قواعد اللعبة/ وائل السواح
إلى أي حدّ كانت المسألة لعبة بالنسبة لي وبالنسبة للنظام؟ لم أكن أعرف جوابا وقتها، ولكنْ أن أجدَ على يديّ آثار دماء، ذلك ما لم يخطر لي على بال…
مات محمد عبود تحت التعذيب، هكذا قال لي فاتح جاموس. وقع الخبر عليّ كحجر انقضّ من علٍ. أحسست برأسي يدور وغامت عيناي لحظة. أوّل ما خطر ببالي هو أننا لم نتفق على هذا – نحن والنظام لم نتفّق على القتل. اتفقنا على الاعتقال، وربما التعذيب، ولكن ليس على القتل، ليس على الموت.
اعتقل محمد عبّود في اللاذقية في فرع الأمن السياسي. لم يكن قياديا ولم يكن لديه الكثير من المعلومات. ولست أدري حتى اليوم لمَ قُتل. في الثمانينات، كان النظام في ذروة معركته مع الإخوان المسلمين، وكان يحاول أن يصلح الأمر مع اليساريين عموماً ومعنا على وجه الخصوص، فلماذا يقتل واحدا منا؟ هل تحدّى الجلادين وقتها؟ هل حسبوا أن لديه معلومات يخفيها؟ أم أنه عوقب ببساطة لأنه … علوي؟
جاء في تقرير أطباء المستشفى الذي أُسعف فيه أن الوفاة حدثت بسبب “اللطم الشديد على الرأس”. التقرير كتبه أطباء المستشفى أنفسهم. كان ذلك قبل أن يتوحش زُلْم النظام فيرفضوا تسليم جثث ضحاياهم، ثمّ يُجبَر الأطباء أن يكتبوا أن الوفاة وقعت “بسبب أزمة قلبية” كما هي الحال اليوم، حتى ولو كانت آثار التعذيب الوحشية بادية على جسد الضحية. وفي هذا الخصوص، يكتب رفيق القتيل راتب شعبو أن الأطباء والممرضات عبّروا وقتها عن صدمتهم، “وتهجموا على دورية الأمن السياسي بالتحقير والبصاق. وبات المساعد الذي أشرف على تعذيب الشهيد منبوذاً في البيئة نفسها. كان هذا قبل أن تتشفى “إعلامية” موالية بصورة سِيلْفي مع ضحايا القصف الأسدي في حلب، وقبل أن يصبح المعارض العلوي “خائناً” ومستباحاً في وسطه الاجتماعي.”
بعد محمّد عبود سيسقط شهداء كثيرون تحت التعذيب، بينهم مضر الجندي، الذي اعتقله فرع فلسطين في المخابرات العسكرية عام 1987 في إطار أشرس حملة اعتقالات (ولعلها الحملة التي أنهت التنظيم فعلا). توفيّ مضر الجندي بسبب أزمة ربو، زاد منها التعذيب الوحشي. ولكن السلطة رفضت الاعتراف بمقتله حتى اللحظة. ولا تزال أمه تعيش وجع غيابه اليوم، وتنتظر عودته وهي تعرف جيدا أنه لن يعود. زوجته قابلت رئيس فرع التحقيق العسكري عام 1994 وطالبته بوثيقة تثبت وفاة زوجها. ونحن نعرف أن الضابط اعترف لها أن مضر قد توفي، ولكنه رفض أن يعطيها وثيقة رسمية تثبت هذه الواقعة. لا نعرف كيف قال لها ذلك؛ لا نعلم إن كان نظر في عينيها بوقاحة في تشفٍّ وضِعة أم أنه هرب بعينيه بعيدا في خجل وكآبة، ولكننا نعرف الآن أن مضر قُتل تحت التعذيب، ولا تزال سلطة الخوف والقمع والرعب ترفض أن تمنحه قبرا في قريته وحدادا يليق به.
لم أعرف محمد عبود ومضر الجندي شخصياً، ولكنني عرفت شاباً آخر قضى غير بعيد عني في سجن صيدنايا. كان إحسان عزو شاباًَ قوياً وفتياً يبحث عن العدالة. كان يؤلمه أن يرى الأشياء في غير مكانها، فيسرع إلى إعادتها إلى نصابها الصحيح. وهو إن لم يستطع انقلب إلى داخله وراح يأكل جزءا من قلبه المملوء بالحب والأمل والطموح. حين راح مكبّر الصوت في السجن يبث لنا أناشيد تمجّد القاتل، كزّ على أسنانه، وحاول أن يضبط أعصابه حتى فاض به الكيل، فاندفع كعاصفة نحو الباب وراح يقرعه قبل أن نستطيع إيقافه. جاء الرقيب: شبك ولا؟ وطلب إحسان بجدية وبصوت عال وواضح أن يغلق الرقيب مكبر الصوت. ذهل الرقيب، واستعاد إحسان كي يتأكّد أنه سمع جيدا، ثمّ مضى يخبر رؤساءه. وكان ذلك آخر عهدنا بإحسان. سُحب من المهجع إلى المنفردة، ومن الزنزانة إلى المشفى ومن المشفى إلى منزل أبيه وأمه. كانا – أبوه وأمه – ينتظران عودته، ينتظران أن يطلّ من الباب، مديدا، وسيما، ضاحكا كعادته حين يعود إلى بلدته. على أنه آثر هذه المرة أن يعود في صندوق.
شعر فاتح بما أحسّ به، فراح يواسيني.
“لا أعتقد أن القتل كان مقصودا. قُتل خطأَ كما أعتقد.”
أيخفّف ذلك من الحزن؟ أيسكّن الوحشة التي غمرت القلب فجأة كفيضان؟ أيقلّل من الخوف؟ أيجعلني أشعر بأمان أكبر؟ كان أماني الشخصي يعني لي الكثير، ولكن المشكلة لم تكن تقف عند ذلك. السؤال الكبير الذي راح يعصف في داخلي هو إلى أي حدّ أنا شخصياً مسؤول عمّا حدث. كنت وقتها في أعلى قيادة في التنظيم، وبهذا المعنى فأنا مسؤول سياسياً وأخلاقياً عن مقتل رجل كان قبل أيام يسير في الشارع، يوزع الراية الحمراء، ويشتري خبزاً لعائلته ويشرب القهوة في مقهى السويس. من أنا لكي أحكم على الناس بالموت؟ بل كيف يحقّ لأي كان أن يرسل بشرياً آخر إلى القتل؟ طبعا النظام كان هو المجرم الأول عن قتل محمد عبود ومضر الجندي وإحسان عزّو وكلّ من قضى تحت التعذيب أو في السجن عموماً، ولكن أليس علينا نحن في قيادة التنظيم جزء من المسؤولية، كبر هذا الجزء أو صغر؟ ولا أتذكّر أن قيادة التنظيم ناقشت القضية من هذه الزاوية، فمن الأسهل دوما إلقاء اللوم على الآخر، فهو أخفّ حملا على القلب وأقلّ وطأة على الضمير وأسرع للنسيان.
كانت تلك المرة الثانية التي خطر ببالي فيها أن أترك الرابطة، وربما السياسةَ بمجملها. المرّة الأولى كانت في 1978 حين ترك ملهِمي أحمد جمّول التنظيم. كان أحمد جمّول، معلمي ومرشدي والرجل الذي أخرجني من البكدَشَة إلى اليسار الجديد. مشكلة أحمد أنه لم يكن يعرف البراغماتية ولا العمل التنظيمي. كان مثالاًَ للمثقّف الذي لا يجيد استخدام ثقافته في أي مجال عملي. في حملة آذار 1977 لم يحسن التصرّف، ولم يستطع استيعاب أعداد الرفاق الذين سيقوا إلى السجن. واضطر لحياة التخفي والملاحقة الأمنية. انتقل من بيت لبيت دون أن يشعر بالأمن الذي يحتاجه ليكون ما هو عليه. وفي حملة تشرين الثاني رأى أيضا الرفاق يساقون من جامعاتهم ووظائفهم وبيوتهم إلى فرع الخطيب. حملة أيار كانت الحدّ الفاصل بين رغبته وإمكاناته على التحمّل. بعد أن لملم التنظيم جراح الحملة، عقدت لجنة العمل اجتماعا لتقييم الوضع. في الاجتماع، طالب أحمد بحلّ الرابطة والعودة إلى العمل الدعاوي كحلقات ماركسية. كان يعتقد أن النظام لن يترك الظاهرة تنمو، وأن التنظيم غير مؤهّل للصمود طويلا، وأن الحاضنة الاجتماعية غير قادرة على حماية التنظيم. “الحل إذن،” قال أحمد في الاجتماع، “نعود خطوة تكتيكية إلى الوراء. نحلّ الرابطة. نداوي جروحنا. نعيد سيرتنا الأولى كحلقات ماركسية دعاوية، ننشر الوعي ونتواصل مع كلّ الشيوعيين، ثم ننتظر ظروفا موضوعية أفضل.” وقتها خطر ببالي أن ما ليس جيداً لأحمد ليس جيدا لي، ولكنني أحسست أن الانسحاب جبن وتخلٍّ: جبن في مواجهة النظام وتخلٍّ عن الرفاق الذين صحبتهم حينا من الدهر.
هذه المرّة أيضا خطرت ببالي فكرة أن أترك العمل. شعرت بالقرف لأن أحد طرفي اللعبة لم يحترم قواعدها. ثمّ أحسست أن اللعبة أكبر مني وأنني لا أستطيع الاستمرار فيها. إلى أي حدّ كانت المسألة لعبة بالنسبة لي وبالنسبة للنظام؟ لم أكن أعرف جوابا وقتها، ولكنْ أن أجدَ على يديّ آثار دماء، ذلك ما لم يخطر لي على بال. ومرّة أخرى جبنت من أن أنسحب. وانتابني شعور أن العمل في تنظيم سياسي أو نقابي مثل العمل في مافيا، لا يمكن الخروج منها. طبعا لم تكن المقاربة كاملة، ولم أكن أشبّه التنظيم بالمافيا (وهو أكثر ما يكون بعدا عنها)، ولكن الانتماء يجعلك جزءا من كل، ويجعل مكانتك وأهميتك، بل وربما وجودك كلّه، مستمدّة من الجماعة. تخيّلت نفسي بدون اجتماعات وتوزيعِ بيانات وإخلاءِ بيوت ومواعيدَ شارعية، وتخيّلت نفسي من دون هالة المناضل الملاحق. كنت أعتبر أنني وحافظ الأسد ندّان متساويان، نتصارع على برامج مختلفة ومستقبل مفارق ونظرة متباينة للمجتمع والدولة. وإذن، أترك السياسة، فسوف أعود فرداً عادياً، كالملايين من الإثني عشر الذين كانوا يعمّرون سوريا في تلك المرحلة. والنتيجة أنني لم أفكّر طويلا، وقرّرت أن أتابع، وما كان نضالاً من أجل الحرية صار أيضا ثأراً لروح محمد عبّود. ولم أكن أدري وقتها أن محمد عبود سيكون فاتحة لعشرات ممن سأسعى إلى الثأر من أجلهم.
يتابع الكاتب وائل السوّاح في هذه المادة سيرة بدأها للحديث عن اليسار السوري في سبعينات وثمانينات القرن الفائت، ويتحدّث هنا عن الموت وخسارة رفاق رابطة العمل في توجيه دفة الصراع مع نظام البعث…
درج