عمارةُ المنافي.. حين نبني وجودَنا في بلاد الآخرين/ محمد جميل خضر
لا تقتصرُ أوجاعُ المنافي على التفكير بلغةٍ والكتابةِ بِلُغَةٍ أخرى، فلعلّ هذه التجربةَ تنتفي، من أساسِها، عند كثيرٍ من أبناء المنافي وهم ينحتونَ مفرداتِ وجودِهم في بلادِ الآخرين بلغتِهم التي ولِدوا يحملونَها وعجِزوا عندَ هروبِهم القسريّ من بلادهم، دون تحضيرات مسبقة (بر/ بحر/ بر/ هروبٌ جماعيٌّ كسيرُ الجَناح)، عن تعلّم لغاتِ الآخرين.
والمنفى، عادة، ليس خيارًا، ولا “مَحْضَ حالةٍ جغرافيةٍ أو مَكانية”، كما يرى محمد السلّوم في كتابه “أدب اللجوء السوري” الصادر عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة. إنه (المنفى) كما يقول السلّوم: “محنةٌ يتأتى عنها ضربٌ من الإلحاح، كي لا نقول ضروبًا من تقلقل الرؤية، أو تردُّد القول، يجعل استخدامَ اللغةِ شيئًا أشدَّ تشويقًا، وأكثرَ آنيةً ممّا لو كان الأمرُ بخلافِ ذلك”.
أوجاعٌ تبدأ من شَكْلِ الإقامةِ في تلك المنافي، بتفاصيلِ مخيّمٍ تتناثرُ الأحلامُ داخلَ خيامِه، أو بيوتِه القابلةِ للفكِّ والنَّقل والمحوِ السَّريع، ولا تنتهي بِمدارجِ الحيرةِ حولَ شكلِ البيتِ القابل لإقامةٍ طويلةٍ أو حتى دائمة.
فهل يمكن أن تبوحَ جدرانُ البيتِ البعيدِ المتروكِ على عجلِ الخوفِ من براميلِ الموتِ ونفَّاثاتِ القصفِ العشوائيِّ الأعمى، بأوجاعِ الوحدة الراجفة؟ هل يمكن أن تنتفضَ شبابيكُ البيتِ الجديد الواقعِ في الغربةِ الطارئة، غير قادرةٍ على التكيّف مع النُّزَلاء الجُدُد لإطلالتها المحصورة المدى، العاجزة عن أخذ المنفيينَ في رحلة خيالية نحو ذلك البيت البعيد خَلْفَ خطوطِ التَّماس ومتاريسِ الكون اللافظِ للهاربين، الناظرِ نحوَهم بوصفهِم إرهابيين محتملين؟
عمارة الآخرين
المهندس المعماري البرازيلي أوسكار نيماير (1907-2012)، كان يعنّ له في كل مناسبة إعادة تكرار تفاصيل اسمه ودلالاته الجامعة للمنافي والأوطان في آن معًا Oscar Ribeiro de Almeida Niemeyer Soares Filho: “اسمي أوسكار ريـبيـرو الميدا دي نيماير سواريس: ريبـيرو وسواريس اسمان ذَوا جذر برتغالي، الميدا عربي (المهدي)، ونيماير ألماني، هذا عدا عن الكلام حول جريان الدم الزنجي المحلي في عروق كل عائلة برازيلية. أنا، إذًا، كل هذا التعدد الإثني الشعبي السادر داخل أعماق النسيج البرازيليّ”.
إحساسٌ عميقٌ بالآخرين، جعلَ نيماير الذي وصفته إحدى كبريات الصحف البرازيلية بـ”شاعر الخرسانة”، يذهب في تصاميمِه نحو خياراتٍ مفتوحةٍ على الآفاقِ جميعِها: منحنياتٌ تعبّر عن غيرِ حضارةٍ إنسانية، تركبُ مَوْجَ البحر، تجري مع جريانِ النَّهر، تحاكي أجسادَ النساءِ وترقصُ السامبا. أقواسٌ كما في مشروعِهِ لِمعرض رشيد كرامي الدولي، وغيره من المفردات الحداثية المدهشة، التي رأى المختصون في كثيرٍ منها جرأةً، وكسرًا شجاعًا لبعضِ قواعدِ المعمار.
اللافت أن نيماير الذي تأمّل المنفى المقيم داخل برازيلِه، تجرّع هو نفسُه تجربة هذا المنفى، عندما لم تتحمّل العسكرتاريا التي انقلبت على ديمقراطيةِ الحكم في البرازيل ستينياتِ القرن الماضي، اختلافه وروحه الحُرَّة النبيلة، فَنَفَتْهُ في عام 1968، ليظلَّ سنواتٍ من عمره الذي بلغ (105) أعوام، مترنّحًا من منفى إلى منفى، منجزًا خلال ذلك، أعمالًا مهمّة في باريس وروما والجزائر (جامع القسنطينة) وغيرها من المدن والعواصم. رحلةٌ من الإبحار والإبهارِ في عمارة الآخرين، جعلت من نيماير المختزنِ داخل حروف اسمِه حشدًا من الحضارات، علمًا من أعلام عمارة القرن العشرين.
عمارة المنافي العراقية
يصعبُ الحديثُ عن عمارةِ المنافي دون تذكّر المعماريّ العراقيّ رفعت الجادرجي (1926-2020)، الذي سرقه الفيروس اللعين كوفيد 19، قبل أشهرٍ قليلة، من الشَّغفِ السّاكنِ روحَ عمارتِه. عمارةٌ ظلّت تتقلّب داخلَ وجعِ المنفى حتى مُرتقى أنفاسِها الأخير.
مثل “جدار بين ظلمتين”، تجلّت مسيرة الجادرجي مصمم نُصُب الجندي المجهول، بوصفها، إطلالةَ الحسرات على أطلالِ عراقِه الجريح. ومن سجن (أبو غريب)، إلى بيروت، إلى لندن، تذوّق صاحب المؤلّفات المعمارية والحضرية والتحليلية الكثيرة، الطَّعْمَ المختلف لتجربةِ المنفى. تجربةٌ مبنيةٌ على خيارٍ طوعيّ، منحازةٌ للطبيعةِ الإنسانيةِ المُشْتاقةِ لسيادتِها، فثمّة فَرْقٌ شاسِعٌ جوهريٌّ بين أن تكونَ عبدًا أو تكونَ سيّدًا. حالةٌ فريدةٌ عجيبةٌ عندما يقرِّر شيوعيٌّ بالوراثةِ والنَّسب والمصاهرةِ أنْ يُقيمَ في لندن، حاملًا طابوقه (طوبه) العراقيّ معه من مطارِ إلى ميناءِ إلى مَعْبَرِ برّيّ، هاربًا من ديكتاتوريات بلادِنا، لائذًا بالمنفى، حين يصير المنفى أحنّ علينا من طَلْعِ نخيلِنا وقمحِ بوايِكِنا.
خيال المنافي
قد يستند المنفيّ، في سياقاتِ غربتِه الطاعِنة، إلى حُزَمٍ الخيالِ الخصب، مؤمّلًا منها أن تعينهُ على تجرِّع كؤوسِ المنفى عامًا بعد عام. هذا ما فعلته المعماريةُ العراقيةُ زُها حديد (1950-2016)، وهذا ما فعله المنفيّون في كل زمان ومكان.
الكاتبة صابرين الهلالي تصفُ زُها حديد في مقالٍ نشرَه لها موقع “مَحْرِس” مطلع نيسان (أبريل) 2016، أنها صاحبةُ خيالٍ مثاليٍّ أنتجتْ عبرَه أعمالًا وافرةَ “الإبداع والابتكار”.
إنه الخيالُ المحفّز الذي جعل الكاتبةَ السوريةَ المهاجرةَ غادة السمّان تمنحُ بطلةَ روايتِها “يا دمشق وداعًا” الصادرةُ عام 2015 عن دار تحملُ اسم الكاتبة دون تحديد مكان هذِي الدار، اسم (زين الخيال)، فهل من خيالٍ أخصبُ من زيناتِه وأنّاته من أجلِ الحُّبِ والحُريَّةِ والحَياة.
خيالُ السمّان في المنافي، ليسَ هو نفسَه الذي اختبرتْهُ خلال إقامتِها الدمشقيَّةِ البعيدةِ في البالِ والياسمين. ففي الإقامةِ المنتهكةِ بالقمعِ واشتراطاتِ الحزبِ الواحد، يذْوي الخيالُ مهما عَبَقَ الّلارنج بحضورِه، ومهما لَمَعَ الشَّوْقُ في جريانِه بَرَدى.
في مقال نشره له موقع “الجزيرة” على الشبكة العنكبوتية بتاريخ 19 نيسان (أبريل) 2017، يقول الكاتب الفلسطيني تيسير أبو عودة (باحث متخصص في الأدب المقارن ودراسات ما بعد الاستعمار): “المنفى رَحْمٌ خَصْبٌ للخيال والتجدد والانعتاق من الأيديولوجيات الضيّقة. ربما هو الخيالُ الذي يدفعُنا لمواجهةِ العالمِ الواقعيّ والافتراضيّ، وهو الذي يمنحنا فُسْحَةً شاهِقَةً لمراجعةِ الماضي الثابتِ ورفضِ الحاضرِ المُتَوَحِّش، واختراعِ الغدِ الحالِم”.
رفضٌ قد يقودُنا نحوَ نوستالجيا البحر، كما يرى الأستاذُ الجامعيُّ والباحثُ الجزائري د. جمال مجناح، في دراسته الموسومة “مكانية صورة البحر في الخيال الشعري الفلسطيني المعاصر/ مقاربة سيميائية، ظاهراتية”. مجناح يذهب في دراسته تلك، إلى أن البحر أحد الأمكنة الأكثر حضورًا في الشعر الفلسطيني المعاصر، بوصفه فضاءً “للتأملات الشعريّةِ الباحثةِ عن معنى الوطن من خلال جدليةِ الأرض والمنفى”.
يقول مجناح: “ما دام البحر وما يرتبط به من أشكال مكانية (الموج، الموانئ، النوارس، السفن والأشرعة…)، من علامات الخروج والابتعاد عن الأرض، لِما علقَ بصورتِهِ في الذاكرةِ الجماعيةِ وفي الخيالِ الشعريِّ من صورِ الرحيلِ والمغامرةِ في المجهول، فإنّه في الوقت نفسه، يظلُّ علامةً على انتظارِ العودةِ والعائدين، لما اختزنَه من آمالٍ وأحلامِ المنفيين الذين ظل ارتقابُ موعدِ العودةِ هاجسَهم الأبديّ”.
تفاعلات المنفى
المنفى، إلى ذلك، تأثيرٌ وتأثُّرٌ، في هذا السياق، فإن التأثّر الباهرَ الذي تَمَثَّلَه المعماريُّ البلجيكيُّ فيكتور هورتا (1861-1947) خلال إقامته في المنفى الأميركيّ مُدَّةَ عاميْن (من 1916 إلى 1918) من أعوامِ الحرب العالمية الأولى، جعله يتنكّبُ خُطى المعماريّ الأميركيّ فرانك لويد رايت (1867-1959)، ويسافرُ في منجمِ الطبيعةِ الخصبِ، ناهلًا من الفضاء حولَه مفرداتهِ المعماريةِ القريبةِ من روحِ رايت، أحد أهراماتِ العمارةِ الأميركية.
العمارةُ البلجيكية، على وجهِ العموم، تتجلّى بوصفِها دائرةً طوعيةً جدليةً آسرةً من التأثير والتأثّر، في ظِلِّ هجرةِ كثيرٍ من عقولِها المُصَمِّمة، وفي ظِلِّ كثير من الأحداث التي عَصَفَت بشكلِ أوروبا الحديثة والمعاصرة، وصولًا إلى التقسيمةِ السياسية القائمة الآن.
ولأن الشيءَ بالشيءِ يُذكر، فلا يُمكن الحديث عن التأثير والتأثّر في عمارة المنافي، دون التطرُّقِ لتجربةِ آل بدران الفلسطينية/ اللبنانية/ النابلسية/ المقدسية/ العمّانية التي ورث أبناؤها العمارة كابرًا عن كابر. وربما، في هذا السياق، يُعَدُّ المعرض الذي أقامه ابن العائلة المعماريُّ راسم بدران في برلين تحت عنوان “عائلتي 1909- 2005″، خيرَ تمثيلٍ لموضوعَةِ التأثّر والتأثير.
حول هذه التجربة التي لقيت ترحيبًا ألمانيًا فَذًّا، يقول راسم بدران في حديث لجريدة “الغد” الأردنية: “إنَّ سردَ قصةِ عائلتي تتمحورُ حولَ ثلاثة أبعادٍ مُهمَّة: الأول يتطرَّقُ إلى كيفيةِ الانتقالِ الحيويّ للقدراتِ الإبداعية، وتراكم طبقاتِها المعرفيةِ عبرَ الزَّمن من جيلٍ إلى آخر، ابتداءً بالمرحوم الوالد الفنان جمال بدران (1909-1999)، من خلال محترفِهِ ومرسمِهِ الذي أسّسه في القدس ورام الله في فلسطين، ووفّر من خلاله البيئة المناسبة التي ساهمت في صياغةِ قُدراتِ أبنائِه الفنيّة. حيث أثّرت في توجّههم نحو دراسة العمارة والفنون وعلومهما”.
بدران وريث والده جمال بالانحياز إلى قيم الجمال، يذكر أن البعد الثاني يتعلّق بالتداخل بين المعارف الثقافية والإبداعية: “العلاقةُ التبادليةُ بين الحضارات التي تتخطّى حدودَ المكان والزمان”، ويستعرض حول هذه النقطة تحديدًا العواصم الغربية التي درس أبناء العائلة فيها: “تلقّى والدي علومه ثلاثينيات القرن الماضي في الفنون والحرف الإسلامية المتخصصة في بريطانيا. دراستي للهندسة المعمارية في ألمانيا الغربية، ثم تلقّي شقيقتي سميرة لعلوم الفنون الجميلة “الرسم والتشكيل الحديث” في إيطاليا. توجه ابني جمال إلى بريطانيا لدراسة الهندسة المعمارية وابنتي علا لدراسة فنون التصميم المسرحي Art Design in Performance في لندن مطلع هذا القرن”.
البعد الثالث في المعرض هو، بِحسب بدران الحائز في العام 2019 على جائزة تميّز للإنجاز المعماري مدى الحياة، الإنسان كونُه “المتلقي والمرسل للمعرفة الفنية وإبداعاتها في آن معًا، حيث العودة إلى الذات من خلال إخصابِ المكان الأصليّ بهذه المعرفة المركَّبةِ والمتراكمةِ التّكوين، التي تداخلت فيها أنماط التفكير والقيم لكلا الثقافتين العربية والغربية، مولِّدةً منتوجًا معاصرًا جديدًا يتجانسُ مع ذاتِنا الأصلية، متجاوبًا معها في بعديْها الماديّ والروحيّ، ومخاطبًا بأدواتها لغةَ الآخر، مُتخطيًّا المكان والزمان معًا”.
بيوت المنافي
تحت عنوان “بيارات المنافي”، يكتب القاص الفلسطيني/ الأردني ناصر الريماوي، نصًّا تأمليًّا في ذُرى المكان وتصاريفِه وتداعياتِه في الذاكرة. في النصِّ الذي نشرته له عام 2015 في عددها الأول مجلة “مشارف مقدسية”، لا يَتْرُكُ الريماويُّ مُفردةً من مفرداتِ البيتِ القديمِ وما حوله وما يمورُ في أعماق تباريحِهِ إلا ويمرّ عليه: حَلْقُ النافذةِ الحجريّة، حيث “بلَّلَ الحنينُ، غمامَ النّوافذ المُوحِشة”، وحيث “من بين فوضى فروعِ الياسمينةِ البريّة التي تشعّبت وتعرّجت على صَدْغِ النافذة، كنتُ ألمحُ أثرَ ابتسامةٍ عَتيقة”. بوابةُ الوُصول، باحةُ العقْد، غرفُ البيت، مساحةُ الطَّابون، الحاكورةُ الخلفيةُ والحيطانُ وكلُّ أثرٍ في المكان يذكّره ببيتِه القديم في أوّل زيارة له لقريته “بيت ريما” بعد 30 عامًا من مغادرتها.
حول بيوت المنافي يسطعُ سؤالٌ كبير: ما هو شكل البيت الذي قد يشيّدُهُ دمشقيٌّ لو أتيحَ له بناءَ بيتِ هَوِيَّتِهِ في نواحي منافيه؟
في سياق الإجابة، وربما قبلها، تحضرني حديقة الروائي السوري خيري الذهبي المقيم حاليًّا في عمّان، بانتظار فتح المطارات أمامه وأمام زوجته، لرحلة أخرى من رحلات المنافي نحو باريس، حيث إقامة ابنه الكاتب المسرحي والإعلامي السوري فارس الذهبي.
ففي الشُّقَّةِ الأرضيةِ الصغيرة التي يقيم فيها الذهبيّ الأب، ولمّا أتيحت له باحةٌ خلفيةٌ لتلك الشُّقة، تصل مساحتها إلى مساحة الشُّقة نفسها تقريبًا، وربما أكبر قليلًا، فإن الرجلَ الدمشقيَّ العزيرَ الهوى والقنواتِ والخصبِ السوريّ الرّفيع، لم يَعُدْ للعشرة قبل أن يَنْثُرَ مختلفَ ما وَقَعَ بين يديهِ من بذورٍ وأشتالٍ وفسائلِ زرعٍ مُثمرٍ وغير مثمرٍ من مختلف الألوان والفصائل والمرجعيات الزراعية الضاربةِ جذورَها في التاريخ.
فإذا بالحديقة/ الحاكورة، بعد أقلِّ من عام، تصبح مغناءَ خضراءَ مثل أرضِ القصائد في بلاد الشام، ولكنها بعد عامين تحوّلت إلى أُحْجِيَةٍ مُدْهِشَةٍ حول قدرةِ الإنسان على إعمارِ الأرضِ مهما تكالبتْ الصروف، وَتَجَمْهَر الأسى، وبلغَ حَدَّهُ الشَّجن.
ما رأيته في بيت صديقي خيري الذهبي، يجعلني واثقًا أن الشاميَّ حين يبني بيتًا في بلاد الآخرين، سيحرِصُ على وجودِ نوفرة (نافورة ماء) فيه، وكرمة وملّيسة ويوسفيّ (يوسف أفندي) وليمون ونارنج (زمار) وياسمين ولَبلاب وجوريّ وعراتلية وشمعة وصولًا إلى قلب عبد الوهاب (اسم نبتةِ زينةٍ خضراء غير مثمرة).
المنفيّون يفنونَ أعمارَهم وهم يبنون في بلاد الآخرين، الفلسطينيّ، على سبيل المثال، يقضي عمره يعمل مُغَرِّبًا أو مشرِّقًا، آملًا أن يبلغ تحويشةَ العمرِ التي تتيحُ بِناءَ بيتٍ له ولأسرتِه في واحدة من عواصم بُعْدِهِ عن ديارِه. وإذا رَغِبَ الرّاغبُ بجولةٍ حول عمّان، على سبيل المثال، وضواحيها، فإن بيوت جبل اللويبدة، مثلًا، وكثيرًا من بيوت جبل عمّان وجبل الحسين وغيرها من جبال عمّان وحواضرها الجديدة غرب المدينة، تعبق بأثرٍ تركَهُ فلسطينيٌّ هناك: داليةُ عِنب، شجرة أسكِدنيا، توتةٌ مُرَكَّبَة، تينةٌ عَجوز، موجةٌ من النباتات المتسلِّقة، ياسمينةٌ ترتاحُ على حيطانِ الزَّمان، لوزٌ ومشمشٌ وعنّابٌ ودرّاقٌ وفرحٌ كثير. أما في البيوت المستقلّة (ليست شقَّةً في عمارة)، في البيوت الأبعد قليلًا عن قلب العاصمة، فإن بيت النعناع لا بد أن يمطرك بعبقِه، وكذا الميرميةُ وحصى البَان والزعترُ والبصلُ الأخضرُ والريحانةُ والمجنونةُ والعِطْرةُ وغيرُها، وغيرُها.
اليمنيّون يرتحلونَ وفي وجدانِهم بيوتُ الطِّين. اللبنانيونَ يحملون معهم، في حِلِّهم وترحالِهم، حكايات مرفأ، وسِكَّةَ قطار (تراموي) بيروت، وعَماير مار مخايل المجروحة، ويحلمون بـ(بيتٍ صغيرٍ بكندا/ ما بِعْرَف طريقَه حَدَا).
ضفة ثالثة