منير الشعَراني ومأزق الحُروفية العربية: مقاربة أولية/ نجيب مجدوب
ليس الفنان منير الشعراني خطاطا مجددا فحسب، بل باحثا مجتهدا ومثقفا ملتزما أيضا له مشروعه الإبداعي التجديدي في مجال فن الخط العربي، وله أفكاره الوجيهة غير التقليدية وكتاباته الهامة في هذا الباب، قد نتفق معه بشأنها وقد نختلف، لكنها بحكم خبرته الطويلة واطلاعه الواسع تمثل على المستوى النظري والإبداعي تحدّيا لأهل الصنعة وأصحاب الاختصاص. ومن بين أفكاره المتميزة في هذا الصدد تبرز وجهة نظره فيما يُعرف اليوم بالحُروفية العربية.
ما هي الحروفية العربية أولا؟ هل يُعتبر منير الشعراني فنانا حُروفيا، وكيف يصنف نفسه وأعماله؟ ما رأيه في الحروفية، وما هي محددات ومرتكزات وجهة نظره في الموضوع؟
لكي لا ندخل في نقاش أكاديمي حول مفهوم الحُروفية العربية، ليس هنا مجاله، سوف نعتمد على تعريف إجرائي أولي وبسيط لها سيفيدنا في إلقاء الضوء على وجهة نظر الشعراني، وتقريبها للقارئ العادي. سنعتبر إذن بأن الحروفية هي كل عمل فني يستلهم الحروف العربية ويستخدمها كأحد عناصر اللوحة. وقد بدأ هذا الاتجاه كمحاولات فردية متفرقة في البلاد العربية خلال منتصف القرن العشرين، ليتطور بسرعة إلى تيار فني جارف خلال عقد السبعينيات منه، بعدما أصبح يتوفر على جمهور ومعارض ودعاية ومزادات وزبائن، بذريعة البحث عن فن تشكيلي عربي متطور يراعي الخصوصية الحضارية والهوية العربية الإسلامية من جهة، ويستجيب لشروط ومواصفات العمل الفني التشكيلي كما عرفه الغرب من جهة ثانية.
إن موقف منير الشعراني من الحروفية العربية واضح وصريح، دقيق ووجيه، ويطرح تحديا كبيرا لأنه يصدر عن فنان تلقى تكوينا أكاديميا تشكيليا بحكم تخرجه من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1977، وقبل ذلك درس الخط العربي بالطريقة التقليدية على يد المرحوم محمد بدوي الديراني (1894م-1967م)، رأس المدرسة الشامية في الخط، وبأسلوبه المتميز فيها. وبالتالي فهو فنان تمثّل أصول وأسس الصنعتين التشكيلية والخطية معا، وتكوَّن في كلتا المدرستين العصرية والتقليدية. لهذا سيكون من باب المكابرة ومن قبيل الإجحاف التقليل من خبرته وتكوينه وسعة اطلاعه ومصداقية أبحاثه. وإن هذا في رأيي يمثل وجه التحدي الأكبر، وإحدى نقاط القوة الأبرز التي تنبني عليها وجهة نظر الشعراني في موضوع الحروفية، ويتأسس عليها مشروعه الفني التجديدي بشكل عام.
وكمدخل لمقاربة وجهة نظره في الحروفية العربية، أودُّ أن أستهل حديثي باسترجاع موقف طريف في هذا الشأن جرى للشعراني، لأني أجد فيه أكثر من دلالة بخصوص موضوعنا. فبتاريخ 19 فبراير 2019 أجرت جريدة (العرب) اللندنية حوارا معه، حيث قدمه مدير الصحيفة بصفة الحروفي، واختار لحواره معه العنوان التالي: (منير الشعراني حروفي سوري تجاوز بالخط العربي حدود الممكن). في اليوم نفسه علق الشعراني على هذا الوصف في صفحته الخاصة على فيسبوك، معبرا عن رفضه له جملة وتفصيلا، فقال: “أنا أركزُ دائما على أنني خطاط، ولست حروفيا. وإن لوحتي خطية، وليست حروفية. وموقفي مما يسمى الحروفية معروف وعلنيّ”(1). ومما زاد من غضبه أن الجريدة أرفقت الحوار بصورتين للوحتين له، لكن حُذف منهما الفراغ الذي يؤطر عادة لوحاته ويُعد جزءا منها، فجاءت محاصَرة ومخنوقة إذا جاز التعبير. فأردف معلقا على ذلك: “لم يدرك مخرج الجريدة أن الفراغ في أعمالي هو جزء منها، فقطع منه ما شاء، مما أخل بها”(2).
لهذا الحادث البسيط، في نظري، دلالتين على الأقل تُدخلنا مباشرة في صلب الموضوع: الأولى تتعلق بصفة “الحروفي”، والثانية ترتبط بثيمة “الفراغ” في اللوحة الشعرانية.
الشعراني حروفي؟ ليس أصعب على فنان من أن يوصف بصفة يرفضها، وأن يلاحقه نعت لا يعبر عنه حقيقة. فما بالك بتشكيلي خطاط كالشعراني يتأسس جزء هام من مشروعه الفني على نقد الاتجاه الحروفي ورفضه بصيغته المتداولة، وفضح هشاشته وتهافته. بل إنه في معظم ما كتبه وقاله عنه يرفض تسميته فناً، أو خطاً، أو حركة، أو ما شابه ذلك من أوصاف. وكثيرا ما يستعمل عبارة “ما يسمى الحروفية” كما ورد في اقتباسنا السابق. وإن هذه الصيغة التي تتجنب عدم استعمال الإسم أو الوصف أو التصنيف المتداول والرائج عن شيء معين أو كائن ما غالبا ما تفيد، من منظور تحليلي-نفسي، الرفضَ والتبخيس والاستصغار. وهي في لسان الشعراني تفيد بكل بساطة عدم الاعتراف بصحة المصطلح. ولأنه يتجنب وصف الحروفية بالفن أو المدرسة أو الحركة، فهو يفضل أحيانا تسميتها “اتجاهاً”.
ويكفي إجراء استقصاء بسيط على محرك البحث “غوغل” لنرى كثرة العناوين التي تصف الشعراني بالحروفي، وتدرج أعماله الخطية في خانة الحروفية. وهذا ما نجده مثلا لدى الباحث محمد شاهين في كتابه (الحروفية العربية، الهواجس والإشكالات) الصادر عام 2012 (3). بل إن هناك من الباحثين والنقاد من يدرج منجز الشعراني رغم أنفه في صنف الحروفية. منهم على سبيل المثال نزار شقرون الذي يقول في هذا الصدد: “هناك ممارسات لفن الخط تقع في الاتجاه الحروفي. ومن بين هذه التجارب الأعمال الفنية لمنير الشعراني(…)من ذلك عمله على رباعيات الخيام، وأبي الطيب المتنبي، وأسطورة جلجامش، هذه الأعمال التي خرج فيها الشعراني من دائرة الخط العربي إلى المسلك الحروفي”(4).
أما عن ثيمة “الفراغ” المشار إليها آنفا، فلم يحسب مخرج نص الحوار المذكور سابقا بأن الخط كما يمارسه الشعراني فن قائم بذاته كباقي الفنون التشكيلية. لذلك لم ينظر بعين الاعتبار أثناء تحجيمه للوحتين اللتين اختارهما للنشر إلى أن صاحبهما يتعامل أيضا مع الجانب التشكيلي غير الخطي في اللوحة، وبأنه يخصص جهدا لدراسة الفراغ (أو الحيز كما يسميه البعض) في تصاميمه، وعلاقة عناصر اللوحة بعضها ببعض، مع ضبط أكثر للعلاقة بين الكتلة والفراغ. فليست اللوحة الخطية الشعرانية مجرد سطور يخطها صاحبها بتجويد وإتقان، بل هي تكوين تشكيلي يتشكل من مجموع العناصر المكونة للوحة، كما هو الأمر في سائر الفنون التشكيلية الأخرى.
من جهة أخرى تحدث الشعراني باكرا وباحترام عن أداء وإنجاز رواد الحروفية العربية الأوائل، وركز على حسن نية وصدق العديد منهم ممن استلهموا الحرف العربي (وليس الخط). هؤلاء الأوائل تعاملوا مع البعد التجريدي في الحرف العربي، ولم يدّعوا التعامل مع فن الخط في حد ذاته. أما من جاءوا من بعدهم فقد زعموا عكس ذلك، دون أن تكون لهم أدنى معرفة بفن الخط، والقليلون منهم من درسوا فعلا قواعده وظلوا أوفياء لروحه. يصف الشعراني هؤلاء بالملوّنين (وهو وصف فيه سخرية مثيرة للضحك حقا)، ويخصهم بنقد لاذع. فقد حلل مرارا في حواراته ومحاضراته واقع استلابهم وتبعيتهم وزيف ما طرحوه كفن بديل سرعان ما تحول إلى “حجر عثرة في وجه أيّة محاولة حقيقية لتطوير اللوحة الخطيّة العربيّة”. وذلك بإيعاز من ممالك النفط التي كانت خلال لحظة تاريخية محددة في حاجة إلى سلعة فنية تصلح لتزيين القصور والبلاطات، ولا تتعارض مع الإيديولوجيا الوهابية المهيمنة التي تحتقر الفن وتحرم التصوير، وذلك بمباركة من أوساط غربية ذات توجه استشراقي كانت لها آنذاك مخططاتها وأهدافها أيضا في هذا المجال.
يبرز الشعراني بأن الحروفية ليست اتجاها فنيا واحدا موحدا، كما يشدد مرارا على الطابع الزئبقي والفضفاض الذي يتسم به هذا المصطلح، ويعترف بأن ما نراه اليوم لا صلة له بالحروفية كما مارسها وتصورها الرواد الأوائل، كما رأينا من قبل. فلم يأت ميلاد الحروفية نتيجة بحث علمي، أو خيار فلسفي، أو ثورة فنية، أو تحرر أخلاقي، بل كان في نظره استجابة للفورة النفطية وآثارها على مجتمعات بدوية جد بدوية ظلت هامشية في حركة الثقافة العربية الحديثة. “فكانت النتيجة لوحات هجينة تجريدية، مجردة فنيا من القيمة التشكيلية والقيمة الخطية سواء بسواء، لكنها لقيت رواجا وإقبالا من أناس يملكون المال، لكنهم لا يتمتعون بحد أدنى من ثقافة العين، أو التذوق الفني، أغرتهم ألوانها وتمسّحها بالدين ليملئوا صالوناتهم ومجالسهم وقصورهم ومحافلهم بها”(5).
لقد فرّطت الحروفية، بحسب تحليله، في الخصوصية الجمالية التي ميزت طويلا فن الخط العربي، فأثمرت خليطا غير متجانس من الألوان والأشكال والأحجام لا علاقة له بالخط، ولا يليق أن يرتبط به. بل يعد عملا هجينا بمقاييس فنَّيْ الخط والتشكيل معا. فاحتوت منتوجاتها على قنطار من الصباغة والألوان، وقليل من القيمة الفنية والإمتاع، فجاءت تلفيقية تستمد عناصرها وتقنياتها من فنون عديدة. ولقد جرت المبالغة عمدا في قيمة وأهمية الحروفية، لكنها في ميزان النقد والفن لم تضف شيئا جديدا لفن الخط العربي، بل لا تساوي صفحة واحدة في كتابه الذهبي الكبير. وإنما على عكس ذلك شكلت لفترة عائقا أمام تطوره نحو الحداثة، سواء أثناء موجتها الأولى المحايدة التي بنيت على الهوية، أو موجتها الثانية السلبية والتي اتسمت بالاتباع الأعمى، أو خلال موجتها الثالثة التي جاءت إرضاء لنزعة استشراقية محضة(6).
لقد مر حين من الزمن كان يُنظر فيه بتهكم ودونية قاسيتين إلى كل من يزاول فن الخط العربي، ومازالت هذه النظرة سائدة لدى بعض الأوساط الفنية التشكيلية والثقافية العربية. وقد هاجم الحروفيُّ الخطاطَ التقليدي مرارا، مثلما هاجمه الفنان التشكيلي، واتهماه بالجمود والتقليد وغياب التطوير، معبّران بذلك عن مركزية ثقافية أوروبية ثاوية في نقدهما للخط والخطاط بدون أن يعيا خلفيتها الفلسفية والاستشراقية. في هذا الصدد سأل صحفي ذات يوم الفنان فريد بلكاهية (وهو أحد رواد الفن التشكيلي المعاصر، ويعد من مؤسسي الحداثة التشكيلية البصرية في البلاد العربية):
-“لكن ما العيب في أن يعلن الفنان عن ارتباطه بثقافته ووجدان أمته؟”. فرد بلكاهية بجواب أورده هنا كاملا:
-“العيب هو أن ذلك يبعده عن جوهر الفن، ليجد نفسه متورطا في فخ الدعاية وضحية للأوهام. خُذ عندك مثلاً حكاية الخط العربي. هذا كله كلام فارغ المفروض أن نخجل منه. هل رأيتَ مرة في حياتك فناناً يهودياً يكتب بالعبرية ويقول هذا فن خاص بنا نحن معشر اليهود؟ أيضاً لماذا لا يقوم اليابانيون والصينيون واليونان مثلا بتشكيل لوحات من أبجدية لغاتهم ويقيمون لها المعارض والتظاهرات؟ ليسوا سُذجاً مثلنا لتختلط عليهم الأمور مثلما اختلطت علينا. كل شعوب الأرض تعرف أن الخط خط مهما كان جميلاً، أما الإبداع التشكيلي فهو فعلاً شيء آخر. لكن ماذا تفعل لدعاة الهوية عندنا. لقد طبّلوا لحكاية الخط العربي واعتبروه فنا عبقرياً يميزنا عن باقي العالمين. هذه أمور مضحكة صدقني…»(7).
فإذا كان العبقري بابلو بيكاسو نفسه يعترف بكل أريحية بأن أقصى نقطة أراد بلوغها في فن الرسم وجد بأن فن الخط العربي قد سبقه إليها، فكيف سنستوعب كلاما تهريجيا ممن اعتبر رائدا من رواد الحداثة العربية في مجال الفن التشكيلي يقول فيه بتهكم واستعلاء وبثقة عالية في النفس بأن “حكاية الخط العربي كلام فارغ من المفروض أن نخجل منه…”!
إن نقد الشعراني للحروفية يندرج، حسب رأيي المتواضع، في سياق عام يتعلق بالرد غير المباشر على المركزية الثقافية الأوروبية، وبالذات على نزعة الاغتراب الفني التي سقط فيه العديد من الحروفيين وتجلت في أعمالهم. وفي هذا الإطار يُفهم مشروعه الإبداعي الحداثي: تقديم لوحة خطية عربية أصيلة تحرص على مد الجسور مع إرث الماضي، وتكون في نفس الوقت عملا تشكيليا فنيا وإبداعا متطورا يستجيب للحاجات البصرية الحديثة وللذائقة الجمالية المتغيرة. وكأن القطب الشعراني من خلال أعماله الخطية المتفردة يقول بطريقة غير مباشرة للحروفيين العرب وللخطاطين المقلدين معا: “تأمَّلوا بتمعن فيما أقوم به، وانظروا إلى عملي كيف يتطور، وإلى أدائي كيف يتبلور. هأنذا أنجز لوحة خطية لا شيء فيها غير الخط فقط، أي مجموعة من الحروف والكلمات، بدون أن أستعين بفنون أخرى خارجة عن فن الخط. بيد أنها لوحة تُبنى وفق أسس العمل التشكيلي وتأخذ بعين الاعتبار الجانب غير الخطي، فتوفق بين خصوصيات وجماليات الخط العربي التي فرّطتم فيها، ثم جمال وتقنيات الفنون التشكيلية البصرية التي لم تعرفوا كيفية توظيفها والتعامل معها. ها هي ذي لوحتي لا تسجن نفسها فيما ألفتم رؤيته من أعمال تقليدية مكررة، ولا تشبه ما تنتجونه أنتم من ترّهات هجينة ومبتذلة. فتوقفوا عن الادعاء بأن فن الخط العربي بلغ ذروته واستنفد طاقته وأغراضه، وكفوا عن الترديد بأنه بات اليوم متجاوزا ولا سبيل إلى تطويره من داخله. فلعمري أنتم الذين تجاوزكم الزمن قبل أن تقدموا لنا شيئا جديدا وجميلا”.
إن الحداثة الخطية كما تتجلى في إبداعات الشعراني على وجه العموم مبنية على استيعاب إرث الماضي وفهم حاجيات الحاضر وتحدياته في آن واحد. تمثُّلُ روح فن الخط واحترام أصوله وضبط قواعده من جهة، مع الإنصات للمتغيرات الجمالية في حاضرنا العربي ومحاولة تلبية حاجاتنا البصرية والذوقية المتجددة من جهة ثانية. بيد أن نقد الشعراني للحروفية لا يصدُر عن نزعة فنية محافظة. فهو آخر فنان يمكن أن يوصف بالمحافظ على المستوى الفني والفكري. فإذا كان يدعو في كل المناسبات إلى احترام أصول فن الخط، ويحرص بغيرة على عدم تشويه الهيكل التشريحي للحرف العربي، في إطار دعوته للتطوير والتجديد، فليس في ذلك قط ما يشي بنزعة تقليدية محافظة لديه. إن حداثة الشعراني الخطية لها جذورها ولا تخفي ارتباطها بالماضي وتاريخ الخط العربي، وليس في هذا أي مفارقة كما قد يستخلص الباحث المتسرع. إن نزعته، في هذا الشأن، حداثية بالأساس وهي ذات منحى بودليري (نسبة إلى الشاعر شارل بودلير 1821-1867)، ترتكز على الاستماع الكلي للحاضر والعابر والراهن والمنفلت دوما، دون احتقار الماضي أثناء بحثها عن الانفصال عنه والتملص من إكراهاته. بهذا المعنى يعد الشعراني، في رأينا، تشكيليا خطاطا حداثيا بالمعنى البودليري، لأنه بقدر ما ينادي بالتخلص من كل نزعة ماضوية في إنجاز اللوحة الخطية، بقدر ما يحترم هذا الماضي ولا يدير له ظهره، رغم انتقاداته له وتحفظاته عليه. لقد اطلع جيدا على تراث الخط العربي، واستوعب إيجابياته وسلبياته، ووقف على ما في هذا الفن العريق من قيم فنية وبعد تجريدي، فأدرك بأنه لا مناص من الانطلاق منه لكي يجدد ويطور ويبدع شيئا آخر، في الوقت الذي يحاول أن ينفصل عنه وأن يتجاوزه. إنها إذن حداثة بودليرية تعبر عن موقف عقلاني (وليس مجرد انتماء أعمى)، وعن اختيار واعي (وليس موضة مبتذلة) يرفض أن يستعبده الزمن والتاريخ، لذلك يختار طريق التجدد باستمرار وتجاوز الذات بدون هوادة والتأصيل بلا كلل أو ملل، وعدم التسليم بالتصنيفات السكولائية (المدرسيّة) المتداولة.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن بودلير يعد رائدا من رواد الحداثة الجمالية والشعرية في الغرب، وأول من بلور مفهوم الحداثة الفنية والجمالية في نص نقدي تشكيلي بديع كتبه سنة 1863 تحت عنوان (رسام الحياة الحديثة)، والذي أعاب من خلاله على فناني عصره حنينهم الدائم للماضي دون الالتفات للحاضر وما يعتمل فيه، ودعاهم فيه إلى التركيز على المواضيع العادية للحياة اليومية وضرورة فهم الخصائص المتغيرة لزمنهم. يقول بودلير: “إن الشيء المهم في الحداثة هو أن نعبر عن روح الحاضر، عن روح الزمن الذي نعيش فيه(…)إننا إذا ألقينا نظرة سريعة على ما نشاهده في معارضنا من لوحات حديثة، فإن ما سوف يصدمنا هو نزعة الفنانين العامة إلى إلباس جميع الأشخاص ثياباً قديمة”(8).
لعل منير الشعراني طبق في فن الخط العربي أفكار بودلير عن الحداثة بدون قصد. ولا أظنه أستوحى شيئا مباشرا من بودلير في هذا الصدد. فهو في لوحاته عموما لا “يُلبس جميع الأشخاص ثيابا قديمة”، وإنما بالأحرى يضفي حلة جديدة على عناصر قديمة، وعلى إثر ذلك تنتمي لوحاته إلى الزمن الحاضر الذي نعيش فيه، وبسبب ذلك يعتبر في رأينا خطاطا حداثيا وأصيلا.
نجيب مجذوب
ــــــــــــــــــــــــ
* ورقة مزيدة ومنقحة كتبت لأول مرة في العاشر من مارس من العام 2020.
(1) منير الشعراني: تدوينة بصفحته الخاصة على فيسبوك بتاريخ 19 فبراير 2019.
(2) منير الشعراني: المصدر السابق.
(3) د.محمود شاهين: الحروفية العربية، الهواجس والإشكالات. منشورات الهيئة العامة
السورية للكتاب. 2012.
(4) نزار شقرون: الحروفية العربية، انسداد أم انفتاح الرؤية الجمالية. جريدة القدس العربي،
28 شتنبر2007.
(5) منير الشعراني: تقليدية وحروفية، أم إبداع وتجديد؟ محاضرة ألقاها في متحف النسيج
المصري بالقاهرة بتاريخ 9 فبراير/ شباط 2020.
(6) لمزيد من التفاصيل عن موجات الحروفية العربية كما يشرحها منير الشعراني انظر نص
محاضرته السالفة الذكر.
(7) فريد بلكاهية: في حوار أجراه معه ياسين عدنان ونشر بتاريخ 26 شتنبر 2014 على
موقع جريدة (أحداث أنفو) المغربية.
(8) Charles Baudelaire : Le peintre de la vie moderne (texte de 1863).Collection (Poche) 2010. p.9
الفيس بوك