حروب كورونا الثقافية: من يحدد أساسيات الحياة؟/ محمد سامي الكيال
تفترض الحياة، في ظل التباعد الاجتماعي والإغلاق الشامل، تحديداً للنشاطات الاجتماعية المسموح بها ضمن إطار الأساسيات، فعلى البشر تخفيض نشاطهم إلى الحد الأدنى، والاكتفاء بما هو ضروري فقط لاستمرار حياتهم. والمسألة ليست بالبساطة التي تبدو عليها للوهلة الأولى، فما الضروري فعلاً لاستمرار حياة البشر؟ وما تعريف الحياة المطلوب استمرارها؟ هل هي ضرورات البقاء البيولوجي فقط؟ وهل وجدت مجتمعات بشرية، في أي عصر من العصور، اقتصرت حياتها على تأمين ضرورات الاستمرار المادي وحسب؟ إجابة السؤال الأخير هي النفي على الأغلب، فلا توجد مجتمعات، يمكن وصفها بـ»البشرية»، لم تمتلك أنظمة اجتماعية، قائمة على أسس ثقافية ورمزية معقدة، وبالتالي فتحديد أساسيات الحياة، لا يأتي من بشكل مباشر من الضرورات البيولوجية، بل هو مسألة ثقافية متعددة الأوجه، ويزداد تعقيدها وتركيبها في الشرط الحداثي، مع تطور واستقلال نظام السياسة والأيديولوجيا. وهذا ما دفع الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين للتأكيد أن «الحياة العارية»، أي الحياة المختزلة بوجودها البيولوجي، والفاقدة لأي ضمانة سياسية وقانونية، ليست حالة طبيعية، بل ما يبقى من الوجود الإنساني، بعد أن تنزع عنه السلطة كل ضمانة وأهلية، وبالتالي فهي حالة سياسية شديدة الاصطناع.
سؤال أساسيات الحياة إذن هو بالضرورة سؤال السلطة، فهي من يحدد الأساسي من الثانوي، ويوقف نشاطات معينة على حساب أخرى، وهو ما يثير دوماً كثيراً من المعارضة والسجالات: الطعام أساسي مثلاً، ولكن ماذا عن الملابس والأدوات الكهربائية؟ لماذا تُغلق المنشآت الثقافية، مثل المتاحف والمسارح والسينمات، التي لم تُسجل فيها حالات عدوى مهمة، في حين يؤذن بفتح بعض مراكز التسوق الكبرى؟ يُسمح باجتماع أفراد العائلة، رغم أنها تتيح اختلاط المسنين، المعرّضين لمخاطر صحية كبيرة، مع أجيال أصغر، قد تنقل لهم العدوى، فلماذا لا يُسمح بلقاء الأصدقاء والجيران من أجيال متقاربة؟ هل تُبدّي السلطة المصالح الاقتصادية على حساب صحة البشر، أم أنها، على العكس، دمرت الاقتصاد وآلاف فرص العمل لأجل حماية الفئات الأضعف صحياً؟ هل يجب على الجميع الخضوع لقدرات المؤسسات الصحية الاستيعابية، لدرجة تصبح فيها ضروراتها حاكمة للمجتمع، أم أن المشكلة في النظام الصحي القائم نفسه؟
هذا النوع من الأسئلة الثقافية – السياسية قد يصبح أساساً للصراع الأيديولوجي في السنوات المقبلة، وقد يترتب عليه تغيرات وثورات اجتماعية كبرى، فما الذي يقوله تحديد أساسيات الحياة الحالي عن السلطة والأيديولوجيا السائدة في زماننا؟ وهل سيفتح كورونا المجال لأنماط جديدة من السياسات الحيوية والحروب الثقافية؟
السلطة.. الصحة.. العائلة
يبدو أن تمتين السلطة التنفيذية، وزيادة صلاحياتها وتعقيد قوانينها وأجهزتها، هو من أكثر أساسيات الحياة ضرورةً، أو الركن الأول لتأمين الاستمرارية البيولوجية للمجتمع، وفق ما يظهر من ممارسات أكثر الحكومات ديمقراطية في العالم. تثير قوانين مثل «الأمن الشامل» الفرنسي، و»قانون الحماية المدنية الثالث» الألماني، كثيراً من المخاوف حول تغوّل السلطة التنفيذية، وإفلات الأجهزة الأمنية من المحاسبة، في ما أدت تقنيات الرقابة والسيطرة على أبسط مفردات الحياة الشخصية، التي حذّر كثيرون من ترسخها في الأجهزة الحاكمة، حتى في مرحلة ما بعد كورونا، إلى تعليق بعض الحقوق الأساسية للمواطنين، وتجاوزات لم يكن من المتوقع أن تحدث في «العالم الحر». في الوقت نفسه يُدفع نقد هذه الإجراءات، في كثير من الحالات، إلى هامش التيار الأساسي، عن طريق تصوير الاحتجاج على ممارسات السلطة إعلامياً، بوصفه عملاً من أعمال اليمينيين الشعبويين وأنصار نظرية المؤامرة. السلطة إذن، بشكلها الأكثر مباشرة، أي الأجهزة التنفيذية، هي الرابح الأول من الوباء.
تبني الأجهزة التنفيذية حالياَ هيمنتها على أساس يبدو غير سياسي وغير أيديولوجي، وهو «الصحة العامة»، الأمر الذي يعزز ميلاً واضحاً، منذ نهاية الحرب الباردة، لجعل السيادة قائمة على أسس موضوعية غير سياسية، مثل العلم وحركة السوق والضرورات البيئية، وكذلك لاستبدال السياسة بالإدارة؛ والديمقراطية، وأساسها السيادة الشعبية، بحكم الخبراء والبيروقراطيين. ومع أن علماء الاجتماع ومؤرخي العلم تحدثوا، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، عن الأساس الأيديولوجي والسلطوي للطب الحديث، والمؤسسات الصحية عموماً، إلا أن الصحة العامة تبدو حالياً العقيدة التي يصعب التجديف بها: لم تعد الصحة، وأحوال الحياة والموت عموماً، خياراً فردياً، أو حتى أمراً متروكاً للقدر والصدفة، بل هي سياسات عامة، سابقة على الحقوق الفردية والاجتماعية والسياسية، ويمكن للسلطة استدعاء القوات المسلحة لفرضها عند الضرورة. إلا أن هذه الأهمية القصوى للصحة العامة لا تعني بالضرورة تطوير الإمكانات الطبية، لتأمين العلاج الملائم لأكبر عدد ممكن من الناس، فالموجة الثانية من كورونا لم تأت فجأة مثل موجته الأولى، رغم هذا لم يحدث أي تطوير هيكلي في المؤسسات الطبية، ولم يتم التراجع بشكل واضح عن الإجراءات التقشفية في القطاع الصحي، التي أضعفت قدراته طيلة العقود الماضية. يبدو أن الدور السياسي للمؤسسة الصحية، أهم من دورها العلاجي، فما دامت قادرة على إمداد السلطة التنفيذية بالإحصاءات والأرقام والمعارف، الصالحة لفرض إجراءات الرقابة والحظر، يمكن التغاضي عن قصورها، وتحجيم المجتمع بأكمله ليصبح متناسباً مع إمكانياتها، بدلاً من تطويرها لسد الحاجات المجتمعية. هكذا تصبح أيديولوجيا، الصحة العامة، أحد أهم المستفيدين من كورونا.
قيم العزلة العائلية هي المستفيد الثالث، فالعالم الآمن الوحيد، والمكان المشروع للقاء الاجتماعي، لأسباب لا تبدو صحية أو علمية للغاية، هما الأسرة، التي يمكن اعتبارها «جهازاً أيديولوجياً للدولة»، إذا وافقنا على التحديد الكلاسيكي للمفكر الفرنسي لويس ألتوسير. عادت المنازل العائلية، التي قد تكون فقيرة أو غير صحية أو عامرة بالعنف الأسري، لدورها التقليدي، بوصفها المتن الاجتماعي الذي تعترف به السلطة وتتعامل معه، إلا أنها منازل تم فصلها عن أي سياق اجتماعي أكبر، سواء كان تقليدياً أو حداثياً، أفرادها ليسوا رعايا كنائس ومؤسسات دينية متينة، أو أعضاء نقابات، أو مستفيدين من المؤسسات الاجتماعية الوسيطة لدولة الرفاه، فلا تتوفر لهم أي من مزايا الفردانية أو الجماعاتية، وليس أمامهم سوى أن يكونوا جزءاً من حشد سلبي خاضع ومميّع.
مشكلة الاقتصاد
إلا أن كل هذه الإجراءات قد تبدو متعارضة مع مصالح السلطة نفسها، إذا أخذنا بالاعتبار الخسائر الاقتصادية الهائلة، التي يتكبدّها اقتصاد الدول الرأسمالية الكبرى، ما يطرح سؤالاً جدياً عن المنفعة من وراء كل ما يحدث، وعما إذا كانت السلطة نفسها مضطرة موضوعياً لتقييد الحريات الأساسية.
يذكّر هذا السؤال بالجدل الفكري شديد الأهمية بين الماركسيين الكلاسيكيين وأنصار ما يُعرف حالياً بـ»النظرية الفرنسية»، فبينما ركز الماركسيون على الجذر المادي والطبقي لفعل السلطة، مالت «النظرية»، مع أعمال ميشيل فوكو، للحديث عن تراكيب أشد تعقيداً للسلطة – المعرفة، لا تعتمد على عامل اقتصادي أحادي: تؤدي تقنيات الرقابة والعقوبة والتطويع إلى تجميع وأرشفة معرفة واسعة عن الأجساد البشرية، تنتج بدورها مزيداً من السلطة، وتتيح تطوير أساليب اقتصادية، توفر مرابح أكثر، بدون أن يكون المربح بالضرورة هو المحرك الأساسي للعملية، بل نمطا من العقلانية، التي وصلت أوجها في عصر التنوير، تسعى لتعقل العالم وصياغة الذوات الإنسانية، بالانفصال عن أي سؤال إيتيقي، ودفع كل ما لا يمكن تطويعه عقلياً إلى خانة الجنون والمرض والشذوذ.
يمكن توجيه كثير من النقد لـ»النظرية الفرنسية»، وتطوراتها اللاحقة، ولكن يصعب إنكار أن الثنائي فوكو- أغامبين هما أفضل من يقدم وصفاً لوضعنا الحالي، لدرجة تبدو فيها ممارسات السلطة اليوم تجسيداً لأكثر نظرياتهما راديكالية.
الحرب الدائمة
الحروب الثقافية حول أساسيات الحياة لن تنتهي بالتأكيد مع السيطرة على كورونا، فالوباء سيخلّف سوابق سلطوية لن يتم التراجع عنها ببساطة، تماماً كما خلّفت الحروب تقنيات إخضاع وتطويع، استمرت في أزمان السلم، وهو ما حذّر منه أغامبين منذ الموجة الأولى للوباء. قد يمكن مستقبلاً تمرير أي إجراء ينتهك الحريات الأساسية، إذا تم حشد آراء خبراء مؤيدة له، وسيُبرر بالقياس بقبول المجتمعات سابقاً لإجراءات كورونا. إلا أن السلطة تولّد دوماً مقاومة مجتمعية، أو تعجز عن احتواء الحيوية الاجتماعية، إذا اعتبرنا الأخيرة سابقة على إجراءات السلطة. يحتجّ كثير من العاملين في القطاع الصحي اليوم، مثلاً، على سوء أوضاعهم المهنية والمادية، والضغط الشديد الذي يتعرضون له وسط الوباء، ولا يدعون لتطوير إمكانيات النظام الصحي وحسب، بل إلى تغيير اجتماعي وسياسي شامل، لدرجة يذكرون فيها بالتصوّر الكلاسيكي عن البروليتاريا، التي تشغل موقعاً إنتاجياً مركزياً في النظام المعاصر، يُمكّنها من النضال لإحداث تغييرات جذرية فيه، وربما يكون هذا المثال كاشفاً للمسارات التي يمكن أن يتخذها مستقبلاً الصراع السياسي – الحيوي على «أساسيات الحياة».
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي