حكاية بلا بداية: انزياح اليسار السوري/ وائل السواح
فُتح الباب بحذر شديد وبان من خلاله وجه شاحب أصفر وعينان قلقتان متوجستان.
“من أنت؟”
“الساكن الجديد،” أجبت.
فتح الرجل الباب على مضض واستدار ليدخل غرفته من دون تحية مجاملة، وصفق الباب خلفه. دخلت الغرفة الملاصقة التي صارت غرفتي، وشعور بالانقباض يرين علي. لم تكن تلك فكرتي عن الجار الجيد. كنت قد نلت لتوي شهادة البكالوريا وجئت من حمص إلى دمشق لأكمل تعليمي الجامعي. فوق كتفي سبعة عشر عاماً وفي جيبي مئة وستون ليرة سورية، سأدفع ستين منها أجرة هذه الجيرة.
جاءني سعال مبحوح من غرفة الجار. سعال طويل وجارح. شعرت بالتوتر ثم، حين هدأ، رحت أرتب أشيائي القليلة. كتب وبنطالان وقميصان وكنزة صوفية وسترة وزوج من الأحذية وثلاثة بدلات داخلية أو أربعة. تلك كانت أمتعتي. فوقها كان راديو “الترانزستور” الصغير الذي اشتراه لي أبي قبل مغادرتي حمص بأيام. “سيلزمك لتزجية الوقت وسماع الأخبار،” قال لي. عاد السعال من جديد، جارحاً عاتياً هذه المرة، فيه فجور وقسوة. اقتربت من الباب الملاصق. فكرت أن أقرع الباب. ترددت. السعال قاس، موتر، لئيم. قرعت الباب وانتظرت قرناً حتى انفتح ووقف الوجه الشاحب وراءه سائلاً عما أريد.
“أنت بخير؟”
تأمل فيّ زمناً، ثم وسع فرجة الباب وتراجع إلى الوراء.
“تفضل!”
دخلت بتردد وراعني منظر الغرفة. كان فيها كتب، وكتب، وكتب أخرى. وكانت الكتب في كل مكان: على الطاولة وعلى السرير وعلى الأرض وعلى الخزانة وعلى أحد الكرسيين اللذين يتوسطان الغرفة. على طاولة قهوة صغيرة، كان ثمة خمس أو ست كؤوس فارغة وفي أسفلها ثمالة شاي قديم. قربها، جثمت منفضة سجائر عملاقة تطفح بأعقاب سجائر الناعورة التي تسربت من المنفضة إلى الطاولة ومن الطاولة إلى الأرض التي كانت تزخر إلى جانب الأعقاب ببقع الشاي حائلة اللون.
من مسجلة عتيقة، انطلق صوت لمغن لم أسمعه من قبل:
غيفارا مات… غيفارا مات
آخر خبر في الراديوات
وفي الكنايس… والجوامع
وفي الحواري… والشوارع
وعَ القهاوي
وعَ البارات
غيفارا مات
واتمدّ حبل الدردشة والتعليقات
“تشرب شاياً؟” سألني. لم أرد إحراجه. شربنا شاياً أسودَ قليل الحلاوة بسبب قلة السكر كما اعتقدت. تجرأت وسألت من الذي كان يغني. نظر إليّ بدهشة وشيء من سخرية قبل أن يجيب: الشيخ إمام.
كان السحر الذي يلف الغرفة المنزوية في قبو في الشيخ محي الدين، ممزوجاً بالصوت الحنون الأجش، ومختلطاً بالسعال الحاد الفاجر للرجل الذي يلامس الثلاثين، أقوى من أن أسحب نفسي إلى غرفتي وأنزوي بعيداً من هذا السحر الأسود الذي يملأ الخياشيم ويعبق بالحلق. جلسنا طويلاً وأبو الهول الجالس أمامي بدأ يتكشف عن رجل فاتن ومحارب عنيد.
كانت تلك البداية. وفي السنوات التي تلت ذاك اليوم، لعب هذا الرجل دوراً كبيراً في حياتي، قلبها رأساً على عقب، دفعني في طرق وحارات مجهولة، جعل الدم يفور في عروقي والإثارة تسيل من مسام الجلد. أحمد جمّول.
حين تركت مدينتي حمص الهادئة، الجميلة (أو التي كانت كذلك)، متوجّهاً إلى دمشق، كنت عضواً فخوراً في الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش. كان الحزب يعاني من أول خلاف داخلي كبير أدى بعد أشهر إلى انقسامه. فقد تجرأ القيادي الشاب رياض الترك على أن يسائل “الرفيق الأمين العام” حول قضايا تنظيمية وسياسية، بينها دكتاتورية الفرد والعلاقة مع “الرفاق السوفييت”. فأصدر بكداش بيان 3 نيسان (أبريل) الشهير الذي فجر الأزمة الداخلية إلى الخارج. لم يترك الانقسام أثراً على الخط السياسي للحزب، بل وترك أثره على فتى متحمس في سنته الأخيرة في الثانوية، حين صار فجأة عضواً في اللجنة الفرعية للحزب في حيّه، لأن معظم الكوادر غادروا مع رياض الترك.
أحمد جمّول عرّفني إلى عالم آخر، مختلف، فاتن ومثير.
“بات لزاماً أن يكون لنا تنظيمنا الخاص”، قال لي بعد أشهر، حين توطدت علاقتنا.
كنت حدثته عن نفسي، عن حمص، عن الرفيق الأمين العام، وعن اللجنة الفرعية في حيّ الحميدية. كان يستمع بنوع من الإعجاب وبشيء من السخرية.
“قديش صار له الرفيق الأمين العام رفيقاً أمينا عاماً؟” سألني ذات مرّة.
“40 سنة،” قلت.
“ولم ينجب الحزب خلال كل هذا الوقت من يماثله فهماً ومقدرة، فيسلمه دفّة القيادة؟
من نحن؟” سألته رداً على جملته حول ضرورة تأسيس تنظيم خاص.
“أنا وأنت ومن يشبهنا.
“من يشبهنا؟ من يشبهني أنا؟” سألت نفسي من دون أن أفتح فمي.
كان عام 1973 في بدايته. قبل نحو ست سنوات كانت حرب حزيران قد أخذت السوريين على حين غرة. صفعتهم على وجوههم وعلى أقفيتهم، وهم غافلون. أذهلتهم وسارت بهم في دروب متباينة. إضافة إلى هجرة السوريين النازحين من الجولان إلى دمشق ومدن سورية أخرى، حدثت هجرتان كبيرتان أخريان: هجرتان سياسيتان، انزاح فيهما جزء كبير من التيار القومي العربي نحو الماركسية، وانزاح مقابله جزء من التيار الماركسي نحو الفكر القومي. حركة القوميين العرب بمعظمها تبنت الماركسية، ووجدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، ثم انشق عنها أحمد جبريل ونايف حواتمة، ووُلِد حزب العمل الاشتراكي العربي، كذراع سياسية للجبهة الشعبية في لبنان والأردن، وظهرت منظمة العمل الشيوعي في لبنان، التي قادها محسن إبراهيم وفواز طرابلسي، وتحوّل تيار صلاح جديد، الذي كان انقلب عليه حافظ الأسد قبل سنتين ونيف تدريجاً إلى الفكر الماركسي- اللينيني، حتى تبناه نهائياً في منتصف السبعينات. جوهر هذا الانزياح كان اكتشاف التيار القومي العربي أن “العدو القومي الرئيس لحركة التحرر العربية يتمثَّل بالإمبريالية العالمية بقيادة أميركا، والتي تستعمل إسرائيل والحركة الصهيونية” وأن الأنظمة العربية كافةً، سواء الأنظمة “الرجعية” أو الأنظمة “الوطنية التي تحكمها البورجوازية الصغيرة”، عاجزة عن مواجهة هذا العدو.
في المقلب الآخر، كان تيار في الحزب الشيوعي اللبناني بقيادة جورج حاوي وتيار في الحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك يتخليان تدريجياً عن “الصَّلف الطبقي” ويريان في المسألة القومية وجاهة لا بدّ من مقاربتها. كان جورج حاوي معجباً بعبد الناصر ولينين، وقد باتت هذه المزاوجة أحد معالم الخلاف في الحزب الشيوعي بين «الأمميين» و«القوميين»، الذي أدّى في نهاية المطاف إلى انتصار «القوميين» وبدء المرحلة الجديدة للحزب الشيوعي من خلال مؤتمره الثالث 1972. أما المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري فانعقد في 1969، وشكّل بداية الخلاف بين أكثرية المكتب السياسي للحزب بقيادة رياض الترك من طرف، وقيادة خالد بكداش من طرف آخر. وفي كلا المؤتمرين لعبت القضية الفلسطينية والوحدة العربية دوراً بارزاً.
وهذان الانزياحان لم يُرضيا فئات متناثرة من السوريين المفجوعين بهزيمة حزيران من شتى المشارب السياسية. وقد اجتمع بضع عشرات من هؤلاء الأفراد التائقين إلى التغيير الحقيقي، القانطين من “الأنظمة الوطنية التقدمية”، والحالمين بأشكال شتّى من الثورة، بالاجتماع سوية لمناقشة “ما العمل” السوري.
عاد السعال مجدّداً. أحمد جمّول كان آخر من عرفت من مرضى السلّ السوريين. بين نوبة سعال وأخرى، كان أحمد يفيض حكياً عن كلّ شيء. عن الثورة والبعث وخالد بكداش، عن الهيغيليين الشباب ومخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية والبعد الإنساني لدى ماركس الشاب، في مقابل ماركس رأس المال، عن ولعه بفريد الأطرش وأفلام الويستيرن الأميركية. كنت قد أقلعت عن متابعة هذه الأفلام على رغم ولعي بها، لأنها لا تليق بماركسي-لينيني عنيد. أحمد جمّول أعادني إلى نفسي، وظلّ يفعل كلّما شططت.
فكرة ماركس الشاب كانت جديدة في سوريا (والعالم؟)، فمخطوطاته، وبخاصة المخطوطات الفلسفية والاقتصادية لعام 1844، كانت قد حُجبت من قبل ستالين، أو ربما تعرّضت للكثير من إعادة التأويل بغية الدفاع عن المواقف السياسية والأيديولوجية للماركسية اللينينية. وطُمست أفكار ماركس حول الاغتراب والحرية والممارسة (praxix)، التي هي في جوهرها وحدة الفكر والعمل ووحدة الذات والموضوع. هذه الفكرة هي التي بدأت تلفت انتباه ثلة من الشباب السوري (كلهم دون الثلاثين) لإعادة الاعتبار لليسار والماركسية باعتبارها فكرة إنسانوية في المقام الأول، وضعت الإنسان في مركز الماركسية، بوصف الإنسان الواقعي نقطة انطلاق الفلسفة وهدفها أيضاً وأساساً.
“فقط حين ينحى الإنسان من مركز منظومة ماركس، يمكن تأويلها استبدادياً، كما حصل في أحيان كثيرة”، كان أحمد يقرأ لي من كتاب.
على أن ذلك كلّه كان ثقيلاً علي بسنواتي الثماني عشرة. فلا شكّ في أن أغاني مديح أبو عمار وهجاء رياض الترك والثلاثي، واختياري عضواً في اللجنة الفرعية وأنا في السابعة عشرة، أسهل من مفاهيم الاغتراب والبراكسيس وماركس الشاب. فكيف يكون ماركس ماركسَين اثنين؟ أيكون أن لينين قد شوّه فكرة ماركس الأساسية؟
إذاً، من يشبهنا في هذا المقام؟ وكيف يفعلون؟
19 تعليقات