزيرها المزمن محمد غسان الحلبي كان رجل ناصيف المخلص، وإن الوزارة كانت محسوبة طوال التسعينات على الشوام.
قد تقول الحوادث إنّ حافظ الأسد قد اختار التجار ورجال الدين لتمثيل مجتمع مدينة دمشق في منظومة حكمه، التي هندسها بدقة بحيث تساهم في تثبيت سلطات تقليدية سواء ضمن مؤسسات الدولة مثل مجلس الشعب، أو في الإطار غير الرسمي الذي تدل عليه علاقة حافظ الأسد المباشرة بعدد من تلك الشخصيات، واللقاءات التي كان يعقدها مع عموم هؤلاء.
وقد يكون من الصائب اعتبار التجار ورجال الدين هم نخبة مدينة دمشق، لكن في الحقيقة، وبنتيجة تقاطع الروايات التاريخية عن حوادث المدينة خلال فترة حكم الأسد وتحديداً منذ الثمانينات، سيبدو لنا أنّ محمد ناصيف كان المسؤول الفعلي عن مدينة دمشق، وهو الذي جمع في يده عدة ملفات من بينها العلاقات مع إيران خلال فترة حكم حافظ الأسد، ومهمة إعداد باسل الأسد لخلافة أبيه ومن ثمّ بشار الأسد بعد موت باسل. كان أبو وائل زعيم هؤلاء كلهم، أو على الأقل من رضي منهم بتلك الزعامة، وهم كثر على أرض الواقع.
إذن، قد يكون البحث وراء حياة الرجل وتصرفاته أكثر فائدة من الحديث عن البوطي أو راتب الشلّاح، فهو من كان يقرر عن هؤلاء، وهو من كان ينفّذ عن حافظ الأسد.
موقع الجمهورية